المشروعية والشرعية والحقوق في التجربة التاريخية للأمة

رضوان السيد

I

كان التفكير بالدولة أمراً شائعاً لدى سائر الأُمم منذ أقدم العصور، ومن الطبعيّ أنّ هذا "التفكير السياسي" إنما ظهر بعد قيام الدول بالفعل، وعندما كان المفكرون يكتبون في الأمر أو يتحدثون عنه؛ فإنهم كانوا يسلكون أحد مسالك ثلاثة: استحسان ما تمَّ في أُمَمِهِم، أو استهجان ذلك واقتراح بدائل وإصلاحات معينة، أو الاكتفاء بالتوصيف بحسب مثالٍ معينٍ أو واقعٍ معين. وفي كلّ ذلك كانت تطِلُّ من بحوثهم مصطلحاتٌ مفتاحيةٌ مثل الشرعية والعدالة أو الوضع الطبيعي والأوضاع الطارئة أو غير الطبيعية. وما جاءت التفرقة بين المشروعية أو الشرعية التأسيسية Legitimacy من جهة، وشرعية العمل والمصالح Legality من جهةٍ ثانيةٍ إلاّ بعد مُضيّ قرونٍ وعهودٍ على قيام الدول والأنظمة السياسية المختلفة فيها. أما المقصود بالمشروعية أو الشرعية التأسيسية فهما أمران اثنان: غائيات الكيان الكبرى أو أُسطورتُه أو فكرته الحاكمة والسائدة، والأمر الآخر أو الثاني: المقوِّمات الضرورية مثل الأمة أو الشعب، والأرض أو الدار، والسلطة الواحدة القائمة أو التي ينبغي أن تقوم. أما الشرعية -شرعية العمل أو المصالح- فتتعلق بالنظام السياسي القائم على إدارة الشأن العام، ويشمل هذا الفهم "الضيق" لمسألة الشرعية عدة أمور: قدرة القائمين على الإدارة على الإقناع بالأمانة لمشروعية التأسيس، وطرائق وصولهم لتولّي الإدارة، والسلوك العملي المتعلّق بالكفاءة والعدالة والحقوق. وهناك مفكّران ألمانيان في العقود الأُولى من القرن العشرين أثّرا تأثيراً باقياً في طرائق التفكير بالمشروعية والشرعية وهما: ماكس فيبر، وكارل شميت. أما ماكس فيبر فتحدث توصيفاً عن ثلاثة أنواع من الشرعية: الشرعية التقليدية، وهي عملياً شرعية التقاليد والأعراف التي قامت عليها الأنظمة الملكية الأوروبية. والشرعية القانونية أو الدستورية الناجمة عن الدساتير الجديدة والانتخابات وممارسات القوانين. والشرعية الكارزماتية، التي يحصل عليها قائدٌ من الجمهور مباشرةً دون تقاليد ولا دساتير! ومن الواضح أن فيبر إنما كان يدعم النمط الثاني من أنماط الشرعية، مع غيرته من النظام البريطاني الذي دمج بين النمطين الأول والثاني. وأمّا كارل سميث، فقد تصوَّر حضور النمطين الأول والثاني وحدوث توتُّر بينهما في الأزمات الكبرى. وقد قضى شميت ظاهراً للنمط الأول حرصاً على الدولة والاستقرار؛ لكنه كان في الواقع يقضي لصالح النمط الثالث؛ أي الكارزماتي الهتلري؛ لأنّ النمط الأول (القيصرية الألمانية) كان قد زال عام 1918 باستقالة القيصر ومغادرته ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى.



II



المشروعية في النمط الإسلامي: سمَّى أصحاب النبي صلوات الله وسلامُهُ عليه رئيسهم الأول أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله: خليفة رسول الله، وتقول المرويات الإسلامية الأُولى إنهم اتَّبعوا في ذلك المفرد القرآني، وذلك بقصد تجنُّب النمط القيصري والكِسْروي في الإمبراطوريات القائمة بجوارهم. إنما هناك مشكلةٌ في هذا التصور أو التعليل؛ فصحيحٌ أنّ العرب كانوا يعدّون القياصرة والأكاسرة أهل ظلمٍ وطغيان ولا يريدون التشبُّه بهم؛ لكنْ من ناحيةٍ ثانيةٍ فإنّ الخليفة في القرآن هو مفردٌ أُطلق على كلٍّ من آدم وداود، وهما نبيان؛ بينما كان زعيم المسلمين الأول غير نبي، كما أنه لا يخلُفُ بأيِّ معنىً رسولَ الله في نبوته. ولذا يصبح مفهوماً بل ومؤكَّداً أنّ المقصودَ بالاسم هو غائياتُ الكيان والدولة الجديدة، فهي إن لم تكن دولة نبوةٍ؛ فإنها خلافةُ نبوةٍ؛ بمعنى التزام الدولة الجديدة بأهداف النبي الذي أقام الأمة التي تأسَّس عليها البناءُ الخليفي. ومن ضمن ذلك: استخلاف (الأمة) في الأرض، والتمكين لها، والخروج من الاستضعاف إلى الإظهار، ونصرة الحرية والخير للناس جميعاً. فقد قال زهرة بن حوية لرستم قبل وقعة القادسية: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام". فهذا هو المثال، وهذه هي "الأُسطورة" بتسميات مؤرّخي الدولة من الأوروبيين، وهو الأمر نفسه الذي نجده عند أفلاطون في "النواميس"، وعند أرسطو في البابين الأولين من "السياسيات". وهذا شأن المشروعيات الكبرى التي عرفتها الأُمم الكبرى بما فيها إمبراطوريات المصريين وبلاد ما بين النهرين، واليونان والرومان، وحتى الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة في أوروبا المسيحية. والفرقُ في نوعيات المشروعية هو فرقٌ في نوعيات الثقافة؛ فاليونان والرومان تصوروا لدولهم غائيات الحرية والقانون، والمصريون والإيرانيون والبابليون غائيات القوة الفارضة للسلام في العالم، وكذلك الصينيون، والمسلمون غائيات الخير والحق والعدل لأنفُسهم وللناس أجمعين. ولتلك الغائيات أهميةٌ فائقةٌ في التصورات المثالية للنُخَب وللجمهور، وتترتب عليها آثارٌ إيجابيةٌ وأُخرى سلبية؛ فمن الأمثلة السلبية ما عمد إليه أُمراء الدولتين الأُموية والعباسية من تسميةٍ لأَنفُسهم باسم خلفاء الله أو خليفة الله على نقودهم وفي رسائلهم الديوانية؛ فكأنما الله سبحانه هو الذي استخلفهم، وإنما المستخلَفُ هو الأُمّةُ، أمّا الأشخاص المحدَّدون فليسوا كذلك؛ لأنّ المهمة ليست مرتبطةً بهم؛ بل هي منوطةٌ بالأمة ذاتها. فالمشروع بإدارة الأمة، أما الدولة والرؤساءُ فمنوطٌ بهم إدارةُ الشأن العامّ الداخلي، وما يتصل بالدفاع عن الدار. ومن الآثار الإيجابية لهذا الفهم ما قاله عمر بن عبد العزيز: إنّ الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثهُ جابياً. بمعنى أنّ السلطة في دار الإسلام ليست مكلَّفةً بمهمةٍ دينيةٍ تتعلق بنشر الدين وإظهاره؛ لأنّ استمرار الدين وإظهاره قائمٌ على الدعوة، ولا تستطيع السلطة القيام بذلك؛ لأنّ عملها قائمٌ على القوة والإرغام والفتح: و﴿لا إكراه في الدين﴾.

أمّا الجزءُ الثاني من جُزأَي المشروعية فهو متعلِّقٌ بمقومات الدولة أو ضرورياتها، وهي تتمثل في الأمة والجماعة، والأرض أو الدار، والسلطة الجامعة والمدُبِّرة. وقد نشأ ذلك في تجربتنا التاريخية في ضوء التاريخ، كما يقال، فنحن نعلمُ أنّ النبيَّ صلواتُ الله وسلامُهُ عليه كتب بعد هجرته إلى يثرب عام 622م عهداً أو كتاباً "بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومَنْ تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.. أنهم أمةٌ واحدةٌ من دون الناس..". وقد ارتبط ذلك بثلاثة أمور: تغيير اسم يثرب إلى المدينة. والمدينة مفردٌ ساميٌّ قديمٌ يعني التحضُّر والاستقرار، كما يعني السلطة والحكم. والأمر الثاني بين الأمور الثلاثة: إقبال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم- على طلب" المؤاخاة" بين المهاجرين والأنصار من أهل المدينة؛ وذلك لإقامة الجماعة أو النخبة في قلب الأمة. والأمر الثالث: الطلب من المسلمين بمكة وغيرها الهجرة إلى المدينة أو دار الإسلام. ومعنى هذا أنّ الأمور الثلاثة الضرورية لأي كيانٍ سياسيٍّ كانت في طريقها إلى الاكتمال: الدار والأرض والعاصمة، والأمة والجماعة، والسلطة التي ظهرت من ضمن التعاقُد "بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب..". وأقول إنّ الكيان كان في طريقه للاكتمال؛ لأنه ما اكتمل إلاّ بعد أن أُلْغيت فرضيةُ الهجرة على أثر فتح مكة؛ إذ إنه ما عاد قائماً على السيطرة على موقعٍ معيَّنٍ أو أرضٍ أو دارٍ فحسب؛ بل وصار قائماً على الأمر الآخر الأساسي للمشروعية: الأُمّة؛ حتَّى بحسب المواصفات لذلك في الدولة القومية الأوروبية منذ القرن الثامن عشر الميلادي. ومن المُلاحظ أنّ بحوث الأمة ما تطورت كثيراً بعد النبيّ -صلواتُ الله وسلامُهُ عليه-، للامتزاج أو الصلات الوثيقة بين البُعدين الديني والسياسي في مفرد الأمة أو مصطلحها. وقد كان هناك من قال: إنّ التمييز بين الأمة والدولة أو الشعب القائم في الدولة أو الذي تقومُ عليه الدولة؛ إنما يستند إلى الترادُف بين الشعب والجماعة، فشعب الدولة الإسلامية القائمة هو الجماعةُ التي تشارك في اختيار أمير المؤمنين ومبايعته؛ بينما أراد آخرون جَعْلَ مشروع الدولة مفتوحاً مثل مشروع الأمة. فالأمة أمتان: أمة الإجابة (وهي التي تقوم في ديارها الدولة الحاضرة)، وأمة الدعوة، وهي العالَم كلُّه والذي ينبغي أن تسعى الدولةُ لضمِّه تبعاً لانتشار الإسلام فيه، وهذا أمرٌ غير ممكن. وبذلك يُداخِلُ القصور المفهومين أو المشروعين: مشروع الأمة، التي لا يُتصوَّرُ أن تستوعب العالمَ كلَّه ما دام أنه ﴿لا إكراه في الدين﴾، ومشروع الدولة التي لا يُتصورُ أن تستطيع الاستيلاءَ على العالم كُلِّه.

ولذا فقد جاء التطوّر والتحديد من العنصرين الآخرين أو العاملين الآخرين: عامل الدار أو الأرض، وعاملُ السلطة. فهناك من الدلائل على أنّ بحوث الدار، وأُطروحة دار الإسلام ودار الحرب؛ إنما ظهرت معالمها في مطالع القرن الثاني الهجري. فقد رأى المتكلمون والفقهاء في القرن الثاني أنّ دار الإسلام هي المواطن التي يسيطر فيها المسلمون وتقومُ عليها دولتُهم؛ ولذا فإنّ سيادتَها وأحكامَها قاصرةٌ على تلك الأرض، ولا تتناول أحكامها ولا سلطاتها ما وراء ذلك من أراضٍ وأقاليم وإن يكن فيها مسلمون. وما خلا الأمر من اختلافٍ؛ فالشافعي مثلاً ظلَّ يتحدث عن دار الإسلام ودار الكفر؛ لكنّ الكثرة الساحقة من الفقهاء والمتكلمين أصرَّت على اعتبار أنّ دار الإسلام -بل دار الدولة الإسلامية- هي المواطنُ التي تسودُ فيها أحكامُها ونظامُها القضائي، وهي لا تتناولُ ما وراء ذلك بغضّ النظر عمّا إذا كان فيها مسلمون أم لا. وقد احتجوا على ذلك بما جاء في القرآن عن مسلمي مكة قبل فتحها؛ إذ ورد في القرآن عنهم قولُهُ تعالى: ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتَّى يهاجروا﴾. ومما له دلالته أيضاً أو له ارتباط بنظرية السيادة الدُورُ المتكاثرة التي تحدثت عنها كُتُب السِيَر والجهاد؛ فقد كانت هناك إلى جانب دار الحرب، دورٌ أُخرى مثل المُهادنة، والمعاهدة، والمُوادعة. وهذه التسميات تحدّد أشكال أو حالات العلاقات بين الدولة الإسلامية والكيانات الأُخرى خارج حدودها.

ويبقى الركن الثالث من أركان المشروعية أو شروطها وضروراتها؛ أي السلطة الواحدة في الدار الواحدة؛ فهناك سلطةٌ واحدةٌ في أرض الدولة أو عليها، وقد ظهر ذلك في مكافحة أبي بكرٍ للمرتدين، الذين -بحسب شعرٍ للحطيئة- رفضوا الخضوع لسلطة أبي بكر، رغم أنهم كانوا من سكان الدار التي تبسط الدولة سلطتها وسيادتها عليها. والذين نقدوا تصرف أبي بكرٍ -في إصراره على قتال الذين سُمُّوا بالمرتدّين- ذكروا أنه ليست هناك دلائل على ارتدادهم عن الإسلام، وهذا الأمر قد يكونُ صحيحاً؛ لكنّ المعروف أنه في ذلك الزمان فإنه حتَّى الزكاة (وهي فريضةٌ دينيةٌ) كانت تُدفَعُ للسلطة الشرعية، وهي التي تتولى توزيعها مباشرةً في مصارفها، أو تكّلف ممثليها وعمالها خارج العاصمة القيام بذلك، وقد رفض هؤلاء دفْع الزكاة، تدليلاً على قولهم بعدم شرعية السلطة القائمة بعد النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد تكرر ذلك مراراً في زمن الخلفاء الراشدين، حيث كانت فئاتٌ مُعارضةٌ تتظلَّمُ بأنها قوتلت رغم أنها مسلمةٌ، وكان يقالُ لها: إنها إنما خرجت عن الطاعة؛ أي حاولت إقامة سلطةٍ بديلةٍ في المناطق التي ثارت فيها أو استولت عليها.

وهكذا فإنَّه ومنذ صدر الإسلام ظهرت مقولةُ أو "رسالةُ الأمَّة المهدية" التي تملك أهدافاً كبرى لإنفاذها في العالم، وظهرت ضرورات الدولة أو مقوّماتها والمتمثلة بالوحدات الثلاث: الأمة الواحدة، والدار الواحدة، والسلطة الواحدة. وكما كان مثالُ "آخِر الأُمم" مبعثاً لمشكلات كثيرةٍ؛ لأنّ السلطات أرادت الإفادةَ منه باعتبار أنها أخذت على عاتقها إنفاذ مقتضيات المثال الديني المهدوي والنشوري؛ فكذلك حدثت مشكلاتٌ في جانبي الدار الواحدة، والسلطة الواحدة. فمنذ القرن الخامس الهجري بدأت أمَمٌ وسلطاتٌ أُخرى تسيطر على بعض أجزاء دار الإسلام. ودار جدالٌ فقهيٌّ وسياسيٌّ: ما الذي يكوِّن في الحقيقة هوية الدار وانتماءَها: هل هو خضوعُها لسلطة الحاكم المسلم، أم وجود كثرةٍ مسلمةٍ على تلك الأرض؟ وقد ظهرت اختلافاتٌ شديدةٌ تناولت أُصول المشروعية، بحيث رأى فقهاء كثيرون ضرورة الهجرة من الدار التي احتلتها سلطاتٌ غير مسلمة؛ بينما ذهبت قلةٌ من الفقهاء إلى جواز البقاء في تلك الدار، مع وجوب الجهاد عندما يكون ذلك ممكناً. وما انقضى الأمر في النزاع على الانتماء، هل هو للجماعة أو للسلطة حتَّى انهارت منظومة دار الإسلام بإلغاء الخلافة عام 1924 بعد أن كانت فعاليتُها على الأرض (وليس في مشاعر الناس) قد انتهت منذ آمادٍ طويلةٍ.

وكانت الوحدة الثالثة أيضاً: وحدة السلطة مبعث نزاعٍ شديد، وقبل القرن الخامس الهجري؛ فقد قامت في بعض أجزاء دار الإسلام سلطاتٌ أبت الخضوع لسلطات الخلافة، ومضى الفاطميون بالمغرب ومصر، والأمويون بالأندلس قُدُماً في إقامة خلافةٍ بديلة. في حين ظلَّ الوضع بالمشرق وأواسط آسيا والهند وإيران قلقاً، إلى أن اخترع الفقهاء تسويغاً للأمر الواقع، فصار الخليفة رئيساً أعلى، والسلطان أو أمراء العسكر تابعين اسمياً له. وفي الأزمنة المتأخّرة -وبسبب قوة السلطنة العثمانية- عادت في الواقع السلطة الواحدة، إنما وقتَها أُضيف إلى الانقسام السياسي انقسامٌ عَقَدي، فصار العثمانيون أبرزَ قوى وسلطات الإسلام السني، بينما انفصل الإيلخانيون والصفويون والقاجاريون بإيران باعتبارها بيئةً لسلطاتٍ مستقلةٍ تعتنق المذهب الشيعي.


 

III

قضايا الشرعية: لقد أنفقنا قدراً كبيراً من التأمل في مثال المشروعية، باعتباره الأمر الذي بقي في العمق محتضناً للوعي العميق للأمة في رؤيتها لذاتها ودورها أمام الله، وفي العالم؛ بيد أنّ قضايا الشرعية الثلاث الرئيسة لعبت الدورَ الأكبر في وعي الناس وعملهم عبر التجربة التاريخية الوسيطة كلّها، والقضايا الثلاث هي: العلائق بالمثال، وطرائق الوصول للسلطة، والسلوك المؤسَّسي خلال القيام بإدارة الشأن العام. وتتناول العلائق بالمثال عدة أمورٍ مهمة، من مثل نموذج النبوة أوَّلاً، ثم نموذج الراشدين. بمعنى أنّ شرعية أي حاكمٍ كانت تتأثر كثيراً منذ اللحظة الأُولى في إعلانه عن الولاء لنموذجي النبوة (في حراسة الدين) والخلافة الراشدة (في مسائل الشورى والعدالة والحماية لدار الإسلام). وما تأثّر نموذج النبوة حتَّى عندما انقسم المسلمون فِرَقاً؛ فالذين يقولون بالإمامة المعصومة يذهبون إلى أنّ ذلك هو الأضمَن لاستمرار نهج النبوة. وإنما تأثرت بالإمامة المعصومة نموذجية الشيخين باعتبارهما المثال الأعلى لتحقق "حقّ الأمة"، ورعاية المصالح في الوقت نفسِه. وبالتالي فإنّ ثانية قضايا شرعية العمل أو المصالح كانت حقّ الأمة أو طبيعة السلطة.

فالسلطة السياسية هي -بحسب كتاب المدينة، وبحسب اجتماع سقيفة بني ساعدة على أثر وفاة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- سلطةٌ تعاقُديةٌ بين الحاكم أو الرئيس والناس الذين يبايعونه؛ فقد اجتمع صحابةُ النبي في سقيفة بني ساعدة، وتشاوروا أو تنافسوا أو تنازعوا فيمن يلي الأَمْرَ السياسيَّ بعد النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد اختارت الأكثرية أبا بكر، وكان هناك من يريد سعد بن عُبادة، ومن يُريدُ عليَّ بن أبي طالب. بل وكان هناك مَنْ ذهب إلى إمكان وجود أميرين: واحد قرشي، والآخَر أنصاري؛ بيد أنّ أحداً ما نازع في حقّ الناس في اختيار حاكمهم؛ بمعنى أنه ما كان هناك بين الصحابة مَنْ نازع في أنّ السلطة تعاقدُيةٌ وليست تنصيباً إلهياً. فهناك عهدٌ بين الله والأمة على اتّباع الدين وتبليغه، ثم هناك عقدٌ محدَّدٌ بين الناس ومَنْ يتولى أمرهم السياسي؛ بيد أنّ عدة أمورٍ بقيت غامضةً ومجالاً للنقاش والتنازُع حوالَي القرن من الزمان. فقد رأى الفقهاء والمؤرّخون طريقة التَولية هي الشورى التي تحدث عنه القرآن. إنما مَنْ هم أهلُ الشورى؟ الواقع أنّ الصحابة الأوائل فهموا الشورى (أي التناقُش في اختيار الحاكم قبل عرضه على الجمهور للمبايعة) أنها من حقِّ أهل السابقة، أو المسلمين الأوائل من كبار المهاجرين. ومع أنّ الأنصار أو معظمهم وافق وبايع في النهاية؛ لكنّ المفهوم أنّ كثيرين منهم ومن غيرهم كانوا يرون أنّ الشورى حقُّهم أيضاً. بل كان هناك من رأى أنّ الشورى هي حقُّ جميع المسلمين، كما يتبين من اعتراض بعض جند عبد الله بن الزبير (وبينهم موالي) عندما دعاهم لمبايعته على أثر موت يزيد بن معاوية عام 64هـ دون تشاورٍ أو استئذان. ثم إنّ أهل الشورى هؤلاء ضاق عددُهُم وقلّ بحيث صاروا ستةً بتوصيةٍ من عُمر، وأربعةٌ منهم هم الذين اختاروا عُثمان. أمّا عُمَرُ نفسُهُ فقد استخلفه أبو بكرٍ وحده وبايعه الآخرون؛ بينما بويع أبو بكر بعد نقاشٍ في سقيفة بني ساعدة، وبويع عليٌّ الخليفة الرابع دون نقاشٍ في مسجد النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعد مقتل عثمان. فالشورى إذن أشكالٌ متعددة وليس لها شكلٌ واحدٌ أو أشكال متقاربة حتَّى في حال ضيق الاختيار لفردٍ مثلما فعل أبو بكر، أو لجماعة مثلما فعل عمر. وقد حاول المؤوّلون الْمُحْدَثون أن يجعلوا ذلك ترشيحاً؛ بيـد أنّ أحداً من الصحابة أو الجمهور ما رفض ذلك الترشيـح، ولا رشحَّ نفسَـه. وهذا الأمـر استغلّه الأُمويـون والعباسيـون وصاروا يعينون أبنـاءهم فـي حياتهم من طريق طلب مُبايعتهم. فقد اعترض الفقيه سعيـد بـن المسيِّب -94هـ) على عبد الملك بن مروان في ذلك، باعتبار أنّ السلطة واحدة والبيعة التي تَهَبُ السلطة تكون لواحد، فإمّا عبد الملك أو ولده وليس هما معاً؟! بيد أنّ أحداً لم يُصْغِ إليه، ورأوا جميعاً أنّ البيعة لولدٍ أو ولدين مؤجَّلةٌ أو ولايةٌ للعهد!

ومما يدعم وجهة النظر القائلة إنّ الخليفة القائم أيام الراشدين كان صاحب سلطةٍ في الاستخلاف القَولة المنسوبة لعمر بن الخطاب والتي ترى أنّ بيعة أبي بكر" كانت فلتةً وقى الله شرَّها"؛ فبحسب ظاهر هذا القول أنه كان لا بد أن يكون هناك أحدٌ صاحب حقٍ يرشّح أبا بكر؛ بينما توفّي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولم يستخلف أحداً. وإذا قبلنا ظاهر العبارة فهي غريبةٌ؛ لأنّ أهل السقيفة وهم مئاتٌ شهدوا نقاشاتٍ ربما استمرت لساعاتٍ، وكانت شديدة الانفتاح والرحابة حتَّى بعد بدء البيعة لأبي بكر؛ إذ إنه ما كان واثقاً من الحصول على مبايعة "الأكثرية" لولا مُسارعة المهاجرين من غير قريش، ومن داخل المدينة وخارجها لمُبايعة أبي بكر. ففي رواية أبي مخنف عن عمر بتاريخ الطبري (1:1843) أنّ قبيلة أسلَم" أقبلت بجماعتها حتَّى تضايقت بهم السِكَك فبايعوا، فكنتُ أقول (أي عمر): ما هو إلاّ أن رأيتُ أسلَم فأيقنتُ بالنصر". وهذا يعني أن عمر بن الخطّاب نفسَه كان يبحث عن تأييد الأكثرية لأبي بكر باعتبارها هي التي تُعطي السلطة شرعيتَها، وليس أن ينهضَ صاحبُ سلطةٍ قائمةٍ أو نفوذٍ بمبايعة المترشِّح (وأبو بكر كان مرشحاً أو أنّ عمر رشّحه وهو قَبِل)؛ لأنّ الواضحَ أنّ عمر ما كان صاحبَ نفوذٍ بين الأنصار على الأقلّ؛ بينما كان مهاجرو قريش "رهطاً"؛ أي قِلّةً في العدد مقارنةً بمؤيدي سعد بن عُبادة من قبيلة الخزرج الأنصارية. ثم إنّ هؤلاء المهاجرين كانوا منقسمين، أو أنّ عدداً من كبارهم ما كانوا متحمسين لأبي بكرٍ -رضي الله عنه-. ومع ذلك فقد يكونُ معنى قَولة عمر إنه كان يخشى الفوضى بالدرجة الأُولى بسبب تعدد المرشَّحين، وبعض الحساسيات التي استيقظت بين المهاجرين والأنصار. وهذا الاحتمال يرجّحه أن عمر ختم قَولته تلك بالعبارة التالية: ".. فمن بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين فإنه لا يُبايَعُ هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يُقْتَلا...". ويعني هذا في أحد وجوهه -إنْ صحَّ ذلك كلُّه عن عمر- أنه ينبغي أن تكونَ الشورى عامةً وعلنيةً لتصبح مَدْعاةً للاجتماع على إمام، بدلاً من أن يقوم صاحب نفوذٍ قَبَلي أو مالي بالمبايعة لنفسه أو لغيره، ويدعو الآخرين بحكم نفوذه لذلك.

وهكذا فلدينا أمران اثنان ثابتان: أن السلطة تعاقدية، وأنّ التعاقُد (أي البيعة) يتمُّ بعد تشاوُرٍ يوصِلُ إلى الاتفاق على مرشَّح. فالسلطة المتأسّسة على التعاقُد الحُرّ والاختياري في الأساس تشبه بالفعل الانتخاب، وإنما الغموضُ في مقدمتها؛ أي في الشورى التي جرى الاختلافُ على أهلها (وقد سمّاهم الماوردي بالفعل أهل الاختيار)؛ لكنْ رغم ذلك فإنّ التحديد بقي غامضاً؛ فإذا كان الصحابة أيام الراشدين هم أهل السابقة، فماذا عمّا بعد زمن الراشدين، وكيف تتحدد هيئةُ الترشيح وما هي مواصفاتُها.

إنّ الذي أراه أنّ التجربة كانت جديدةً، ولذلك تعددت أشكالُها بسبب تعرضها لضغوطٍ كثيرةٍ، وأهمُّ تلك الضغوط الثورة على عثمان. ومع أنّ المؤرخين يذكرون أنه كان بين الصحابة بالمدينة مَنْ هم ضدّ عثمان، ويسعَون للوصول إلى السلطة بعد تنحيته؛ فإنّ الثائرين كما نعلم كانوا جميعاً من غير قريش والأنصار، وجاءوا إلى المدينة بأسلحتهم من مصر والبصرة والكوفة. ولذا فالواضح أنهم كانوا يرون أنفُسَهُمْ أصحاب حقٍ مثل المدنيين أو سكّان المدينة من المهاجرين والأنصار؛ بيد أنّ مقتل عثمان أنهى هذه التجربة الواعدة نهايةً مأساوية؛ بل إنّ شاعر الأمويين فيما بعد قال: إنّ قتل عُثمان أنهى حقَّ "أهل المدينة" في الشورى لاختيار الإمام! وكانت هذه الواقعة ذات تأثيرٍ سلبيٍّ جداً على فكرة الشورى ذاتها؛ إذ -وكما سبق القول- بويع عليٌّ من جانب الثائرين، وتبعهم أهل المدينة خوف الفراغ في السلطة، وما عاد أحدٌ للمطالبة بالشورى إلاّ إذا كان معارضاً؛ بمعنى أنّ الشورى صارت سلاحاً بأيدي المعارضين للسلطة القائمة. وإذا كان هذا هو حال تجربة الشورى في زمن الراشدين، فلماذا صار زمنُ الراشدين (الذين قُتل ثلاثةٌ منهم) زمناً مثالياً إذن في أخلاد سائر المسلمين على مدى الأزمنة والعصور؟ قد يكونُ ذلك بسبب الشورى المُجهضة التي حملتْها تلك التجربة الواعدة، ويُضافُ لذلك السُمْعة العالية لهؤلاء الصحابة الأجِلاّء، والتي اكتسبوها من عملهم مع رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه، وأنّ الناس (أو غالبيتهم) كانت ترى فيهم إحساساً فائقاً بالواجب والأعباء والمسؤوليات. ثم إنّ الشرعية التأسيسية (المثال، والوحدات الثلاث: الجماعة والدار والسلطة) كانت متحقِّقة في أذهان الأجيال اللاحقة على الأقلّ، وبالمقارنة في كلّ النواحي مع ما حصل زمان الأمويين وخلال أزمنة العباسيين.

لدينا إذن من شروط أو أركان شرعية العمل والمصالح مسألة الشورى، وهي على رغم الغموض في الكثير من أصولها وجوانبها عُدّت متحققةً في زمن الراشدين، وهو أمرٌ أعطاها قوتها المنقطعة النظير، فصارت مثالاً على مدى تاريخ الأمة، تشرئبُّ إليه الأعناق؛ وذلك لأنها بالمعنى العميق تعني حقَّ الأمة في اختيار الحاكم، وعندما ضعُف ظهورها أو انقطع في التجربة التاريخية ظلّت مثالاً يحملُهُ المعارضون، ثم قيمةً أخلاقيةً تتجاوزُ السياسات لتظلّ من خصائص أمة المؤمنين كما ذكر القرآن ﴿وأَمْرُهُم شورى بينهم﴾.

وعندما نصل إلى الركن الثالث من أركان الشرعية (بعد التواصل مع المثال النبوي، والشورى الراشدة) فإننا نؤثِرُ تسمية ذاك الركن بشرعية المصالح. والمصالح في سائر الأُمم والدول هي حقوقٌ أيضاً؛ لكنها تتصل بوظائف السلطة أكثر من الاتصال بأُصولها المثالية والحقوقية؛ ففي التفكير السياسي الإسلامي القديم حديثٌ طويلٌ جداً عن العدل والكفاية والشوكة، ويحتلُّ العدل منزلةً رفيعةً في التفكير والتجربة التاريخية وبثلاثة معانٍ: المعنى العام، والمعنى الإداري، والمعنى القضائي. ففي المعنى العامّ العدلُ قيمةٌ كبرى (ميزان الله في الأرض)، ومن قسمة الفيء (أي الإشراف على إنتاج الثروة وتوزيعها)، وإلى الولايات المتعددة في المناصب والمهمات، فإلى التعامُل مع الفئات والأفراد. وبالفعل فإنّ الشرعيات الوظيفية هذه لعبت دوراً أساسا في إضفاء الشرعية على هذا المسؤول أو ذاك أو سلْبها منه؛ فعمر بن عبد العزيز أهمُّ سِماته في نظر المؤرّخين والفقهاء أنه كان عادلاً بالمعاني الثلاثة، وربما كان أبو جعفر المنصور سياسياً يتّسم بالكفاية في الإدارة وفي إقامة المؤسَّسات بما في ذلك مؤسسات الفيء أو دخْل الدولة؛ بيد أنّ أحداً ما كان يصفُهُ بالعدل، ليس لأنه كان يتعمد هَضْم الحقوق للأفراد والجماعات؛ لكنه اشتهر بالقسوة مع المعارضين، وما كانت لديه تلك الشخصية القريبة من الناس، ليس بالمقارنة مع عمر بن عبد العزيز؛ بل وبالمقارنة مع حفيده هارون الرشيد. وهكذا فقد تلبّستْهُ سِمتان: الكفاية والشوكة، وبالداخل وتُجاه الخارج. وقد نسي كثيرون كفايته هذه لصالح الشوكة؛ فقد ثار عليه كثيرون واشتهر بالكفاية أو القسوة في فرض النظام. وهكذا فإذا احتكمْنا إلى سِمات المؤرّخين والفقهاء لشرعية المصالح أو شرعية العمل هذه؛ نجد أنّ جانباً مهماً من جوانب الحكم الناجح قد فاته؛ لأنّ الأمر -كما قال عمر بن عبد العزيز والرشيد والمأمون من بعد- ليس في القدرة على إخماد التمردات والثورات؛ بل في الحيلولة بالعدل والإنصاف دون حصولها. 

بيد أنّ هناك جانباً مهماً حقّق في المدى الطويل نوعاً من الشرعية المصلحية إذا صحَّ التعبير وهو جانب المؤسسة القضائية. والقضاء يستند إلى التشريع أو القانون. وينفرد النظام الفقهي أو القانوني الإسلامي في الأزمنة الوسيطة والحديثة في أنّ الدولة أو النظام السياسي ليس هو الذي اشترعه؛ بل اشترعه علماء المذاهب الفقهية في استقلالٍ كبيرٍ عن المؤسسة السياسية. وقد حاول عمر بن عبد العزيز والمنصور وهارون الرشيد وآخرون الدخول على خطّ التشريع والقضاء من أجل التوحيد أو الاتّساق فما أمكن ذلك؛ وذلك لأنّ التشريع استند دائماً إلى المصادر التي حدَّدها الشافعي -204هـ) في زمنٍ مبكر وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهناك المصادر الفرعية مثل العُرف والمصالح المُرسَلة. ومنذ القرن الثاني الهجري تسلّم الفقهاء (ومنهم القُضاة) زمام الاستنباط والاجتهاد والتشريع، في نطاق هذه المصادر وبتوسُّط القواعد التي سادت في كلّ مذهب. ولذلك اقتنعت الدولة وفي زمنٍ مبكِّر نِسْبياً أيضاً بالبقاء خارج العملية التشريعية، والاكتفاء بالتنظيم من خلال منصب قاضي القُضاة. وما انتهت المشكلات بالطبع باعتزال السلطة للتشريع، فقد ظلّت هناك عنعناتٌ لدى الفقهاء والعامة في العلائق بين الشريعة والسياسية؛ إذ كانت مشكلة السلطة دائماً أنّ أيَّ تدخُّلٍ في القضاء بحجة ضرورات السياسة؛ كان يعني اتهامها بمخالفة شرع الله وشريعته؛ لكنّ خُلاصة التجربة التاريخية للعدالة القضائية كانت لصالح السلطان، بقدر ما كانت لصالح الناس. فالسلطة كانت في الأغلب تتجنب المساس بالقضاء، بل وتتظاهر أو تعمل بالفعل على حمايته، إبقاء على هدوء الناس، وإظهاراً لإطاعتها لشرع الله. وبهذا المعنى فإنّ الشرعية لهذه الناحية ظلت متحققةً بهذا القدر أو ذاك، حتَّى في الأزمنة التي اختلّت فيها وجوهُ وأبعاد الشرعية الأُخرى.

وقد أتى على الناس والدولة زمانٌ بل أزمنة، تضاءلت خلالها (في نظر المجتمع) اعتباراتُ الشرعية كلّها، باستثناء الكفاية والشوكة أو الكفاية من طريق الشوكة. وما أقصدُهُ بتلك الأزمنة عهود الاضطراب الداخلي، والاجتياحات الخارجية، وقد اقترنت هاتان الظاهرتان بعد القرن الخامس الهجري عندما دخلت الشعوب التركيةُ الحديثةُ الإسلامِ إلى قلب الدولة بجحافلها من جهة، وبدأت الغزوات الصليبية والمغولية والتترية من جهةٍ ثانية، وهذه الملحمة المأساوية هي التي استشرف معالمها إمام الحرمين الجويني -478هـ) في كتابه: غياث الأُمَم في التياث الظُلَم، عندما تصوَّر نزول جائحةٍ بالأمة تفتقر فيها إلى السلطة الكافية، والعلماء المجتهدين، وقد عنى ذلك تغليب اعتبارات فرض الأمن بالداخل، وحماية الدار والأُمة من الغزوات الخارجية. وقد صبّت تلك الضرورات لصالح تسلُّم السلطنات العسكرية زِمام الأمر السياسي (من طريق أرباب السيوف)، والأمر الاقتصادي (من طريق الإقطاع العسكري)؛ فما عاد هناك تساؤلٌ حثيثٌ عن مقتضيات شرعية العمل والمصالح؛ بل صار الضروري والمطلوب حماية المشروعية التأسيسية المتمثلة في الدين والأمة والدار. ومما له دلالتُهُ أن يكونَ اللقبُ المفضَّل لدى السلاطين العثمانيين هو لقب الغازي؛ أي المُغير الدائم على الأعداء، وينفرد السلطان سليمان (1522-1566م) -إلى جانب تعظيماته وألقابه الأُخرى- بلقب: القانوني؛ لأنه أعاد الاعتبار لقضايا التنظيم بالداخل، ومن ضمن ذلك العدالة بمعنييها الإداري والقضائي.

منذ نصف قرنٍ وأكثر يتحدث كُتّابٌ كثيرون مسلمون ومستشرقون، وعلمانيون ومتدينون عن نظام الحكم في الإسلام. والإسلام دينٌ وثقافةٌ وحضارةٌ كبرى وتجربةٌ تاريخيةٌ هائلةٌ وزاخرة. وبهذه المعاني جميعاً -وليس بمعنى أنّ الدين الإسلامي اقتضى نظاماً سياسياً معيناً- يمكن الحديث عن نظامٍ أو أنظمةٍ للحكم؛ فقد تميزت التجربة التاريخية في عالم المسلمين بالفعل بإقامة نظام الخلافة، ثم ظهرت السلطنات. والتجربةُ هذه في أصولها والتحول من دولة الخلافة إلى إمبراطوريات تأسست على ركنين: المثال الكبير للأمة والدين والخير العام، وسواد روح شوري وتضامُني وتعاوني (راشد) في البدايات وفي الوعي الباقي. وقد تضاءل الأمران أو تحولا كثيراً في عمليات الصيرورة إلى إمبراطورياتٍ وسلطناتٍ كبرى. وفي حين تراجعت مثالاتُ الشرعية غير ذات الطبع الوظيفي، بقيت للمشروعية التأسيسية آثارٌ كبرى وغائرة وعميقة في الوعي؛ فهل كانت التجربة السياسية التاريخية لأمتنا تجربة حقوقٍ للأفراد والمجتمعات؟ هذا ما لا يمكنُ الجزمُ به، وإن تكُن الحقوق قد ظلّت مثالاً معتبراً في الوعي الديني والأخلاقي. وهذا سرُّ فعاليتها البارزة في هذا الزمان، وكلّ زمان.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/179

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك