وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً

عبدالعزيز بن ناصر الجليل

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهـد أن محمـدًا عبده ورسـوله صلـى الله عليـه وعلى آله وصحبـه وسلم تسليمًا.

أما بعد:

فإن من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن بعث فيها أفضل رسله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه وأكملها وأقومها وأشملها لخيري الدنيا والآخرة.

ولقد امتن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة على هذه الأمة في أكثر من آية؛ كما في قوله سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).

ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

ووصف كتابه الكريم بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنَّ فيه تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة؛ قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)(1) (الإسراء:9).

وقال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية89).

وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله حديثاً؛ فإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يجد هذه المعاني العظيمة واضحة وضوح الشمس، حيث لا يخفى على من له أدنى بصيرة ما تضمنه كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والرحمة والشمول لكل مصالح العباد، مع مراعاة لكل جوانب النفس البشرية ومخاطبتها بمنهج متوازن وميزان قسط وعدل لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا يرجح فيه طرف على آخر.

ولا غرابة في ذلك فهو صادر عن الله عز وجل، وما صدر عن الله تعالى فهو الكامل الشامل المتوازن؛ لأنه صدر عن الكامل في صفاته وأفعاله، الذي لا حدود لكماله، العالم بمصالح خلقه، والحكيم الذي يضع الشيء في موضعه الذي يجب أن يوضع فيه، الرحيم الذي يرحم عباده بما يأمرهم به من خير وينهاهم عنه من شر؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وإن من أبـرز سمات هـذا المنهج الرباني الهادي للتي هي أقـوم أنه متسم بالشمول والتوازن والوسطية والعدل؛ ولذلك امتن الله عز وجل على هذه الأمة التي أنزل إليها كتابه الكريم ومنهجه القويم بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143).

ويتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه السمة البارزة في هذا الدين فيقول: «وهو - مِنْ ثَمَّ - شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيرًا، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعًا. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خَلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؛ فليس أمامه - سبحانه - مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة، ومن ثَمَّ فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكـل جوانب كينونتـه، ولكـل أطوار حياتـه، المتوازن مع كـل جوانب كينونتـه ومع كـل أطــوار حياتـه، الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كـل ظروف حياته.

وهو - مِنْ ثَمَّ - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان؛ بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن، إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيِّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُـولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِـرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59)»(2) ا.هـ.

وقال الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9): «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسدُّ وأعدل وأصوب ... وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.

وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها؛ فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة»(3).

وقد جعلت عنوان هذه الرسالة الآية الكريمة من سورة البقرة؛ وهي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وذلك لأنطلق منها في بيان عظمة هذا الدين وشموله، وبركته وخيره على البشرية، موضحًا في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى بعضًا من جوانب عدله، ووسطيته وتوازنه في عقائده وأحكامه، وما فيه من الميزان الحق، واليسر والخير والتوافق مع العقل السليم والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

ونظرًا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض الآخر يضخم جانب الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو والإفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) وصدق الله العظيم في وصف المناهج البشرية بقوله سبحانه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: من الآية82).

ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون المفضلة. ولو أن هذه المواقف صدرت عن طوائف الضلال والبدع لكان الأمر غير مستغرب لأن كل إناء بما فيه ينضح، ولكن المستغرب صدورها من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة والاختلاف بين أصحاب المنهج الحق الواحد.

وفي ضوء كل ما سبق تأتي هذه الرسالة الجديدة من سلسلة الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لبيان عظمة هذا الدين، وشموله وكماله، وتوازنه وعدله، وأثر ذلك في توازن وضبط الأفكار والحركات والمواقف ودفعها إلى فعل الخير المثمر في الدنيا والآخرة.

وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام أمور كثيرة أشير فيما يلي إلى أهمها:

الأمر الأول:

ما ظهر في حياة كثير من الناس من المخالفة لحد الاعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير - ويتضح هذا في كثير من جوانب الدين سواء ما كان منه في جانب الاعتقاد؛ كمفهوم الإيمان، والقدر، والأسماء والصفات، والتوكل والخوف والرجاء، أو ما كان منه في جانب العبادة والنسك ما بين غال ومقصر، أو في جانب الأخلاق والسلوك ما بين مُفرِّط ومُفْرِط.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين»(4).

 

الأمـر الثاني :

ما ظهر في هذه الأزمنة المتأخرة من فهم منحرف لمعنى (الوسطية)(5) والأمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لهـا. وقد أثمـر هـذا المفهـوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط، فلا بد من التوسط في أخذ هذا الدين حتى لا ينفر الناس منه.

وهذا المفهوم المنحرف لمعنى الوسطية له ما يفسره، لكن ليس له ما يبرره، وقد انطلق بعض من يدعو إلى هذه الأفكار من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن الالتزام بهذا الدين وأخذه بقوة كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن دعوة الناس إلى ذلك هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية، ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام بل من بعض الدعاة من َيصِمْ بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف. وهذا كله إنما نشأ من الفهم المنحرف للوسطية والتشديد والتيسير؛ فلا بد إذن من تحرير مفهوم الوسطية كما جاء عن السلف الصالح رضي الله عنهم.

 

الأمـر الثالث:

وهو فرع عن الذي قبله، ألا وهو:

ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تجر إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لا بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر ويسمون ذلك وسطية، ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.

 

الأمر الرابع:

في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة لظاهرة الاختلاف الحاصل بين الدعاة وطلبة العلم. وما نشأ ذلك إلا بسبب فقدان التوازن والوسطية في بعض الأخلاق والمعاملات؛ ومن ذلك التطرف في معالجة الأخطاء: ما بين غالٍ في الحب والتقدير لبعض الأشخاص فلا يرى أخطاءهم إلا بمنظار الحسن والتبرير، وغالٍ في الكره والخصومة فلا يرى إلا الأخطاء، وما كان من صواب فيسيء الظن بصاحبه.

وإن مثل هذه المواقف - فوق أنها فاقدة للتوازن والوسطية والعدل - يدخل فيها الهوى وحظ النفس، والوسط والعدل بين هذين الطرفين. ولا أبالغ إذا قلت إن الفُرقة الحاصلة اليوم بين أهل السنة إنما يعود السبب الأكبر فيها إلى فقدان الوسطية والعدل والتوزان في علاج الخلاف.

ولعل فـي هـذه الدراسـة مساهمـة أقدمهـا لنفسي ولجميع المنتسبين لأهل السنة والجماعة؛ حتى نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر نحب الألفة والاجتماع، ونكره الفرقة والاختلاف، ولنكون من الأمة الوسط العادلة الشاهدة على الناس، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تكالب فيها الأعداء على المسلمين من كل صوب، ورموهم عن قوس واحدة، فتعينت المحافظة على وحدة الصف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي المخالف لنا في أصل الملة وليس في مسألة أو مسائل فرعية؛ لأن الفقه في الدين ومقاصد الشريعة، والتحلي بالعدل والإنصاف يفرضان على المسلمين تآلفهم وتحمل خلافـاتهـم الجزئيـة أمـام الطـامـة الكبـرى التـي يريدهــا الكفـار بالإسـلام والمسلمين.

والمقصود أن غياب الوسطية واضطراب الميزان يقود إلى الإجحاف ومجانبة الرفق في تقويم الرجال والكتب والمواقف، وعدم إعذار من له عذر، وهذا بدوره يقود إلى التفرق والتعصب والغلو والعدوان. وعند فقد الميزان والوسطية والعدل تصبح الكبائر التي يعملها الشخص أو من معه في طائفته من اللمم والصغائر، وتنقلب الصغائر والاجتهادات الخاطئة إلى كبائر حينما تقع من الآخرين.

وهذه الظواهر لا يشك أحد في وجودها اليوم بين بعض العاملين في حقل الدعوة؛ وسببها غياب الميزان الحق والوسطية والعدل التي هي من أبرز سمات هذا الدين، ومن أخص خصائص هذه الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شاهدة على الناس.

 

الأمر الخامس : 

ظهور بعض المتحمسين للدعوة والغيرة على الدين ممن لم يكن لهم علم كافٍ بمقاصد الشريعة، وبمبدأ الموازنات في الشريعة الإسلامية؛ حيث ركَّزت طائفة منهم النظر في المفاسد المترتبة على الأخذ ببعض القضايا المستجدة دون مراعاة لما فيها من المصالح، وطائفة أخرى ركزت على ما فيها من المصالح بغض النظر عن ما يترتب عليها من المفاسد وكلا الطرفين مذموم. والحق هو الموازنة؛ فما كانت محصلته الخير والصلاح في الدين أو الدنيا أُخذ به ولو كانت فيه مفاسد قليلة ترجح بها كثرة المصالح كمًا أو كيفًا. وما كان محصلته الفساد والشر فإنه يترك ولو ظهرت فيه بعض المصالح التي ترجح بها كثرة المفاسد كمًا أو كيفاً.

والمقصود أن ظاهرة الأحادية في النظرة والتعصب لها توجد اليوم من بعض الغيورين، وهي بدورها توقع أصحابها في مصادمة دائمة مع إخوانهم الدعاة، بل قد توقعهم في مصادمة مع بعضهم البعض أو مع أنفسهم.

والوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بمبدأ الموازنات هو أصل عظيم في تشريع الأحكام والحكم على النوازل، ورحم الله من قال: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين».

 

الأمر السادس:

إن الإلمام بخاصية العدل والتوازن والوسطية في أحكام الله عز وجل الكونية منها والشرعية لمن أكبر العون على معرفة سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتغير، والتي تتسم بصفة الاطِّراد والثبات والشمول والتوازن. وهذا بدوره يقود إلى معرفة السنن الربانية في تغير المجتمعات سواء من سوء إلى حُسن أو عكس ذلك. وما أحوج الأمة اليوم إلى إدراك هذه السنن الربانية؛ وبخاصة دعاتها وعلماؤها ومجاهدوها الذين يقع عليهم عبء المسؤولية وثقل الأمانة في إنقاذ الأمة - بإذن الله تعالى - مما هي فيه من ذلة وشقاء وفساد.

وفي إدراك هذه السنن المطَّردة المتوازنة هداية إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وفي المقابل فإنه عندما يكون الجهل أو الغفلة عن هذه السنن الربانية فإن ذلك مؤذن بالانحراف عن المنهج الصحيح للدعوة والتغيير والإصلاح.

 

الأمر السابـع:

إن الحديث عن سمة الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين وأحكامه وأخلاقه ليبعث في النفس الغبطة والفرح والسرور، والفخر بدين الإسلام، وهذا بدوره يورث في النفس تعظيم الله عز وجل وحمده وشكره، وتعظيم دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله به إلى صراطه المستقيم؛ وبخاصة عندما ننظر إلى المناهج البشرية المضطربة التي فقدت هذه الخاصية فذهبت بها الأهواء تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشمال. كما أن ذلك يبث في النفس الطمأنينة والثبات على هذا الدين، ويدفع المسلم إلى الدعوة لهذا الدين وإيصاله إلى الناس لينعموا به في الدنيا وتسعد حياتهم به وبما فيه من العدل والتوازن والشمول والكمال، ولتكمل سعادتهم في الدار الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن خاصية التوازن في دين الإسلام: «... وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه الآفة التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أوَّلته تأويلاً خاطئًا وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة»(6).

وأكتفي بهذه البواعث التي دفعت إلى كتابة هذه الرسالة لتدل على غيرها من البواعث التي لم تذكر، والتي لا تبعد عما سبق، وإنما هي تفريعات لها.

 

وسيكون البحث في هذه الرسالة من خلال الأبواب والفصول التالية إن شاء الله تعالى:

الباب الأول :  تفسير آية سورة البقرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وما في معناها من الآيات والأحاديث.

الباب الثاني : مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وأمره.

وتحته فصلان:

الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.

الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوزان في أمر الله عز وجل وشرعه.

وتحته مباحث :

المبحث الأول: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد.

المبحث الثاني: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.

المبحث الثالث: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في العبادات.

المبحث الرابع: من مظاهـر العـدل والوسطيـة والتـوزان فـي الأخـلاق والمعاملات.

الخاتمة .

 ____________

(1) انظر ما كتبه الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - من كلام طويل ونفيس عند هذه الآية في تفسيره المبارك «أضواء البيان»: (3/372-417).

(2) «خصائص التصور الإسلامي»: (ص 49، 50).

(3) «أضواء البيان»: (3/372)، باختصار.

(4) «روضة المحبين» (ص 220).

(5) سيأتي إن شاء الله تعالى بيان المعنى الصحيح لمفهوم (الوسطية) في مبحث قادم.

(6) «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»: (ص 136).

 

 

الباب الأول

تفسير قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) 

المقصود من استعراض أقوال السلف من تفسير هذه الآية هنا هو الوقوف على المعنى الحق لمفهوم (الوسطية) والأمة الوسط؛ وذلك حتى ننطلق من هذا المعنى الصحيح في ذكر الأمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة المميزة للإسلام وأهله.

وقد ورد تفسير (الأمة الوسط) في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:

1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143). والوسط: العدل)(1).

2- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: «عدولاً»(2).

وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين؛ كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها ب «عدولاً».

وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها: «جعلكم أمة عدولاً».

وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأمم(3).

وقال الإمام الطبري: «وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.

وهو وسط في قومه وواسط؛ قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم        إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ

قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.

وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.

وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم»(4).

3- قال ابن كثير(5): وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.

ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.

وروى الإمام أحمد(6) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). قال الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة(7).

4- قال صاحب المنار: «(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وهو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.

قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار؛ وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما»(8).

5- وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143): «أي: عدلاً وخيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين؛ وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلُّ على الوجه اللائق بذلك.

ووسطًا في الشّريعة؛ لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.

وفي باب الطّهارة والمطاعم؛ لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعِهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.

ولا كالنصارى الذي لا يُنجسّون شيئًا ولا يحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.

بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.

فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.

ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم»(9).

6- وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزين ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة .. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا.

وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..

«أمة وسطًا» في التصور والاعتقاد لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.

«أمة وسطًا» في التفكير والشعور؛ لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، وفي تثبت ويقين.

«أمة وسطًا» .. في التنظيم والتنسيق .. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك.

«أمة وسطًا» .. في الارتباطات والعلاقات .. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.

«أمة وسطًا» .. في المكان .. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء...»(10).

7- ويستدل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً… الآية) (البقرة: من الآية143) على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم فيقول: «ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولاً؛ هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوه بهم، ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم، وتدعو لهم وتستغفر لهم.

والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق؛ فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: من الآية86).

فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به، فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ...»(11).

وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهمٌ واضحٌ محددٌ لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه الأمة وكونها أمة وسطًا.

وهذا الفهم يتحدد في معنيين هما:

الأول: الخيرية والأفضلية.

الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق، والبينية بين الإفراط والتفريط.

وكلا المعنيين داخل في الآخر؛ فإن الخيرية والأفضلية لم تتصف بها هذه الأمة إلا لكونها قائمة بالعدل والقسط والحق، ولكونها وسطًا بين الغالي والجافي. وكل من قام بالعدل والحق فهو الأولى بصفة الخيرية والفضل.

والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومان يكتنفان الوسط والعدل.

أحدهما: ينزع إلى الغلو والإفراط.

والآخر: ينزع إلى التفريط والإضاعة والجفاء.

وفي هذا المعني يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان»(12).

ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو والإفراط، ومفهوم الجفاء والتفريط بعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.

أولاً : الغلو والإفراط :

قال الجوهري: «وغلا في الأمر يغلو غلوًّا أي: جاوز فيه الحد»(13).

وقال في اللسان: «وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حده، وقال في التنزيل (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).... وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه ... ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم»(14).

وقد جاء في القرآن الكريم النهي عن الغلو في الدين في أكثر من موضع؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171).

قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه: غلا السعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم ... وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة»(15).

وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).

قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: «لا تُفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل. فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبدالله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه»(16).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن»(17).

وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في آية المائدة: «أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تُطْروا من أُمِرْتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله»(18).

كما جاء النهي عن الزيادة والتكلف في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86).

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرًا تعطونيه من عَرَض الحياة الدنيا (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أُمِرْتُ به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة»(19).

وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلو والتشديد في الدين، وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.

الحديث الأول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غداة جمع: (هلمّ القط لي الحصى)، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلمَّا وضعهنَّ في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الديّن فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين)(20).

الحديث الثاني: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطّعون). قالها ثلاثًا(21).

قال النَّوويُ: «هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم»(22).

الحديث الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27)"(23).

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تعليقه على هذا الحديث: «فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين؛ وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقَدَر وإما بالشرع؛ فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به.

وبالقدر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم»(24).

 الحديث الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)(25).

قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «والتسديد: العمل بالسداد؛ وهو القصد والتوسط في العبادة؛ فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل ما لا يطيقه»(26).

 الحديث الخامس: عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه)(27).

 الحديث السادس: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؛ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(28).

وعند البخاري: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(29).

ومن خلال الأحاديث السابقة يتبين لنا معنى الغلو وحده وأنه مجاوزة الحد وتعدي ما أمر الله به، أو فعل ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.

«ومن الألفاظ المرادفة لمعنى الغلو: الإفراط. وهو يشترك مع الغلو في كونه مجاوزة للحد، وان كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات أو بحرمان نفسه منها يكون وصف الغلو ألصق به، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة يكون وصف الإفراط ألصق به من الغلو»(30).

والمقصود أن كلاًّ من الغلو والإفراط خروج عن الوسطية.

ثانيًا : التفريط والجفاء :

بعد ما تعرفنا على معنى الغلو والإفراط، وأنه مجانب للوسطية، نقف في هذه الفقرة لنتعرف على الطرف الآخر المقابل له، ألا وهو التفريط والإضاعة والذي هو الآخر مجانب للوسطية والعدل والميزان المستقيم. فما معنى التفريط؟

قال في اللسان: «التفريط: هو التضييع. وقال الزجاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز، وفرط في الأمر يفرط فرطًا. أي: قصَّر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(31). ا.هـ.

وقال الجوهري: «فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(32).

وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع:

 قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).

قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيَّعنا فيها.

قال السّديّ: أما (يَا حَسْرَتَنَا). فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة(33).

وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم؛ يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه: (أنا فرطكم على الحوض)(34) ... ومنه في الدعاء للصبي: اللهم اجعله فَرَطًا لأبويه؛ فقولهم: (فَرَّطْنَا). أي: قدَّمنا العجز. وقيل: «فرّطنا» أي: جعلنا غيرنا الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا(35).

 وقال تعالى في سورة الأنعام - أيضًا -: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).

قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه.

وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلاّ قد كتبناه في أمّ الكتاب.

وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). قال: لم نغفل، ما من شيء إلاّ وهو في الكتاب(36).

 وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61).

قال الطبريّ: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.

قال ابن عبَّاس: «لا يُفرّطون». لا يضيِّعون.

وكذلك قال السّديّ: «لا يفرّطون». لا يضيِّعون(37).

 وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).

قال الطبريّ: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف(38).

قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ). قصَّرتم في شأنه(39).

وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علمًا بالطرفين المذمومين المخالفين للوسطية والعدل، وهما: طرف الغلو والإفراط، وطرف التفريط والتقصير، وأن الميزان العدل وسط بينهما في كل الأمور.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مبينًا منهج السلف القائم على العدل والوسط: «والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا - وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسُّنة - فإن الشيطان يَشُمُّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسُّنة أخرجه عن الاعتصام به؛ وإن رأى فيه حرصًا على السُّنة، وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها؛ فأمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل؛ فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها؛ فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.

وهذا حال الخوارج الذين يَحْقِر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السُّنة إلى البدعة؛ لكن هذا إلى بدعة التفريط، والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.

وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان. إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط. ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان»(40).

ويقول - رحمه الله تعالى - في موطن آخر: «وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان فإما إلى غلو ومجاوزة وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذَّر السلف منهما أشد التحذير وخوَّفوا من ابتلي بأحدهما بالهلاك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق؛ يكون مقصرًا مفرطًا في بعض دينه، غاليًا متجاوزًا في بعضه، والمهدي من هداه الله»(41)  ا.هـ.

 تنبيه :

ما دام أن الوسطية سمة بارزة في هذا الدين، وأنه قائم على العدل والوسط والتوزان بين طرفي الغلو والتقصير، فإنه ينبغي الحذر ونحن في صدد الحديث عن الغلو والجفاء من أن نقع في الغلو في فهمنا للغلو والإفراط، أو في فهمنا للتفريط والتقصير. ذلك أن بعض الناس قد يفسر التمسك بالدين عقيدة وعبادة وشريعة وأخذ ذلك كله بقوة والالتزام بالسنة، قد يفسر ذلك بالغلو والتشديد وهذا غلط وغلو في الغلو؛ ففرق بين الملتزم بدينه المتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابت على عقيدته في ضوء الكتاب والسنة وبين من يشدد على نفسه بأمور لم تشرع في هذا الدين، أو يتجاوز حدود الله عز وجل في الآخرين قاصدًا بذلك التدين والتعبد لله تعالى.

فالأول ممدوح ومحبوب لله عز وجل، وأهله هم المتقون القابضون على دينهم قبض الجمر أيام الصبر والفتن، وهم أهل الله عز وجل وخاصته، وهم الطائفة المنصورة مهما قال عنهم المخالفون أو المخذلون ورموهم به من صفات الغلو والتنطع والتطرف؛ فإنهم كما جاء وصفهم في حديث الطائفة المنصورة: «لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»(42).

أما الفئة التي غلت في دين الله تعالى وتعبدت لله تعالى بما لم يأذن به سبحانه أو بما يسخط الله تعالى فهي الفئة التي يصدق عليها وصف الغلو والتطرف والتنطع.

وفي مقابل من يغلو في فهم الغلو فإن هناك من يغلو في فهم التفريط والتقصير؛ وذلك بأن ينظر إلى بعض اجتهادات الراسخين في العلم وما يفتون به في بعض النوازل والمستجدات مما هو قائم على الموازنة عند تزاحم المفاسد والمصالح، مما ينتج عنه ترك لبعض الأوامر أو لبعض السنن أو فعل لبعض المنهيات؛ فينظر الغالي في فهم التقصير والتفريط إلى هذه الاجتهادات على أنها إضاعة وتفريط وتقصير في أمر هذا الدين، دون أن ينظر إلى ما يقابل ذلك من مصالح عظيمة فيها حفظ مقاصد الدين والشريعة.

وعلى كل حال فإن مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم ولا يصلح أن يشتغل بها إلا الراسخون في العلم، المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخًا في العلم والتقوى، وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا؛ فهؤلاء هم الذين تتبع الأمة فتاواهم ومواقفهم لأنهم وإن بدا للوهلة الأولى أن في فتاواهم تقصيرًا، فإنهم قد انطلقوا في تقريرها من ضوابط شرعية دقيقة، ومن تجرد وإخلاص. فمثل هذه الفتاوى لا يقال عنها إنها تفريط وتقصير، وإنما هي من العدل والحق إن شاء الله تعالى. نعم لو أن من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم أو من المعروفين بالهوى وحظوظ الدنيا؛ فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى أو دون ضوابط شرعية، وحينئذ يصدق على أمثال هؤلاء وصفهم بالتفريط والإضاعة.

 

ذكر بعض الآيات التي ورد فيها القيام بالقسط والأمر به:

 الآية الأولى: قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18).

 الآية الثانية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135).

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «فأمر سبحانه بالقيام بالقسط - وهو العدل - في هذه الآية، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدوًا كان أو وليًّا، وأحق ما قام له العبد بقصدٍ: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.

فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله، مُنافٍ لما بعث به رسوله.

والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده. وأولئك هم الوارثون حقًا، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معيارًا على الحق وميزانًا له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا»(43).

 الآية الثالثة: قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).

«فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف ... وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيًا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيًا عن الطغيان والمجاوزة ... والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير»(44).

 الآية الرابعة: قوله تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء:182، 183).

وهذه الآية وإن كانت في قوم شعيب الذين كانوا ينقصون المكيال لكنها تشمل كل وزن بالقسطاس والعدل في أي أمر حسي أو معنوي.

وفي هذا المعنى أيضًا قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين:1-3)، وهي وإن كانت في المكيال والميزان لكنها تحذر من التطفيف في كل شيء وتنهى عن أن يكون للرجل معياران: إن كان لنفسه ومن يحب وفَّى، وإن كان لغيره أو خصمه نقصه وبخسه حقه، وإنما الواجب أن يكون للمرء معيار واحد؛ وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.

 الآية الخامسة: قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25).

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ): «وهو النقل الصدق، (وَالْمِيزَانَ) وهوالعدل؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (هود: من الآية17)، وقال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية30)، وقال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن:7). ولهذا قال في هذه الآية (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25) أي بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به؛ فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام: من الآية115) أي صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (الأعراف: من الآية43)»(45).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس»(46).

والآيات في ذكر العدل والقسط والأمر به ومدح أهله وذم أهل الجور والعدوان وأهل الإضاعة والتفريط كثيرةٌ جدًا، وليس المقصود استقصاؤها في هذا المقام، وإنما المراد الإشارة إلى أن العدل والحق هو أصل هذا الدين وسمته الرئيسة، وهو الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل حتى يقوم أعظم العدل وهو عبادة الله عز وجل وتوحيده بلا ند ولا شريك، ثم العدل مع الخلق وإعطاؤهم حقوقهم وعدم بخسهم أشياءهم، ثم العدل مع النفس دون غلو ولا إفراط، ودون تقصير ولا تفريط. فما أعظمه من دين، وما أجله من تشريع جاء لإسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس المستقيم؛ فنحمده سبحانه على الهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه، وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم، وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادته وحده سبحانه، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

 

_____________

(1) البخاري (4487)، وقال الحافظ في الفتح: (8/22) قوله: (الوسط: العدل) هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.

(2) تفسير الطبري: (2/7)، والحديث رواه الترمذي: (5/190)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2361).

(3) تفسير الطبري: (2/7).

(4) تفسير الطبري: (2/6).

(5) عمدة التفسير عن ابن كثير: (1/263) تحقيق: أحمد شاكر.

(6) المسند: (3/32).

(7) سبق تخريجه عند البخاري، والترمذي (ص 17) من هذا الكتاب، وهو عند ابن ماجة برقم (4284).

(8) تفسير المنار: (2/4).

(9) تفسير السعدي: (1/157).

(10) في ظلال القرآن: (1/131).

(11) بدائع التفسير: (1/369).

(12) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.

(13) مختار الصحاح: (6/2448).

(14) لسان العرب: مادة (غلا).

(15) انظر زاد المسير: (2/260).

(16) تفسير الطبري: (6/316).

(17) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/289).

(18) تفسير ابن كثير: (2/82).

(19) تفسير ابن كثير عند الآية (86) من سورة: ص.

(20) النسائي: (5/268) برقم (3057)، وابن ماجة: (3029)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1283).

(21) مسلم: (2670).

(22) شرح مسلم للنووي: (16/220).

(23) أبو داود: (4904)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود: (1049).

(24) عن كتاب إغاثة اللهفان: (1/132).

(25)  البخاري:  (39).

(26) المحجة في سير الدلجة: (ص 51).

(27) أحمد: (3/428)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1168).

(28) مسلم: (1401).

(29) البخاري: (5063).

(30) انظر الوسطية في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور ناصر العمر.

(31) لسان العرب: مادة (فرط).

(32) مختار الصحاح: (3/1148).

(33)  انظر تفسيرالطبري: (7/178).

(34) أخرجه البخاري في الرقاق: (6575)، ومسلم في الفضائل: (2297).

(35) انظر تفسير القرطبي: (6/413).

(36) انظر تفسير الطبري: (7/188).

(37) انظر تفسير الطبري: (7/218).

(38) المصدر نفسه: (13/35).

(39) انظر تفسير القاسمي: (9/3579).

(40) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.

(41) الروح لابن القيم: (545)، دار إحياء العلوم.

(42) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (4252)، وبنحوه عند مسلم في الإمارة (1924)، وغيرهما.

(43) بدائع التفسير: (2/81، 82).

(44) في ظلال القرآن: (4/1931) باختصار.

(45) تفسير ابن كثير: عند الآية (25) من سورة الحديد.

(46) مجموع الفتاوى: (10/99).

 

الباب الثاني

من مظاهر العدل والتوزان في خلق الله تعالى وأمره 

 

قال الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54). فالخلق خلقه والأمر أمره، وهو الحكيم الخبير الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قام خلقه وأمره على الحق والعدل والميزان المستقيم.

قال تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (الملك: من الآية3)، وقال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (الأحقاف:3)، وقال عن كتابه الكريم المتضمن لأمـره وشرعـه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41،42)، وقال أيضاً عن شمول كتابه الكريم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89)، وقال سبحانه عن إتقانه لمخلوقاته: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية88).

ومناسبة إيراد الآيات السابقة لموضوع البحث هو ما تضمنته هذه الآيات من ذكر شمول علم الله عز وجل وبديع صنعه وحكمته البالغة في خلقه وأمره وشرعه، وما فيها من الدقة والتناسق والتوازن والعدل وقيام ذلك كله بالحق وللحق.

يتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54) فيقول: «فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، ... ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر ...»(1).

 

وقال في موطن آخر: «فانظر حكمة الله عزّ وجلّ في خلقه وأمره فيما خلقه وفيما شرّعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يختلّ نظامها ولا ينخرم أبدًا ولا يختلّ أصلاً، ومن الناس مَن يكون حظّه من مشاهدة حكمة الأمر أعظم من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤلاء خواصّ العباد الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا حكمته فيما أحكمه، وشهدت فطنهم وعقولهم أن مصدر ذلك حكمة بالغة وإحسان ومصلحة أريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجات لا يحصيها إلاّ الله.
 

ومنهم من يكون حظّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفر من حظّه من حكمة الأمر؛ وهم أكثر الأطباء الذين صرفوا أفكارهم إلى استخراج منافع النبات والحيوان وقِواها وما تصلح له مفردة ومركّبة؛ وليس لهم نصيب في حكمة الأمر إلاّ كما للفقهاء من حكمة الخلق بل أقلّ من ذلك.

ومنهم مَن فتح عليه بمشاهدة الخلق والأمر بحسب استعداده وقوّته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا؛ فإذا نظر إلى خلقه وما فيه من الحكم ازداد إيمانًا ومعرفًة وتصديقًا بما جاءت به الرّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا، لا كمَن حجب بالصنعة عن الصانع، وبالكواكب عن مكوكبها، فعمي بصره وغلظ عن الله حجابه؛ ولو أعطى علمه حقه لكان من أقوى الناس إيمانًا لأنه اطّلع من حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكن من حكمة الله أيضًا أن سلب كثيرًا من عقول هؤلاء خاصيّتها، وحجبها عن معرفته وأوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدّنيا - وهم عن الآخرة هم غافلون - لدناءتها وخسّتها وحقارتها، وعدم أهليّتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وهذا باب لا يطّلع الخلق منه على ما له نسبة إلى الخافي عنهم منه أبدًا؛ بل علم الأوّلين والآخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بموجب للإعراض عنه واليأس منه بل يستدلّ العاقل بما ظهر له منه على ما وراءه»(2).

 

ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن منهج الله القائم على العلم المطلق والحكمة البالغة في الخلق والشرع فيقول: «إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملاً متكاملاً للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها ..

وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية .. ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني، ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق .. الأمر الذي لا يتوافر أبدًا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرًا من الأمر، وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة، ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني، ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض، و [من] الهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم.

وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولاً: لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيًا: لأنه - سبحانه - رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلاً من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد ..

 

وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله؛ لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله، صانع الكون وصانع الإنسان؛ فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه؛ بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعًا كونيًا، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض الذي يعيش فيه ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدَّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم»(3).

 

 

وبعد هذه المقدمة المجملة عن سمة الشمول والتوزان والحق والعدل في خلق الله عز وجل وشرعه ندخل في تفصيل مظاهر هذا الشمول والتوازن والعدل والوسطية من خلال هذين الفصلين:

الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.

الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه.

 وتحته مباحث:

المبحث الأول: من مظاهر العدل والتوازن في أبواب الاعتقاد.

المبحث الثاني: من مظاهر العدل والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.

المبحث الثالث: من مظاهر العدل والتوازن في العبادات.

المبحث الرابع: من مظاهر العدل والتوازن في المعاملات والأخلاق.

 

_____________

(1) بدائع التفسير: (2/218).

(2) مفتاح دار السعادة: (1/244، 245).

(3) في ظلال القرآن: (2/890).

 

الفصل الأول

من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره 

 

قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2).

قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد لا عن شهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة؛ فهو الخالق المقدر فإياه فاعبدوه»(1).

وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في أضواء البيان عند هذه الآية: «قد جاء أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:2،3)، وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: من الآية8)، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) إلى غير ذلك من الآيات.

وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان»(2).

وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي قدَّر حجمه وشكله، وقدَّر وظيفته وعمله، وقدَّر زمانه ومكانه، وقدَّر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه لمما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا، ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير، وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2). يقول كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان (الإنسان لا يقوم وحده).

(... ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو  مكره - من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلاً في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.

والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!

وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.

وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية»(3).

ويقول في موطن آخر في الظلال: «إن التوازن ملحوظ في ملكوت السموات والأرض جميعًا ... إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء، ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائمًا لحظة، فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السموات والأرض جميعًا»(4).

ثم يذكر رحمه الله تعالى - بعض صور هذه الموازنات والتقديرات الدقيقة الحكيمة فيقول: «ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض ...

إن الجـوارح التي تتغـذى بصغـار الطيـور قليلة العـدد، لأنـها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض!

بغاث الطير أكثرها فراخا       وأم الصقـر مُقِـلاّتٌ نَـزور

وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث.

الذبابة تبيض ملايين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!

والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددًا، وأسرعها تكاثرًا، وأشدها فتكًا - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرًا. تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء!

وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح، وقوة البطش سلاح، وبينهما ألوان وأنواع.

الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها، والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام!

والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء!

والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس!

وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء.

وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام .. الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء ..

البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه.

والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلاً أبيض مائلاً إلى الاصفرار. ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض. وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين. ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات. ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو)(5)»(6).

واختم الكلام في هذا الباب عن مظاهر الحكم الباهرة والتوازن والعدل والإتقان في خلق الرحمن ببعض ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابـه النفيس مفتـاح دار السعـادة؛ حيث أطـال النفس في تعداد هذه الصور وعجائب صنع الله تعالى وحكمته فيها. ومن ذلك قوله - رحمه الله تعالى -: «أعِد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية، مَن الذي دبّرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أُمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضر؟ فمن الذي أجرى إليك من دم الأُم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبنًا ولم يزل يغذّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسّب والطلب، حتى إذا كمل خلقك، واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلّب على الغبراء هاج الطّلق بأُمك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرّحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمّك قطّ ولم يشتمل عليك؟!. فيا بُعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعت نطفة، وبين هذا الدّفع والطّرد والإخراج، وكان مبتهجًا يحملك فصار يستغيث ويعجّ إلى ربك من ثقلك. فمَن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمّه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسّعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه؟!. فلو تأمّلت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب. فمَن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى لا تفسد هناك؟ وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليماً إلى أن خرجت فريدًا وحيدًا ضعيفًا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذّى به في بطن أُمك إلى خزانتين معلّقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف سَوق على مجارٍ وطرق قد تهيّأت له؛ فلا يزال واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر لا تنقطع مادتها، ولا تنسدّ طرقها يسوقها إليك في طريق لا يهتدي إليها الطوّاف ولا يسلكها الرجال؟! فمَن رقّقه لك وصفّاه، وأطاب طعمه، وحسّن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحارّ المؤذي ولا بالبارد الرديء، ولا المرّ ولا المالح ولا الكريه الرائحة؟! بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك في أشدّ أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأ شديد وجوع مُفرِط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمّظت وحرّكت شفتيك للرضاع؛ فتجد الثدي المعلّق كالإداوة قد تدلّى إليك وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك؛ فلا يضيق عنها، ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقبًا لطيفًا بحسب احتمالك، ولم يوسّعه فتختنق باللبن ولم يضيّقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك، فمَن عطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؛ فإذا أحسّت منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها على عدد الأنفس، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق إلاّ قائد الرحمة وسائق الحنان، تودّ لو أن كل ما يؤلمك بجسمها وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تُزاد في حياتك؟! فمَن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوي بدنك، واتّسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتدّ به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آلة القطع والطّحن؛ فنصب لك أسنانًا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها؟! فمَن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمة بأُمّك ولطفًا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟!. فلو أنك خرجت من البطن ذا سنّ وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أُمك بك؟ ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تسيغها إلاّ بعد تقطيعها وطحنها؟ وكلما ازددت قوًة وحاجًة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة زِيدَ لك في تلك الآلات حتى تنتهي إلى النواجذ؛ فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قوًة زِيدَ لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحن التي هي آخر الأضراس؛ فمَن الذي ساعدك بهذه الآلات، وأنجدك بها، ومكّنك بها من ضروب الغذاء؟ ثم إنه اقتضت حكمته أن أخرجك من بطن أُمك لا تعلم شيئًا، بل غبيًّا لا عقل ولا فهم ولا علم، وذلك من رحمته بك، فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة، بل كنت تتمزّق وتتصدّع، بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ فلا يصادفك ذلك وهلةً واحدًة، بل يصادفك يسيرًا يسيرًا حتى يتكامل فيك. واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سُبِيَ صغيرًا من بلده ومن بين أبويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك، وكلما كان أقرب إلى العقل كان أشقّ عليه وأصعب، حتى إذا كان عاقلاً فلا تراه إلاّ كالواله الحيران. ثم لو ولدت عاقلاً فهيمًا كحالك في كبرك تنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص، وتنكّدت أعظم تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعًا معصّبًا بالخِرَق، مربّطًا بالقمط، مسجونًا في المهد عاجزًا ضعيفًا عمّا يحاوله الكبير؛ فكيف كان يكون عيشك مع تعلّقك التامّ في هذه الحالة؟ ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل، بل تكون أنكد خلق الله وأثقلهم وأعنتهم وأكثرهم فضولاً، وكان دخولك هذا العالم وأنت غبي لا تعقل شيئًا، ولا تعلم ما فيه أهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير، فتلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئًا فشيئًا حتى تألف الأشياء وتتمرّن عليها، وتخرج من التأمّل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحُسْن التصرّف فيها والتدبير لها والإتقان لها. وفي ذلك وجوه أُخَر من الحكمة غير ما ذكرناه. فمَن هذا الذي هو قيّم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدّمها عن وقتها، ولا يؤخرها عنه؟»(7).

وقال أيضاً رحمه الله: «ثم تأمّل حكمة الله عزّ وجلّ في الحفظ والنسيان الذي خصّ به نوع الإنسان، وما له فيهما من الحِكَم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوة الحافِظة التي خصّ بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى ولا ما سمع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر مَن أحسن إليه ولا مَن أساء إليه ولا مَن عامله ولا مَن نفعه فيقرب منه، ولا مَن ضرّه فينأى عنه، ثم كان لا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مرارًا، ولا يعرف علمًا ولو درسه عمره، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً؛ فتأمّل عظيم المنفعة عليك في هذه الخِلال وموقع الواحدة منها فضلاً عن جميعهنّ. ومن أعجب النِّعَم عليه نعمة النسيان؛ فإنه لولا النسيان لَمَا سَلاَ شيئًا، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزّى عن مصيبة، ولا مات له حزن، ولا بطل له حقل، ولا تمتّع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات، ولا رجا غفلة عدو ولا نقمة من حاسد؛ فتأمّل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادّهما، وجعله في كل واحد منهما ضربًا من المصلحة»(8).

وقال أيضاً في موضع آخر: «ثم تأمّل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحكم؛ إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحدًا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفًا كله لفاتت مصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعًا كله أو خريفاً كله؛ ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولّد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء؛ فيحصل السّحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حلّلته حرارة الصيف من الأبدان. وفي الربيع تتحرّك الطبائع وتظهر المواد المتولّدة في الشتاء فيظهر النبات، ويتنوّر الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل. وفي الصيف يحتدّ الهواء ويسخن جدًّا، فتنضج الثمار وتنحلّ فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه. فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السَّموم، وجعله الله بحكمته برزخًا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحرّ الشديد إلى البرد الشديد، فيجد أذاه ويعظم ضرره، فإذا انتقل إليه بتدرج وترتب لم يصعب عليه؛ فإنه عند كل جزء يستعدّ لقبول ما هو أشدّ منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول؛ حكمة بالغة وآية باهرة. وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف يتنقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حرّ هذا بتدرج وترتيب فتبارك الله ربّ العالمين وأحسن الخالقين»(9).

وقال: «ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحسّ اللمس، عند هبوبه يدرك جسمه، ولا يرى شخصه؛ فهو يجري بين السماء والأرض والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة فجعله رخاءً ورحمةً وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسّحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذّكر الأُنثى بالحمل. وتسمى رياح الرحمة المبشّرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقح. ورياح العذاب العاصف والقاصف - وهما في البحر - والعقيم والصرصر وهما في البرّ.

وإن شاء حرّكه بحركة العذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمًة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرًا ونحسًا وعاتيًا ومفسِدًا لما يمرّ عليه.

وهي مختلفة في مهابها؛ فمنها صِبًا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف؛ فريح ليّنة رطبة تغذّي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجفّفه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشدّه وتصلبه، وأخرى تُوهنه وتُضعفه. ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها؛ فريح تُثير السّحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذّي النبات»(10).

«فإذا تأمّلت السّحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوً صافٍ لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامِل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى أن يأذن له ربّه وخالقه في إرسال ما معه من الماء؛ فيرسله ويُنزله منه مقطّعًا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرشّ السّحاب الماء على الأرض رشًّا، ويرسله قطرات مفصّلة لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدّم متأخّرها، ولا يتأخّر متقدّمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتُمزَج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة»(11).

«ثـم تأمّل الحكمـة فـي خلق النــار على ما هي عليـه من الكمون والظهور؛ فإنها لو كانت ظاهرة أبدًا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة، ولو كانت كامنة لا تظهر أبدًا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها؛ فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام يُخرِجها ويُبقيها الرجل عند حاجته إليها، فيُمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربّها وفاطِرها فسقطت المؤنة والمضرّة ببقائها. فسبحان مَن سخّرها وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر؛ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (الواقعة:71)، إلى قوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة:74) فسبحان ربنا العظيم لقد تعرّف إلينا بآياته وشفانا ببيّناته وأغنانا بها عن دلالات العالمين فأخبر سبحانه أنه جعلها تذكرة بنار الآخرة، فنستجير منها، ونهرب إليه منها، ومتاعًا للمقوين وهم المسافرون النازلون بالقواء، والقواء هي الأرض الخالية وهم أحوج إلى الانتفاع بالنار للإضاءة والطبخ والخبز والتدفئة والأنس وغير ذلك»(12).

«ثم تأمّل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر بأن يكون طائرًا في الجو خفّف جسمه، وأدمج خلقته، واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزبل على حد واحد يجمعهما جميعًا، ثم خُلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجّه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء بسرعة وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله. ولمّا قدّر أن يكون طعامه اللحم والحبّ يبلعه بلعًا بلا مضغ نقّص من خلقه الأسنان وخلق له منقارًا صلبًا يتناول به طعامه فلا يتفسّخ من لقط الحبّ ولا يتعقّف من نهش اللحم. ولمّا عَدِمَ الأسنان، وكان يزدرد الحبّ صحيحًا واللحم عريضًا أُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحبّ وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ، والذي يدلّك على قوّة الحرارة التي أُعين بها أنك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الإنسان صحيحًا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يُرَى له أثر. ثم اقتضت الحكمة أن جُعل يبيض بيضًا ولا يلد ولادة، لئلا يثقل عن الطيران؛ فإنه لو كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران. وتأمّل الحكمة في كون الطائر المُرسَل السائح في الجوّ يُلهَم صبر نفسه أسبوعًا أو أُسبوعين باختياره قاعدًا على بيضه حاضنًا له، ويحتمل مشقّة الحبس؛ ثم إذا خرج فراخه تحمّل مشقّة الكَسْب وجَمْع الحبّ في حوصلته، وبزق فراخه وليس بذي رَوِيّة ولا فكرة في عاقبة أمره ولا يؤمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العَوْن والرفد وبقاء الذّكر. فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلّة لا يعلمها هو ولا يفكر فيها من دوام النسل وبقائه»(13).

«ثم تأمّل الحكمة في شجرة اليقطين والبّطيخ كيف لمّا اقتضت الحكمة أن يكون حملها ثمارًا كبارًا جعل نباته منبسطًا على الأرض، إذ لو انتصب قائمًا كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها، فاقتضت حكمة مُبدعها وخالقها أن بسطه ومدّه على الأرض ليلقي عليها ثماره، فتحملها عنه الأرض فترى العرق الضعيف الدقيق من ذلك منبسطًا على الأرض وثماره مبثوثة حواليه كأنها حيوان قد اكتنفها جراؤها فهي تُرضعهم. ولمّا كان شجر اللوبياء والباذنجان والباقلاء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته أنبته الله منتصبًا قائمًا على ساقه، إذ لا يلقى من حمل ثماره مؤونة ولا يضعف عنه»(14).

سؤال وجوابه :

قد يسأل سائل بعد ما تعرفنا على بعض آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، وما فيها من العجائب والحكم الباهرة: ما علاقة ذلك بموضوع هذه الرسالة الموسومة بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)؟

والجواب: أن في ذلك تنبيهًا إلى عظمة الخالق عز وجل وكماله وشمول علمه وحكمته لكل شيء، وأن هذه الآيات الباهرة في خلقه وتقديره هي مقتضى علمه عز وجل وعزته وقدرته ورحمته وعدله وحكمته. وأن مَنْ هذه صفاته - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل الكتاب الحكيم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وضمَّنه من الأوامر والنواهي والشرائع الكاملة الكفيلة بكل خير ورحمة للعباد، وأن من التزم بها وقام بحقها في نفسه ومع الناس فهو من الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون شاهدة على الناس ومبلغة دين الله إليهم.

والمقصود أن الأمة الوسط ما استحقت هذا الوصف - الذي هو العدل والقيام بالحق والميزان المستقيم - إلا لكونها امتثلت لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ومن مقتضياتها ما نراه في النفس والآفاق والأوامر والنواهي من الحِكَم العظيمة والمصالح العامة.

ففي ذكر حكمته سبحانه في خلقه وتقديره، وما يشتمل عليه من الإتقان والتوازن والعدل زيادة إيمان ويقين وبينة على أن الأمة المتبعة لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوسط الخيار التي تقوم بالعدل وبالحق؛ فكما أن خلق الله عز وجل وتقديره هو الحق والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فكذلك الملتزم بأوامر الخالق عز وجل وشرعه هو من الأمة الوسط؛ وذلك للزومه شرع الله عز وجل الوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وصدق الله العظيم: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54)؛ فالكل صادر منه سبحانه، فالخلق خلقه والأمر أمره والشرع شرعه، وما صدر عن الله عز وجل فهو الحق والعدل والخير وفيه الحكمة والمصلحة.

أمـا مـا سـوى الله عـز وجـل من المخلوقين الضعاف الجهلة الظلمة، محدودي الزمان والمكان والعقل، فلا يصدر منهم إلا ما يناسب صفاتهم من الجهل والظلم والهوى، فيا عجبًا ممن يؤثر شرع المخلوق الضعيف وقوانينه ونظمه الجائرة على شرع الله عز وجل المبرأ من النقص والجهل والظلم، ومن أجل ذلك نرى أن الدول والمجتمعات التي التزمت بغير ما أنزل الله تعالى وحكمت أهواءها قد جاءت أقوالها وأفعالها ونظمها ومواقفها مجانبة للوسطية والعدل والحق، وحل مكان ذلك الظلم والطغيان والإفراط أو التفريط، مما أفرز للناس حياة تعيسة كلها ظلم وشقاء وقلق واضطراب.

فالحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على دين الحق وأنا يعيننا على أداء واجب دعوة الناس إلى هذا الدين حتى يهنأوا في ظلاله في الدنيا ويفوزوا بالنعيم المقيم في الدار الآخرة.

 

_____________

(1) تفسير القرطبي: (13/3).

(2) أضواء البيان: (6/267).

(3) في ظلال القرآن: (5/2548-2549) بتصرف واختصار.

(4) في ظلال القرآن: (3/1406).

(5) عن كتاب الله والعلم الحديث، عبدالرزاق نوفل: (ص 46-48).

(6) في ظلال القرآن: (6/3437، 3438).

(7) مفتاح دار السعادة: (265-267).

(8) المصدر نفسه: (1/288).

(9) المصدر نفسه: (1/215).

(10) المصدر نفسه: (1/207).

(11) المصدر نفسه: (1/208).

(12) المصدر نفسه: (1/223).

(13) المصدر نفسه: (1/254).

(14) المصدر نفسه: (1/238).

 

 

الفصل الثاني 

من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه 

في الفصل السابق كان الحديث عن مظاهر العدل والحق والتوازن في خلق الله عز وجل وآياته الباهرة في الآفاق والأنفس.

وفي هذا الفصل وما تحته من المباحث سيكون الكلام - إن شاء الله تعالى - عن بعض مظاهر العدل والحق والوسطية في أمر الله عز وجل وشرعه.

وأول ما أمر الله عز وجل به: توحيده سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. والتوسط واضح فيه بكونه وسطًا بين الغلو والتفريط، كما يتضح التوسط والعدل في ما شرعه سبحانه من الأحكام في العبادات والمعاملات.

وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل؛ كقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) (البقرة: من الآية219)، (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (البقرة: من الآية219) وأشباه ذلك.

فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه؛ فِعْلَ الطبيب الرفيقِ: يحمل المريضَ على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقًا في التدبير وسطًا لائقًا به في جميع أحواله، أوَلا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم، ولحصول منافعهم، ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم؛ كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة: من الآية22)، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (إبراهيم: من الآية32) إلى قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34)، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (النحل:10) إلى آخر ما عدّ لهم من النعم، ثم وُعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادَوا على ما هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته. فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أُخبروا بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كلا شيء؛ لأنها زائلة فانية، وضربت لهم الأمثال في ذلك؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) (يونس: من الآية24)، وقوله: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (محمد: من الآية36)... بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، أو نظرًا إلى هذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ مما أخافُ عليكم مَا يُفْتَح لكم من زهرات الدنيا»(1). ولمّا لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: من الآية32)، وقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) (المؤمنون: من الآية51)... ولمّا ذم الدنيا ومتاعها همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتّلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني»(2)، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: من الآية15).

والمال والولد هي الدنيا: وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يُزهِّدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك. وما سواه فلا ... فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.

وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.

وعلى هذا : إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها، والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار والنفقات)(3).

 

______________

(1) رواه مسلم: (1052).

(2) سبق تخريجه: (ص 29).

(3) الموافقات: (2/100-114) باختصار، ط. دار الفكر.

 

 

المبحث الأول

من مظاهر العدل والوسطية والتوازن

في أبواب الاعتقاد وأصول الدين 

لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلـو والإفـراط وبين التفريط والتقصير. وسلَّـم الله عز وجـل من شـاء من عباده المؤمنين من الانحـراف إلـى أحـد هذين الطرفين، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط. وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.

ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أهل السنة والجماعة وأنهم وسط في دين الله عز وجل بين الغالي والجافي؛ قال رحمه الله تعالى:

«[ 1 ] وهذه الفرقة الناجية «أهل السنة» وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل؛ فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.

بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79، 80).

[ 2 ] ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في «المسيح»؛ فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا هذا عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.

[ 3 ] وكذلك المؤمنون «وسط في شرائع دين الله»؛ فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142)، وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).

ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»(1).

[ 4 ] والمؤمنون قالوا: «لله الخلق والأمر» فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه.

وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالـوا: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: من الآية1). وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا.

[ 5 ] وكذلك في صفات الله تعالى؛ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة؛ فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة، وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك.

والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به؛ فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب.

والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:93- 95).

[ 6 ] ومن ذلك أمر الحلال والحرام؛ فإن اليهود كما قال الله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء: من الآية160)؛ فلا يأكلون ذوات الظفر؛ مثل الإبل والبط. ولا شحم الثرب والكليتين؛ ولا الجدي في لبن أمه. إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما؛ حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا. والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.

وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.

ولهذا قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).

وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:156، 157).

وهذا باب يطول وصفه.

[ 7 ] وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَق؛ فهم في «باب أسماء الله وآياته وصفاته» وسط بين «أهل التعطيل» الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين «أهل التمثيل» الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.

فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل.

[ 8 ] وهـم فـي «بـاب خلقـه وأمـره» وسط بيـن المكذبين بقـدرة الله؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمـل؛ فيعطلـون الأمـر والنهـي والثــواب والعقــاب، فيصيــرون بمنــزلة المشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية148).

فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير؛ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.

ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله؛ فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله(2).

[ 9 ] وهم في «باب الأسماء والاحكام والوعد والوعيد» وسط بين الوعيدية؛ الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.

فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.

[ 10 ] وهم أيضاً في «أصحاب رسول الله» صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما. ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته(3).

[ 11 ] وكذلك في سائر «أبواب السنة» هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان»(4) ا.هـ.

ويضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - من الأمثلة على الوسطية والتوازن في أبواب الاعتقاد ما يلي:

[ 12 ] التوازن بين الخوف والرجاء:

وهذا كثير في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ فقلما تأتي آيات الوعيد والتخويف وذكر عظمة الله عز وجل وبطشه إلا ويسبقها أو يلحقها ذكر آيات الوعد والرجاء، وذكر رحمة الله تعالى وبره ولطفه.

ومن نزع إلى آيات الخوف والوعيد ونسي آيات الوعد والرجاء فإنه مجانب للعدل والوسطية وفيه شبه من الخوارج الوعيدية. ومن نزع إلى آيات الرجاء والوعد ونسي آيات الوعيد والتخويف، فإنه أيضاً يعد مجانبًا للعدل والوسط وفيه شبه من المرجئة.

والمذهب الوسط الحق هو مذهب أهل السنة والاتباع الذين يجمعون بين الأدلة كلها ويقبلون على الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء: خوف يسوقهم ورجاء يحدوهم. ويفصل القول في التوازن بين موجبات الخوف والرهبة وموجبات الأنس والرجاء الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فيقول: «والتوازن في علاقة العبد بربه بين موحيات الخوف والرهبة والاستهوال، وموحيات الأمن والطمأنينة والأنس؛ فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي حياة الناس والأحياء، تجمع بين هذا الإيحاء وذاك في توازن تام.

ويقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب ويزلزل الفرائص، ويهز الكيان، من مثل قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: من الآية24).

(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16).

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )(البقرة: من الآية235).

(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة: من الآية196).

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:44،45).

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج:12).

(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران: من الآية4).

(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102).

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (المزمل:11-14).

وصور العذاب في مشاهد القيامة رعيبة رعيبة ... ويقرأ المسلم كذلك من صفات ربه ما يملأ قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنسًا وقربًا، ونفسه رجاء وأملا: من مثل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية186).

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) (النمل: من الآية62).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96).

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (البروج:14).

(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: من الآية207).

(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (الكهف:2، 3).

وصور النعيم في مشاهد القيامة رخية رخية!

ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس، والفزع والطمأنينة، ويسير الإنسان في حياته، يقطع الطريق إلى الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول الأمل، حذرًا من المزالق، صاعدًا أبدًا إلى الأفق الوضيء. لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى. وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله؛ وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وحين نوازن بين هذا التصور وتصور الإغريق لكبير آلهتهم، القاسي الحسود الشهوان العربيد، المضطغن الحقود. أو تصور الإسرائيليين المنحرف لإلههم الغيور المتعصب، البطاش المتهور. أو تصور أرسطو لإلهه المترفع الذي لا يُعني نفسه بأمر الخلق على الإطلاق؛ ولا يفكر إلا في ذاته، لأنها أشرف الذوات، ولا يليق بالإله أن يفكر إلا في أشرف ذات! أو تصور الماديين لإلههم «الطبيعة» الصماء العمياء الخرساء! عندئذ تبدو قيمة هذا الجانب المتوازن في التصور الإسلامي، وأثره الواقعي في حياة البشر، وأثره كذلك في منهج حياتهم وأخلاقهم ونظامهم العملي»(5).

ولذلك فالمسلم السوي العدل هو الذي لا ييأس ولا يقنِّط الناس من رحمة الله تعالى، كما أنه لا يأمن ولا يؤمِّن الناس من مكر الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: من الآية87)، وقال في موضع آخر: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).

وبهذا التوازن المنضبط يسير العبد إلى ربه عز وجل محبًا له، خائفًا منـه ومن عقابـه، طامعًا وراجيًا في ثواب ربـه سبحانـه، محسنًا الظـن بــه عز وجل. ولذا نجد أن من هذا شأنه يسعى بالعمل والكدح في فعل ما يحبه الله عز وجل، وترك ما يسخطه حبًا لله تعالى، وخوفًا من عقابه، ورجاء ثوابه. أما إذا تغلب جانب على آخر فإن النتيجة ترك العمل أو ضعفه، وإساءة الظن بالله تعالى.

 وهنا مسألة وقع فيها شطط وانحراف عن العدل والوسط، ولها مساس بالخوف والرجاء؛ ألا وهي ما وقع فيه طائفة من الصوفية الذين يزعمون محبتهم لله عز وجل حتى قال قائلهم: (ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك ولكن حبًا لك).

وفي مقابل هؤلاء أناس ضعفت محبتهم لله تعالى، وتعبدوا لله تعالى بالخوف والرجاء فقط، ولولا ذلك لم يعبدوا ربهم، وهؤلاء أيضاً جانبوا العدل والوسط. وهَدَى الله عز وجل أهل السنة والاتباع إلى المنهج الحق العدل فجعلوا أصل عبادتهم محبة الله عز وجل، وجعلوا الخوف سائقهم، والرجاء حاديهم؛ فتعبدوا لله تعالى بمحبته وخوفه ورجائه.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته. فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادًا لا يرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه»(6).

وقال قبل ذلك: «ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالرجاء والخوف والمحبة فهو مؤمن»(7).

ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة: «القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. هذه طريقة أبي سليمان وغيره؛ قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد.

وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الخوف والرجاء، وغلبة الحب. فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه»(8).

ويقول أيضًا: «وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راجٍ خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه. وكذلك خوفه؛ فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه؛ فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فـإذا لقيـه ووصل إلـيه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من: ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه. فرجاؤه أعظم رجاء، وأجَلُّه وأتمُّه.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة. فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء؛ وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة؛ بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة؛ بخلاف رجاء الأجير. وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حاليهما»(9).

ويُقَسِّم الناس في مواقفهم من عبادة الله عز وجل مبينًا الموقف العدل والمواقف المنحرفة فيقول: «فالناس في هذا المقام أربعة أقسام:

أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه؛ فهؤلاء أعداؤه حقًا، وهم أهل العذاب الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به، أو إما لإيثار العاجل عليه، ولو كان فيه سخطه.

والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه؛ وهؤلاء خواص خلقه. قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب:29). فهذا خطابه لخير نساء العالمين، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:19)، فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة. وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران: من الآية152) فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما.

وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه؛ فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله.

والقسم الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله؛ فهذا ناقص غاية النقص. وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ثَمَّ جنة ونارًا؛ فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه ألبتة. بل هذا حال أكثر المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر إلى وجه في الآخرة، وسماع كلامه وحبه، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله. وهم عبيد الأجرة المحضة. فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس ...

القسم الرابع: - وهو محال - أن يريد الله ولا يريد منه؛ فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم(10)، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام. وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئًا ...»(11).

ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في منزلة الأدب: (وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن ... إلخ): «يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله؛ فإن هذا الخوف مذموم.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (حد الخوف: ما حجزك من معاصي الله؛ فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه).

وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه وجهلٌ بها.

وأما (حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن): فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى الحد الذي يأمن معه العقوبة؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وهذا إغراق في الطرف الآخر.

بل حد الرجاء: ما طَيَّبَ لك العبادة، وحملك على السير؛ فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلتها إلى البغية»(12).

 

 

[ 13 ] الوسط والتوازن بين التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب:

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطًا. فأحد الطرفين عطَّل الأسباب محافظة على التوكل.

والثاني: عطَّل التوكل محافظة على السبب، والوسط: علم أن حقيقة التوكل لا تتم إلا بالقيام بالسبب، فتوكل على الله في نفس السبب. وأما من عطَّل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمنٍ؛ كمن عطَّل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛ فالتوكل نظير الرجاء، والعجز نظير التمني.

فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلاً له قد فوض إليه، كما يفوض الموكل إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته، ونصحه وأمانته، وخبرته وحسن اختياره. والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه؛ فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدَّره سبحانه ودبره واقتضته حكمته، وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره، بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه، وأخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة.

فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره، وقعد كسلان طالبًا للراحة مؤثرًا للدعة؛ يقول: الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي، ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي، ولو أني هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني.

فيقال له: نعم هذا كله حق، وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك؟ بسعيك أم بسعي غيرك؟ وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه؟ وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت أنه يقدر لك إتيانه عفوًا بلا سعي ولا كد؟ فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك، وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقًا! فإذا رأيت هذا عيانًا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك؟

وأيضًا فهذا الذي أورَدَتْه عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، فهل تعطلها اعتمادًا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو الأرض من متوكل صبر نفسه لله وملأ قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به، فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن إليه ووثق به، وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه، فلم يعطل السبب، وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده؛ فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك، أو من كماله؛ فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض عن أحدهما إلى الآخر.

ولا ريب أن هذا أكمل حالاً ممن امتلأ قلبه بالسبب، واشتغل به عن ربه. وأكمل منهما من جمع الأمرين؛ وهي حال الرسل والصحابة؛ فقد كان زكريا نجارًا، وقد أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة، ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتماداً على التوكل، بل كانوا أقوم الناس بالأمرين؛ ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه وآله»(13).

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5):

«فالأمر له من قبل ومن بعد، وهو ينصر من يشاء؛ لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أراد الله عز وجل أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.

والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي ترد الأمر كله إلى الله؛ ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تتحقق فليس داخلاً في التكليف؛ لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل يصلي قائلاً: «توكلت على الله»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»(14). فالتوكل في العقيدة مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله»(15).

ومما له علاقة بمسألة الأسباب فعلاً أو تركًا: ذلك الخلاف القديم والجديد في النظر إلى الأسباب والمبالغة في أثرها والتعلق بها، أو إلغائها وإنكارها؛ فكان الناس فيها طرفين مذمومين منحرفين، وهدى الله عز وجل من شاء من عباده إلى الموقف الوسط العدل فيها.

ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام:

منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقلاء على عقله. وزعم أنه بذلك ينصر الشرع، فجنى على العقل والشرع، وسلط خصمه عليه.

ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار، ومدبر لها يصرفها كيف أراد؛ فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها، ويتصرف فيها كما يشاء ويختار.

وهذان طرفان جائران عن الصواب.

ومنهم: من أثبتها خلقًا وأمرًا، وقدرًا وشرعًا. وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من: كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوع المشيئة والإرادة، ومحل جريان حكمها عليها. فيقوِّي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل - إن شاء - بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، ويُعريها منها، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه؛ ليعلم خلقه أنه الفعَّال لما يريد، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت، مع كونه سببًا.

وهذا باب عظيم نافع في التوحيد، وإثبات الحِكَم يوجب للعبد - إذا تبصر فيه - الصعود من الأسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارًا وضارها نافعًا ودواءها داءً وداءها دواءً. فالالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكار أن تكون أسبابًا بالكلية قدح في الشرع والحكمة. والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابًا - نقصان في العقل. وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، وشهود الجمع مع تفرقها، والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة. والله أعلم»(16).

 

 

 

[ 14 ] التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية:

وهذه الصورة من التوازن لها علاقة بالصورة السابقة، ولكن آثرت إفرادها في صورة مستقلة لأهميتها؛ وذلك أن الناس فيها طرفان ووسط.

الطرف الأول: من قصر نظره على ثبات السنن الكونية، واعتمد على ذلك اعتمادًا كليًا دون أن ينظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية، وغفل عن أن الله سبحانه الذي ثبَّت هذه السنن وجعلها مطردة حاسمة قادر متى شاء وكيف شاء أن يخرق هذه السنن؛ لأنه الفعال لما يريد، والقادر على كل شيء. وهذا الطرف الذي أفرط في النظر إلى ثبات السنن الكونية مثله مثل من أفرط في فعل الأسباب وتعلق بها كما في الصورة السابقة.

الطرف الثاني: من نظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية ولم يعتبر بثبات السنن الكونية وترتب النتائج على الأسباب، فأفرط في نظرته لطلاقة المشيئة الإلهية مما جعله يفرِّط في الأخذ بالأسباب والانتفاع من السنن الكونية، بل اعتمد على الخوارق دون بذل الجهد والعمل. وهذا مثله في الصورة السابقة مثل من ترك الأخذ بالأسباب زاعمًا أنه متوكل على الله تعالى.

والوسط: من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها وبذل الأسباب الممكنة دون أن يتعلق بها أو بكونها لا تنخرق أبدًا. بل يؤمن بأن الله عز وجل يخرقها متى شاء لمن بذل الأسباب والجهد واستنفد ما في وسعه من العمل والجهد والجهاد؛ كما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام؛ حيث بذلوا الجهد والعمل في سبيل الله عز وجل، واستحقوا أن ينصرهم الله عز وجل بجند من عنده، ويخرق لهم من السنن الثابتة ما يظن الناس أنها لا تنخرق وهذا هو ما في القرآن الكريم؛ حيث ذكر الله عز وجل أن له سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وفي ضوئها يعمل الناس وتنضبط حركاتهم وأعمالهم، ويكيفون حياتهم وفقها كما قال تعالى: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية43).

وفي مواطن أخرى من القرآن يذكر الله سبحانه أنه فعال لما يريد، وأنه متى شاء سبحانه خرق هذه السنن لمن شاء من عباده كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل:40)، وقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران:40)، وقوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: من الآية47)، وقوله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:68-70). وغيرها من الآيات التي تقرر نفوذ مشيئة الله عز وجل وعدم تقيدها بقيد ما مما يخطر على قلب بشر مما يحسبه الناس قانونًا لازمًا لا فكاك منه.

يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - : «وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة الإلهية يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها بمنهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته؛ لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئًا، ولا ييئس أمام ضغط الواقع أبدًا. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله - سبحانه - محصورة فيها! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور!

والمسلم يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. ويعمل وفق السُّنَّة، لأنه مأمور بمراعاتها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج؛ فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب طاعة لأمر الله.

وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال، موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان»(17).

 

[ 15 ] التوازن والوسطية في تكفير المعين :

إن مسألة تكفير المعين مسألة خطيرة وذلك من جهتين:

الأولى: من جهة تكفير المعين الذي لا يستحق التكفير بمجرد شبهات لا ترتقي إلى القطع بتكفيره.

الثانية: عدم تكفير المعين المقطوع بكفره والحكم بإسلامه.

وبناء على ذلك فإن الناس في تكفير المعين طرفان مذمومان ووسط محمود.

الطرف الأول: من غلا وأفرط في تكفير المعين بمجرد تلبسه بأمر مكفر دون أن ينظر إلى توفر الشروط في تكفيره وانتفاء الموانع. بل إن مجرد التلبس بقول، أو عمل مكفرين، فإنه عند هذا الفريق من الناس كافر بعينه مهما وجد من الموانع من ذلك؛ كالإكراه أو التأول، أو الخطأ أو غير ذلك من العوارض الشرعية..

الطرف الثاني: من فرَّط وتساهل في عدم تكفير المعين حتى أدى به الأمر إلى القول بأنه لا يجوز تكفير المعين مهما أتى بناقض من نواقض الإسلام ما لم يعتقد الكفر ويقصده قصدًا، مهما توفرت الشروط، وانتفت الموانع. وهذا جفاء وتضييع وتفريط ويؤول إلى أنه لا مرتد في الإسلام، وبالتالي لا حاجة إلى وجود أحكام المرتد في الفقه الإسلامي.

الموقف الوسط العدل: من فرَّق بين الكفر ومرتكب الكفر، وفصَّل في ذلك وقال: إن من تلبس بمكفر أو ناقض من نواقض الإسلام فإن المتعين في حقه أن ينظر إلى حال هذا المعيَّن فإذا لم تتوفر الشروط في تكفيره أو وجد مانع من تكفيره؛ كالإكراه والخطأ وغيرهما؛ فإنه لا يجوز تكفيره والحالة هذه. أما إذا رؤي أن شروط تكفيره متوفرة ولا يوجد مانع شرعي من تكفيره فإنه يحكم بتكفيره بعينه وتطبق عليه أحكام المرتد. وهذا التفصيل هو شأن الراسخين في العلم، الذين هم وسط بين الغالي والجافي، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم. وبهذا الموقف العدل يسلم المسلم من تكفير من لم يستحق التكفير، كما يسلم من جعل الكافر أو المرتد في عداد المسلمين.

[ 16 ] التوازن والوسط بين الدنيا والآخرة :

قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).

يقول السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... أي قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعًا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يثلم دينك ولا يضر آخرتك»(18).

وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه»(19).

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.

لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة»(20).

والناس في نظرهم للدنيا والآخرة طرفان ووسط:

الطرف الأول: من جعل همه للدنيا وقصر نظره عليها، وكأنه مخلد فيها. وهو وإن كان يؤمن بالآخرة إلا أنه فصلها عن الدنيا ونظر إلى أنه لا يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة؛ فإما أن ينصرف إلى الدنيا وإما إلى الآخرة، واستدل أصحاب هذا الطرف بالنصوص التي فيها الحث على العمل والكسب ونسوا الأدلة الأخرى.

الطرف الثاني: يشارك الطرف الأول في فهمه للدنيا والآخرة؛ وذلك باستحالة الجمع بين الدنيا والآخرة، ويفترق عنه في أنه انصرف إلى الآخرة وانقطع عن الدنيا وأهلهـا، وترك الدنـيا لأهـل الفساد يعيثون فيها ويفسدون، واستدل أصحاب هذا الطرف بالآيات التي تحث على الزهد في الدنيا.

الطرف العدل والوسط: وهم أهل الحق الذين عملوا بالآية التي سبق شرحها في سورة القصص، وعملوا بكل الآيات والأحاديث الواردة في العمل والإصلاح في الدنيا، وكذلك التي وردت في التحذير من الدنيا والاستعداد للآخرة؛ فجمعوا بين النصوص، وتوجهوا إلى الدنيا بعمارتها وإصلاحها، ومدافعة المفسدين فيها، وعدُّوها مزرعة الآخرة فجعلوها في أيديهم لا في قلوبهم، ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها للآخرة، وأنها فانية لا تساوي شيئًا في مقابل النعيم الأبدي في الدار الآخرة.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والناس أقسام:

أصحاب «دنيا محضة»: وهم المعرضون عن الآخرة.

وأصحاب «دين فاسد»: وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهادات.

و «القسم الثالث»: وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق»(21).

ويقول الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله تعالى -:

«وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية:

فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان بلي بعض المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى، كما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومَنْ بعدَهم حصل عندهم الاضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا، وركن إليها، ولم يتحرز من قبول أي ولاية، ولم يتحرز من قبول أي منصب، ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛ فتوسعوا في ذلك توسعًا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى.

ومنهم طائفة مالت إلى العكس: فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا، حتى أنهم حرَّموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من يأخذ شيئًا من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق.

فهذا الأمر وإن كان أمرا واقعيًا - أي في التطبيق العملي - إلا أنه يوصلنا ويدلنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه.

خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة: وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله ويجمعون الدين كله»(22).

ويجلي هذه الحقيقة سيد قطب - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلاً للالتقاء بين الطرفين. ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع؛ لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا.

حقيقة: إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين. كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه. ولكن تراها ضربة لازب! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؟

كلا إنها ليست ضربة لازب! فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل، بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلاً، إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ!

إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي. هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية؛ ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، ووفرة ونماء، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم ...

والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق؛ فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي ... إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الحياة الدنيا، والنجاح في الحياة الأخرى؛ إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسة فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله، وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه.

وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا، فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى.

إنهم يؤدونها قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه، إذا هم آثروا اطراح الدين كله، على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب، ولا تطيق الفراغ والخواء. وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية، أو فلسفية، أو فنية على الإطلاق، لأنها جوعة النزعة إلى إله.

وهم يؤدونها كذلك قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله، وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني، والسلوك الديني، مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.

وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء، سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة العملية، وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله، وأن الحياة للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق، والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل!

وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسق.

ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة، في فترة موقوتة؛ إذ نرى أممًا لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء.

إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني. والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:

- تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم؛ مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء، وحافلاً بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة. وهو بلاء على رغم الرخاء!..

- وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعًا من عدالة التوزيع، واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام!

- وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلاً أو آجلاً - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها. فالعمل والإنتاج والتوزيع: كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق. والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان!

- وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديًا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج، وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحاً كافياً يلفت الأنظار!

- وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة. وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية. ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء»(23) ا.هـ.

[ 17 ] العدل والتوازن في الولاء والبراء :

الولاء والبراء صلب عقيدة التوحيد؛ فكلمة التوحيد نصفها براءة من الشرك وأهله؛ وذلك من قول: (لا إله). والنصف الآخر ولاء لله عز وجل وعبودية له سبحانه؛ وذلك من قول: (إلا الله)؛ فالعبد لا يصح توحيده إلا بعبادة الله عز وجل وموالاته، ومحبة ما يحبه ومن يحبه سبحانه، والبراءة من كل ما يعُبد من دون الله تعالى، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه عز وجل. ولقد حصل في عقيدة الولاء والبراء - كما في غيرها من أبواب الاعتقاد - غلو وجفاء، فكان الناس في فهم الحب والولاء طرفان ووسط:

الطرف الأول: من غلا وأفرط في فهمه للمحبة والولاء؛ حيث غلا في الحكم على من وقع في موالاة الكفار، ولم يفرق بين الموالاة المكفرة وغير المكفرة، بل عدَّ أي نوع من أنواع الموالاة للكفار ردة وكفر. كما أن هذا الطرف لم يفرق بين المداراة والمداهنة؛ فعدَّ أي صورة من صور المداراة والتقية مداهنة وموالاة، كما غلا في بغضه للمخالف فتبرأ منه كما يتبرأ من الكفار.

الطرف الثاني: من فرَّط في فهمه وتطبيقه لهذه الشعيرة العظيمة، ووقع في موالاة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية، ولم يفرق بين المحرم منها والمخرج من الملة، بل هي عنده إما جائزة أو محرمة لا تخرج من الملة.

الموقف الوسط: وهو موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ وهو وجوب محبة الله عز وجل، ومحبة ما يحبه من الإيمان والأعمال الصالحة، ومحبة من يحبه سبحانه من أنبيائه وأتباعهم من المؤمنين، وبغض ما يبغضه الله عز وجل من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، والبراءة ممن يبغضه الله عز وجل من أهل الشرك والكفر والعصيان، ولكنهم يفرقون بين الكافر والعاصي في الموالاة؛ فهم يتولون المؤمنين الأتقياء ويحبونهم من كل وجه ولا يتبرأون منهم من أي وجه، ويتبرأون من كل كافر ومشرك ومنافق من كل وجه، ولا يوالونهم من أي وجه، وأما المؤمن العاصي المصر على فسقه فهم لا يتبرأون منه بإطلاق، ولا يتولونه باطلاق، بل يتولونه الولاء العام للمؤمنين بما معه من الإيمان، ويتبرأون منه من وجه بما يصر عليه من الفسوق والعصيان.

كما أنهم لا ينظرون إلى موالاة الكفار بحكم واحد، بل يرون أن موالاة الكفار تنقسم إلى: ولاء مكفر مخرج من الملة؛ وهو تولي الكفار ومحبتهم لدينهم، أو مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين، وولاء دون الكفر وهو ما لم يكن توليًا ومحبة ونصرة للكفار؛ فهم لم يعدوا جميع صور موالاة الكفار كفرًا أكبرًا كالطرف الأول، ولم يعدوها جميعها من الأمور المحرمة غير المكفرة كالطرف الثاني؛ فهم وسط بين الطرفين كما أنهم يفرقون بين المداراة والتقية المشروعة وبين المداهنة والتقية المحرمة؛ فلا يلغون المدارة والتقية مطلقًا، ولا يفتحونها على مصراعيها حتى توقعهم في المداهنة والموالاة المحرمة للكفار.

كما أنهم وسط في بغضهم ومحبتهم؛ فلا يغلون في حبهم للأشخاص حتى يقدسونهم أو يخلعون عليهم ثوب العصمة، ولا يغلون في بغضهم للأشخاص حتى يقعوا في ظلمهم وبخسهم حقهم أو اتهامهم بما لا يقولونه أو يعتقدونه أو يعملونه، ولا يتجاهلون حسناتهم وجهادهم وبلاءهم.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»(24).

وأعرض فيما يلي بعض الأمثلة لفقد التوازن في الحب أو البغض:

 ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير أن محمد بن يحيى النيسابوري أخذه الحزن على أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ودفعه حبه لأن يقول: ينبغي لكل أهل دار بغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.

علق الذهبي على هـذا بقولــه: (تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع)(25).

 ومن ذلك أن إمام الحرمين أبا المعالي - شيخ الشافعية بنيسابور - حين مات غلقت الأسواق، وكسر أربعمائة من تلاميذه محابرهم وأقلامهم وجلسوا عامًا لا يغطون رؤوسهم، يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. قال الذهبي: (هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين)(26).

ومن ذلك قول من قال في الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر؛ يظنون أنه من الملائكة) وقول الآخر: (نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة). علق الذهبي على هذا الغلو منصفًا المحب والمحبوب بقوله: (هذا غلو لا ينبغي، لكن الباعث له حب ولي الله في الله)(27).

ومن صور غلو المخالفين في البغض:

التهوين من شأن مخالفهم والحط من قدره إلى درجة لا تعقل ولا تليق؛ ومن ذلك أن فقيهًا من فقهاء العراق - وهو من أهل الرأي - لما رجع من الحج أراد أن يبشر أهل الكوفة بتقدمهم في علوم الشريعة على من خالفهم فقال: (أبشروا يا أهل الكوفة؛ فإني قدمت على أهل الحجاز، فرأيت عطاء وطاووسًا ومجاهدًا، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم). يقول المغيرة - راوي هذه الواقعة -: (فرأينا أن ذاك بغي منه)(28).

وقد يدفع البغض أصحاب الغلو إلى الافتراء والبهتان؛ ومن ذلك أنه نسب البعض إلى ابن كُلاّب - رأس المتكلمين في البصرة - الذي كان يرد على المعتزلة والجهمية أنه إنما ابتدع ما ابتدعه - من القضايا الكلامية - ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك. يقول الذهبي في إنصاف الرجل: (وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة)(29).

ومن الافتراء على أهل العلم ما دُسَّ على ابن بطوطة في كتابه من أنه سمع  ابن تيمية يقول على منبر مسجد دمشق الأموي: (إن الله ينزل كل ليلة ..) قال: كنزولي هذا، ونزل على المنبر. افتروا ذلك على ابن تيمية لتأييد دعواهم فيما ينسبونه إلىه من التشبيه والتجسيم، مع أن ابن تيمية كان في سجن قلعة دمشق أثناء مرور ابن بطوطة بدمشق(30).

وفي واقعنا المعاصر صور وأمثلة مؤذية من الغلو وفقدان العدل في الحب أو البغض، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى ذكر وتفصيل، وإن كان سيأتي لها ذكر في مبحث العدل والتوازن مع المخالف إن شاء الله تعالى.

[ 18 ] العدل والتوازن في الموقف من العقل :

أهل السُّنة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وردوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء؛ وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول. وكلا الطرفين ابتعد عن منهج أهل السُّنة، وهدى الله السلف وأتباعهم لما اختُلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به، ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجَّهوه لتدبرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تحط به العقول منها. والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية؛ كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وكما في قوله تعالى - وفي أكثر من آية -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم: من الآية24)، وقوله: (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّـس: من الآية68)(31).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان: تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.

والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.

وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يُكذِّب به صريح العقل.

ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم.

بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلا بذلك؛ لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.

وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.

فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.

والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم»(32).

مسألة: تتعلق بدور العقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها:

وهذه أيضًا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق، وهدى الله عز وجل أتباع السلف إلى الحق فيها. فكان الناس فيها طرفان مذمومان ووسط عدل محمود.

الطرف الأول: من غلا وأفرط في دور العقل واستقلاليته في معرفة قبح الأشياء وحسنها، حتى آل بهم الأمر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت بالعقل وليس متوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.

الطرف الثاني: من فرَّط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح وإنما ذلك متوقف على الشرع.

الوسط العدل: يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.

وقد أفاض الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ذكر الأدلة التي يرد بها على الفريقين المذمومين: الغلاة والجفاة، وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال - رحمه الله تعالى -: «فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين من الناس: طائفة من أهل الكلام والنظر، وطائفة من أهل السلوك والإرادة.

فنفى لأجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين، وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه، بحيث يكون منشأ القبح، وكذلك الحسن، فليس للفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح، ولا مصلحة ولا مفسدة، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين السفاح والنكاح، إلا أن الشارع حرَّم هذا وأوجب هذا؛ فمعنى حسنه كونه مأمورًا به، لا أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبحه كونه منهيًّا عنه، لا أنه منشأ مفسدة، ولا فيه صفة اقتضت قبحه، ومعنى حسنه أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة، ولا فيه صفة اقتضت حسنه.

وقد بينا بطلان هذا المذهب من ستين وجهًا في كتابنا المسمى «تحفة النازلين بجوار رب العالمين»(33) وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك. وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطلانه.

فإن هذا المذهب - بعد تصوره، وتصور لوازمه - يجزم العقل ببطلانه. وقد دل القرآن على فساده في غير موضع، والفطرة أيضاً وصريح العقل.

فإن الله سبحانه فَطَر عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة والإحسان، ومقابلة النعم بالشكر. وفَطَرَهم على استقباح أضدادها. ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النَّتْن إلى مشامِّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم. وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون بين طيبه وخبيثه، ونافعه وضاره.

وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى الملائمة والمنافرة، بحسب اقتضاء الطباع، وقبولها للشيء، وانتفاعها به، ونفرتها من ضده.

قالوا: وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام في كون الفعل مُتَعَلّقًا للذم والمدح عاجلاً، والثواب والعقاب آجلا. فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنه لا يعلم إلا بالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتضٍ له.

فيقال: هذا فرار من الزحف؛ إذ ههنا أمران متغايران لا تلازم بينهما:

أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشأ لهما أم لا؟

والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المرتب على قبحه، ثابت - بل واقع - بالعقل، أم لا يقع إلا بالشرع؟

ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم، وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعًا استطالوا عليكم، وأبدوا من فضائحهم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه؛ وهم غلطوا في تلازم الأصلين، وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.

والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل: أنه لا تلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحًا موجبًا للعقاب مع قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان والأوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع.

فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع. والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل. وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا. لكن المعتزلة منهم يصرحون بـأن العقاب ثابت بالعقل.

وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح. ونحن نبين دلالته على الأمرين:

أما الأول: ففي قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: من الآية15)، وفي قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية165)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الملك: من الآيتين 8، 9)؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذُر. وبذلك دخلوا النار ...

وأما الأصل الثاني: وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير جداً كقوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:28- 33)؛ فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشةٌ قبل نهيه عنه. وأمر باجتنابه بأخذ الزينة. و «الفاحشة» ههنا هي طوافهم بالبيت عُراة - الرجال والنساء- غير قريش. ثم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) أي لا يأمر بما هو مناف للحكمة.

ثم قال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام: قل إنما حرم ربي ما حَرَّم. وكذلك تحريم الإثم والبغي؛ فكون ذلك فاحشة وإثمًا وبغيًا بمنزلة كون الشرك شركًا؛ فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده.

فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركًا بعد النهي، وليس شركًا قبل ذلك.

ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك؛ لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.

نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحًا؛ فكان قبحها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها، وذَمّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها. كما أن العدل والصدق والتوحيد، ومقابلةَ نِعمَ المنعم بالثناء والشكر: حسن في نفسه، وازداد حسنًا إلى حسنه بأمر الرب به، وثنائه على فاعله. وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله»(34).

[ 19 ] العدل والتوازن في الإخلاص لله تعالى :

الإخلاص شرط في صحة الأعمال وقبولها عند الله عز وجل. والإخلاص عمل قلبي تبدو آثاره على الأعمـال الظاهـرة، وهو كغيـره من الأعمـال يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل بينهما. إذن فالإخلاص فيه طرفان ووسط.

الطرف الأول: طرف الإفراط والتقصير: وأهله هم الذين تتعرض بعض أعمالهم إلى ما يقدح في الإخلاص وابتغاء وجه الله تعالى؛ كأن يريدوا ببعض أعمالهم الدنيا من مال أو منصب أو شهرة وثناء، أو غير ذلك ما يقدح في الإخلاص.

الطرف الثاني: طرف الغلو والإفراط: وهم الذين يراعون الإخلاص، ويحرصون على أن تكون أعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى، ويحاسبون، ويدققون على أنفسهم في ذلك إلى أن يتجاوزوا العدل الوسط فيه بحيث يصل بهم الحال إلى التشكيك في نواياهم ونوايا الناس، أو يتركون بعض الأعمال الصالحة ظنًا منهم بعدم الإخلاص فيها، أو صعوبة تحقيقه، حتى يؤول الأمر بهم إلى السلبية والقعود عن أعمال البر والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا من تزيين الشيطان ومداخله الخطيرة؛ حيث يتحول الإخلاص إلى عمل سلبي يعوق عن فعل الخير.

الوسط والعدل: وهم الذين يجاهدون أنفسهم في تحقيق الإخلاص في جميع أقوالهم وأعمالهم، ويندفعون إلى كل عمل يرضي الله عز وجل، ولا يلتفتون إلى وساوس الشيطان في ترك ما يحبه الله عز وجل خشية عدم الإخلاص لله تعالى، أو صعوبة تحقيقه. وهم متوازنون في ذلك حيث يرون أن الإخلاص عملٌ قلبيٌ إيجابي يدفع المرء إلى فعل كل ما يستطيعه مما يحبه الله عز وجل ابتغاء مرضات الله تعالى، لا أنه عمل سلبي يحول بين المرء وفعل الطاعات ومجاهدة الفساد والمفسدين.

[ 20 ] العدل والتوازن في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف :

إن المتأمل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نصوصًا كثيرة بعضها يأمر بالاجتماع والائتلاف على الحق، وبعضها ينهى عن التفرق والتنازع، ويحذر من عواقب التفرق في الدنيا والآخرة. وأكتفي هنا بذكر الآيات الواردة في سورة آل عمران والتي جمعت بين الأمر بالاجتماع والاعتصام بحبله وبين النهي عن التفرق والاختلاف:

قال الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...) (آل عمران: من الآية103) إلى قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105).

وأمــر الاجتماع والائتلاف كغـيره مـن الأمـور السابقـة يكتنفـه طرفـان مذمومان والوسط العدل المتوازن بينهما.

الطرف الأول: طرف التقصير والتفريط في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف. وهم الذين يحرصون على اجتماع المسلمين - وبخاصة أهل العلم والدعوة - دون أن يراعوا اختلاف العقائد والنحل. وهذا الطرف من الناس لا يمتنع عنده أن يجتمع أهل القبلة من المسلمين ويتحدوا فيما بينهم دونما مراعاة لتوجهات وعقائد المجتمعين؛ فيمكن أن يجتمع أهل السنة والجماعة مع أهل البدع والأهواء، كالصوفية المبتدعة أو الخوارج أو المرجئة أو المعتزلة، بل إن بعض الحريصين على جمع الكلمة لا مانع عنده من الاجتماع والتقارب مع أهل البدع الكفرية كالشيعة الرافضة والعلمانيين المنافقين. ولنا أن نتصور هذا الاجتماع المشكل من خليط من العقائد: كل عقيدة تضاد الأخرى، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فرقة لها مصادر تلقِّيها واستدلالها. فماذا عسى أن يثمر مثل هذا الاجتماع إلا المر والحنظل؛ لأنه لن ينتج عنه إلا تنازلات أو مزايدات تخرم أصول أهل السنة والجماعة وثوابتهم.

نعم؛ قد تمر بأهل السنة والاتباع ظروفٌ طارئة يضطرون فيها إلى أن يتحالفوا أو يجتمعوا مع بعض أهل القبلة المبتدعة - لا مع الكفرة الملاحدة - في دفع خطر داهم من قبل الكفار على بلاد المسلمين، أو في دفع منكر وفساد يتفق على دفعه الجميع. وهذا الاجتماع طارئ ومؤقت وفي مهمة معينة، لا أنه دائم وثابت أو أن فيه تنازلاً لأهل البدع أو سكوتًا عن بدعهم.

الطرف الثاني: الغالي والمفْرِط في تحقيق ضوابط الاجتماع؛ وذلك بأن يحَجِّر واسعًا، ويتشدد في وضع الشروط والضوابط التي تؤول بأهله إلى أن يرسموا لأنفسهم كيانًا معينًا مغلقًا يرون أنه هو الحق، وهو الممثل لكيان أهل السنة والاتباع؛ فمن دخله كان منهم ومن أخل بشيء من ضوابط الدخول فهو خارج عن دائرة أهل السنة وما كان عليه سلف الأمة. ولا يخفى ما في هذه النظرة من الغلو والإعجاب بالنفس؛ لأن أصحاب هذا الطرف سيجدون أنفسهم في دائرة ضيقة تمثل أهل السنة عندهم، وغيرهم خارج هذه الدائرة مستحقون للتبديع والتحذير منهم. وحجة هذا الطرف أن من تلبس بأي بدعة دقت أو جلت، وسواء كانت في العقائد أو الأعمال، وسواء كان المتلبس بها جاهلاً أو مقلدًا؛ كل أولئك مبتدعة ولا يجوز الاجتماع معهم. وقد يكون هذا المتلبس ببدعة دقيقة يعتقد ويتبع ما كان عليه سلف الأمة في جميع أموره غير أنه تلبس ببدعة أو بدعتين؛ فهذا عندهم من المفارقين، وقد تكون المخالفة في مسألة اجتهادية أو تدور بين راجح ومرجوح وليست في مسألة أصولية، ومع ذلك نجد أن هذا الطرف من الناس يفارق عليها، وينابذ صاحبها. وهذا من الغلو والإفراط المؤديين إلى مزيد من الفرقة والتخاصم والتدابر.

الموقف المتوازن وهو الوسط العدل: وهم الذين يحرصون على الاجتماع والائتلاف بين أهل السنة، دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة وثوابتها؛ فهم ليسوا كالطرف الأول المفرِّط في ضوابط الاجتماع الشرعية بل يخالفوهم في ذلك؛ فلا يرون الاجتماع مع أهل البدع المعروفين بأصولهم البدعية وبالدعوة إليها، ولو كانوا من أهل القبلة - كالخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم - فضلاً عن أن يكونوا من الخارجين عن الملة كفرق الباطنية من رافضة وغيرهم. ومع ذلك فهم لا يذهبون إلى رأي الطرف الغالي المفرِط في تحقيق شروط الاجتماع، بل إنهم يرون الاجتماع مع كل منتسب لأهل السنة والجماعة غير متبنٍ لأصل من أصول أهل البدع، ولو تلبس ببدعة من البدع جهلاً منه أو تقليدًا. فهذا عند الطرف العدل يعد من أهل السنة والجماعة جملة، وإن خالفهم في مسألة جزئية من مسائل الاعتقاد؛ فمثل هذا يقال إنه من أهل السنة بالجملة مخالف لهم في بدعته التي هو عليها؛ وعندها لا يُفَارق عليها ما دام أنه لم ينطلق في مخالفته تلك من أصول أهل البدع، مع الاجتهاد في نصحه وإزالة الشبهة عنه.

كما أنهم من باب أولى لا يجعلون المسائل الاجتهادية التي يخالفون فيها غيرهم سببًا في الافتراق، بل يرون الاجتماع مع المنتسبين لأهل السنة والاتباع ولو اختلفوا معهم في فرع أو أكثر من فروع الأحكام. فما زال العلماء من القديم وفي عصرنا يختلفون في أحكامهم واجتهاداتهم، ومع ذلك فقد كانوا إخوانًا متآلفين لم يتفرقوا بسبب اختلافاتهم.

ومن الفقه بمقاصد الشريعة المحافظة على الكليات ولو تخلفت بعض الجزئيات؛ أما أن يعكس الأمر فيحافظ على جزئي، ولو أدى إلى ذهاب الكلي، فهذا غلط وقلة فقه بمقاصد الشريعة. وبناء على ذلك فإن الاجتماع أصل كلي فلا يُفرَّط فيه ولا يضيع بمحافظتنا على جزئي فرعي. أما إذا أدى الاجتماع إلى ذهاب الكليات والتنازل عن الثوابت فهذا اجتماع باطل وهو كالزبد يذهب جفاءً؛ لأنه مبني على شفا جرف هار.

 

 

______________

(1) أخرجه الطبري في التفسير: (14/210)، ورواه مختصرًا الترمذي في تفسير سورة براءة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالسلام بن حرب.

(2) وقد توسع الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة المهمة بكلام نفيس حيث قال: (والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة، وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم قضية «القضاء والقدر» أو «الجبر والاختيار». والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها ولا معها وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها. وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزًا ممتازًا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة؛ وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه.

ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51)، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء: من الآية78)...

ويقرأ كذلك في الجانب الآخر: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53)، (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7- 10)، (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) (النساء: من الآية111).

ثم يقرأ بعد هذا وذلك: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56)، (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: 29، 30)، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (آل عمران: 165، 166).

يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة؛ فيدرك منها سعة مفهوم «القدر» في التصور الإسلامي، مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة الإنسانية في حدود هذا القدر المحيط.

لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه - في هذه القضية - ولم تعد إلا بالحيرة والتخليط بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي المسلمين أنفسهم .. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الإغريقية أكثر مما تأثروا بالمنهج الإسلامي في علاج هذه القضية.

في التصور الإسلامي ليست هناك «مشكلة» في الحقيقة، حين يواجَه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه:

إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما يُخلق من الأحداث والأشياء والأحياء .. وهو الذي يصرّف حياة الناس ويكيّفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، وكون مرد الأمر كله إلى المشيئة الإلهية المطلقة، لا يبطل هذا ولا يعطله. فالأمران يجيئان مجتمعين أحياناً في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج، ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا عن حقيقة العلاقة بين المشيئة الكبرى وحركة الإنسان في نطاقها. إلا أن المنهج الصحيح: هو ألا نستمد تصوراتنا في هذا الأمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات الإلهية في المجال الذي لا دليل لنا فيه غير ما يطلعنا الله عليه منه؛ فهو قال: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (المزمل: من الآية19)، وهو قال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: من الآية30)، وهو قال: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، وهو قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: من الآية125)، وهو قال في الوقت نفسه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46).

فلا بد إذن - وفق تصور المسلم لإلهه وعدله في جزائه، وشمول مشيئته وقدره - من أن تكون حقيقة النسب بين مدلولات هذه النصوص في حساب الله من شأنها أن تسمح للإنسان بقدرٍ من الإيجابية في الاتجاه والعمل، يقوم عليه التكليف والجزاء دون أن يتعارض هذا القْدر مع مجال المشيئة الإلهية المطلقة، المحيطة بالناس والأشياء والأحداث .. كيف؟

كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها .. ليس في مقدور العقل البشري إدراكها. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق - مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله ورحمته وفضله - فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان، وبالتأثرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النِّسَب وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني. إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة والعلم المطلق الكامل. متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء.

وبهذا وحده يقع التوازن في التصور، والتوازن في الشعور، والاطمئنان إلى الحركة وفق منهج الله، والتطلع معها إلى حسن المصير ... إن الله قادر طبعًا على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه - أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة، وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحدًا من خلقه ليس إلهًا! وليس لديه العلم والإدراك - ولا إمكان العلم والإدراك - للنظام الكلي للكون، ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها.

والله وحده هو الذي يعلم؛ لأنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه،وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: من الآية14).

[عن كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: ص 143-150] مختصرًا.

(3) فهم وسط بين هؤلاء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم، ولا يغلون فيهم ولا يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها.

(4) مجموع الفتاوى: (3/370-375).

(5) خصائص التصور الإسلامي: (ص 160-162) باختصار.

(6) مجموع الفتاوى: (10/21).

(7) مجموع الفتاوى: (10/21).

(8) مدارج السالكين: (2/145) ط دار طيبة.

(9) مدارج السالكين: (2/227، 228) ط دار طيبة.

(10) وهم الذين يدَّعون أنهم يعبدون الله حبًا له لا رجاءً لثوابه ولا خوفًا من عقابه!!

(11) مدارج السالكين: (2/297-299) ط دار طيبة.

(12) مدارج السالكين: (3/214) ط دار طيبة.

(13) الروح: (ص 541، 542).

(14) رواه الترمذي: (2649)، وصححه الألباني برقم (2044) في صحيح سنن الترمذي.

(15) في ظلال القرآن: (5/2758).

(16) مدارج السالكين: (1/440، 441) ط دار طيبة.

(17) خصائص التصور الإسلامي: (ص 141، 142).

(18) تفسير السعدي: (4/40).

(19) تفسير ابن كثير عند الآية: (77) من سورة القصص.

(20) في ظلال القرآن: (5/2711).

(21) مجموع الفتاوى: (10/622، 623).

(22) عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: (وسطية أهل السنة والجماعة).

(23) في ظلال القرآن: (2/931 - 934) باختصار.

(24) رواه الترمذي في البر والصلة باب الاقتصاد في الحب والبغض، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (178).

(25) نزهة الفضلاء: (ص 814).

(26) نزهة الفضلاء: (ص 1311).

(27) نزهة الفضلاء: (815، 816).

(28) نزهة الفضلاء: (ص 486).

(29) سير أعلام النبلاء: (11/174).

(30) انظر (فقه الائتلاف) للأستاذ محمود الخزندار -رحمه الله تعالى-: (ص 330).

(31)  انظر كتاب (فاستقم كما أمرت): (ص 170، 171) للمؤلف.

(32) مجموع الفتاوى: (3/338، 339).

(33) لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: (مفتاح دار السعادة)؛ حيث ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجهًا على بطلان هذا المذهب.

(34) مدارج السالكين: (1/420-427) باختصار، ط. دار طيبة. 

 

المبحث الثاني

من مظاهر العدل والوسطية والتوازن

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو: ذروة سنامه، والطريق إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله عز وجل. وخيرية هذه الأمة وعزتها متوقفان على القيام بشعيرة الأمر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).

ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المرضي لله تعالى جاءت الآيات والأحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن الانحراف بها يمينًا وشمالاً، وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة للأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس.

وقد افترق الناس في القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى طرفين ووسط.

الطرف الأول: أهـل الغـلو والإفـراط: وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا الأمر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية للأمر والنهي، ودون النظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودون مراعاة لأحوال الزمان أو المكان أو الأشخاص، بل قد يصل بهم الإفراط إلى الخروج على الأمة بالسيف، كما حصل ذلك من الخوارج، والمعتزلة ومن تأثر بهما.

ويتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن شمول الشريعة وكمالها وخيريتها ويضرب لذلك أمثلة فيقول: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعَاش والمعاد، وهي عَدْل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجوْرِ، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي مَنْ استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، وبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة.

وكلُّ خير في الوجود فإنما هو مستفَاد منها، وحاصل بها. وكل نقص في الوجود، فسببه من إضاعتها. ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبت الدنيا، وطُوِى العالم، وهي العصمة للناس، وقِوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خَرابَ الدنيا، وطَىَّ العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:

المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يُحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسُوغ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله ... ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه منكر أكبر منه ... فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة: موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمةُ. فإذا رأيت أهلَ الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كَرْمي النُّشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفُسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتَصْديِة، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفْت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدَع والضلال والسحرة، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع»(1).

الطرف الثاني: أهل التفريط والتقصير: وهم الذين قعدوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد، وبرروا ذلك باجتناب الفتن التي تترتب على الأمر والنهي كما حصل ذلك من المرجئة وأهل الفجور.

الموقف الوسط المتوازن: وهو الذي عليه أهل الاستقامة؛ أهل السنة والجماعة الذين قاموا بشعيرة الأمر والنهي مراعين في ذلك الضوابط الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، وحَذِروا وحذَّروا من الخروج على جماعة المسلمين بالسيف، ومع ذلك فهم يصدعون بالحق من دون سيف ولا عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من الأذى ما أصابهم؛ قال الله عز وجل: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).

وعن هذين الطرفين المذمومين - طرف الإفراط وطرف التفريط - يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك»(2).

أما عن الوسط بين هذين الطرفين فيقول رحمه الله تعالى: «ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان، كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميعًا أو ينهى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة، كما قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).

وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(3)، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق. ولأجل ما يُظَنُّ مِنْ تعارض هذين تَعْرِض الحيرة في ذلك لطوائف الناس. والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك - ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه»(4) ا.هـ.

أما الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن كان يدخل في الكلام السابق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه من المهم أن يفرد بكلام خاص عن الوسط والطرفان المذمومان اللذان بكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل: ما بين قاعد عاجز لا يفكر في الاستعداد وإعداد العدة للجهاد، وما بين متسرع ومطالب بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد الأدنى من القدرة والبيان الذي تستبان فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. وبين هذين الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن.

ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن هذين الطرفين المذمومين فيقول: «وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي التي تحدد هذه وتلك ..

ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفًا وحماسة وشدة واندفاعًا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهـاد في الإسلام - كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! - فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوًا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله؛ من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء .. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام»(5).

ولمزيد من التفصيل يمكن القول بأن الناس في موقفهم من الجهاد في سبيل الله تعالى طرفان ووسط:

الطرف الأول: هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها.

ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر. وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل.

أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل. ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب.

وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية»(6) ا.هـ.

الطرف الثاني: وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم .. إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة؛ ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا ودعوة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمَّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»(7) ا.هـ.

وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار.

 

الموقف الوسط المتوازن: وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار. ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس وأوضح سبيل المجرمين وحذر منها، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.

كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.

 

 

 

 

 تنبيه:

ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد دفع لا يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل الإيمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم الأمر.

 

____________

(1) إعلام الموقعين: (3/5-7) باختصار.

(2) الآداب الشرعية: (1/177).

(3) البخاري في الفتن، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» ح (7056)، ورواه مسلم في الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح (1709) .

(4) الاستقامة: (1/41، 42).

(5) في ظلال القرآن: (2/734).

(6) في ظلال القرآن: (3/1581).

(7) الصارم المسلول: (2/414).

 

 

المبحث الثالث

من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في العبادات 

والمقصود بالعبادات هنا: تلك العبادات التي بين العبد وربه - سبحانه - كما هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة القرآن وغيرها، مما لا يدخل في معاملات الخلق. وهذا من باب التقسيم الفني فقط، وإلا فكل أعمال العبد وحركاته ومعاملاته ينبغي أن تكون كلها عبادة لله تعالى، وأن يكون فيها العبد مستسلمًا لربه خاضعًا لشرعه؛ قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163).

وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها، ولكي تبرز هذه السمة بصورة واضحة فلا بد من التعرض للمناهج الأخرى السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطًا أو إفراطًا؛ وذلك كما يلي:

«المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوارة - بعد تحريفها - لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوارة ذكراً للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفاً من عقوبة عاجلة، بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153)، وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).

ووفقًا لهذا التصور  المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو. وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أيَّ حياة؛ حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95)؛ لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا وعبادتهم لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثـية: من الآية24)، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك  أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).

أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعلائها وتمجيدها، والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس: تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مؤذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة ولا برهان؛ (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27)....

وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم، ولذلك أُمِرْنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7)»(1).

إذن فشريعة الإسلام وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على التفريط والجفاء، وبين المنهج القائم على الغلو والإفراط والرهبانية.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.

فالقسم الأول: أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه.

والقسم الثاني: المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم. هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم؛ وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها، أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيرًا منهم.

والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون أن لا يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله عليّ أن لا آكل طعامًا بالنهار أبدًا، ويعاهد أحدهم أن لا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر. فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء، وهذا يلتزم أن لا يأكل الخبز، وهذا يلتزم أن لا يشرب الفُقَّاع(2)، وهذا يلتزم أن لا يتكلم قط، وهذا يَجُبُّ نفسه، وهذا يلتزم أن لا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة.

ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله)(3) لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله؛ فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد في ذلك، ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق»(4).

ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعض النماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي:

 النموذج الأول :

عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر:  أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(5).

يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن: «فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل»(6).

ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذا الحديث وأمثاله فيقول: «والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة؛ كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.

من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال: (فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظامًا بشريًا لا تُدَمَّرْ فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير»(7).

 النموذج الثاني :

عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)(8). فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.

 النموذج الثالث :

«آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان)(9).

 النموذج الرابع :

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: (من هذه؟) فقلت: امرأة لا تنام تُصلي. قال: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا)، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه»(10). وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.

 النموذج الخامس :

عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل مدود بين ساريتين. فقال: (ما هذا؟) قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد)(11).

«فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حرصًا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع»(12).

ولنستمع الآن إلى تعليق الإمام النووي النافع حول هذين الحديثين حيث يقول: «فيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمـق، وليس الحديث مختصاً بالصـلاة بل هو عـام في جميـع أعمال البـر ... وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة...)(13).

ويلاحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلو والإفراط، وأنه قد ينتهي بصاحبه إلى الانقطاع والتوقف، أو الزيادة على ما لم يشرعه الله عز وجل، وبالتالي يصبح مردوداً على صاحبه.

وفي مقابل الغلو نهى الله عز وجل عن التفريط والإضاعة للصلاة، فقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره لهذه الآية: «لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، ذكر أنه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ). أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ). وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها؛ فهؤلاء سيَلْقَوْن غيًّا أي: خسارة يوم القيامة»(14).

 النموذج السادس :

في قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «قال الإمام أحمد(15): حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم، متوارٍ بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا). قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ)؛ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن، حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً). أخرجاه في الصحيحين(16) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به.

وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء»(17).

وقال القرطبي: «روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قالت: أنزل هذا في الدعاء»(18).

والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما؛ وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار؛ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).

 النموذج السابع :

في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205).

قال القرطبي: « (وَدُونَ الْجَهْرِ): أي دون الرفع في القول؛ أي أسمع نفسك؛ كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) أي بين الجهر والمخافتة»(19).

 النموذج الثامن :

في قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55).

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا رضي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) (مريم:3) وقال ابن جريج: يُكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): في الدعاء ولا في غيره. وقال أبو مجلز: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يسأل منازل الأنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي، حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدًا سمع ابنًا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوًا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء» وفي لفظ: «يعتدون في الطهور والدعاء» وقرأ هذه الآية: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل(20) ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن ابن لسعد عن سعد فذكره والله أعلم، وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها؛ فقال: يا بني، سل الله الجنة وعُذْ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور)(20)»(21).

 النموذج التاسع :

قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»(22)، والناس مع الرخص الشرعية طرفان ووسط.

الطرف الأول: من يتمادى في أخذ الرخصة، ويسترسل معها حتى يخرج بها عن المقصود الشرعي.

الطرف الثاني: من يتشدد في الورع حتى يترك الرخص الشرعية ويشدد على نفسه.

الوسط: وهو الذي يعظم أمر الله عز وجل ونهيه؛ فلا يعارضهما بترخص جاف ولا يعرضهما لتشديد غال ويزهد في رخص الله عز وجل.

ويفصل هذا الأمر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: «فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارَضا بترخُّص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال؛ فإن المقصود هوالصراط المستقيم الموصل إلى الله - عز وجل - بسالكه.

وما أمَرَ الله - عز وجل - بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراطٌ وغُلُوٌّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشامه: فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا؛ أخذه من هذه الخطة، فثبَّطه، وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرخاء، وغير ذلك، حتى ربما ترك العبدُ المأمورَ جملة.

وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تَفْتُرَ إذا فَتَروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدِّي، فيحمله على الغلوِّ والمجاوزة وتعدِّي الصراط المستقيم؛ كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه.

ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بأن لا يقربَه ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.

وقد فُتِن بهذا أكثرُ الخلق، ولا يُنَجِّي من ذلك إلا علمٌ راسخٌ، وإيمان وقوة على محاربته، ولزوم الوسط والله المستعان»(23).

وقال أيضًا: «ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط.

مثال ذلك: أنَّ السنَّةَ وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخُّص الجافي أن يبرِدَ إلى فوات الوقت، أو مقاربة خروجه، فيكون مترخصًا جافيًا.

وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكرُّه وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.

ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط؛ لتعلق قلبه من ذلك بما يشوِّش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها.

فمن فقه الرجل في عبادته: أن يُقْبلَ على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرَّغ قلبه لله تعالى، ونصب وجهه له، وأقبل بكلِّيته عليه؛ فركعتان من هذه الصلاة يُغْفَرُ للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.

والمقصود أن لا يترخص ترخصًا جافيًا.

ومن ذلك: أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول أو تعسره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم؛ فجمعه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع، سواء وُجِدَ عذر أم لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سُنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون، وهذا لون.

ومن هذا: أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التُّخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف به الطعام، فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده. بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثُلُثٌ لطعامِهِ، وثُلُثٌ لشَرابِهِ، وثُلُثٌ لنفَسِهِ)(24).

ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.

وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردِّد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.

ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العبَّاد الذين نقص حظهم من العلم، حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد الإسلام، وكان يتقوَّت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط، والغُلُوُّ الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان»(25).

 النموذج العاشر :

الوسطية في الطهارة والصلاة:

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والأدب: الوقوف في الوسط بين طرفين؛ فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له؛ فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين. والعدوان: هو سوء الأدب.

وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.

فإضاعة الأدب بالجفاء؛ كمن لم يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها التي سَنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها. وهي قريب من مائة أدب: ما بين واجب ومستحب.

وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرًا، وتطويل ما السنةُ تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حَذْفُه سنة، وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سُرّاق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك. وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافّات، ويأمرهم بالتخفيف، وتقام صلاة الظهر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ويأتي أهله ويتوضأ، ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نقر الصلاة وسرقها؛ فإن ذلك اختصار، بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم، ويسمى به مصلياً...»(26).

وقال في موطن آخر وهو يفرق بين الاحتياط في العبادة والوسوسة فيها: «والفرق بين الاحتياط والوسوسة أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السُنَّة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط؛ فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السُنَّة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحد من الصحابة؛ زاعمًا أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه؛ كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاث فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارًا، أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطًا، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطًا، إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينًا وزعموا أنه احتياط.

وقد كان الاحتياط باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه أولى بهم؛ فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط، وعدل عن سواء الصراط. والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السُنَّة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كلهم»(27).

 النموذج الحادي عشر :

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جَمْعٍ: (هلم القط لي). فلقطتُ له حصياتٍ من حصى الخَذْف، فلما وضعهن في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)(28).

وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به أنه بين الحمص والبندق، فما زاد على البندق فهذا إفراط، وما نقص عن الحمص فهو تفريط، والعدل بين الإفراط والتفريط.

وأختم الكلام عن الوسطية في العبادات بكلام نفيس للإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصاد في العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا)(29). وقال: «إن هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغو»(30). وكلاهما في الصحيح.

وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: (اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة) فمتى كانت العبادة توجب له ضررًا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة؛ مثل أن يصوم صومًا يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم.

وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة. وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم، والنساء، وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح. ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم، والعدوان»(31).

______________

(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، علي الصلابي: (ص 491، 492) باختصار يسير.

(2) الفُقَّاع: هو شراب يُتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد.

(3) لم أجد لهذا الحديث بهذا التركيب وإنما ورد في حديثين مستقلين: الأول: (المجاهد من جاهد نفسه) وهذا رواه الترمذي (1687)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1322)، والثاني: (الكيس من دان نفسه ... الحديث) وهذا رواه الترمذي في القيامة، باب رقم (26) وقال: حديث حسن.

(4) مجموع الفتاوى: (41/459-461).

(5) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح: (5063).

(6) الوسطية في القرآن: (ص 494).

(7) في ظلال القرآن: (4/2139).

(8) صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح (6704).

(9) البخاري، كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، ح (6139).

(10) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، ح (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (785)، واللفظ له.

(11) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد ...، ح (1150)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (784).

(12) الوسطية في القرآن: (ص 497).

(13) شرح النووي على صحيح مسلم: (6/71).

(14) تفسير ابن كثير: (3/137).

(15) المسند: (1/251)، وصححه أحمد شاكر: (1853).

(16) صحيح البخاري: (4722)، ومسلم: (446).

(17) انظر تفسير ابن كثير: (3/68، 69).

(18) تفسير القرطبي: (10/344)، وانظر صحيح مسلم: (447).

(19) تفسير القرطبي: (7/355).

(20) مسند أحمد: (1/172)، ورواه أبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الماء (96)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (87).

(21) تفسير ابن كثير: (2/221، 222).

(22) مسند أحمد: (2/108)، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (564).

(23) الوابل الصيب: (ص 32) ت: سليم الهلالي.

(24) رواه الترمذي: (2380)، وابن ماجة: (3349)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: (2704).

(25) الوابل الصيب، ت: الهلالي: (ص 29-31).

(26) مدارج السالكين: (1/211، 212) ط. دار طيبة.

(27) الروح: (ص 542، 543).

(28) النسائي: (3057)، وابن ماجة: (3025)، وصححه الألباني في الصحيحة: (1283)، وأحمد في المسند: (1/215) واللفظ له، وصححه أحمد شاكر (1851).

(29) لم أحده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه الإمام أحمد في مسنده: (5/350)، وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4086).

(30) لم أجده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه النسائي، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وصححه الألباني في صحيح النسائي رقم: (4661).

(31) «مجموع الفتاوى»: (25/272).

 

المبحث الرابع

من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأخلاق والمعاملات 

لقد فطر الله عز وجل الإنسان على الخير، وركز في فطرته أصول الأخلاق الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحسن، والنفرة من القبيح، إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان. ومع ذلك جاء الإسلام بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير من الأخلاق السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.

والدين كله خلق: عقائده وعباداته وأحكامه ومعاملاته؛ كما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)(1).

ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «الدين كله خلق؛ فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين»(2).

ولكن الحديث في هذا الفصل سيكون متوجهًا إلى المعنى الخاص للأخلاق؛ كالمعاملات، والسلوك الحميد؛ مما لا يدخل في العقائد والعبادات.

وقد جاءت أخلاق الإسلام متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو وسط بين خلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلو والإفراط، والآخر ينزع إلى التفريط والتضييع.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذين هما توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو سط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ... وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو سط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان ... فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين لا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخَوَر ومهانة، بحيث يُطمِع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس.

وكذلك إذا انحرفت عن خلق «الصبر المحمود» انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع ... وإذا انحرفت عن خلق «الحلم» انحرفت: إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف.

كما قيل:

كل حلم أتى بغير اقتدار        حجة لاجئ إليهـا اللئــام

وإذا انحرفت عن خلق «الأناة والرفق» انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.

وإذا انحرفت عن خلق «العزة» التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.

وإذا انحرفت عن خلق «الشجاعة» انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.

وإذا انحـرفـت عـن خلـق «المنافسـة فـي المراتب العاليــة والغبطــة» انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون.

وإذا انحرفت عن «القناعة» انحرفت: إما إلى حرص وكَلَب، وإما إلى خِسَّة ومهانة وإضاعة.

وإذا انحرفت عن خلق «الرحمة» انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد؛ ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحمُ الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثًا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.

وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد بحيث يُذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلـوب الخلق.

وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رآه بديهًة هابه. ومن خالطه عِشْرة أحبه)(3). والله أعلم»(4).

وبعد هذا الإجمال في بيان الوسطية والتوزان في بعض أخلاق هذا الدين؛ فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض الأخلاق، ومنها تلك التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط والاعتدال، خاصة وأنها سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.

 

_____________

(1) صحيح مسلم: (746).

(2) مدارج السالكين: (3/73) ط. دار طيبة.

(3) رواه الترمذي في المناقب باب ما جاء في صفة النبي، وقال حسن غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي: (748).

(4) مدارج السالكين: (3/74-79) باختصار. ط دار طيبة.

 

 

أولاً : العدل والتوازن في الكلام والبيان :

إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها أو عاش بين الناس أبكمًا.

قال تعالى ممتناً على عباده بنعمة البيان: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4).

والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على الإنسان.

يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن نعمة البيان فيقول: «إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين، ويتفاهم، ويتجاوب مع الآخرين فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا القرآن إليها، ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى.

فما الإنسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف يُعلم البيان؟

إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم؛ خلية ساذجة صغيرة، ضئيلة، مهينة، ترى بالمجهر ولا تكاد تبين، وهي لا تُبين ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تُكوِّن الجنين. الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة: عظمية، وغضروفية، وعضلية، وعصبية، وجلدية. ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة: السمع، البصر، الذوق، الشم، اللمس ثم .. ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم: الإدراك والبيان، والشعور والإلهام. كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة، التي لا تكاد تَبين، والتي لا تُبين!

كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن، وبصنع الرحمن.

فلننظر كيف يكون البيان؟. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (النحل: من الآية78).

إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب: اللسان، والشفتان، والفك، والأسنان، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والشعب، والرئتان. إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية، وهي حلقة في سلسة البيان. وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب. ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه، ولا ندري شيئًا عن ماهيته وحقيقته. بل لا نكاد ندري شيئًا عن عمله وطريقته!

كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟

إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة، مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن.

إنها تبدأ شعورًا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين. هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية .. المخ .. ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه. وهنا تطرد الرئة قدرًا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية، إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتًا تشكله حسبما يريد العقل. عاليًا أو خافتًا، سريعًا أو بطيئًا، خشنًا أو ناعمًا، ضخمًا أو رفيعًا، إلى آخر أشكال الصوت وصفاته. ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان؛ يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوّت الحرف بجرس معين.

وذلك كله لفظ واحد. ووراءه العبارة، والموضوع، والفكرة، والمشاعر السابقة واللاحقة. وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن»(1).

وبعد هذا الاستعراض البديع من سيد قطب - رحمه الله تعالى - لنعمة النطق والبيان، وكيف يقوم الإنسان بهما، يتعين علينا التعرف على تفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط.

الطرف الأول: الإفراط في الكلام والبيان: وصاحبه هو المهذار الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه؛ وما لا يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرض نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب وقول الباطل والسب والشتم وغيرها من آفات اللسان والقلم.

الطرف الثاني: التفريط في الكلام والبيان النافع: وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلة الكلام حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق أو السكوت على باطل، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن.

وعن هذين الطرفين يتحدث الإمام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول: «قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:

أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.

والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟.

فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.

واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأكُبَُّّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر»(2).

الموقف الوسط العدل: وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في الأمر حين يكون طاعة لله عز وجل، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ويُسخِّرون هذه النعمة في اللهج بذكر الله تعالى، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. ويسكتون حين يكون السكوت محبوبًا لله عز وجل؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيًة لله عز وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل وغير ذلك من آفات اللسان..

ويصف الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المواقف الثلاثة فيقول: «وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به»(3).

وهكذا كان السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - في طريقتهم في الكلام أو السكوت وسطًا بين الإفراط والتفريط.

 فعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني. قال: لا تَكلَّمْ. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتلكم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكتْ. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك. قال زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة(4).

 وعن يعلى بن عبيد قال: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني. ثم قـال: قال لنا عطاء بن رباح: يا بني أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملَّ صدرَ نهاره، فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه(5).

 وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبدالله البخاري يقولُ: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدً.

 قال الذهبي: صَدَقَ رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرحِ والتعديل علم وَرَعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفُه؛ فإنه أكثر ما يقولُ: منكر الحديث، سكتُوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَّ أن يقول: فلانٌ كذّاب، أو كان يضَعُ الحديث. حتى إنه قال: إذا قلتُ فلان في حديثه نظر، فهو متَّهم واهٍ. وهذا معنى قوله: لا يحاسبُني الله أني اغتْبت أحدًا. وهذا هو والله غاية الورع(6).

 

_____________

(1) في ظلال القرآن: (6/3446، 3447).

(2) الجواب الكافي: (ص 137، 138) ت: حسين عبدالحميد.

(3) الجواب الكافي: (ص 220)، ت: حسين عبد الحميد.

(4) صفة الصفوة: (1/549).

(5) صفة الصفوة: (2/213).

(6) سير أعلام النبلاء: (12/439).

 

 

ثانيًا : العدل والوسط في المزاح والانبساط :

والناس في هذا الخلق طرفان ووسط:

الطرف الأول: أهل الإفراط في المزاح والانبساط: وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويكثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والانبساط؛ كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عن الآخرة، كما يؤدي إلى قلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.

الطرف الثاني: أهل التفريط الذين لا يرون الانبساط مع الناس، ولا المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، والانقباض عن الناس، والعبوس في وجوههم.

الموقف العدل الوسط: وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق، فلم يكونوا يفرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين في وجوههم، مغلبين الحزن، والغم على حياتهم.

ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الأدلة والأمثلة على حسن هذا الموقف واعتداله:

 عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: (إني لا أقول إلا حقًا)(1).

 وقال محمد بن النعمان بن عبدالسلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك. قال الذهبي تعليقًا على ذلك: «الضحك اليسيرُ والتبسُّمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:

أحدهما: يكونُ فاضلاً لمن تركَهُ أدبًا وخوفًا من الله، وحُزنًا على نفسه المسكينة.

والثاني: مذمومٌ لمن فعله حمقًا وكِبْرًا وتصنُّعًا، كما أنَّ مَنْ أكثر الضحكَ استُخِفَ به، ولا ريب أن الضحك في الشاب أخفُّ منه وأعذرُ منه في الشيوخ.

وأما التبسُّمُ وطلاقةُ الوجه فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تبسُّمكَ في وجه أخيك صَدَقة)(2)، وقال جرير رضي الله عنه: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسَّم(3).

فهذا هو خلقُ الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَاءً بالليل، بَسّامًا بالنهار. وقال عليه الصلاة والسلام: (لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه)(4).

بقي هنا شيءٌ: ينبغي لمن كان ضحوكًا بسّامًا أن يُقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجَّهُ الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم، ويُحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خُلُقه، وكلُّ انحراف عن الاعتدال فَمَذمومٌ، ولا بدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب»(5).

ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلق البسام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان مَزَّاحًا. وحال الرجل في التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال. فقد روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إلا باكيًا، وكما قال الذهبي: كان رأسًا في الزهد والتأله والخوف. وهكذا يكون التوازن والقصد(6).

 

_______________

(1) الترمذي، في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.

(2) البخاري: (891).

(3) البخاري: (3035)، ومسلم: (2475).

(4) البزار: (1977)، والحاكم في المستدرك: (1/124)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله عن عبدالله المقبري: واه.

(5) سير أعلام النبلاء: (01/140، 141).

(6) انظر (فقه الائتلاف): (ص 331)، للأستاذ محمود خازندار رحمه الله تعالى.

 

 

ثالثًا : العدل والتوازن في الإنفاق:

 

قال الله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).

وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).

يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا، ولا هذا».

 

ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل التوسط والاعتدال: «وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه؛ فقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26). فَمَنْعُ ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضاء الله فيما بينهما. ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم، وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين. والوسط دائمًا محمي الأطرف»(1).

ويقول في موطن آخر: «وأما الفرق بين الاقتصاد والشح: أن الاقتصاد خُلُق محمود يتولد من خلقين: عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد؛ وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31).

 

وأما الشح فهو خُلُق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعًا، والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج:19-21)»(2).

ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند آية الفرقان: «وهذه هي سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.

والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرًا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.

 

والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)»(3).

 

من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بيّن لنا المنهج العدل الوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين:

 

الأول: طرف القابضين أيديهم، البخلاء بأموالهم المقترين على أنفسهم وعلى أهليهم فضلاً عن من سواهم.

الثاني: طرف المسرفين المترفين، المفْرِطُين في إنفاق المال الذين بسطوا أيديهم كل البسط.

وبين هذين الطرفين تقف قلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزموا العدل والتوازن؛ وهؤلاء هم عباد الرحمن حقًا.

_____________

(1) الصلاة، لابن القيم: (ص 193، 194).

(2) الروح: (ص 503).

(3) في ظلال القرآن: (5/2578، 2579).

 

 

رابعًا : العدل والوسطية والتوازن في حقوق الخلق:

شرع الله عز وجل لعباده حقوقًا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق وللأولاد حقوق، وللأزواج حقوق، وللأقارب حقوق، وللجيران حقوق، وللضيف حقوق، ولليتامى والمساكين حقوق، وللأصحاب حقوق، وغير هؤلاء من الخلق.

والعدل في ذلك والتوازن: أن لا يطغى حق على حق، ولا تطغى حقوق هؤلاء على حق النفس، ولا يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق الله تعالى. والموفق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها.

والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى، أو حق النفس طرفان ووسط:

الطرف الأول: طرف من أفرط في حقوق الخلق، وقام بها حتى شغله ذلك عن حق الله عز وجل، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أو شغله ذلك عن نفسه، ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى.

الطرف الثاني: طرف من فَرَّط في حقوق العباد، حتى قصر في ما يجب عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوة أو تعليم أو حقوق صلة وبر، متعللاً بحق الله تعالى أو حق النفس.

الوسط والعدل: وهو من لم يطغ عنده حق على حق، بل وازن بين الحقوق كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثلاً في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي يتمثل في الرواية التالية:

عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: «ما شأُنك؟» قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له: كل، فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمانُ: قُمِ الآن، فصليَّا، فقال له سلمانُ: إنَّ لرِّبك عليك حقّا، وإنّ لنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كل ذي حق حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدَقَ سلمانُ)(1).

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن الأدب وأنه التوسط في الأمور: «ومثال ذلك - أي التوسط - في حقوق الخلق: أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها، بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار. وعلى هذا الحد، فحقيقة الأدب: هي العدل. والله أعلم»(2).

_____________

(1) رواه البخاري، في الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف: (6139).

(2) مدارج السالكين: (3/213) ط. دار طيبة.

 

خامسًا : العدل والتوازن في التواضع :

التواضع خلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به.

قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).

ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله - وهم أهل التكبر والمرح والبطر - قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).

والتواضع المحمود كغيره من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:

طرف الإفراط: وهو أن يُفْرط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة والخسة وابتذال النفس وإذلالها وهوانها. وأما وصف الله عز وجل عباد الرحمن أنهـم يمشـون على الأرض هونًـا؛ فالهَـون هنا كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «(والهَون) بالفتح في اللغة: الرفق واللين، (والهُون) بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران والنيران»(1).

طرف التفريط: وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق، والوقوع في ضده وهو الكبر والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك الانقياد له.

الوسط والعدل: وهو التواضع الذي وصفه الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- بقوله: «وهوالتواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوته جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع؛ وهو إنكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه»(2).

ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخلق العدل قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).

وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى «الأذلة» في الآية؛ قال رحمه الله تعالى: «لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عدَّاه بأداة «على» تضمينًا لمعاني هذه الأفعال؛ فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول»(3).

 

_____________

(1) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.

(2) انظر الروح لابن القيم: (ص 495).

(3) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.

 

سادسًا : التوسط والعدل والتوازن في التأني والتؤدة :

 

التؤدة والأناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)(2). ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين خلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى الإفراط والآخر إلى التفريط:

فطرف الإفراط: هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأني حتى تضيع عليه فرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلك إغراقًا منه في التأني والتؤدة.

وطرف التفريط: هو الذي يفرِّط في الأخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلك في العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه.

 

والوسط العدل : وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث لا يدفعه ذلك إلى الكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما لا يفرِّط فيه فيقع في العجلة والطيش.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها.

والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة»(3).

 

ويقول في موطن آخر: «فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمد أمره، ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفوت؛ فإنه لا يخاف من التثبيت إلاّ الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تمّ أمره. ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)(4)، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلاّ من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إلاّ من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والنمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانياً أفلح كل الفلاح، والله وليّ التوفيق»(5).

 

_____________

(1) رواه مسلم في الإيمان: (18).

(2) أبو داود: (4810)، وصححه الألباني في السلسلة: (1794).

(3) انظر كتاب الروح لابن القيم: (546، 547).

(4) رواه أحمد: (4/125)، ورواه النسائي: (1304)، وضعفه الألباني في ضعيف النسائي: (70).

(5)  مفتاح دار السعادة: (1/146).

 

 

سابعًا : الوسطية والعدل والتوازن في الشجاعة :

الشجاعة خلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله تعالى وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد الاعتدال والتوسط فتكون تهورًا وجرأة، وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع.

إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:

الطرف الأول: الإفراط والغلو في الشجاعة والإقدام، دون النظر في عاقبة ذلك، ويسمى هذا تهورًا، حيث تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك.

الطرف الثاني: التفريط وضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولد عنه الجبن والخوف. «والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فلا يظن الجبان بالظفر، ولا يساعده الصبر، فإذا ساء الظن ووسوست النفس بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته»(1).

الموقف الوسط المتوازن: وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ «لأن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من الصبر وحسن الظن ... والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولى ولت سائر جنوده»(2).

ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إلا أنه لا يتهور ولا يتجرأ على الإلقاء بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، ولا يقدم في غير موضع الإقدام.

 

_____________

(1) كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).

(2) انظر كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).

 

 

ثامنًا : التوازن والعدل والتوسط في الحذر وأخذ الحيطة :

إن أخذ الحيطة والحذر من الأعداء وممن يظن به الشر هو أمر مطلوب، وهو من باب الأخذ بالأسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71)، ولكن هذا الاحتراز قد يختل التوازن فيه، فيميل إما إلى الإفراط ومجاوزة الحد وإما إلى التفريط والإضاعة. والناس فيه طرفان مذمومان ووسط عدل.

الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفرط الذي أدى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجالات الخير أو السكوت على بعض المنكرات بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة.

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة والاحتراز ممن يظن به الشر، وإنما غلب عليهم البله وقلة الوعي حتى أحسنوا الظن بكل الناس وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.

الموقف العدل والمتوازن والمتوسط: وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى الأخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن شره وفساده، لكنه لم يُفْرِط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، بل الفرق عنده واضح بين الاحتراز وسوء الظن الفاسد.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعدَّ له عُدَّتَه، فهمُّه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب. وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه؛ فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم، الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض»(1).

ومن الآيات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة: قوله تعالى في صلاة الخوف: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:102).

ويجلي هذا التوازن في الآية صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - فيقول: «... الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً).. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!»(2).

 

_____________

(1) الروح: (ص 504).

(2) في ظلال القرآن: (2/748).

 

 

تاسعًا : التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح :

العفو والصفح خلقان محمودان ورد الحث عليهما في الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: من الآية40)، وقال عز وجل: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية134)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلاً بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)(1).

والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط:

الطرف الأول: أهل الإفراط فيه والغلو: وهم الذين يضعون العفو في غير موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر المتغطرس الذي لا يزيده العفو إلا ظلمًا وتمردًا وغرورًا؛ فمثل هذا لا يصلح في حقه العفو، وإما أن يكون العفو عن ذلة ومهانة وعدم قدرة على رد الاعتداء؛ فهذا عفوه ليس محمودًا، وإنما هو عجز ومهانة، وتضييع للحقوق.

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في هذا الخلق الرفيع وأصبح ليس لهم هم إلا الانتقام من كل من أخطأ في حقهم، ولو كانت الهفوة منه زلة عابرة، أو خطأً غير مقصود؛ فلا يدفنون لمسلم زلة ولا يصفحون عمَّن ارتكب في حقهم مزلة.

الوسط العدل المتوازن: وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عن من لا يصلح في حقه العفو، ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز لا عن حلم وعفو واقتدار، ولم يفرِّطوا في هذا الخلق حتى أضاعوه بسبب شهوة الانتقام والانتصار للنفس، بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته ولا التكبر والغرور صفته، وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود.

ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الفرق بين العفو الناشئ عن الجود والكرم مع قدرته على الانتقام، وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز عن الانتقام فيقول: «والفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام؛ فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس؛ فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى:39).

فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم، وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40). فذكر المقامات الثلاثة: العدل وأباحه، والفضلَ وندب إليه، والظلمَ وحرمه....

قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء: من الآية149)»(2).

 

_____________

(1) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (1652).

(2) الروح: (ص 513، 514) باختصار.

 

 

عاشرًا : العدل والتوسط والتوازن في المنافسة والغبطة :

 

الغبطة والتنافس في الخير خلقان كريمان أمر بهما الشارع الحكيم، وعمل بهما سلفنا الصالح؛ حيث تنافسوا في مرضاة الله وجنته وتسابقوا إليها؛ قال الله عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)(1).

ومع جلالة هذا الخلق، فإنه كغيره من الأعمال والأخلاق مكتنف بخلقين مذمومين والناس فيه طرفان ووسط:

 

الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين تجاوزوا الحد في التنافس، فمالوا من العدل الممدوح إلى الغلو والإفراط فيه حتى أوقعهم ذلك في الحسد والحقد للجهة المنافسة، أو السابقة. والحسد خلة ذميمة ساقطة ممقوت صاحبها عند الله عز وجل وعند عباده.

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين ضعفت هممهم عن التنافس في الخير ورضوا بالدون، ولم يثر عزائمهم تشمير الصالحين وتسابقهم إلى الخيرات وإلى دار المتقين، فلم ينافسوهم ولم يحرك ذلك في نفوسهم شيئًا.

 

الموقف الوسط والعدل المتوازن: وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - من الهمة العالية، حيث تنافسوا في الصالحات وسارعوا في الخيرات، وتسابقوا إلى الجنات، وتمنى أحدهم أن يكون على مستوى ما عليه أخوه أو يزيد عليه دون حسد ولا حقد، ولا تمنٍ من أحدهم زوال نعمة الله عز وجل الدينية أو الدنيونة عن أخيه المنافس.

«كما كان ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منافسته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومحاولة اللحوق به أو سبقه، فلمَّا علم أن أبا بكر رضي الله عنه قد استولى على الإمامة قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا. وقال: والله ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه.

والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر ويحرضه على مرضاة سيده»(2).

ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين الحسد والمنافسة فيقول: «والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26).

وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبة، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه؛ وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: من الآية148)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21).

 

والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير؛ فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أنْ لَوْ فَاتَهُ كسبُها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: من الآية109).

 

فالحسود عدو النعمة متمنٍ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمنٍ تمامها عليه وعلى من ينافسه؛ فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة؛ فمن جعل نصب عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرًا؛ فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا لا نذمه»(3).

______________

(1) البخاري: (5025)، ومسلم: (815).

(2) كتاب الروح: (ص 533) بتصرف يسير.

(3) كتاب الروح: (ص 533، 534).

 

 

حادي عشر : العدل والوسطية والتوازن في العزلة :

جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي فعل السلف الصالح ما يدل تارة على فضل العزلة وعدم الخلطة بالناس أو تقليلها، وورد تارة أخرى ما يدل على النهي عنها، والحث على الجماعة والاختلاط بالناس. ويحسب الناظر في هذه الأدلة والمواقف أنها متعارضة؛ وحاشا أن يوجد في هذا الدين ما ينقض بعضه بعضًا لأنه من عند الله العليم الحكيم، المبرأ من الجهل والنقص والهوى. ولكن بالجمع بين هذه الأدلة والمواقف يظهر لنا وسطية هذا الدين وعدله وتوازنه في مسألة العزلة؛ حيث لم يأمر بها بإطلاق، ولم ينه عنها بإطلاق؛ وإنما فصَّل في ذلك بحيث يكون الموقف العدل فيها كغيرها من المواقف والسلوكيات: وسط بين طرفين مذمومين.

الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين رأوا اعتزال الناس اعتزالاً كليًا، واعتزال ما هم عليه من المنكرات والفساد، والبعد عن مناسباتهم وعن الاختلاط بهم حرصًا منهم على صيانة دينهم وأخلاقهم، وتحقيقًا للبراءة من المنكر وأهله، وامتثالاً للنصوص الواردة في فضل العزلة؛ ومنها ما أثنى به الله عز وجل على أهل الكهف بقوله تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16). ولكن هذا أدى بهم إلى ترك الجمع والجماعات وقطع الأرحام، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح المجال للمبطلين والمفسدين يجولون ويصولون ويفسدون على الناس دينهم وأخلاقهم وأعراضهم بلا مجاهدة ولا مواجهة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(1).

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في العزلة وأفرطوا في الخلطة، سواء كانت في الخير أو الشر، ولم يكن لهم خلوات بربهم وبأنفسهم؛ وهؤلاء في العادة يتأثرون بمن حولهم، ويضعف دينهم ويداهنون الناس فيما هم عليه من منكرات ومخالفات. وعن مثل هؤلاء وصنيعهم جاء النهي والتنفير، وجاء الحث على العزلة والتحذير من هذه الأحوال من الخلطة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «العزلة راحة من أخلاط السوء»(2)، وكما قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: «من خالط الناس لم يسلم ولم ينج من احدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، وإما أن يسكت إذا رأى منكًرا أو سمعه من جلسائه، فلا يغير فيأثم ويشركهم فيه»(3).

الوسط العدل المتوازن: وهو الذي لم يجنح إلى الإفراط في العزلة ولا التفريط، وإنما نظر إلى هذه المسألة نظرة متوازنة يلتمس فيها مرضاة الله عز وجل وما هو المحبوب منها لله تعالى.

وأكتفي بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في وصفه لهذا المنهج المتوازن؛ حيث يقول رحمه الله تعالى: «فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها - إما نزاعًا كليًا، وإما حاليًا - فحقيقة الأمر: أن «الخلطة» تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.

وجماع ذلك: أن «المخالطة» إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات؛ كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.

وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا؛ إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.

ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره، ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته؛ كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف فيها بصره ولسانه. وإما في غير بيته.

فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال؛ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم»(4) ا.هـ.

وبنحو ذلك قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: «فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفيًا وإثباتًا خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل. فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل»(5).

ولذلك رأينا الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق جملة من النقولات التي تمدح العزلة وتحسنها استدرك وأفرد في كتابه العزلة بابًا سماه: «باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة» قال فيه: «قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسَّنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا أجرينا، ولا إياه أردنا؛ فإن الإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين. وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق - عز وعلا - والحمل على النفس منها ما يؤودها ويكلها؛ فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف؟»(6). ا.هـ.

 

 

 تنبيه:

إن القول بأن العزلة التامة للناس فيها مجانبة للوسطية والعدل لا يعني أنها لا تُمدح في بعض الأحوال أو الأمكنة أو الأزمنة، بل قد تكون في بعض الأحوال هي الموقف الحق الوسط العدل.

وأُمَثِّل لذلك بالأحوال التالية:

الحالة الأولى: عند فشو المعاصي وانتشارها انتشارًا واسعًا يتعذر علي بعض الناس حينها القدرة على الإنكار ولا يوجد المعاون، ولا يوجد المكان الصالح الذي يهاجر إليه،  فإنه يشرع والحالة هذه لبعض الأفراد دون بعض العزلة؛ وذلك حين لا يستطيع الفرد الصبر على رؤيتها، فيتعجل بإنكارها بصورة شديدة غير منضبطة، أو أن المنكرات تعكر صفو حياته، ويعيش برؤيتها في هم وحزن، أو أنه يخاف على نفسه من الوقوع في المعاصي والفواحش خوفًا ظاهرًا قويًا. وهذه عزلة مقيدة بأحوال الأفراد وليست عزلة مطلقة لكل إنسان.

الحالة الثانية: أيام الفتن واختلاف المسلمين وتفرق كلمتهم واقتتالهم:

وفي هذه الأحوال يشرع اعتزال الناس حتى تنجلي الفتنة. ومن أراد لنفسه السلامة في الدنيا والآخرة فليعتزل الناس أيام الفتن بقلبه ولسانه ويده ولا يُلوِّث نفسه بشيء من كدرها وغبارها؛ وهذا ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إليه عند هيجان الفتن.

 قال عثمان الشحام: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه، فقلت: هل سمعت أباك يحدِّث في الفتن حديثًا؟ فقال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة: القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟...)(7).

وهذا ما كان عليه سلف الأمة أيام الفتن:

 فعن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، قال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد»(8).

 وعن يزيد بن أبي عبيد - رضي الله عنه - قال: «لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولادًا، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة، فمات بها» أخرجه البخاري، وأخرج هو ومسلم «أن سلمة دخل على الحجاج، فقال: يا ابن الأكوع، أرتددت على عاقبيك؟ تعرَّبت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو»(9).

الحالة الثالثة: عند فساد الزمان وفساد الناس ومروج عهودهم وأماناتهم؛ وذلك حين يتعذر الإصلاح في الناس لاختلافهم وتناحرهم ورقة أديانهم؛ أي حين يطبق الانحراف التام العام والغربة الشاملة؛ فحينئذ يشرع للمسلم أن يعتزل الناس ويعتني بنفسه، كما يعتني بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه، ويهتم بصلاح شؤونهم، ويذر أمر العامة. وهذه الحالة إما أن تكون في مكان دون مكان؛ كما هو الحال في بعض الأماكن اليوم، وإما أن يشمل الانحراف العام كل الأرض وتستحكم الغربة والجاهلية فيها كلها؛ وهذا لا يكون إلا قرب قيام الساعة، والله تعالى أعلم.

وهذا المعنى هو الذي جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان - أو يوشك أن يأتي زمان - يغربل الناس فيه غربلة؛ تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم)(10).

ويعلق صاحب كتاب: (العزلة والخلطة) - حفظه الله تعالى - على هذا الحديث فيقول: «ومحصل هذه الصفات كلها: أن لا فائدة من الأمر والنهي والإصلاح في مجال العامة وهم الدهماء والجمهور، وإن ترأَّسوا وسادوا، بل ربما ترتب على الأمر والنهي ضرر بأن يتضاعف المنكر ويزداد، أو يُؤذَى الآمر في نفسه، أو أهله، أو ماله.

ولعل هذا هو الضابط العام لتلك الحال: ألا يكون ثَمَّ فائدة ترجى من الدعوة والأمر والنهي بين هؤلاء المسمين بـ «العامة»، وفي مقابل التحقق من عدم النفع، هناك توقع لحصول الضرر الديني والدنيوي للآمر ولغيره. ولا شك أن الأصول العامة تقتضي ترك الأمر والنهي - حينئذ - دفعًا للمفسدة المتوقعة التي لا توجد مصلحة تكافئها في فضل الأمر والنهي؛ فيكون الحديث مطردًا مع القاعدة العامة في المصلحة والمفسدة»(11).

______________

(1) رواه البخاري في الأدب المفرد: (388)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: (300).

(2) العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا: (ص 60).

(3) المصدر السابق نفسه: (ص 67).

(4) مجموع الفتاوى: (01/425).

(5) مختصر منهاج القاصدين: (ص 117).

(6) العزلة للخطابي: (ص 97).

(7) مسلم في الفتن، باب نزول الفتن: (2887).

(8) مجمع الزوائد: (7/584).

(9) البخاري في الفتن، باب التعرب في الفتنة، ومسلم: (1862).

(10) أبو داود في الملاحم: (4342)، وابن ماجة في الفتن: (3957)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (3648).

(11) العزلة والخلطة للشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى -: (ص 70).

 

ثاني عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الغيرة :

الغيرة بمعناها العام هي الغيرة على دين الله عز وجل ومحارم الله أن تنتهك. ولكننا هنا نريد الغيرة بمفهومها الخاص؛ ألا وهي الغيرة على المحارم والأعراض.

فهي خصلة كريمة من خصال المؤمنين، ومن سمات الرجولة والقوامة، والعزة والأصالة. ولا تفقد إلا عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة والدياثة. ولما تعجب الصحابة من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني»(1).

والغيرة المحمودة كغيرها من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:

الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في غيرتهم على محارمهم وأعراضهم حتى أوقعهم ذلك في الوساوس والشكوك والخواطر الرديئة فأتعبوا أنفسهم، وأتعبوا محارمهم. ومنشأ هذا الغلو: الإفراط في الظن السيء، والتجسس والتحسس؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...) (الحجرات: من الآية12).

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في أمانتهم وقوامتهم وغيرتهم وحميتهم على أعراضهم ومحارمهم، وضيعوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها، ولم يبالوا بما يفعله نساؤهم ومولاياتهم مما يخدش الحياء، ويعرضهن لسهام المفسدين، ويجرأ أهل الشهوات والقلوب المريضة عليهن. وقد ظهرت في زماننا اليوم صور من ضعف الغيرة على النساء، وتسلط النساء وغلبتهن على أوليائهن، حتى أصبحت المرأة في بعض البيوت لها القوامة على البيت بما فيه من رجال ونساء، وصارت المرأة من زوجة أو بنت أو أخت تذهب إلى السوق وحدها، وتخلو بأصحاب المحلات، وتركب مع السائق وحدها، وتجلس مع الرجال الأجانب من أقاربها أو أقارب الزوج دون حشمة تذكر. كل ذلك يتم أمام ناظري الزوج أو الأب أو الأخ دون أن يحرك ذلك عندهم ساكنًا، أو أن تتحرك الغيرة في قلوبهم. نسأل الله عز وجل العافية في الدنيا والآخرة.

الوسط العدل: وهم الذين حفظوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها من أزواج وأخوات وبنات وموليات، فغاروا عليهن وصانوهن من كل ما يخدش أعراضهن وحياءهن، وبذلوا ما في وسعهم من التربية الصالحة لهن، وأبعدوا عنهن كل ما يفسد عليهن دينهن وأخلاقهن. مع إشعارهن بالثقة وإحسان الظن بهن، وقطع الطريق على الشيطان وكيده ووسوسته التي توقع من استرسل معها في الشك والوساوس الرديئة. فهذا دأب الشيطان مع الإنسان؛ إن لم يفلح معه في التفريط وقلة الغيرة أتاه من الغلو والإفراط في الغيرة والشك والوساوس الرديئة.

___________

(1) البخاري في الحدود: (6846)، ومسلم في اللعان: (1499).

 

 

ثالث عشر : التوازن والعدل والوسطية في سلامة القلب :

لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات:84)، وبين أنه لن ينجو من عذاب الله تعالى يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88، 89).

والقلب السليم هو الذي سلَّمه الله تعالى، من كل شبهة تعارض خبر الله تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه. ومن ذلك ما اشتهر عند الناس أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من شره، ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان:

الطرف الأول : الإفراط أو الغلو في سلامة القلب حتى ينقلب إلى بله وغفلة وانخداع لأهل الخداع، وقلة معرفة بالشر وأهله.

الطرف الثاني: التفريط والجفاء في التحلي بهذا الخلق الرفيع حتى يصبح القلب مأوىً للشبهات والشهوات والخداع والأحقاد وإرادة الشر والمكروه بالغير.

الوسط والعدل: وهو الذي من الله عليه بقلب سليم مطمئن يحرق ما يرد عليه من الشبهات والشهوات، ولا يحمل حقدًا ولا مكروهًا ولا غدرًا ولا خيانة لمسلم. في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين، عارف بالشر وأهله، حذر منهم ومن كيدهم.

ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين سلامة القلب والبله والتغفل فيقول: «والفرق بين سلامة القلب والبَلُه والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به.

وهذا بخلاف البله والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه. والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته.

قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لست بخب ولا يخدعني الخب)، وكان عمر أعقل من أن يُخدع وأورع من أن يخدع، وقال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؛ فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم الذي سلم من هذا وهذا»(1).

 

_____________

(1) كتاب الروح: (ص 517).

 

 

رابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في الحياء :

الحياء خير كله، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق(1). ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)(2)، وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)(3)، (وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)(4). ومع حسن هذا الخلق، إلا أنه كغيره من الأخلاق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهو وسط بينهما.

الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو الذين وصل بهم الإغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والأخروية، ومن آثار ذلك الرضى بالدون والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير، وتضييع الحقوق.

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين قل حياؤهم وتجرأوا على فعل ما يعاب وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله عز وجل، ولا من الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة ولا آدابًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا.

الوسط العدل: وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده، واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل يخل بالآداب أو المروءات. كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في مصالحهم الدينية والدنيوية والصدع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهم في دينهم ودنياهم.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ... وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس»(5).

 

____________

(1) انظر مدارج السالكين: (2/601) ط. دار طيبة.

(2) البخاري: (24)، ومسلم: (36).

(3) البخاري: (6117)، ومسلم: (37).

(4) البخاري: (6119)، ومسلم: (2320).

(5) مدارج السالكين: (3/76، 77) ط. دار طيبة.

 

 

خامس عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بالقواعد الشرعية:

استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجد في حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل، ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي المنطلق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة. ومع ذلك فقد تجرأ على هذه القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم والاجتهاد المؤهلين للفتيا وبيان الأحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا، وأفرَّطوا، في تطبيقاتها وفرَّطوا، وحرَّموا وحلَّلوا، وحصل من جراء ذلك غلو وتضييق على الناس، أو تفريط وإضاعة ونشر للشر والفساد. ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم إلى التوسط في تناول هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها بضوابط شرعية(1) تحميهم من التطرف نحو الغلو والإفراط أو التطرف نحو التفريط والإضاعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور في أغلب الناس؛ مثل تقابلهم في بعض الأفعال يتخذها بعضهم دينًا واجبًا أو مستحبًا أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا أو محرمًا أو منهيًا عنه في الجملة»(2).

وأذكر على سبيل المثال قاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع الأحكام في هذا الدين؛ ألا وهي: (قاعدة سد الذائع)؛ يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذه القاعدة: «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين»(3).

وقد ذكر - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين وجهًا للدلالة على القاعدة؛ وهذه الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، ويظهر فيها أن السبب في تشريعها هو سد الذرائع، فليرجع إليها(4).

وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط:

الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هـذه القاعـدة، وتوسعوا فيـها، حتى ضيقوا علـى النــاس بتحريـم بعض المباحات نظراً إلى أنها قد تؤدي إلى محرم، ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ كمن يحرم بيع العنب على الناس لأن من بينهم من قد يصنع منه خمرًا أو يحرم بيع السلاح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم في العدوان على الناس.

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرَّطوا في اعتبار المآلات، وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يؤول إليه المباح وقصروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مباحًا فهو مباح وإن غلب على الظن أنه يقود إلى محرم. فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة، وعُطلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤلاء مثلاً لا يمانعون أن يباع العنب على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمرًا، ولا يمانعون من بيع السلاح أيام الفتن، ولو غلب على الظن أن يستخدم في قتال المسلمين؛ لأنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسلاح وهو الإباحة، ولم ينظروا إلى مآلات الفعل ومقاصد الفاعلين.

ومن الأمثلة المعاصرة: تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائلاً: إن الأصل مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار، وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة لا يتسع المقام إلى ذكرها. وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به الإمامان الراحلان الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين - رحمهما الله تعالى - عندما سُئلا عن قيادة المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه القاعدة الشرعية التي نحن بصددها وذكرا المفاسد الكثيرة التي يؤول إليها هذا الأمر. وبناءً على مبدأ سد الذريعة حرما قيادة المرأة للسيارة.

أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم الذين تناولوا هذه القاعدة بتوازن ووسطية؛ فلم يلغوها من الاعتبار كما فعل المفرِّطون، ولم يغلوا فيها حتى ضيقوا من الدين ما هو موسعًا كما فعل المفْرِطون. بل أوقعوها في مكانها اللائق بها. فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يؤول إلى مفاسد محرمة حرموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين مثالاً من الكتاب والسنة. ومتى ما غلب على الظن أن فعل ذلك لا يؤول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر. وأسوق فيما يلي فتوى للصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن تدل على العناية بهذه القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها.

نقل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره قال: «روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلاً مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك(5).

 

______________

(1) انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب (فاستقم كما أمرت) للمؤلف: (ص 252-292).

(2) مجموع الفتاوى: (3/359).

(3) اعلام الموقعين: (3/159).

(4) انظر هذه الوجوه في إعلام الموقعين: (3/137-159).

(5) تفسير القرطبي: (5/333).

 

 

سادس عشر: التوازن والعدل والتوسط في عداء الكفار والتعامل معهم:

قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8، 9)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)، ومع وضوح هذا المنهج الرباني في العلاقة مع الكفار حسب أحوالهم إلا أن الخلل والتطرف قد تطرق لهذا النمط من العلاقات عند كثير من الناس، وأصبح الناس فيها طرفان ووسط:

الطرف الأول: أهل الغو والإفراط في عداء الكفار؛ حيث أدى بهم ذلك إلى مجانبة العدل والقسط معهم وبخاصة المسالم منهم. وفي الآيات السابقة أمر بالعدل والقسط مع الكفار، والبر بهم وبخاصة إذا كانوا أقارب وأرحام ما داموا ليسوا حربيين.

قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير آية الممتحنة: «وقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين؛ كالنساء والضعفة منهم، (أَنْ تَبَرُّوهُمْ)، أي تحسنوا إليهم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، أي: تعدلوا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قَدَمَت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفاصلها؟ قال: (نعم، صِلْي أمك)؛ أخرجاه(1).

وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبدالله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر بهدايا: صِنَاب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها(2)»(3).

وقد تصل الحال عند هؤلاء المفْرِطين إلى أن يعدوا التعامل مع الكافر المسالم بتجارة، أو بيع أو شراء، أو علم دنيوي ضروري، أو نحو ذلك من المعاملات إنما هو ضرب من ضروب الموالاة المحرمة للكافر، وأن عداوته وبغضه والبراءة منه تقتضي قطع أي صلة أو تعامل معه.

وقد سبقت الإشارة إلى هذا الموقف الخاطئ في مبحث الوسطية في الولاء والبراء(4).

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وأهل هذا الموقف هم المتساهلون في عدائهم للكفار، والبراءة منهم، حتى تجاوزوا العدل والقسط والبر مع المسالم منهم إلى المداهنة والمحبة لهم، والخوف منهم، وتعظيمهم وتقديمهم على المسلمين، والانبهار والاغترار بما هم عليه من دنيا وقوة وصناعات متقدمة، وائتمانهم على أموال المسلمين وأعراضهم وعقولهم وأسرارهم؛ بل وصلت الحال ببعضهم إلى التدسس بعقيدته والحياء من إظهارها ودعوة الناس إليها.

أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم أهل السنة والاتباع الذين اقتفوا أثر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين له بإحسان، الذين تبرؤا من الكفر وأهله، وأعلنوا بكل فخر واعتزاز عقيدة الإسلام، ودعوا الناس إليها وجاهدوا في سبيلها. فمن أسلم من الكفار فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وهو أخ من إخوانهم المسلمين له حقوق وعليه واجبات. ومن لم يدخل في الإسلام وصالح المسلمين أو عاهدهم أو دفع الجزية مقابل أن يعيش آمنًا داخل الدولة الإسلامية فإن الواجب نحوه العدل والقسط وإن كان قريباً فله البر والإحسان. ولا يجوز ظلمه لكونه كافرًا، وجاز التعامل معه ببيع أو شراء أو إجارة أو غيرها من المعاملات في ضوء الشريعة الإسلامية، بشرط أن لا يكون في ذلك تقوية لاقتصاد الكفار المحاربين.

وهذا العدل وضمان الأمن للكافر المسالم هو ما أمر الله عز وجل به وطبقه المسلمون في تاريخهم الطويل في فتوحاتهم وتعاملاتهم مع الذين بقوا على دينهم من أهل تلك البلاد المفتوحة؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8). ومن تطبيقات هذا المنهج الرباني العادل في حياة الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما يلي:

 لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، أرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: «والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض»(5).

 لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المفلسين فلعبوا وأدوا الخراج.

فهؤلاء اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120) يقولون للمسلمين الذين عدلوا فيهم: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ...) وهل فوق هذا النصر من نصر(6).

 ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى واليه على البصرة عدي بن أرطأة يوصيه، ونقتطف من رسالته بعض المقاطع؛ يقول: «ثم انظر مَن قِبَلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجْر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه .. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه»(7).

 ويذكر في مواقف ابن تيمية السامية في الإنصاف حتى مع غير المسلمين أنه حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار، وعلم أنهم لن يطلقوا معهم أسرى أهل الذمة، أصر على إطلاق الجميع معًا وقال: «بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكهم، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة»(8).

_____________

(1) البخاري: (2620)، ومسلم: (1003).

(2) المسند: (4/4)، والحاكم: (2/485) وصححه ووافقه الذهبي.

(3) تفسير ابن كثير عند الآية (9) من سورة الممتحنة.

(4) انظر: (ص 105) من هذا الكتاب.

(5) تفسير ابن كثير: (2/412) وروى بعضه الإمام أحمد: (3/367)، وأبو داود: (3410)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح: (2910).

(6) انظر كتاب الجهاد في سبيل الله، عبدالله القادري: (2/143).

(7) أحكام أهل الذمة لابن القيم: (1/38)، ت: صبحي الصالح.

(8) حياة شيخ الإسلام، للشيخ محمد بهجت البيطار: (ص 15).

 

 

سابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في التخطيط والتنظيم :

إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج ليتم تنفيذه إلى دراسة وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات والأولويات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويل الخطط والدراسات النظرية إلى واقع وعمل. وهذا كله يدخل في الأخذ بالأسباب وبذل الوسع في ذلك؛ لأن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، والأهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب الأسباب سبحانه ومشيئته النافذة، ومع أهمية التخطيط والتنظيم لأي فكرة أو مشروع إسلامي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفين ووسط.

الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين غلوا، وأغرقوا في التنظير والتخطيط حتى تمر الأيام والشهور بل والسنوات وهم ما زالوا في تخطيطهم ودراساتهم يقدمون رِجْلاً ويؤخرون أخرى؛ لا تراهم إلا مترددين خائفين من الإقدام على العمل مفْرِطين في أخذ الحيطة والحذر، مفوتين عليهم الفرص الكثيرة تمر عليهم دون أن يستثمروها، مبررين عملهم هذا بالتثبت والتأني والحكمة. (ارجع إلى مبحث التوازن والعدل في الحلم والأناة)(1).

ثم إذا قدر لهؤلاء أن ينتقلوا من التخطيط إلى التنفيذ والعمل فإنهم يغلون في تنظيم هذا العمل ويفرطون في وضع الترتيبات الإدارية والتنظيمية الدقيقة التي تعرقل العمل، ولا تمنح للفرد أن يستخدم عقله وطاقته، وإنما يبقى رهين أطر تنظيمية ومركزية تقيد الأعمال وتجعلها تراوح في مكانها إن لم تتراجع. كما أن الإفراط والغلو في التنظيم والترتيب قد يوقع أهله - وبخاصة أصحاب المشاريع الدعوية الجماعية - في حزبيات مقيتة وولاءات ملوثة؛ بحيث يصبح عند أهل التنظيم الواحد تحزب وتعصب لبعضهم يوالي بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا؛ ويعادون أو ينابذون من سواهم من الطوائف الإسلامية؛ لا على أساس الإسلام، وإنما على أساس الحزب أو التنظيم؛ وهذا غلو وتطرف.

الطرف الثاني: أهل الإفراط والإضاعة: وهم الذين أهملوا الأخذ بالأسباب فأهملوا التخطيط والدراسة المتأتية التي تسبق العمل والتنفيذ، فقامت مشاريعهم على الفوضى والتخبط، فكانت النتيجة المترتبة على ذلك ضياع الأوقات والأموال والأعمال؛ إن لم يكن أكثر من ذلك من المفاسد العظيمة والشرور الجسيمة. وهذا الطرف يقابل الطرف السابق أو هو ردة فعل له.

وكما أنهم أهملوا وفرطوا في الدراسة والتخطيط فكذلك أهملوا الأخذ بوسائل التنظيم والترتيب. فجاءت أمورهم نتاج أعمال فوضوية، وتصرفات فردية تفتقد الشورى والروح الجماعية. بل واتهموا أي عمل منظم مدروس بأنه عمل حزبي بدعي.

الوسط العدل المتوازن: وهم الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الذين أخذو بالأسباب والسنن الإلهية، فقامت أمور الدعوة والجهاد والمال عندهم على الدراسة والتخطيط، وحولوا ذلك إلى عمل مثمر مرتب يحكمه التنظيم وتوزيع الأدوار وتفعيل الطاقات، دون عرقلة للعمل ولا فوضى وفردية. إذن فأهل هذا الموقف لم تشغلهم الدراسة والتخطيط عن العمل والتنظيم، وتفعيل الطاقات والأدوار، ولم تنطلق أعمالهم وتنظيمهم دون دراسة وتخطيط، ولم يجعلوا أطرهم التنظيمية حجر عثرة لأعمال دعوية وخيرية، أو تعطيلاً للطاقات، أو حزبية مقيتة تلوث عقيدة الحب في الله والبغض في الله.

 

_____________

(1) ص (169-171).

 

 

ثامن عشر : التوازن في تقويم الأعمال الدعوية والجهادية :

التقويم: كلمة تحتمل معنيين كلاهما مقصود: التقويم بمعنى النقد وبيان قيمة الشيء، والتقويم بمعنى التعديل والتوجيه. وهما أمران متلازمان يكمل أحدهما الآخر(1)، والذين يقوِّمون الحركات الدعوية والجهادية في الأمة اليوم طرفان ووسط:

الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو في المدح والثناء: وهم الذين يعرضون هذه الدعوة أو تلك على أنها الدعوة المثالية وأنها امتداد لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتضطرهم هذه النظرة الغالية إلى تبرير للمواقف والأخطاء تبريرًا متكلفًا، حتى لكأنهم يعتقدون العصمة في القائمين عليها، كما يدفعهم ذلك إلى النظر في اجتهادات هذه الدعوة أو تلك على أنها الأمل الوحيد لنهضة الإسلام والمسلمين. وهذا بدوره يجعلهم ينظرون لغيرهم من الدعوات نظر الدونية وضعف الفهم والوعي والتربية والتخطيط.

الطرف الثاني: أهل الغلو والإفراط في النقد والتقويم: وهم الذين ينظرون إلى الدعوات الإصلاحية والحركات الجهادية نظرة تشاؤم وتحامل؛ فلا يرون إلا العيوب، فإن علموا شرًا أذاعوه وضخموه وإن علموا خيرًا كتموه أو أولوه أو أساءوا الظن بفاعليه.

إن يسمعوا سبـة طاروا بها فرحاً             عنيِّ وما سمعوا من صالح دفنوا

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد           كلا طرفي قصد الأمور ذميم(2)

وأهل هذا الطرف يقابلون الطرف الأول.

أهل الموقف الوسط العدل: وهم الذين تناولوا تقويم هذه الدعوات ودراستها دراسة عادلة متوازنة بعيدة عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وبعيدة عن الإفراط في الحب أو الكره، وذكروا ما لهذه الدعوات من خير كثير وبلاء عظيم وأثر كبير في الأمة، مع الإقرار بالأخطاء والعثرات والاستفادة منها في تجنبها ومناصحة أهلها.

 

_____________

(1) مقالات في المنهج: (ص 90).

(2) المصدر السابق: (ص 90) وما بعدها.

 

 

 

تاسع عشر: الوسطية والعدل والتوزان في نقد المخالف ومعالجة الأخطاء:

هذا المبحث في هذه الرسالة من أهم مباحثها وأطولها؛ وذلك لمساسه بالواقع، وما نعاني فيه من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد ومعالجة الأخطاء والجور مع المخالف؛ في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الائتلاف والوحدة والاجتماع، لا إلى الفرقة والاختلاف، كما أننا في حاجة إلى أن يرحم بعضنا بعضًا، وأن يشفق بعضنا على بعض، وأن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويناصح بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وإن كان الأمر مما يسعه الاجتهاد عذر بعضنا بعضًا فيه.

يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين. والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل لحفظ الفرع»(1).

ونظرًا لأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إلى طرحه ومداولته بين الدعاة فسوف أطيل النفس فيه - إن شاء الله تعالى - محاولاً تغطيته من جوانبه المختلفة بإذن الله تعالى، فأرجو من القارئ الكريم أن يتحمل هذه الإطالة التي سأسعى إلى أن لا تكون مملة.

ومن أهم البواعث على التطويل في هذا الموضوع ما يلي:

1- «قلة الفقه بأنواع الخلاف، وما يسوغ منه وما لا يسوغ، وما ينكر منه، وما يسكت عليه، أو ينصح فيه، وعدم التمييز بين الخلاف في الأصول أو الفروع، واعتبار أصنافه كلها بمنزلة خلاف الأصول؛ كل ذلك أدى إلى كثير من الظلم والإجحاف والفرقة والاختلاف، فكان لا بد من عودة إلى ذلك الفقه الذي ينصف المخالفين ليعودوا مؤتلفين.

2- العصبية التي أهدرت الأوقات وأضاعت الجهود انحيازًا إلى مذهب أو إمام أو رأي فأورثت الفرقة والتباغض، وكان لا بد من تخفيف حدة العصبيات بالإنصاف، ولاءً للحق وتطييبًا لقلوب المخالفين.

3- عموم الإجحاف في تقويم الرجال والجماعات والكتب بسبب تعظيم الهفوات، وغياب الميزان العدل، وعدم اعتبار غلبة المحاسن، ولعدم التعامل بالاحترام اللائق مع المخالف، وبسبب التجريح الظالم لأهواء نفسية أو لمبالغة في تصوير المساوئ، بسبب كل ذلك عمَّت صور الظلم والتنافر فكان لا بد من ضوابط للتقويم تحقق الإنصاف وتشيع روح الألفة.

4- افتقاد كثير من المختلفين للموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل مع المخالفين، وعدم الخبرة بالأساليب الحكيمة في الدعوة، وفي الأمر والنهي؛ أدى إلى تظالم وتقاطع. فرأينا أن العودة إلى منهج أهل السنة تنصف المخالفين وتزيل القطيعة.

5- رجوع كثير من أسباب تظالم المختلفين إلى عدم إعذار المخالف بجهله، أو اجتهاده، وتأوله، أو قيام الشبهة لديه، وعدم قيام الحجة عليه  مما أدى إلى تأثيم المخالف، والحكم بضلاله - وقد يكون ممن يعذره الله - فكان لا بد من إنصاف المخالفين بإعذار صاحب العذر منهم، مع مناصحته فيما أخطأ فيه، فهذا أعدل وأدعى إلى التآلف»(2).

والموضوع من الأهمية بحيث لا يستكثر الكلام فيه. أسأل الله عز وجل أن يعينني على هذا الأمر، وأن يجعل فيه بابًا إلى الإصلاح، واجتماع القلوب، وتوفير الجهود على نشر هذا الدين والتصدي لكيد الأعداء والمفسدين وتسلطهم.

يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ... فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب»(3).

وقبـل الدخول في تفصيـل الموقف العـدل المتوازن في نقد الأخطاء والموقف من المخالف يحسن التقدمة لذلك بمقدمتين هامتين:

المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف المحمود منه والمذموم وأسبابه.

المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف.

_____________

(1) مجموع الفتاوى: (22/245).

(2) انظر «فقه الائتلاف»: (ص 12، 13) ملخصاً وبتصرف يسير.

(3) مجموع الفتاوى: (3/421).

 

 

المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف وأسبابه:

 

الخلاف من طبيعة البشر؛ وذلك لاختلاف العقول والمدركات، ودخول الهوى على النفوس، وهو قديم وحديث، لكنه قد يفتر أحيانًا وقد يتفجر أحيانًا. ويتميز كل زمان بمسائل معينة يدور حولها الخلاف، ومع كل ذلك فإن الحق واحد ويبقى محفوظًا لا يضره اختلاف المختلفين. وغالبًا ما يثور الخلاف في الأمة وينشغل به الناس حينما تنشغل عن الاهتمامات العالية والجهاد في سبيل الله تعالى، وتميل إلى الاسترخاء والدعة والترف، فيظهر حينئذ الترف الفكري والجدل والهوى.

وليس كل اختلاف في أمر من الأمور مذموم، بل إن هناك كثير من المسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، ولم تؤد بهم إلى الافتراق والتنابذ، بل بقيت المودة بينهم، وبقي الصف موحدًا والقلوب مؤتلفة.

أما من فارقه السلف من المخالفين من أهل البدع فإن ذلك لم يكن إلا حينما خالفوا الأصول، وخالفوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذا تفرق محمود.

 

أما الاختلاف الحاصل بين أهل السنة والجماعة فلا يعد مذمومًا إلا إذا انتهى بالمختلفين إلى الخصومة والتفرق؛ وذلك لوجود الجهل، أو دخول الهوى والبغي بين المختلفين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - كلامًا بديعًا عن الاختلاف وأنواعه، ومتى يكون مذمومًا، ومتى يكون محمودًا، أرى من المناسب تدوينه في هذا المقام ليمهد لما بعده.

قال - رحمه الله تعالى -: «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(1). وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(2)... ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.

 

وهذا الاختلاف الذي دلت عليه الأحاديث هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (آل عمران: من الآية105)، وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: (سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)(3)... فهذا يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النَّزَّال بين سبرة، عن عبدالله بن مسعود قال: «سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: (كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم(4).

 

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنًا فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ... فأفاد ذلك بشيئين:

أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.

والثانـي: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.

واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب؛ وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئًا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئًا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات؛ لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه. ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين، والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادًا - إذ الضدان لا يجتمعان ... والاختلاف(*) على ما ذكره الله في القرآن قسمان:

أحدهما: يذم الطائفتين جميعًا، كما في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود: من الآيتين 118، 119). فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)، وكذلك قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (آل عمران: من الآية19)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105).

 

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(5) وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)(6).

فبيَّنَ أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنّة والجماعة.

وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد، وإرادة العلو في الأرض، ونحو ذلك؛ فيحب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله من حصول الشرف له والرئاسة، وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.

ويكون سببه تارة: جهل المختلفين  بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالمًا بما مع نفسه من الحق حكمًا ودليلاً.

 

والجهل والظلم هما كل شر؛ كما قال سبحانه: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: من الآية72).

أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:

اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.

واختلاف التنوع على وجوه:

منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقًا مشروعًا؛ كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم عن الاختلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلاكما محسن)(7).

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل.

 

ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها، ونحو ذلك؛ وهذا عين المحرم. ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرًا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر، أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر؛ لكن العبارتين مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.

ومنه: ما يكون المعنيان غيرين، لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جداً.

ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين. ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم ...

 

وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك - إذا لم يحصل بغي - كما في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (الحشر: من الآية5)، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرَّها إلى أن وصل إلى بني قريظة ...

وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتضادان إما في الأصول، وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون «المصيب واحد» وإلا فمن قال: «كل مجتهد مصيب» فعنده هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد. فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيرًا من قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقًا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السنّة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.

وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرًا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.

 

ومن جعل الله له هداية ونورًا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنّة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور ...

وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) (البقرة: من الآية253).

فقوله: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم الأخرى، وكذلك قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) (الحج: من الآية19) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...) (الحج: من الآية23). مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: «أنها أنزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة، والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد(8).

وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك.

وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (البقرة: من الآية213)؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.

وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة»(9).

 

ومن هذا النقل النفيس عن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في أنواع الاختلاف وأسبابه نخلص إلى النتائج التالية:

الأولى :  أن الخلاف مع الكفار والمبتدعة خلاف محمود؛ لأن الله عز وجل يأمر بمفارقة الكفار والمبتدعة ويحب المخالف لهم من أهل السنة والاتباع.

الثانية: أن الخلاف في مسائل الاجتهاد بين أهل السنة إذا لم يؤد إلى الفرقة وفساد المودة فهو خلاف محمود، أما إذا انتهى بالمختلفين إلى الفرقة والخصام، فإن كلا الطائفتين مذمومتان؛ إذ الغالب في مثل هذه الحال دخول الهوى والعصبية إلى النفوس. فمتى أدى الاختلاف في الاجتهاد بين أهل السنة إلى الفرقة، فليعلم أن الهوى أو البغي قد دخل في النفوس.

وفي ذلك يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «... فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً) (الأنعام: من الآية159) .. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها .. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .. وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين»(10).

الثالثة: أن أهم أسباب الخلاف بين المختلفين: إما الجهل بما عند المخالف من الحق والدليل أو الجهل بالأدلة الشرعية بعامة.

 

وإما البغي والهوى والحسد: إذ قد يتضح الحق للمخالف ولكنه يستنكف عن الانقياد له بغيًا وكبرًا عياذًا بالله عز وجل.

والكلام هنا موجه لأهل السنة والخلاف الحاصل بينهم، وكيف يمكن تفادي الفرقة الناشئة عنه، وما هو الميزان العدل الذي يوزن به هذا الخلاف. أما الخلاف مع أهل البدع والكفر فهو متعين وله مقام آخر.

_____________

(1) انظر سنن أبي داود: (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجة: (3991).

(2) مسند أحمد: (4/102).

(3) مسلم: (2890).

(4) الحديث لا يوجد في مسلم وإنما في البخاري: (2410).

(*) يقصد شيخ الإسلام بالاختلاف هنا ذلك الذي يؤدي إلى التفرق والخصومات.

(5) سبق تخريجه: (ص 207).

(6) انظر ما ذكره الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - عن حديث الافتراق في السلسلة الصحيحة (204).

(7) البخاري: (2410).

(8) البخاري: (2743).

(9) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/135 - 156) ملخصًا، ت: د. ناصر العقل.

(10) الموافقات: (4/221-222).

 

 

المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف:

 

قبل الشروع في الرد على المخالف - سواء كان مشافهة أو كتابة - فلا بد من مراعاة الضوابط الشرعية حتى يؤتي الرد ثمرته المطلوبة ولا يؤدي إلى مفاسد شرعية تربو على مفاسد ترك الرد.

ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:

أولاً : اتصاف الرَّاد بالعلم الشرعي الصحيح الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبخاصة في المسألة المراد الرد عليها ومناقشتها، وأن يكون الكلام بعلم ودليل، ومأخذ صحيح في الاستدلال؛ ومن ذلك التوثق والتثبت من كلام المردود عليه من كتبه أو كلامه لا من الظنون وكلام الناس. ومن ذلك تحديد موضع النزاع وتحريره.

ثانيًا : اتصاف الراد بالإخلاص والتجرد لله تعالى في رده وبعده عن الهوى والعصبية والتشفي، وهذا يلزم عليه أشياء كثيرة من أهمها:

 العدل مع المخالف وإنصافه، وتجنب ظلمه وإهدار حقه وما عنده من المحاسن. وهذا يقتضي الحذر من الهوى والتعصب الأعمى.

وقد ذكر الشوكاني - رحمه الله تعالى - بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم العدل والإنصاف فقال: «واعلم أن أسباب الخروج عن دائرة الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب كثيرة جدًا منها:

[ أ ] نشأة طالب العلم في بيئة تمذهب أهلها بمذهب معين، أو تلقوا عن عالم مخصوص، فيتعصب ولا ينصف.

[ب] حب الشرف والمال، ومداراة أهل الوجاهة والسلطان، والتماس ما عندهم، فيقول ما يناسبهم ولا ينصف.

[جـ] الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم، والتعرض للمناظرات، وطلب الظهور والغلبة، فيقوى تعصبه لما أيده ولا ينصف.

[ د ]  الميل لمذهب الأقرباء، والبحث عن الحجج المؤيدة له، للمباهاة بعلم أقربائه، فيتعصب حتى لخطئهم ولا ينصف.

[ هـ ] الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قالها، أو قول أيده واشتهر عنه، ثم تبين بطلانه، فيتعصب دفعًا للحرج ولا ينصف.

[ و ] الزلة في المناظرة مع من هو أصغر سنًّا، أو أقلّ علمًا وشهرة، تجعله يتعصب للخطأ ولا ينصف.

[ ز ] التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها، ويخطئ ما خالفها، وهي نفسها غير مسلمة على الإطلاق؛ فيتعصب بالبناء عليها ولا ينصف.

[ ح ] اعتماد أدلة الأحكام من كتب المذاهب؛ لأنه سيجد ما يؤيد المذهب باستبعاد دليل المخالف، فيتعصب ولا ينصف.

[ ط ] الاعتماد في الجرح والتعديل على كتب المتعصبين؛ إذ يعدلون الموافق، ويجرحون المخالف، فمن بنى على كتبهم يتعصب ولا ينصف.

[ي] التنافـس بيـن المتقاربَيْن فــي الفضيلة أو المنزلـة، قـد يدفع أحدهما لتخطئة صواب الآخر تعصبًا ومجانبة للإنصاف.

[ك] الاعتماد على الآراء والأقوال - من علم الرأي - المخلوطة بعلوم الاجتهاد كأصول الفقه مما يترتب عليه تعصب للرأي وخروج عن الإنصاف»(1).

 والإخلاص يقتضي الحذر من الكيل بمكيالين: مكيال للنفس يَستوفي فيه، ومكيال للمخالف يُخسره فيه يبخسه حقه.

«عند تقويم مواقف الرجال كم نستنكر سلوكًا لرجل نخالفه، ثم تمر السنون، ويدور الزمان دورته، ويصدر نفس السلوك في موقف مشابه من رجل نحبه ونتفق معه، فنعلل له ونبرر ونحسن الظن، بل ونكبر حكمته التي قد لا تدركها عقولنا!!! لماذا نقبل الشيء نفسه من امرئ ونعده عيباً في غيره؟!!!

قد تجد بعض الناس يبالغون في حب امرئ ومديحه، وقد لا يتركون شرفًا في الدنيا إلا وينسبونه إليه، وتمر أقدار، وبالخلطة والمعايشة الطويلة في السفر والحضر، والتعامل بالدرهم والدينار، وبالدخن والوساوس .. يغدو المادح قادحًا، والمزكي جارحًا، والممدوح مذمومًا .. صور كثيرة من هذه الأصناف نشهدها في بعض الوعاظ والخطباء والموجهين والناصحين الذين يرون في ما يقومون به واجبًا شرعيًا لا يسكت عنه، فإذا ألقيت النصيحة والموعظة إليه، وطرقت سمعه وانهالت التعليمات عليه صار ذلك من سوء الأدب أو سوء الظن به، أو الظلم والتجريح المنهي عنه شرعًا؛ نرى ذلك في الشرح لعيوب الناس ونواياهم، ويسمي تشريحه هذا تقويمًا وتعديلاً، فإذا وضع هو على المشرحة والتقويم سماها غيبة ونميمة، وعدم ستر العيوب بالنصيحة سرًا ...»(2) وغيرها من صور الكيل بمكيالين.

 والإخلاص يقتضي حرص الرَّاد على سلامة قلبه نحو المخالف، وأن يحذر من التشفي في الرد والخصومة؛ لأن الإخلاص يقتضي حب الخير للناس والرحمة والشفقة بهم. وهذا شأن أهل السنة والاتباع المخلصين؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق»(3)، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر»(4).

وهذا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر عن نفسه أنه يحب الخير للمسلمين في كل مكان ولو لم يكن يعرفهم أو ينتفع بالخير الذي أصابهم.

فعن ابن بريدة الأسلمي قال: «شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن في ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة»(5).

ثالثاً: الحذر من ردود الأفعال التي قد تذهب بالرَّاد إلى طرف آخر مقابل للمردود عليه متجاوزًا حد التوسط والتوزان والاعتدال.

رابعًا: قبول ما يظهر على لسان المخالف من الحق والفرح به وبإصابته للحق ورد الباطل من كلامه وتفنيده.

قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: «... ومن أتاك بحق فأقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبًا حبيبًا»(6).

ويقول الشيخ بكر أبو زيد في وصاياه للدعاة: «التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، وباتخاذها رصيدًا ينفق منه الجرَّاح في الثَّلب، والطعن، وأن تدعو له بالهداية. أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين»(7).

خامسًا: لا يؤخـذ المخالف بلازم قوله؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب. أي أن ما يلزم على كلام المخالف من لوازم باطلة لا يجوز أن تنسب إليه بمجرد أنها من لوازم قوله؛ فإن هذا من الظلم، كمن يلزم من أحل النبيذ بلازم قوله وهو استحلال ما حرم الله عز وجل، أو من لم ير الجمع بين الصلاتين في السفر بأنه يرد السنة ويهجرها. ولا يلزم أحد بلازم قوله حتى يتبناه صراحة ويعبر عنه بنفسه، أو أن يسأل فيجيب فيكون منطوق لسانه حجة عليه. وإنما يستخدم ذكر لوازم الأقوال لإبطالها، وبيان غلط وتناقض المردود عليه لكي يتراجع عن كلامه.

يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «وأما من كفَّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفرًا، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر .. فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به متجه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط»(8).

سادسًا: الحرص في نقد المخالف على وصف مقالته ونقدها والرد عليها، دون التعرض لشخصه أو نيته ومقصده، إلا إذا ظهرت قرائن قوية تدل على فساد النية وخبث الطوية.

سابعًا : الاعتناء الشديد بالدقة في التعبير والإفهام - سواء كان مشافهة أو كتابة - والبعد في الردود عن الألفاظ الغريبة الغامضة، أو الحمالة حتى لا يفهم كلام الراد على غير ما أراد.

 

______________

(1) انظر أدب الطلب ومنتهى الأرب: (ص 31) [عن كتاب فقه الائتلاف لخازندار: (ص 57)].

(2) انظر فقه الائتلاف: (ص 101، 102) بتصرف يسير باختصار.

(3) مجموع الفتاوى: (16/96).

(4) مسند أحمد: (3/2881)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1224).

(5) مجمع الزوائد: (9/284)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(6) الإحكام في أصول الأحكام: (4/586).

(7) تصنيف الناس بين الظن واليقين: (ص 77، 78).

(8) الفصل لابن حزم: (3/294).

 

 

ذكر الميزان العدل والوسط في نقد الأخطاء والموقف من المخالف:

بعد هاتين المقدمتين عن أنواع الخلاف: محموده ومذمومه وأسبابه، وضوابط النقد وأصوله، ندخل في صلب الموضوع الذي نحن بصدده؛ وهو ذكر الميزان العدل الوسط في نقد الأخطاء، والموقف من المخالفين، مع ذكر طرفي الانحراف عن هذا الميزان العدل. فأقول وبالله التوفيق ..

الناس في موقفهم من الأخطاء ونقدهم لأصحابها طرفان ووسط:

الطرف الأول : أهل الغلو والإفراط:

وهم الذين أفرطوا في نقد الأخطاء وأصحابها حتى جعلوا من الفروع أصولاً ومن بعض الجزئيات كليات. وجعلوا همَّهم تصيد الأخطاء والفرح بها وتضخيمها، ولم يرحموا من وقع فيها من طلاب العلم بل جاروا عليهم في ذلك حتى أساءوا الظن بهم، وبنواياهم، ومقاصدهم، وبخسوهم حقهم، وأهدروا حسناتهم وما لهم من بلاء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم. ولا يخفى ما في هذا الموقف من عدوان، ومجانبة للعدل والإنصاف. وفي أمثال هؤلاء يقول الشعبي - رحمه الله تعالى-: «والله لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة لأعدُّوا علي تلك الواحدة»(1).

ولو أن هؤلاء المنتقدين حاسبوا أنفسهم، وسألوها حينما يخطئون هل يودون أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك سببًا لمراجعة أنفسهم، واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال ومعالجة الأخطاء.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.

وقد قال الله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر:33-35). فقد وصفهم الله بأنهم متقون. و(الْمُتَّقُونَ) هم أولياء الله. ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان»(2).

ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) فيقول: «فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملاً، ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامة الحجة لله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل»(3).

وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بيَّن فيها المسور بن مخرمة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعض عيوبه، وماذا رد عليه معاوية في ذلك لتكون منهجًا في معالجة أخطائنا.

عن عقيل، ومعمر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب. فهل تعدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى أن تُهلكك إن لم تغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العملُ، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني. قال عروةُ: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه(4).

الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة:

وهؤلاء وإن كانوا قد فرَّطوا في الأخذ بالحق ورد الباطل، والتقليد الأعمى، إلا إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال والتعصب لأخطائهم ولسان حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم.

ولذا ترى الواحد منهم يزعجه ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل، ويدفعه تعصبه لشيخه وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل مبررًا ذلك بمبررات سامجة متكلفة.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل الطرفين السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة الإسلام: «... وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا بمبلغ علمهم - والحق في خلافها - لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثِّم ولا نَعْصِم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ولا مسلكهم في الشيخين رضي الله عنهما»(5).

وينتقد - رحمه الله تعالى - هذين الطرفين بصورة أوضح في معرض ردِّه على بعض الشطحات التي وقع فيها الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين، وانقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات فيقول: «شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه ... [إلى أن قال]: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:

إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم؛ فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار. وأساءوا الظن بهم مطلقًا؛ وهذا عدوان وإسراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.

 

والطائفة الثانية: حُجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.

والطائفة الثالثة: - وهم أهل العدل والإنصاف - الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته؛ فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردُّوا ما يرد»(6).

ويقول الشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى - في هذا المقام: «... ففي مجال الجرح والتعديل المعاصر تعود الكثيرون إما أن يثقوا بالرجل ثقة مطلقة لا مثنوية فيها، ويقلدوه في الجليل والحقير وإما أن يسقطوه من الحساب، فلا يقبلوا منه صرفًا ولا عدلاً. ومن عجب أنهم أحيانًا ينتقلون من النقيض إلى النقيض، فذاك الذي كان بالأمس ملء أسماعنا وأبصارنا، أصبحنا اليوم لا نملك إزاءه سمعًا ولا بصرًا! وهذه من ثمرات الاندفاع العاطفي غير البصير؛ فإن العاطفة إذا طغت سريعة التقلب لا تعرف الاستقرار والثبات.

 

سمعت أحدهم يقول على لسان طائفة: فلان أخطأ في مسألة كذا فلا نسمع منه شيئًا! حسنًا .. إذاً فأنتم لا تسمعون إلا من المعصومين؟! ومن أين لكم بهم؟! لا سبيل أمامكم إلا أحد سبيلين:

أولهما: ألا تستمعوا من أحد؛ لأنه ما من أحد إلا ويخطئ، قلّ خطؤه أم كثر، ومعنى ذلك أن تعتمدوا على أنفسكم فلا تنتفعوا بشيخ، ولا تجلسوا إلى فقيه، ولا تسمعوا إلى داع ولا تقتبسوا من مفكر، ثم من قال إنكم لا تخطئون؟ ولِمَ لَمْ تفترضوا أن المسألة التي تنقمونها على فلان أو فلان أنه هو المصيب وأنتم المخطئون؟

 

أما السبيل الثاني: فهو أن تسلكوا مسلك الفرق الضالة التي اخترعت لها «معصومين» وإن كانوا في الحقيقة «معدومين»، وجعلت قولهم تشريعًا، والرَّاد عليهم رادًا على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله، ولا يستغربن هذا الكلام أحد، أو يظن أنه يستحيل أن يحدث من بعض المسلمين؛ فإن من الناس من يقول هذا بلسان الحال إن لم يقله بلسان المقال»(7).

ويقول - حفظه الله تعالى - في موطن آخر مبينًا ظهور طرفي الإفراط والتفريط في المواقف من الكتب، والمؤلفات، وما فيها من أخطاء المؤلفين فيقول: «هل يتربى قراؤنا - وخاصة من الشباب - على «الموضوعية» والاعتدال في أحكامهم على الكتب؛ بحيث يستطيع القارئ أن يأخذ من الكتاب جوانبه الإيجابية التي أصاب فيها، ويدع ما سوى ذلك، أم أن الشباب - أعني كثيرًا منهم - لا يبيعون ويشترون إلا «بالجملة»! فإما أن يكون الكتاب كله موثقًا ومعتمدًا، وإما أن يكون خطأً وباطلاً. ونحن أناس لا توسط بيننا!

 

وصلة الكتاب بالمؤلف عريقة وعميقة .. ولذا فإن البعض يتعامل مع الكتب من خلال مؤلفيها فحسب؛ فمؤلفات زيد كلها حسنة ومفيدة، ومؤلفات عبيد كلها على الضد من ذلك. نعم .. هنالك مؤلفون غالب ما يكتبونه صالح، وهناك آخرون لا يحسنون إلا الهدم، فلا يأتي من يحتج مثلاً بمؤلفات أهل الضلالة .. لا. الكلام في مجال الدراسات الإسلامية وما يتعلق بها. وغيرها له حديث آخر، ومن الناحية الواقعية فإن أي كتاب - غير كتاب الله تعالى - لا يسلم من الخطأ والنقص مهما بالغ مؤلفه في تحريره والعناية به»(8).

الموقف العدل الوسط المتوازن:

وأهله هم الذين ذكرهم ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ما سبق وسماهم بالطائفة الثالثة حيث قال عنهم: «وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح؛ بل قبلوا ما يُقبل، وردوا ما يرد»(9)  ا.هـ.

 

أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو والإفراط المضخمين للأخطاء، المهدرين لحق من وقع منه الخطأ، والمهدرين لحسناتهم، المتهمين لنياتهم، بل حفظوا لهم حقوقهم، ولم ينسوا لهم بلاءهم وجهادهم وحسناتهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم. وفي المقابل لم يذهبوا إلى تقديس الأشخاص، وادعاء العصمة لهم - سواء بلسان المقال أو الحال - بل نظروا للمخطئين بأنهم غير معصومين، ولم يدفعهم حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل ما يقولونه، أو أن يسحبوا ذيل الحسن على كل ما يفعلونه.

 

______________

(1) نزهة الفضلاء: (1/504).

(2) مجموع الفتاوى: (11/66، 67).

(3) بدائع التفسير: (2/105).

(4) سير أعلام النبلاء: (3/150)، ومعنى: (صلى عليه) أي: دعا له.

(5) إعلام الموقعين: (3/358).

(6) مدارج السالكين: (2/220-224) باختصار. ط. دار طيبة.

(7) مقالات في المنهج: (ص 81، 82).

(8) المصدر نفسه: (ص 86، 87).

(9) مدارج السالكين: (2/224) ط. دار طيبة.

 

 

وبعد وضوح الموقف العدل وما يكتنفه من الطرفين المذمومين أسوق فيما يلي نماذج رفيعة لأقوال السلف، ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين وردودهم على بعضهم؛ تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كل مسلم وبخاصة طلاب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في ضوئه وهداه(*):

النموذج الأول: عن عبدالرحمن بن شُمَاسَة قال: دخلتُ على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلتُ: من أهل مصر. قالت: كيف وجَدْتُم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلتُ: خَيْرَ أمير؛ ما يقفُ لرجل منَّا فرسٌ ولا بعيرٌ إلاَّ أبدلَ مكانَه بعيرًا، ولا غلامٌ إلاَّ أبدلَ مكانَهُ غُلامًا، قالت: إنه لا يمنعني قتلُه أخي أنْ أحدِّثكم ما سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول: «اللهُمَّ من ولي من أمر أُمتي شيئًا فَرفَقَ بهم فارفُقْ به، ومن شَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه»(1).

النموذج الثاني: قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة(2).

النموذج الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: «يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقُلْ له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلّغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر. لا تزيدن على ذلك شيئًا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتَّقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: من الآية40) فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم ابدر له إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبْخَسنّ باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل»(3).

النموذج الرابع: قال الذهبي في ترجمته لصاحب الأندلس الناصر لدين الله: «وقد كنتُ ذكرتُ ترجمَتَه مع جدِّهم، فأعدتُها بزوائدَ وفوائد، وإذا كان الرأس عاليَ الهمَّة في الجهاد، احتُملت له هَنَات، وحسابُه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلَمَ العباد، وللخزائن أباد، فإنَّ ربَّك لبالمرصاد»(4).

النموذج الخامس: وقال في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: «ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة(5).

النموذج السادس: كان إسحاق بن راهويه - رحمه الله تعالى - يشيد بعلم الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ويقول: «الحق يحبه الله عز وجل: أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني»(6). وكان أحمد بن حنبل - رحمه الله  تعالى - يقول في إسحاق: «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا»(7).

النموذج السابع: قال الذهبي في ترجمة قتادة - رحمه الله تعالى -: «وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذُرُ أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كَثُرَ صوابُه، وعُلمَ تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعُه واتباعه، يُغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك»(8).

النموذج الثامن: يقول ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر ذاك في محاسنهم ،وكثرة وصوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين. والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لا سيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه»(9).

وقال أيضًا: «.. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علماً وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين ... وإن أنت أبيت النصيحة ... وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك لا تزداد لنفسك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبًا، وعن الحق إلا بعدًا، ومن الباطل إلا قربًا»(10).

النموذج التاسع: يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين»(11).

ويُطَبِّق هذا عمليًا في موقفه من شطحات الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها، فتراه بعد ذلك يعقب فيقول: «ولولا أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدراري. ومن كان عنده علم فليرشدنا، ومن رأى في كلامنا زيغًا، أو نقصًا وخللاً فليهد إلينا الصواب، نشكر له سعيه، ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم، والله أعلم وهو الموفق»(12).

 ويقول - رحمه الله تعالى - بعد رده على الهروي في منزلة التوبة بعض شطحاته: «ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام(*) إهدار محاسنه، وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عُدَّ خطؤه؛ ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب؛ الذي زَلَّت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا - إلا أقلهم - على أودية الهلكات»(13).

 وفي ردِّه - رحمه الله تعالى - على زلة كبيرة للهروي في منزلة (التلبيس) يعقب على ذلك فيقول: «شيخ الإسلام(*) حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه). وصدق رحمه الله؛ فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله. وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى»(14).

النموذج العاشر: رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك - رحمهما الله تعالى - ومما جاء فيها: «سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو.

أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة.

قد بلغني كتابُك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمَّه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا، فجزاك الله عما قدمت منها خيرًا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.

وذكرت أنه قد أنشَطك ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيت فينا جميلاً، إلاَّ أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأَن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.

وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا يُنسب إليه العلم أكره لشَواذِّ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخذ لفُتْياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.

وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ونزول القرآن بها عليه بين [ظهراني](15) أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت.

وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). فإن كثيراً من أولئك السابقين الأوَّلين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاءَ مرضاة الله، فجنَّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرْانَيْهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه ... وكان من خلاف ربيعة لبعض ما مضى ما قد عرفت، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأى من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فَرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.

وذاكرتُك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسَنةٌ في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله ... [إلى أن قال في ختام رسالته]. وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهِبَ مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نَأَتْ الدارُ، فهذه منزلتك عندي، ورأيى فيك فاسْتيقِنْه، ولا تترك الكتابَ إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدِك وأهلك، وحاجةٍ إن كانت لك، أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أسرُّ بذلك.

كتبت إليك، ونحن صالحون، معافون، والحمد لله.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولينا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك، ورحمة الله»(16).

النموذج الحادي عشر: رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صدِّيق حسن خان - رحمهما الله تعالى - وما فيها من العدل والإنصاف والأدب الجم بين أهل العلم - وإن اختلفوا - وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي:

«من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد الملقب صديق زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالموجب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام؛ شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام. اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق فنفرح بذلك ونسر؛ لغرابة الزمان وقلة الإخوان وكثرة أهل البدع والأغلال، ثم وصل إلينا كتاب الحِطَّة وتحرير الأحاديث في تلك الفصول، فازددنا فرحًا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم والالتقاط من جواهركم؛ لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة الأهواء. فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكماله فرأينا أمرًا عجيبًا ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله وما قرب منه؛ لما من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة، وجعلت السنة كذلك، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشيه، وسلامة عقيدته، وتبعده من تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام. فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله سبحانه: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: من الآية65).

فالحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم؛ فزاد اشتياق التائق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة، والله على كل شيء قدير فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس. فمن العوائق تباعد الديار وطول المسافات؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة، ومنها خطر الطريق وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب الأموال واستباحة الدماء وإخافة السبيل، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلال بل وأهل الشرك من رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم؛ وكلهم أعداء قاتلهم الله. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا الدين من ينصره، وأن يجعلنا من أهله، وأن يسهل الطريق ويرفع الموانع، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه. ولما رأينا ما منَّ الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا تمكنكم من الآلات، وكانت نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية بين أيدينا، ولنا بها عناية ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا مزجاة من أبواب العلم جملة، وفيها مواضع محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدًا تصدى لشرحها؛ غلب على الظن أنك تقدر على ذلك. فافعل ذلك يكن من مكاسب الأجور وهي واصلة إليك إن شاء الله، فاجعل قِرَاها شرحها وبيان معناها، وأصلح في النية ذلك تكن حربًا لجميع أهل البدع؛ فإنها لم تبق طائفة منهم إلا ردت عليها فهذان مقصدان مِنْ بَعْثِها إليك: أحدهما: شرحها، والثاني: الاستعانة بها على الرد على أهل البدع؛ لأن مثلك يحتاج إلى ذلك؛ لكونك في زمان الغربة وبلاد الغربة، فإن كنت حريصًا على ذلك فعليك بكتاب العقل والنقل، والتسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة والجيوش الإسلامية لابن القيم، ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء. ولنا مقصد رابع مهم وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف 1297هجرية، فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج ولم أتمكن إلا من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه، والغالب على من صنف الكتب كثرة ترداده وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت؛ ويبدل العبارات؛ حتى يغلب على ظنه الصحة غالبًا، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك. والثاني: أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضًا بلفظه وبعضًا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك ولم تمعن النظر فيها - ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال - وما دخل عليك من ذلك فنقول: إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل. وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره. وإذا نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشرح الحديث وجد قلّته وما هو أكثر منه وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك أهل التأويل مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل وأنه من ذلك القليل. وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك. وأنا اجترأت عليك - وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك - لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل، ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك أنك تحب الاجتماع بأهل العلم وتحرص على ذلك وتقبل العلم ولو ممن هو دونك بكثير؛ فرجوت أن ذلك عنوان توفيق جعلك الله كذلك وخيرًا من ذلك...

فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنِّه وكرمه. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحًا لله ورسوله، رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ولم يبق إلا رسومه، وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب. ثم إني لما رأيت الترجمة وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفري. وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السؤول من أقضية الرسول، والروضة الندية شرح الدرر البهية، ونيل المرام شرح آيات الأحكام.

 

فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ومحبيك بها، وابعث بها إلينا مأجورًا إن شاء الله تعالى؛ وليكن ذلك على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة المشرفة، واكتب لنا تعريفًا بأحوالكم. ولعل أحدًا منكم من يتلقى هذا العلم ويعتني به ويحفظه عنك، واحرص على ذلك طمعًا أن يجمع لك شرف الدنيا والآخرة، ونسأل الله أن يهب لك ذلك.

 

 

ثم اعلم أني قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار لا آمن هجوم المنية، ولي أولاد ثمانية منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد المذكور أولاً، ويليه عبدالعزيز، وتحته عبداللطيف. ونرجو أنهم أهل الكتب وممن يعتز بها ويحفظها. وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب ومن دعائنا: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74)، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128)، لا تنسنا من صالح دعائك كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم»(17). ا.هـ (ملخصًا).

 

______________

(*) وفي هديه صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة للمواقف المتوازنة والمعالجات العادلة للأخطاء والمنهج الوسط في النقد ما يكفي ويغني. ويكفينا في ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في طريقة معالجته لخطأ حاطب ابن أبي بلتعة [انظر تفصيل هذه المعالجة في رسالة وإذا قلتم فاعدلوا للمؤلف: ص 34-37].

(1) نزهة الفضلاء: (1/327) والحديث رواه مسلم: (1828).

(2) سير أعلام النبلاء: (10/16).

(3) صفة الصفوة: (2/252، 253).

(4) سير أعلام النبلاء: (15/564).

(5) نزهة الفضلاء: (2/1127).

(6) نزهة الفضلاء: (2/775).

(7) المصدر نفسه: (2/840).

(8) سير إعلام النبلاء: (5/271).

(9) فقه الائتلاف: (ص 136).

(10) المصدر نفسه: (ص 206).

(11) إعلام الموقعين: (3/359).

(12) مدارج السالكين: (2/394) ط. دار طيبة.

(*) يقصد بشيخ الإسلام هنا: الهروي.

(13) مدارج السالكين: (1/366) ط. دار طيبة.

(14) مدارج السالكين: (4/352) ط. دار طيبة.

(15) كتبت في الأصل، ظهرى، والظاهر والله أعلم أن مراده هو ما أثبته.

(16) إعلام الموقعين: (3/110).

(17) رسالة لصديق حسن خان: تنبيه له على أخطاء وقعت له في تفسيره من الشيخ العلامة: حمد بن عتيق. (ملخصًا).

 

 

الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

وفي ختام هذه الرسالة أقف وقفتين استدرك في أولاهما بعض ما فاتني فيها من مسائل تتعلق بالموضوع، وأقف في الأخرى لألخص أهم ما جاء في الكتاب من مسائل وموضوعات.

أولاً : وقفة الاستدراك :

كان من بين أبواب هذه الرسالة مبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الوسطية والعدل والتوازن. ولكن لما جمعت عناصر هذا الباب وجدته مشابهًا إلى حد كبير للباب الأخير من رسالة (فاستقم كما أمرت)(1) والذي يبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الاستقامة، ولما كانت الاستقامة تحمل معنى الوسطية والعدل والتوازن فإني اكتفي بما ذكر هنالك من تفصيل لهذه الأسباب، وأحيل إليها القارئ الكريم وأورد هنا ملخصًا سريعًا لبعضها:

1- العلم بالشرع والبصيرة في الدين:

فكلما وجد العلم بأصول هذا الدين ومقاصده ووزنت الحركات بميزان الشرع كانت الأقوال والأفعال والمعتقدات مسددة قويمة عادلة متوازنة. وعلى العكس من ذلك؛ فإن مجاوزة العدل والوسطية والتوازن في الأقوال والأعمال والمعتقد من أسبابها الجهل بهذا الدين وقواعده ومقاصده وأحكامه وعدم الوزن بميزان الشرع القويم.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم، وأنه مقتبس من مشكاة النبوة، ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة»(2).

كما أن في العلم حرق للشبهات التي عادة ما تكون سببًا رئيسًا في مجاوزة العدل والوسط: إما إلى إفراط، أو إلى تفريط؛ كما هو شأن أهل البدع والأهواء المتقابلة، والتي تراوح بين الغلو والإفراط وبين الجفاء والتفريط.

2- مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة :

إنَّ في مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة والتجربة من الدعاة الصادقين المعروف عنهم العدل والتوازن نفع عظيم؛ لأن الصاحب يؤثر على صاحبه فينطبع بأخلاقه ومنهجه. ومما يلحق بذلك مصاحبة السلف الصالح في كتبهم وقراءة سيرهم وما كانت عليه من العدل والتوازن والتوسط بين الإفراط والتفريط. فهذا مما يُؤثِّر في صياغة التفكير والسلوك.

3- مجانبة من يعرف عنهم التسرع  في الأمور : 

إنَّ في مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور والميل إما إلى الإفراط أو إلى التفريط، - سواء من بعض طلبة العلم المتعجلين أو بعض المنتسبين للدعوة الذين زادهم من العلم قليل وحظهم من التجربة والحكمة ضئيل - في مجانبتهم حماية من الوقوع في مجاوزة العدل. وهذا أيضًا يسري على الكتب والمؤلفات التي يغلب على أصحابها قلة العدل والتوازن، وعدم التأني في المواقف والأحداث؛ حيث ينبغي الإعراض عن مثل هذه الكتب والحذر منها. وأول ما يدخل في هذا كتب أهل البدع والشبهات والأهواء والشهوات الذين هم بين غالٍ مفْرِط أو مضيع مفرِّط.

4- العمل الصالح بأداء الفرائض وكثرة النوافل :

فقد جاء في الحديث الصحيح: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ... الحديث»(3).

فمن هذا الحديث يتبين فضل الأعمال الصالحة وآثارها في حفظ الله عز وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه؛ وذلك بحفظ جوارحه فلا يتحرك إلا في مرضات الله تعالى، ولا يبصر إلا بالله، ولا يسمع إلا بالله؛ ومن هذا شأنه فهو الموفق للحق والعدل والسداد.

ومن أفضل الأعمال الصالحة: الصلاة، والصيام، والذكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69).

5- الرفق والأناة وعدم التعجل :

إن العجلة والتسرع وترك التؤدة لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات والشهوات، وتجـعل العـبد يمـيل إما إلى الإفراط أو التفريط - سواء في المعتقد أو القول أو العمل - والعكس من ذلك في الأناة والرفق؛ فإنهما غالبًا ما يكونان بابًا إلى التعقل والحكمة والسداد في القول والعمل.

6- التواصي بالحق والتناصح بين المسلمين :

وهذا من أعظم ما يسد به باب التطرف والغلو والإفراط والتفريط؛ فكلما كثر التناصح بين المسلمين، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل كان في ذلك الاهتداء إلى الحق ومدافعة الباطل بشبهاته وشهواته. وعلى العكس من ذلك؛ فعندما يضعف التناصح والتواصي بالحق، ويقل الأمر والنهي فإن الأفكار المنحرفة تنتشر بين الناس من غير إنكار، فتتشربها القلوب وتستحسنها العقول، وأصحابها يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

7- الصبر وتقوى الله عز وجل :

قال الله عز وجل: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: من الآية90).

وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

وقال عز وجل: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: من الآية186).

ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه»(4).

ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «فالتقوى تتناول فعل المأمور وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور»(5).

إذن فلزوم الاستقامة والعدل والتوازن في الأمور لا بد له من تقوى الله عز وجل، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والصبر على ذلك؛ لأن العلم بالشرع لا يكفي وحده في لزوم الوسطية والعدل وإصابة الحق إن لم يكن معه التقوى والصبر؛ فكم ممن يتجاوز العدل والحق إما لضعف دينه وتقواه، وإما لضعف صبره وتحمله.

8- دعاء الله عز وجل وسؤاله الهداية إلى الحق ولزومه :

يعد الدعاء من أعظم الوسائل والأسباب في لزوم الحق والعدل؛ لأن الله عز وجل هو الهادي والموفق إلى الحق والعدل، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى. قال الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27).

فمن سأل الله عز وجل الهداية للحق بصدق وإخلاص وأخذ بالأسباب المعينة على ذلك أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه. ومن أنفع الأدعية وأجمعها ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يستفتح صلاته في الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(6).

وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(7).

وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والسداد)(8).

وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم»(9).

ثانيًا : الوقوف مع أهم ما جاء في الكتاب من مواضيع :

تدور أبواب الكتاب ومباحثه على إبراز هذه السمة العظيمة لهذا الدين وأهله؛ ألا وهي سمة العدل والوسطية والمأخوذة من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).

ومن أهم المباحث التي جاءت في الكتاب ما يلي:

[ 1 ] أهمية دراسة هذا الموضوع المتمثلة في تحرير معنى الوسطية، وأنها العدل والحق والتوازن بين طرفي الإفراط والتفريط، وأنها ليست كما يفهمها بعض الناس في كونها الالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، أو الرضى بالحلول الوسط. كما أنها لا تعني التشدد والتضييق.

كما برزت أهمية الموضوع أيضًا في ما نعانيه اليوم من مجانبة للعدل والتوازن في كثير من أصول الدين وأحكامه وأخلاقه، والنزوع فيها إما إلى الغلو والإفراط وإما إلى الجفاء والتفريط والإضاعة.

كما تأتي أهمية هذا الموضوع في كون العلم به وبجوانبه المختلفة بابًا إلى إعادة النظر في المواقف المتشددة أو المتساهلة، وبخاصة في جانب المعاملات والسلوك والأخلاق. وهذا الفهم يقود بإذن الله تعالى إلى الاجتماع والائتلاف، كما يقود إلى تفهم رأي المخالف والمعالجة العادلة لأخطائه، وإشاعة الود والتراحم بين المؤمنين وإن اختلفوا.

[ 2 ] تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...) الآية، وذلك بذكـر أقـوال بعض المفسرين وبعض الأحاديث المعيـنة على فهم الآيـة الكريمة.

[ 3 ] ذكر الأحاديث الواردة في لزوم الوسط والعدل، والمحذرة من الغلو والإفراط أو من التفريط والإضاعة، مع شرح موجز لبعضها.

[ 4 ] تم تقسيم مظاهر الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين إلى قسمين كبيرين:

القسم الأول : مظاهرها في الخلق والتقدير:

وفي هذا القسم تم الحديث عن عظمة هذا الكون ودقة نظامه وتوازنه، والتي تدل على عظمة خالقه عز وجل وحكمته وعدله ورحمته، وذكرت أمثلة متفرقة لهذا التوازن والنظام الدقيق في خلق الله عز وجل؛ سواء ما كان منها في الآفاق كخلق السموات والأرض وما بينهما من الأفلاك، وما على الأرض من الآيات الباهرات، أو ما كان منها في الأنفس وما فيها من عجيب صنع الله تعالى ودقة نظامها، وما فيها من التوازنات التي تبهر العقول وتحير الألباب، وتدل على وحدانية رب الأرباب.

القسم الثاني : مظاهرها في الأمر والشرع :

وفي هذا القسم تم الحديث عن شريعة الله عز وجل المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومـا فيهـا من الوسطية والعـدل والتـوازن الواقعـة بين الإفراط والتفريط. وذكرت تحت هذا القسم أربعة مباحث مهمة:

الأول : مظاهرها في العقيدة وأصول الدين.

الثاني : مظاهرها في شعائر التعبد.

الثالث: مظاهرها في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرابع : مظاهرها في المعاملات والأخلاق.

 وذكرت في باب العقيدة وأصول الدين مجموعة من الأمثلة التي يذكرها علماء السلف وأنها وسط بين طرفين مذمومين هما أهل الغلو والإفراط، وأهل الجفاء والتفريط؛ وذلك كقولهم إن أهل السنة والاتباع وسط في الأسماء والصفات بين المعطلة النفاة وبين المجسمة المشبهة، وهم وسط في باب القدر وأفعال العباد بين القدرية والجبرية، وهم وسط في الوعد والوعيد بين الخوارج الغلاة المكفرين لأهل الكبائر ومن نحا نحوهم كالمعتزلة وبين الجفاة المفرِّطين كالمرجئة ومن شابههم، وغيرها من أبواب العقيدة.

 وذكرت أيضًا في شعائر التعبد مجموعة من الأمثلة على التوسط في كثير من العبادات، والتحذير من الوقوع في طرف الإفراط والغلو الذي لم يشرعه الله عز وجل أو في طرف التفريط والتقصير. وذكرت أمثلة ذلك في الصلاة والصيام ومناسك الحج، وحرمان النفس من بعض الطيبات، وحرمانها من الأخذ بالرخص الشرعية وغيرها.

 كما ذكرت في باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطية هذا الدين فيها، وما يكتنف الوسط العدل من طرفين مذمومين هما الإفراط والتفريط.

 وأما قسم المعاملات والأخلاق فقد أطلت النفس فيه، وذكرت أمثلة كثيرة من الأخلاق، وكيف يكون التوسط والعدل فيها؟ وما هما الطرفان المذمومان اللذان يكتنفان كل خلق محمود؟ وسبب الإطالة في هذا القسم ما نعانيه في واقعنا المعاصر من أزمة في الأخلاق؛ وبخاصة ممن ينتسب منا إلى أهل السنة والجماعة، مما كان له أكبر الأثر في التفرق والخصومات.

وقد ركزت من بين الأمثلة التي ذكرتها على التوسط والعدل والتوزان في النقد ومعالجة الأخطاء، وذكرت الوسط المحمود وما يكتنفه من الطرفين المذمومين، وتوجت ذلك بذكر طائفة من النماذج المضيئة للمواقف العادلة المتوازنة لسلفنا الصالح في نقدهم لبعضهم البعض، ومعالجة أخطاء بعضهم بعضًا علها تكون نبراسًا لنا وأسوة حسنة نقتدي بها في زمن كثرت فيه الأهواء، وتكالبت فيه الأعداء من خارج الأمة وداخلها.

 

 

وفي ختام هذه الخاتمة أتوجه إلى الله عز وجل بسؤاله الإخلاص والصواب فيما أقوله وأكتبه وأعمله، كما أسأله سبحانه الهداية للحق والعدل والانقياد لهما والعمل بهما.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

 

والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

عصر يوم السبت

الموافق 32/3/4241هـ

______________

(1) وهي الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة الوقفات التربوية.

(2) مدارج السالكين: (3/125) ط. دار طيبة.

(3) البخاري: (6502).

(4) عدة الصابرين: (ص 54).

(5) مجموع الفتاوى: (2/286).

(6) رواه مسلم: (770).

(7) الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أُصبُعي الرحمن، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2792).

(8) صحيح مسلم: (2725).

(9) صحيح مسلم: (2725).

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/98962

الأكثر مشاركة في الفيس بوك