طريقة استنباط المفاهيم السياسية من تركيبة سور القرآن

ان الطريقة التركيبية صياغة جديدة في تفسير القرآن، فطبقاً لهذه الطريقة لكل سورة هدف اصلي (موضوع محوري) وجميع الآيات والبحوث المطروحة في السورة ترتبط به بشكل منطقي ومنظم على شكل فصول، يعتقد الكاتب انه اذا تطرقنا لمطالعة ودراسة السور على ان يكون موضوعها الاساس احد البحوث السياسية فمن هذه الزاوية نستطيع ان نكتشف مفردات سياسية جديدة من القرآن لا يمكن الحصول عليها بدراسة الآيات بشكل منفصل وفي هذه المقالة استنبطنا نظرة القرآن حول طريقة الوقوف امام الشائعات من تركيب سورة القلم كنموذج.

إن اهتمام القرآن الواسع بالبحوث الاجتماعية والسياسية من ناحية والتحديات السياسية المعاصرة للعالم الاسلامي من جهة اخرى، جعلت علماء المسلمين يهتمون بشكل خاص بكشف الآراء والنظرات السياسية للقرآن الكريم، ولكن السؤال هو كيف يمكن استنباط المفاهيم السياسية من القرآن وكيف يمكن ان نحصل على جوابنا من القرآن ازاء التحديات التي تواجه المجتمع الاسلامي؟

على سبيل المثال كيف يمكننا استخراج رأي القرآن بالنسبة الى مفاهيم الحرية السياسية وحدودها او اصول الشرعية السياسية او حكومة الشعب او اصول الاعلام السياسي، فما هو رأي القرآن طبقاً للاصول العلمية وبدون تدخل الآراء والأذواق.

 

هنا لدينا ثلاثة طرق أساسية:

الاولى: وهي المتداولة في التفاسير حيث تؤكد على مطالعة ودراسة الآية في محلها، وفيها يقوم المفسِّر باستنباط المفردات السياسية عن طريق المطالعة اللغوية والنحوية والصرفية للكلمات الواردة في الآية وتناسبها مع الآيات المجاورة لها، شأن نزول الآية، تقديم وتأخير المفردات في الآية واستخدام سائر الصيغ اللفظية والادبية فيها، فمثلاً يستنبط من عبارة {إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكاً}([1]) التي تتعلق بقصة طالوت وجالوت (إنّ قيادة المجتمع منوطة بوجود رغبة اجتماعية وارضية لقبولها) ([2]) من الممكن لهذا المفهوم السياسي ان يبّين جزءاً من نظرية سلطة الشعب الدينية في النظام السياسي للاسلام، فقد استنبطنا من الآية المذكورة (إن اشموئيل لم يُعيّن قائداً للناس قبل طلبهم منه على الرغم من ضرورة ذلك) ([3]).

الثانية: الطريقة الثانية المشهورة بالتفسير الموضوعي وفيها لا يمكننا استنباط المفاهيم السياسية من الآيات القرآنية إلا بعد مطالعة الآيات المشابهة والتي تسير في افق واحد، يعتقد متبنيّ هذه الطريقة ان مجموعة الآيات القرآنية تخبرنا عن نظام سياسي متناسق لا يمكن الكشف عنه الا بمطالعة ودراسة جميع الآيات المتعلقة بتلك المسألة.

ففي هذه الطريقة يقوم المفسِّر بطرح نتيجة لمطالعته المدارس السياسية أو دراسته للتحديات السياسية المعاصرة ويحاول الاجابة عنها عن طريق دراسته لمجموعة الآيات المتعلقة بذلك الموضوع، من الممكن في هذه الطريقة استنباط مفهوم واحد من عدة آيات بعضها عام وبعضها خاص، وقد اصبح استخدام هذه الطريقة كثيراً في السنوات الاخيرة واصبحت الطريقة المتداولة في هذا المضمار.

الثالثة: اما الطريقة الاخرى وهي الطريقة التركيبية فقد طرحت في النصف الثاني للقرن العشرين تُعّدْ هذه الطريقة مكملة للطريقة الموضوعية والطريقة المستندة على مطالعة الآيات وباستخدامها يمكننا ان نستنبط مفاهيم جديدة من القرآن الكريم ونظراً لاهميتها سنبحثها تحت عنوان مستقل.

 

الطريقة التركيبية في فهم القرآن

الطريقة الثالثة هي الطريقة التركيبية التي تعتمد على نظرة اجمالية شاملة لمعاني السور، فعلى هذا الاساس وبتفكير عميق في محتوى كل سورة، يقوم المفسر بمساعٍ جمة للوصول الى الهدف الاصلي من السورة وعندها سيكون له نظرة واسعة وجامعة للآيات وبفهم الروح الكلية للسورة يصل الى الارتباط والعلاقة بين الآيات المنتشرة بحسب الظاهر، ويكتشف نكات جديدة عن طريق الانسجام المعنوي للسورة. لقد بدأ الاهتمام بالهدف من السور والتأكيد على ان الهدف من كل سورة يجب ان يكون على اساس فهم الآيات من اوائل القرن الرابع عشر الهجري بتأليف تفسير المنار. ([4]) كان يرى محمد عبده ان كشف الهدف من كل سورة يُساعد ويُعين المفسر على التقرب الى معنى الآيات وادراك المعارف القرآنية بشكل دقيق، فقد اوضح هذا الرأي تلميذه رشيد رضا في تفسير المنار، لقد اتخذ الشيخ الطنطاوي في "الجواهر في تفسير القرآن"([5]) تأليف عام 1344قمرية، هذه الطريقة بعد محمد عبده وببداية العقد الرابع للقرن العشرين وصلت هذه الحركة الى اوجها، وفي هذه المرة قام سيد قطب بنشر مقالة تحت عنوان "التصوير الفني في القرآن" في مجلة المقتطف([6]) في عام (1360ق/1939) ثم كتب كتاباً بنفس العنوان في عام 1944م واتبع هذه الطريقة من بعده الدكتور محمد عبد الله الدراز بتأليفه لكتاب النبأ العظيم([7]) عام (1352ق/1933م) والشيخ محمد المدني رئيس كلية الالهيات في الازهر بتدوينه لكتاب المجتمع الاسلامي كما تنظمه سورة النساء في عام (1354ق/ 1935م) ([8]) يعتقد الشيخ ان السعي لكشف اهداف ومقاصد السور أفضل طريق لفهم معاني الآيات، وان لكل سورة من سورة القرآن الكريم روحاً تسيرفي جسد آيات تلك السورة، ولهذه الروح سلطة واشراف كامل على مباني واحكام واسلوب تلك السورة، ويجب ان يُنظر الى معاني ومفاهيم القرآن الكريم من هذا المنظر والاسلوب، تُعَدْ هذه الطريقة هي الافضل والانفع لمطالعة ودراسة القرآن الكريم من دراسة الآيات الواحدة تلو الاخرى، إذا قام شخص بدراسة الجمل و الآيات او الكلمات واحياناً حتى حروفها لكي يفهم القرآن من اوله الى آخره اجمالاً او تفصيلاً فلن يصل بهكذا مطالعة ودراسة مضطربة ومتفككة لعظمة وجمال الشكل الحقيقي للسورة.([9])

لقد كان لتأليف التفسيرين القيّمين اللذين ليس لهما نظير في العالم الاسلامي أي الميزان في تفسير القرآن([10]) (عام 1357ق) وفي ظلال القرآن([11]) (عام 1374ق) مبادرات وخطوات مؤثرة وجبارة لتبين اصول ومباني النظرية اعلاه وتبعاتها وتحدياتها.

فقد كان يُبين العلامة الطباطبائي في الميزان الهدف والغرض الاساس للسورة عن طريق تدوينه لفصل في بداية كل سورة تحت عنوان "بيان" ومن خلال تفسيره يدعم الاصول والمباني للنظرة التركيبية للقرآن ويشير الى طرق وأساليب الوصول الى  اهداف السور، وبهذه المبادرة من قبل العلامة أصبحت طريقة النظرة التركيبية متداولة بين المفسرين تدريجيا؟ً حتى وصل الامر في السنوات الاخيرة ان يُنشر في كل سنة تقريباً دورة في تفسير القرآن على اساس النظرة  الشاملة الجامعة للسورة، وقد وصلت الى اكثر من 25 دورة تفسير طبقاً لذلك([12]).

 

خصائص النظرة التركيبية للسور

ان للنظرة الشاملة التركيبية لسور القرآن والميل الى وحدة الهدف في كل سورة، خصائص واطاراً خاصاً يتم على اساسه قبول او رفض هذه النظرية.

ان هذه النظرية لا تتعارض مع اسلوب القرآن المتنوع والحافل بالمواضيع المختلفة في كل سورة، لانه وعلى اساس هذه النظرية نرى ان المواضيع المنتشرة وغير المتلائمة لسوره ظاهرياً في الواقع انها ترتبط ارتباطاً منطقياً هادياً الى الهدف الاصلي والاساس ويُعَدْ هذا الهدف الروح الحاكم على تلك السورة والمشرفة على مواضيعها المختلفة بايجاد التناسب فيما بينها، وبذلك تكون النظرية التركيبية للسورة ساهمت مساهمة مهمة في فهم مقاصد واهداف القرآن وادراك معارفه وحقائقه.

  ومن جهة اخرى، ان الاعتقاد بهدفية السورة لا يستلزم ان يكون كل موضوع قد طرح في سورة واحدة ويجب ان يكون لدينا 114 هدف مختلف ومتميز في القرآن الكريم، بل يمكن ان يكون لسورتين موضوع ومحور اصلي واحد ولكن كلاً منهما تقوم بتحليل ودراسة ذلك الموضوع من زاوية مختلفة، فعلى سبيل المثال ان الهدف من السورتين المباركتين المرسلات والنبأ هو اثبات القيامة، ففي الاولى تثبت القيامة استناداً الى اصل التشريع ورسالة الانبياء اما في الثانية أي النبأ فبالإستدلال على هدفية جميع اجزاء العالم ووجود الحكمة في افعال الباري تعالى، بالاضافة الى انه من الممكن ان يكون هدف السورتين واحداًبحيث نذكرهما بعبارة واحدة مشابهة، والحال ان كل سورة تتابع وتدرس الهدف بشكل يختلف عما هو عليه في السورة الاخرى فالهدف من سورة القيامة المباركة مثلاً هو بيان علل واسباب عدم قبول القيامة حيث تشير السورة الى عوامل منها الشهوة، حب الدنيا والتكبر اما في سورة الانفطار التي تتحدث عن الموضوع نفسه مع هذا الاختلاف انها تذكر ان اهم عوامل انكار القيامة هو الاعراض عن الربوبية الالهية والغفلة عن نتائج الاعمال ومن ثم تتطرق الى بيان اسلوب العلاج.

مما تجدر الاشارة اليه هنا هو ان اهداف السور امور جزئية ومعينة وعلينا ان لا نذكرها بعبارات كلية وعامة، فقد ذكر بعض المفسرين ان الهدف من سورة الملك هو "بيان طريق السعادة"([13])، وعلينا ان ننتبه الى قولنا ان "لكل سورة هدفاً" ان المقصود من الهدف هو ليس تلك العبارة الواسعة المعنى التي يمكن اطلاقها على جميع سور القرآن، بل المقصود هو الهدف الخاص لتلك السورة الاهداف التي يمكن تمييزها عن اهداف سائر السور بواسطة القيود المحددة والتي يتيسر تقييم صحتها من سقمها عن طريق مؤشرات ووسائل كشف اهداف السور، فإذا عَنونا الهدف من سورة القيامة بأنه "انتباه او اهتمام البشر بيوم القيامة" فقد استخدمنا عبارة كلية هنا يمكن اطلاقها على اكثر سور آخر القرآن فهذا الهدف ليس خاصاً ولا قابلاً للتقييم، اما عندما ندقق نصل الى هذه النتيجة وهي ان الهدف من هذه السورة هو "دراسة علل انكار القيامة" وبذلك نكون قد فصلنا بينها وبين سورة الحاقة التي تتصدى "لإثبات حقانية القيامة" وهنا يجب علينا بيان أدلة وأسباب انتخابنا لهذا العنوان.

 

اصول هدفية سور القرآن

تشير نظرية هدفية السور الى اصل بديهي وعقلائي، ولكن نظراً الى أنّ الاسلوب الظاهري للقرآن يشبه الى حدٍ كبير "التناثر" و"الاستطرادات المتوالية"، فقد جعل اكثر المحققين هذه الخاصية للقرآن أصلاً اساساً في معرفة اسلوب القرآن وقد طالبوا القائلين بغير ذلك الدليل والبرهان إنّ مؤيدي هذه النظرية أي هدفية السور ضمن اصرارهم على عدم وجود تعارض بين "التناثر الشكلي للقرآن"  مع وحدة الهدف من كل سورة جاءوا بأدلة عديدة لاثبات هدفية السور، من اهمها:

1ـ التشابه في الكلام الالهي والبشري بالنسبة لاصول "حسن الكلام"

إن احد الجوانب البديهية في اعجاز القرآن ترجع الى الخصائص اللفظية وفصاحة وبلاغة هذا الكتاب العميق، فاذا سلمنا بالاعجاز الادبي للقرآن يجب ان نعتقد بأن كل ما يجعل الكلام جميلاً وجذاباً قد وُجِدَ في القرآن الكريم بنحو افضل واحسن، كما نلاحظ ذلك في الروائع الادبية العالمية التي اصبحت آثاراً خالدة. ومن جملة الاصول التي تجعل الكلام جذاباً هو النظم والترتيب الادبي، ونظراً لذلك يعتقد دارسو القرآن انه عليهم ان يبحثوا عن الهدف الخاص بكل سورة لكي يوصلوا الآيات المختلفة والمنفصلة، بعضها ببعض فاذا لم يكن ذلك يجب ان نُسلّم بفقدان القرآن لاهم اصول جذابية الكلام.

2ـ كون القرآن هادفاً

ان القرآن عبارة عن مجموعة واحدة تبحث جميع اجزائه عن هدف واحد الا وهو صنع الانسان وهدايته حيث نجد ذلك أي جعل الانسان انساناً في جميع حروف وكلمات هذا الكتاب المقدس.

ان هداية القرآن مشهودة بشكل واضح في انتخاب المفردات، صَفّ الكلمات ومقام الآيات في السور حيث تحكمها وتديرها ارادة واحدة وحكيمة، اذا كان للقرآن هدف كلي فيجب ان يكون لكل سورة من سوره سهمٌ في تحقيق ذلك الهدف وعلاقة معنوية ومتناسقة معه، ان التسليم بهدفية القرآن سوف يسوقنا وبشكل طبيعي الى هدفية السورة، وبذلك سيكون امامنا سؤال يطرح نفسه وهو اذا كان الهدف الكلي للقرآن الهداية فأي قسم منها تشكل كل من سورة البقرة او آل عمران او الناس وغيرها….؟ إذا لم تكن احدى هذه السور في القرآن هل يُؤمن الهدف القرآني النهائي وتظهر جميع ابعاد هدايته ايضاً؟ فاذا اجبنا على هذا السؤال بالسلب واعتقدنا بان لكل سورة مقاماومكانة خاصة، عندها يجب ان نجيب على هذا السؤال الا وهو ما هو الهدف الخاص بكل سورة وما هو النداء الذي تتصدى كل سورة بكليتها لبيانه؟ هنا ستُطرح وبشكل منطقي مسألة هدفية السور وتطلب الجواب المناسب.

3ـ حصر الآيات في سورة واحدة

لقد سمّى القرآن الكريم مجموعة من آياته "سورة" لم تكن هذه التسمية معروفة حتى نزول القرآن الكريم ولم يستعملوها في الشعر او النثر، طبقاً للتحقيقات، إن مكان الآيات في السور وعددها في السورة الواحدة أمرٌ توقيفي حيث كان بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم استناداً الى الوحي الالهي، هنا يُطرح سؤالٌ وهو هل ان وضع عدد من الآيات في سورة واحدة بدون أي تناسب وحكمة؟ هل يمكن ان يكون لعدد من الآيات في السورة الواحدة هدف منفصل عن باقي الآيات ولا يوجد أي تناسب وتنسيق بين الاهداف بعضها مع البعض الآخر؟ فاذا كان هكذا فلماذا لم توضع هذه الآيات في مكانٍ آخر او تُشكل سورة مستقلة؟ صحيح ما الذي يحدث لو كانت السور القصيرة اكثر من ذلك؟ يجيب العلامة الطباطبائي عن هذه الاسئلة ويُبين الحكمة من جعل آيات القرآن سورة سورة فيقول: يجب ان نعلم أن الله تعالى ذكر اسم "سورة" مراراً في اثناء كلماته كما في {فأتوا بسورةٍ مثله}([14])، {سورة انزلناها}([15]). فيُستفاد من ذلك ان كل جزء بيّنه تعالى على شكل قطعة منفصلة من الكلام قد سماها بالسورة حيث نرى فيها نوعا من الارتباط والاتصال الذي لا يوجد بين سورتين مختلفين او أجزائهما، وبما انه لا تظهر وحدة الكلام الا بواسطة وحدة الهدف والمقصود منه، لذلك نلاحظ ان كل سورة من سور القرآن تهدف هدفاً ومقصوداً خاصاً. ([16]) "انتهى كلام العلامة". يظهر من كلام العلامة أنه لجعل مجموعة من الآيات في اطار السورة يجب ان يكون لدينا قدر مشترك وعامل رابط ومُوصِّل بين الآيات ومعانيها، لانه اذا كان غير ذلك فلن يكون لتلك المجموعة من الآيات الهوية والشخصية المستقلة عن سائر السور.

 

طرق كشف اهداف ومقاصد السور

ان احد الموانع الاساسية في قبول نظرية هدفية السور هو انه كيف يمكننا الكشف عن الغرض والهدف الاصلي من السورة استناداً الى الاصول العلمية فقط وبدون تدخل الآراء والاذواق الفردية؟

ان للإجابة عن هذا التساؤل اهمية خاصة وذلك لما يواجهه كل من علماء ومحققي العلوم القرآنية من حساسية في جميع البحوث، انهم يبدون حساسية وذلك لخوفهم من الانزلاق في وادي التفسير بالرأي وفرض الاذواق الشخصية على القرآن، ولهذا تتضح مدى اهمية طرح وتوضيح الطرق العلمية في الكشف عن اهداف ومقاصد السور حيث لها دور مهم وفعال في قبولها (تلك النظرية) في المحافل العلمية، لقد قام دارسو القرآن الذين يعتقدون بهدفية السورة والنظرة التركيبية بعرض الطرق العلمية للكشف عن اهداف ومقاصد السورة من اهمها: 1ـ دراسة سياق السورة، 2ـ الانتباه الى اسم السورة، 3ـ المقارنة بين الآيات الاولى والآيات الاخيرة للسورة، 4ـ دراسة فضاء ومكان نزول السورة، 5ـ الانتباه الى شأن نزول الآيات والسورة، 6ـ مكية السورة او مدنيتها، 7ـ دراسة قصص السورة، 8ـ كثرة تكرار الموضوع الواحد في السورة، 9ـ المفردات الاساسية لكل سورة، 10ـ فضائل وخواص السورة، 11ـ كثرة الاسماء الحسنى في السورة، 12ـ دراسة مسالة الحروف المقطعة للسورة، 13ـ دراسة الآيات النهائية للسورة السابقة، 14ـ دراسة صوت آواخر الآيات.

طبعاً نلاحظ ان مجموع هذه الطرق والوسائل تشير الى نقطة واحدة ومعينة تتناسب جميعها مع الهدف المنشود فلا يمكن ان تكشف بعض الطرق عن غرض والبعض الآخر يوصلنا الى غرض وهدف آخر، فعلى سبيل المثال اذا كان الهدف الاصلي من سورة البقرة هو "اثبات احقية تعاليم الانبياء" فيجب ان يتناسب هذا الموضوع مع سياق الآيات، شأن نزول السورة، اسم السورة، كون السورة مدنية، المفردات الاساسية للسورة، ايقاع الآيات، مطلع السورة وخاتمتها، وخلاصة الكلام يجب ان يتناسب مع جميع علائم تشخيص الهدف من السورة، وخلافاً لذلك يجب ان نشك في صحة تشخيصنا، وبعبارة اخرى ليس لهذه العلامات أي اصالة بل ان جميعها في خدمة غرض وهدف واحد، ولهذا نرى جريان وحركة الروح الحاكمة على السورة في وجودها.

يعتقد اصحاب النظرية التركيبية للسور انّ جميع هذه الطرق والوسائل التي تُكون في الحقيقة خصائص السورة الواحدة نُظمت من البداية على اساس الغرض والمحور الاصلي للسورة، بناءاً على هذا فان ارتباطها بغرض السورة ارتباط واقعي وليس اعتباري، فاذا انتخب الباري تعالى اسما خاصا للسورة وبدأها بعبارة مخصوصة بها وختمها بآيات اخرى او جعل حروفاً مقطعة في بداية سورةٍ ولم يجعل تلك الحروف في بداية سورةٍ اخرى فكل ذلك يتعلق بذلك الهدف الخاص المنشود من كل سورة الذي يتناسب معه من جميع الجهات والا ما هو الدليل والسبب في كون السورة تبدأ بحروف مقطعة وغيرها لا تبدأ، او يؤكد في سورةٍ على رحمانية الله تعالى مراراً وفي اخرى على ربوبيته عزّوجل، ان يكون اسم سورةٍ "هود" واسم اخرى "يونس" وثالثة باسم نبينا "محمد" صلى الله عليه وآله وسلم، سورة تنزل في مكة واخرى في المدينة، في سورةٍ تكون الآيات قصيرة وقاطعة وفي الاخرى طويلة وهادئة.

 

نتيجة الاستنباط من تركيب السورة

لاستنباط المفاهيم السياسية من تركيب سور القرآن، في البداية يجب ان نكتشف الغرض الاصلي والروح الحاكمة على السورة من خلال الطرق المعروفة والصحيحة، فعندما يكون لدينا ارتباط معنوي بين هدف السورة وأحد المباحث السياسية، عندها نقوم بتنظيم الفصول والمحاور الفرعية للسورة استناداً الى سياق السورة، ولإنجاز هذا العمل، نبدأ بتهيئة فهرست لمحتويات السورة بترتيب الآيات فنفصل كل مجموعة من الآيات التي تتحدث بشكل اجمالي عن موضوع معين ونُعنونها بعنوان. ثم نحاول ايجاد ارتباط وعلاقة بين هذه العناوين الفرعية ونرسم الخطوط المشتركة لها، فبعد رسم الخطوط المشتركة تتضح الفصول الاصلية للسورة، في بعض الموارد وبعد تبيين الهدف والغرض الاصلي للسور، يجب علينا تغيير جمل العناوين الفرعية بحيث تتناسب اكثر مع هدف السورة لكي ترسم مجموعة العناوين الاصلية والفرعية تركيب ومنحني محتوى السورة، بانتهاء هذه المرحلة نستطيع ان نُمثل غرض السور وفصولها بشكل منحني شجرة، ومنه نعرض استنباطات واستنتاجات مختلفة في حقول مختلفة، والآن سنقوم برسم تركيب سورة القلم المباركة كنموذج ونحاول استنباط المفاهيم السياسية منها.

 

تركيب سورة القلم وطريقة احباط أو إبطال الشائعات

لقد استخدم مشركو مكة مسألة بث الشائعات ضد دعوة النبي الاكرم ونسبوا التهم الكثيرة للنبي واصحابه بجسارةٍ واضحة حتى انهم كانوا يستأجرون بعض الناس لبثّ الشائعات في المجتمع. ([17])

لقد اشارت بعض السور المكية الى المحاولات الفاشلة للمشركين وذكرت طرق احباطها، احدى هذه السور هي سورة القلم، لقد نزلت سورة القلم عندما اعلن النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته واصبح الجميع يعرف محتوى رسالته، ولذلك حاول المشركون بكل ما لديهم من اجل إبطال الدعوة وسحب النبي الى الصلح معهم، حيث الصقوا الكثير من التهم والشائعات به، ومنها انهم اشاعوا ان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد أصيب بالجنون لانه كان يخلو بنفسه ويتعبد مدةً طويلة، فنزلت سورة القلم لإبطال وإحباط هذه الشائعة وبيان العاقبة السيئة للمشركين الذين أذاعوا ونشروا الشائعات ضد النبي واتهموه بشتى التهم وعلّمت النبي والمسلمين طرق الوقوف امام هذه الشائعة، فهنا يمكننا اثبات الغرض الاصلي لسورة القلم عن طريق استخدام السورة يمكننا رسم فصول السورة وعناوينها الاصلية، والفرعية وهكذا يتبين منحني السورة بالشكل التالي في الصفحة التالية:

 

 

 

التركيب الشجري للسورة

اسلوب الوقوف امام الشائعات (التأكيد على شائعة الجنون)سورة القلم

ـ الفصل الاول

خصوصيات النبي وشائعة الجنون "الآيات 1 ـ9"

1ـ احقية النبي.

·  ستزول الابهامات وتبطل الشائعات.

 

2ـ نبوة النبي.

·  الله تعالى المرجع في تعيين وتشخيص الجنون والضلال.

·  هدف المشركين الاساسي من هذه التهمة استدراجك للصلح، ولكنك لا تتبعهم أبداً.

 

3ـ اخلاق النبي.

 

 

 

 

ـ الفصل الثاني

الخصوصيات الاخلاقية والشخصية للذين يشيعون ويخلقون الشائعات، "الآيات 10 ـ13"

1ـ يحلفون كثيراً "حلاّف".

 

2ـ حقير وذليل أو كذاب وشرير "مهين".

 

3ـ يعيب ويستغيب "همّاز".

 

4ـ الذي يفشي النميمة بين الناس "مشاءٍ بنميم".

 

5ـ يمنع عمل الخير "مناع للخير".

 

6ـ متجاوز "معتدٍ"

 

7ـ آثم "أثيم".

 

8ـ يضمر الحقد "عتل".

 

9ـ من لا اصل ولا نسب له "زنيم".

 

 

ـ الفصل الثالث

العاقبة الذليلة لأولئك المشركين نظراً لغرورهم وافتخارهم بالمال والقدرة. "الآيات 14 ـ 28".

* ابعاد العذاب وتشمل:

1ـ الذلة في الدنيا وعدم الوصول الى الاهداف الدنيوية، كأصحاب البستان.

2ـ العذاب الشديد في الآخرة.

 

* حتمية العذاب

1ـ فقدان الدليل العقلي.

2ـ فقدان الدليل النقلي.

3ـ عدم وجود عهد الهي.

 

 

 

4ـ عجزهم عن منع العذاب.

 

5ـ عجز الآلهة:

ـ في منع العذاب الاخروي عن المجرمين.

ـ عن مقابلة الكيد الالهي وعذاب الاستدراج.

 

6ـ منشأ هذا الاعتقاد المراوغة لا الاستدلال.

 

7ـ عجز المجرمين عن تغيير الحكم والسنة الالهية.

 

 

ـ الفصل الرابع

واجب النبي اتجاه اولئك المشركين الذين يتهمونه ويبثون الشائعات ضده. "الآيات 49 ـ50".

     ـ الصبر وعدم الدعاء عليهم.

   عكس النبي يونس "ع".

 

النتيجة: ان تهمة الجنون علامة على اوج عجز المشركين.

 

 

 

 

 

  ان الشائعة احدى الاساليب المعروفة في الحرب النفسية والاعلام السياسي المخرّب وقد ورد في وصفها وتعريفها: ان الشائعة عبارة عن ترويج خبر مفتعل غير واقعي يعتمد على التحريف وخلق الرعب.

وفي بيان وعرض هذا الخبر يوضع جانب بسيط من الحقيقة او التفسير المخالف للواقع من الخبر الصحيح، اما الهدف من انتشاره فهو التأثير على الافكار العامة للوصول الى الاهداف السياسية، العسكرية او الاقتصادية([18]).

تخلق الشائعة في غياب وعدم وجود "المقاييس للاطمئنان بالمراجعة والتدقيق"([19]) وتُقسم الشائعات الى ثلاثة مجاميع الزاحفة، السريعة، والغائصة([20]). حيث يمكن عدّ شائعة "الجنون" من الشائعات الزاحفة التي تنتشر ببطئ حيث تنتقل بين الناس بشكل خفي وعن طريق الهمس([21]) وما ينتشر في المجتمع ضد الشخصيات السياسية او الدينية للاطاحة بسمعتهم من هذا القبيل من الشائعات يهتم في هذا النوع من الشائعة بحيل "التسطيح"، "الابراز والتعظيم" و"التشبيه والتمثيل".

ففي حيلة التسطيح تحذف الكثير من الجزئيات اللازمة للادراك الصحيح للواقع ومن ثم يأتي دور حيلة التعظيم حيث تضاعف اهمية تلك الجزئيات المحفوظة، ثم يتم تشبيه القسم المكبّر بنموذج اجنبي فيه اغراق كبير فيه شبه بسيط بأصل الموضوع لكي تحصل على مكانها في الاذهان وتتزايد وتنتشر بسرعة([22]).

لقد استخدم رؤساء الشرك جميع الحيل في بثّ شائعة جنون النبي، فقد حاولوا في البداية انكار الخصائص الايجابية للنبي كأمانته وحكمته في كلامه وسائر مكارمه الاخلاقية ثم كبروا مسألة كون كلامه صلى الله عليه وآله وسلم فوق كلام البشر أو انه كلام غير عادي، وفي الخطوة التالية قاموا بتشبيه كلام النبي غير العادي على حد زعمهم بكلام المجانين غير العادي بدون أي دليل، وبحيلة التشبيه اتهموا النبي الاكرم مظهر العقل الكامل بالجنون.

 يظهر من دراسة تركيبة سورة القلم كيف ادحض وأبطل الله تعالى حيل المشركين الثلاثة وأرجع مكرهم وكيدهم عليهم، واصبحت النتيجة انه بدل ان تؤدي شائعة جنون النبي الى سقوط مكانته الاجتماعية وقيمته ومقامه الديني ادت الى شموخ استحكام هذا المقام وسقوط مكانة وقيمة المشركين.

تتكون سورة القلم من أربعة اقسام لكي تُبين لنا كيف وبأي اسلوبٍ نجابه تُهم الذين يبثون الشائعات.

في القسم الاول تُبين او تعرض اربعة ادلة تنفي فيها تهمة الجنون عن النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبذلك تبرز النقاط التي قام بتسطيحها المشركون، الدليل الاول يُستنبط من الآية الشريفة {ن والقلم وما يسطرون} حيث يُقسم الباري تعالى بالأقلام التي تكتب الحقائق والنكات القيمة التي تدل على حكمة وخلود كلام وتعاليم النبي تلك الاقلام التي كانت في خدمة عرض وبيان اسرار ورموز الكلمات التي عدّوها سحراً ـ مشركو مكة ـ وقائلها مجنون لمدة اكثر من 1400 عام، وتشير الآيات اللاحقة الى نعمة نبوة النبي وديمومّيتها "الآية 2و3" والاخلاق الحميدة العالية لرسول الله "الآية4" حيث تُؤكد على عدم تناسب كل من خصوصياته "ص" مع شائعة الجنون المنسوبة للنبي، اما الآية الخامسة فتعلن عن معرفة الجميع بخصال النبي البارزة قريباً وينكشف ما كانوا يخفونه بسبب عملهم ونشرهم للشائعات وبثها ويفهم الجميع من هو الذي اصيب بمرض الجنون، بهذه العبارة يؤكد القرآن على ابطال هذه الشائعة سريعاً وذلك برفع الابهامات الموجودة فلن يكون للشائعة اثرٌ بعد حذفنا لعنصر الابهام من تركيب الشائعة([23]). ونظراً لان صُنع الشائعة يتم عند غياب وعدم وجود مقاييس الاطمئنان للمراجعة والتدقيق فيها، فقد اسقطتها الآية السابعة من سورة القلم بشكل كامل عندما عرضت وبينت المرجع المعتبر والمقاييس الواضحة في دراسة صحة الشائعة او سقمها، فهي تُعلق "الآية 7" ان المرجع هو الله تعالى ولا يليق بالكافرين ابداء الرأي في هذا الامر.

  في الآيات الاخيرة من هذا القسم يُشير تعالى الى الهدف الاصلي لبث ونشر الشائعة تريد الآيات 8 ـ 9 من السورة تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم اتباع اولئك الكذابين الناشرين للشائعات وان لا يخاف من الحرب النفسية والاعلام الهدام، لان هدفهم الاساس هو استسلام النبي عن طريق الضغط النفسي والاجتماعي عليه صلى الله عليه وآله وسلم، بناءاً على ذلك اذا قاوم "ص" امام هذا الموج العابر واشعرهم باليأس من الوصول الى اهدافهم سيتخلون عن ترويج ونشر هذه الشائعة قريباً جداً.

اما القسم الثاني فيشمل الآيات "10 ـ 15"، ويتطرق فيه الى تحليل الخصائص الشخصية للمشركين اصحاب الشائعات ويصفهم بالحلاّف، المهين، الهمّاز، المشاءٍ بنميم، المناع للخير، المعتد، الاثيم، عتل، زنيم حتى يعرف ويعلم الجميع وخلافاً لما يذكره المشركون اصحاب الشائعات ان الذي اصابه اختلال في الشخصية هم المشركون الكافرون وليس الوجود المبارك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الطريقة قام القرآن الكريم بدورٍ ماهرٍ سلط فيه الامواج التي كانت تواجه النبي والمسلمين الى جانب المشركين ورؤسائهم وجعلهم في وضع دفاع بعد ما كانوا في موضعٍ هجومي لكي يدافعوا عن شخصيتهم المتزلزلة بدلاً من الهجوم على شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

  اما القسم الثالث من السورة والذي يتضمن اكثر عدد من الآيات فيتطرق الى تجزئة وتحليل ظاهرة التهمة وبثّ الشائعات من منظارٍ آخر فيقول تعالى: لماذا يستخدم الكفار الاساليب القبيحة كالتهمة والشائعة واسقاط شخصية الآخرين للوصول الى النصر على العدو؟ ليس الا لسبب واحد وهو انهم يرون أنفسهم في اوج القدرة: {أن كان ذا مالٍ وبنين} الآية 14 حيث يتصورون انه ليس هناك أي قدرة يمكنها اسقاطهم وكسر شوكتهم ولأنهم يرون عدوهم حقيراً وذليلاً فيحسبون انه لن يكون هنا عقابٌ وجزاءٌ على اعمالهم، ولذلك يجوزون لانفسهم فعل كل عمل قبيح وغير انساني وخلافاً للقوانين الالهية والبشرية في سبيل الغلبة والانتصار على مخالفيهم، فينشرون الشائعات والتهم {ويقولون إنه لمجنون} "الآية 51" ينكرون الحقائق البديهية {إذا تُتلى عليه آياتنا قال أساطيرُ الأولين} "الآية 15 ويُضيّعون حقوق الناس {إذ أقسموا ليصرمنّها مُصبحين} "الآية 17"، فالذي يجب علينا فعله مع القوم المعاندين الذين اعمتهم القدرة السياسية والاقتصادية ولا يستسلمون للحق بأي منطق كان؟ وم جهةٍ أخرى كيف يمكننا ان ندعو المسلمين والمستضعفين لمقاومتهم ومجابهة دسائسهم؟ وكيف يمكن فتح نافذة الامل والسعي امام المؤمنين عندما تكون جميع الشروط والامور لصالح الكفار؟ إنّ جواب القرآن الكريم قاطعٌ وواضح حيث يشير القسم الثالث من السورة الذي يبدأ بالآية 16 { سنسِمُهُ على الخرُطوم} تقريباً وينتهي بالآية 44 {سنستدرجُهُم من حيثُ لا يعلمون} الى هذه القدرة الزائفة وسقوطها القريب ذليلة حقيرة.

  ان الآيات الاولى من القسم تتضمن قصة  اصحاب البستان وتؤكد ان سقوطهم وفشلهم الذليل سيحدث عندما يشعرون ويرون انفسهم في اعلى مراتب القدرة ويتصورون انه لا يوجد قدرة تتمكن من الوقوف امامهم وتقاومهم، في هذا الوقت وعندما يكونون في غفوة الغرور والغفلة سيدور العذاب الالهي حول رؤوسهم ويجرهم الى الذلة والمهانة : {فَطافَ عليها طائف من ربك وهم نائمون* فأصبحت كالصَّريم} "الآيات:19ـ20" بعد ذلك يشير تعالى الى ان هذا العذاب سنةٌ الهية حتمية تشمل الكافرين في الدنيا والآخرة ويحارب اعتقاداتهم وتوهماتهم الباطلة من انهم افضل من الآخرين ولن يفشلوا ويٌذلوا في يومٍ من الايام ويتحدى جميع المباني الفكرية والعقائدية لهذا التصور البدائي الخاطيء كما ويشير الى العذاب الدنيوي الملازم للحقارة والذلة {سَنسِمُهُ على الخرطوم} "الآية 16"([24] كذلك يرسم حالتهم الذليلة في الآخرة {خاشعةً أبصارهم ترَهُقُهم ذِلّة} "الآية43" لكي يُفهمهم جل وعلا ان هيبتكم الاقتصادية والسياسية مُعرضة للتهديد والزوال وبذلك يقف امام اساس تهمتهم واشاعة شائعاتهم.

   أما في القسم الآخر للسورة الآيات (48 ـ 50) يُبين الباري تعالى واجب النبي تجاه الكفار المعاندين فيقول: "احترز من أن يفرغ صبرك وينقد مما تلاقيه من إيذاء وجسارة ووقاحة وبث الشائعات من قبل الكافرين وبدلاً من استخدامك للاسلوب التبليغي والاستدلالي تجاه اعلامهم الهدّام، تستسلم لهم او تلجأ الى القوة القاهرة وتدعو عليهم، عليك ان لا تتصور ان نتيجة ابطال شائعاتهم واحباط مؤامراتهم سيتم في سنة او سنتين وتندحر هيمنتهم الاقتصادية، العسكرية، والسياسية في مدة قصيرة. طبعاً هذا المستقبل قريب، شريطة السعي والجدّ المستمر، الاستناد والاعتماد على المحاور الاعلامية المرسومة، التوكل على الله، الصبر والاستقامة، كل عملٍ وإقدامٍ مستعجل وقبل انتهاء نتيجة التبليغ والانذار يمكن ان يؤدي الى الندامة والفشل، كما حدث ذلك للنبي يونس عليه السلام، ان نهاية سورة القلم المباركة كما في بدايتها تشتمل على آيات تَرسمُ اوج عجز وانحطاط المشركين الكفار الذين يبثون الشائعات وتعلم ايها الرسول الكريم إذا قُمتَ بالمراحل والخطوات التي ذُكرت للوقوف امام الذين يبثون الشائعات بتأنٍ واطمئنان ستصل الى مرحلة ينتشر فيها صوت القرآن الجميل في كل مكان وعندما يسمعون هذه الآيات ينظرون  اليك بنظرات مليئة بالحقد والعداوة، وكأنهم يريدون قتلك بأبصارهم([25]) ولأنهم يشعرون بالعجز من مقابلتك والوقوف  امامك {ويقولون انه لمجنون}، والحال انك لستَ بمجنون هذا كلام رب العالمين.

 

المفاهيم المستنبطة من تركيب سورة القلم

بدراسة مكررة لتركيبة سورة القلم وما عُرض من تفسير اجمالي للغرض الاساس للسورة يمكن استنباط المفاهيم السياسية التالية حول مراحل وطريقة ابطال شائعات الأعداء.

1ـ لصّد الشائعات يجب تنظيم ثلاثة اعمال : الاول: ابراز النكات التي يقوم اصحاب الشائعات بحذفها للوصول الى تدمير القيم والشخصيات الحقيقية والحقوقية، ستمنعون من انتشار الشائعة، الثاني: بفضح الشخصية الحقيقية والواقعية لأصحاب الشائعات الذين يسعون دائماً الى اخفائها لتبرئة انفسهم ستُبطلون مؤامرتهم، الثالث: التأكيد على فشل المخالفين وذلتهم يجب ان يكون هذا الامر احد المحاور الاساس في الاعلام مع ذكر الامثلة والاستدلالات والنماذج العينية تجعلون اسطورة عدم فشلهم تحت المجهر.

2ـ لمنع انتشار الشائعة وضمن محو الابهامات يجب التأكيد على ضرورة القضاء على اساس المقاييس الرسمية المُطمئنة والاعلان عن عدم قبول أي ادعاء بل يجب ان يحكم الاشخاص ذوي الصلاحية بصحة او سقم الشائعة: {إنّ ربك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلمُ بالمهتدين} "الآية7".

3ـ الانتباه الى ان الهدف الاصلي من بثّ الشائعات من قبل الاعداء هو الحرب النفسية، الضغط الاجتماعي والدولي واخيراً الاستسلام : {وَدُّوا لو تُدْهنُ فيدهِنُون} "الآية 9".

4ـ قاوموا اصحاب الشائعات ولا تستسلموا: {فلا تُطع المكذبين} "الآية 8" لا تتصوروا ان قبول شائعة واحدة سيمنع تأثيرها.

5ـ لا يثبط عزيمتكم الانتصارات المؤقتة والنجاح الاقتصادي والسياسي للمخالفين واصحاب الشائعات، اذا كان عملكم مُبرمجاً سيكون فشلهم وذلتهم حتمية. الآيات 14 ـ48.

6ـ يجب ان تكون محاربة الشائعات والمساعي الاعلامية للعدو ملازمة للصبر والتأني، والامتناع عن كل عمل عجول. الآيات 49 ـ 50.

7ـ عند محاربة اصحاب الشائعات يجب الاصرار على بطلانهم وحتمية سقوطهم وفشلهم قبل ان تؤكدوا على احقيتكم والدفاع عن انفسكم، (نظراً الى ان اكثر من 75% من آيات السورة تؤكد على بطلان اصحاب الشائعات).

والآن نظراً للاصول التي توصلنا اليها يمكننا تبين نظرة القرآن حول كيفية مجابهة رؤوساء مسؤولي الحكومة الاسلامية لرؤساء الكفر اصحاب الشائعات وخصوصاً امريكا ضد الشعب الايراني المسلم، على سبيل المثال شائعة "الارهاب" و"عدم التقيد بحقوق البشر" فعلى اساس العبارات المستنبطة من تركيب سورة القلم، يجب ان نُنظم مساعينا الاعلامية في ثلاثة محاور: في المحور الاول يجب ان نُبين الصفات والخصال الايجابية للمسلمين التي لا تتناسب مع الشائعات المذكورة، في المحور الثاني: ترسيم وتبيين اعمال المدعين لحقوق البشر وفضح شكلهم الواقعي والحقيقي للعالم. وفي المحور الثالث: اعلام الجميع بان السبب الاساسي في القاء التهم والشائعات من قبل رؤساء الكفر ضد الامة الاسلامية، هو غرورهم وقدرتهم وشعورهم بعدم الفشل والانكسار، والحال ان هناك شواهد كثيرة تؤكد لنا قرب وقوع فشلهم وذلتهم وهذه هي النقطة التي يجب ان تكون المحور الاساس في اعلامنا.

 

كلمة أخيرة:

ان الطريقة التركيبية في فهم القرآن، طريقة حديثة التأسيس وفي بداية الطريق وتسير في مراحلها التكاملية، ولكن نظراً للمحاولات والمساعي الواسعة لتقوية البنيان العلمي لهذه الطريقة نأمل الحصول على نكات ونقاط جديدة ومستخدمة في كافة المجالات المختلفة العقائدية والسياسية، والاجتماعية من تركيبة سور القرآن، كما قام محمد محمد المدني باستخراج اصول ادارة المجتمع الاسلامي من سورة النساء بهذه الطريقة والاسلوب([26]).

 


[1]ـ البقرة : الآية 246.

[2]ـ علي اكبر هاشمي رفسنجاني، تفسير الدليل ج2 ص174.

[3]ـ نفس المصدر ص172.

[4]ـ محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الكريم "المنار"، دار المعرفة.

[5]ـ الطنطاوي الجوهري، الجواهر في تفسير القرآن "بيروت : دار الفكر".

[6]ـ محمد بستاني، المنهج البنائي في التفسير ص8.

[7]ـ محمد عبد الله الدراز، النبأ العظيم (الكويت: دار القلم 1970م).

[8]ـ محمد محمد المدني، المجتمع الاسلامي كما تنظمه سورة النساء (مصر: دار الفكر 1991م)

[9]ـ نفس المصدر ص5 ـ 6.

[10]ـ السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن (طهران 1363 دائرة المنشورات الاسلامية).

[11]ـ سيد قطب في ظلال القرآن (بيروت : دار احياء التراث العربي 1386ق).

[12]ـ محمد خامه كر، التركيب الهندسي لسور القرآن لطهران: امير كبير 1382) ص65.

[13]ـ محمد علي الخالدي، صفوة العرفان في تفسير القرآن: (صيدا: المطبعة العصرية 1996 م) ج6 ص595.

[14]ـ سورة يونس (10): الآية 38.

[15]ـ سورة النور (24): الآية 1.

[16]ـ السيد محمد حسين الطباطبائي، ج1 ص17.

[17]ـ احد النماذج قصة الوليد بن المغيرة الذي طلب المشركون منه مقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم يخلق شائعة ضده وبعد مدةٍ من التفكير ودراسة جوانب الامر، قال لابي جهل اشيعوا ان النبي ساحر، الطبرسي، مجمع البيان ج1 ص286.

[18]ـ مختار التهامي، الرأي العام والحرب النفسية (بيروت دار المعارف 1967م)ج1 ص102.

[19]ـ آل بورت ولئويستمن، علم نفس الشائعة ص9.

[20]ـ نفس المصدر ص184.

[21]ـ آل بورت ولئبستمن ص184.

[22]ـ نفس المصدر السابق ص150 ـ 152.

[23]ـ لعنصري "الاهمية" و"الابهام" دور اساس في انتقال وانتشار الشائعة بحيث لو مثلنا أو رمزنا لرواج الشائعة بالحرف R فمقدارها سيساوي تقريباً حاصل الضرب من الاهمية (I) في الابهام (Q ) أي انI×q = آل بورت ولئوبسمن ص45.

[24]ـ والظاهر ان الوسم على الانف أريد به نهاية اذلاله بذلَّةٍ ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فان الانف مما يظهر فيه العزة والذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه وأرغم أنفه، محمد حسين الطباطبائي ج19 ص388.

[25]ـ احد الاحتمالات المقبولة في تفسير الآية الشريفة {وإن يكاد الذين كفروا ليُزلقونك} هو النظرة المملوءة بالحقد والغضب والعداوة لا الاصابة بالعين، طبعاً الاحتمال الثاني اكثر رواجاً وشيوعاً، محمد حسين الطباطبائي ج19 ذيل الآية الشريفة.

[26]ـ محمد محمد المدني، السابق.

المصدر: http://www.hamoudi.org/dialogue-of-intellenct/00/12.htm

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك