رؤية كنسية لقضايا المواطنة والتعددية: قراءة موضوعية في ضوء تجليات الألفية

إميل أمين

مقدمة:

من بين أهم القضايا الإشكالية التي باتت ملازمة لأحاديث النخبة وأبحاث المراكز العلمية والفكرية المتخصصة، تلك المتعلقة بحقائق تتصل ومفهوم الدولة الحديثة، بمكوناتها ومركباتها، وفي المقدمة منها يأتي الحديث عن المواطنة كفكر ومنهج وأسلوب حياة، عطفا على رؤى التعددية، وما يستتبعها من قبول الآخر والتعاطي معه، والبحث عن نسق حياة مشترك في سياق أبجديات التطور الإنساني.

والمؤكد أن هذه القضايا تتصل بالدولة بادئ ذي بدء ومهامها ووظائفها الرئيسة في تسيير شؤون الحياة اليومية لمواطنيها، في ظل خاصية انفصال الدولة عن الدين بالمفهوم العلماني الإيجابي وليس السلبي، وهنا تبرز علامة استفهام أصلية: هل يعني ذلك أن المؤسسة الدينية لا رؤية لها في سياق قضايا الوطن المعاصرة، ومفاهيم التحديث، وضرورة الارتقاء إلى ما هو أفضل لخدمة الإنسان في كل زمان؟

في هذه القراءة نحاول أن نتلمس دور الكنيسة بالنسبة للقضايا محور الشقاق والفراق، مع التأكيد على أن "الكنسية المسيحية" مجرد نمط تاريخي خاص من تألف الجماعة الدينية.

وربما يلزم هنا الإشارة إلى أمر مهم بدوره، وهو أن "الجماعة السياسية" - التي تحولت لاحقا إلى فكرة الدولة ـ انبثقت من التلاقي المعقد للجماعة الدينية المسيحية ومن بنية الإمبراطورية الرومانية(1).

وربما لهذا السبب كانت التحولات إلى الديمقراطية في دول أوربا الشرقية التي سادتها الشيوعية عدة عقود أيسر كثيراً من الحادث في عالمنا العربي؛ لوجود فكرة الديمقراطية، والحياة التعددية، داخل الجماعة الكنسية المسيحية الغربية، كأساس ثابت في نهج التفكير الغربي.

هل من إطار مرجعي أولي يعد الأساس لرؤية الكنيسة للقضايا الآنية الإشكالية، وللمستجدات والنوازل التي تجابه تجليات الألفية الميلادية الثالثية بملامحها الكوكبية، وإيقاعاتها العصرية؟

المؤكد أن الإحاطة المطلقة أو شبه الكاملة بمثل هذه الرؤية أمر في حاجة إلى مؤلفات قائمة بذاتها، لاسيما وأن الأمر يستدعي النظر - وبموضوعية - للتمايز القائم بين رؤى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أو الأرثوذكسية القبطية، عطفا على الكنيسة الإنجليكانية، أو الأرثوذكسية الروسية، بجانب الجماعات البروتستانتية المنتشرة حول العالم.

ولتلافي تشتيت القارئ سنعمد إلى التوقف عند القوائم المشتركة العظمى في الرؤى الكنسية المعاصرة، لاسيما تجاه قضيتين أساسيتين هما المواطنة والتعددية في فكر الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والتي يتبعها كاثوليك الشرق من العرب المسيحيين، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الحاضنة الأم لأقباط مصر، أكبر نسبة عددية في المسيحيين العرب، دون أن يقلل ذلك أو يمنعنا من الاقتراب من فكر بعض الطوائف المسيحية الأخرى ذات العلاقة بالعوالم والعواصم الغربية كالجماعة البروتستانتية.

مفاهيم.. وطن ومواطن ومواطنة

تبقي عملية تعريف المصطلح اليوم هي الشغل الشاغل للدارسين والعلماء في كل المجالات، فلا يمكننا بدء حديث أو حوار دون أن نكون قد اتفقنا على تعريف دقيق لما نتحدث عنه أو نتحاور من حوله، لذا ينبغي أن يكون منطلقنا في هذه القراءة هو تحديدا مفهوما عن المصطلحات الرئيسة التي تدور حولها.

وطن أم أمة؟: لقد حاول علماء الاجتماع أن يقدموا تعريفا محددا لكلمتي "وطن"، "أمة"، وعلى الرغم من أن هناك العديد من التعريفات التي قدمها علماء الاجتماع على مر السنين والتي يصعب حصرها فإننا سنكتفي بتقديم التعريف البسيط والمتفق عليه ـ الوطن: هو مساحة من الأرض يعيش عليها مجموعة من الأفراد تربط بينهم روابط مشتركة مثل: اللغة، الدين، العادات، التقاليد، التاريخ.. الخ.

وقد لخص بعض علماء الاجتماع مفهوم كلمة "وطن" بأنها تشمل أربعة أبعاد هي: الجغرافيا (الأرض)، التاريخ (حركة الجماعة)، بشر (المواطنون)، مشروع قومي (أو قضايا مصيرية).

يرى ابن تيمية أن مفهوم الأمة" لا يتحقق لمجموعة من الناس لمجرد أنهم يعيشون على رقعة جغرافية واحدة، ولا لأنهم يشتركون في تاريخ واحد، ولا لأنهم يتكلمون لغة واحدة؛ بل يتحقق في حالة واحدة وبشرط واحد هو أن تلتقي في فعل واحد يستهدف هدفا واحداً. وأن مفهوم الأمة يشتد ظهورا في لحظات التأزم وفي ساعات الخطر. من هنا تظهر أهمية المشروع القومي والقضايا المصيرية.

مواطن: شخص له حقوق وامتيازات أساسية، وعليه واجبات والتزامات كاملة.

هذه الحقوق والواجبات تغطي كل أبعاد الحياة المختلفة، على سبيل المثال: 

• البعد الاقتصادي: له حق العمل والحياة الكريمة، وعليه واجب المشاركة في التنمية الشاملة للوطن.

• البعد السياسي: له حق الانتخاب والترشح وحرية التعبير عن الرأي، وعليه واجب المشاركة الفعالة والإيجابية في الانتخابات بمختلف أنواعها. ونحن نرى في غالبية الدساتير العربية مواد تشتمل على مثل ذلك.

مواطنة: انبثق هذا المفهوم في القرن الخامس عشر والسادس عشر؛ لكنه بدأ في الظهور في القرن الثامن عشر بعد أن نادى جان جاك رسو بالعقد الاجتماعي. إلا أن هذا المفهوم لم يطبق دوليا على نطاق واسع إلا بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948، بعدها صار القانون الدولي هو الذي يحمي ويدافع عن مواطنة الإنسان في أي مكان في المجتمع المدني المعاصر.

وللمواطنة ركنان أساسان: 

• المشاركة: هذه المشاركة هي الجسد الحي للعلاقة بين المواطن والوطن، من خلال إسهام المواطن في بناء مجتمعه وانتمائه لوطنه؛ المواطنة هنا إذن تعني ممارسة وانتماء.

• المساواة: على الوطن أن يعامل أبناءه دون تفرقه أو تمييز سواء بسبب الدين أو العرق أو الجنس... الخ فالمساواة الكاملة والتامة بين أبناء الوطن الواحد هي الترجمة العملية لكلمة مواطنة.

في الإطار العام للرؤية الكنسية:

هل من ملامح لإطار عام يحدد رؤية الكنيسة للنشاط الإنساني وعلاقة الإنسان بالدولة، والواجبات المترتبة على تلك العلاقة، وكذلك الاستحقاقات التي يتحصل عليها في هذا الإطار؟

ربما يتعذر علينا الغوص في أعماق المجامع المسكونة الكنسية التي تناولت قضايا مشابهة، غير أننا نلفت إلى أحدثها، وربما أكثرها علاقة وصلة بالعالم اليوم، ونقصد بذلك المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)(2). والذي نقرأ فيه: "يهيب المجمع بالمسيحيين كمواطنين في المدينة الأرضية والسماوية أن يقوموا بواجباتهم الزمنية بأمانة ونشاط مهتدين بروح الإنجيل".

هذه الرؤية ربما كانت أول حديث كنسي معاصر يتناول لفظة المواطنين، ويدفع في سبيل فهم دور المواطن في وطنه انطلاقا من رؤية مسيحية/إنجيلية، لاسيما وأن بقية النص يقدم رؤية نقدية واضحة لمفاهيم غير صحيحة، ربما تبناها ولا يزال نفر واسع من المسيحيين شرقا وغربا.

فالدستور الراعوي المشار إليه يرى أن أولئك الذين يتذرعون بأنه ليس لنا على الأرض هوية دائما، وأننا نسير نحو عالم آت(3)، فقد فاتهم أن الإيمان ذاته يفرض عليهم هذه الواجبات بشكل مُلحّ، كلّ حسب دعوته الخاصة(4).

وكذلك ليس بأقل خطأ أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بنقيض ذلك؛ أي الاهتمام الكلي بالنشاطات الأرضية، وإهمال أيّ بعد ديني إيماني روحي.

هل من خطوط مرجعية أوسع لدور المؤمنين بحسب رؤية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في سياق اعتبارهم مواطنين في العالم لهم وعليهم يقع عبء تفعيل أطروحات المواطنة التي يفهمها العالم اليوم بمعناها الواسع؟

المثير أن نجد في تلك الرؤية التي مضى عليها أكثر من خمسين سنة ملامح عصرية استبقت أحاديث الإصلاح سواء في أوربا الشرقية أو في عالمنا العربي؛ ذلك أن آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وعلى رأسهم البابا بولس السادس (1963-1978) ذهبوا إلى أن ممارسة المهن والنشاط العالمي هي أمور من صميم اختصاص المؤمنين العلمانيين(5)، وإن كان هذا غير قاصر عليهم وحدهم، وعليهم حين يؤدون أعمالهم منفردين أو مجتمعين - كمواطنين في العالم - أن يحترموا القوانين الخاصة بكل نظام، وأن يصلوا في ممارسة أعمالهم إلى مستوى الكفاءة الحقيقية، وأن يرحبوا بالتعاون مع كل الذين يشاركونهم في أهدافهم، وإذا وضحت أمامهم فرصة لمبادرة في أعمال جديدة فلا يترددون بل ليعملون على تنفيذها، مرتكزين في ذلك على مقتضيات إيمانهم وضميرهم المرهف.

والمقطوع به أن القراءة التحليلية الرصينة لتلك العبارات تقودنا إلى يقين ثابت لجهة دعوة الكنيسة لمؤمنيها لأن يكونوا أدوات فاعلة إيجابية على صعيد التعاطي مع قضايا الوطن بوصفهم مواطنين، وفي الواقع فإن كل من يسهمون في إنماء الجماعة البشرية على الصعيد العائلي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي إنما يقدمون في الوقت ذاته عونا لا يستهان به للجماعة الكنسية؛ من حيث إن هذه الأخيرة مرتبطة بالعالم الخارجي.

المواطنة في سينودس الشرق الأوسط:

هل لنا أن نقفز خمسة عقود -أي منذ زمن انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في روما في ستينات القرن المنصرم إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين - لتبيان رؤية الكنسية لفكرة المواطنة ودور المواطنين لاسيما من أبنائها في بناء الأمم وترقي المجتمعات؟

بدعوة من البابا (الشرفي الآن) بندكتوس السادس عشر انعقد في حاضرة الفاتيكان- في الفترة من 10 وحتى 24 تشرين الأول أكتوبر 2010 - سينودس لجميع أساقفة الشرق الأوسط كان عنوانه " الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط.. شركة وشهادة"، وقد تجدد فيه الحديث عن دور العلمانيين أي كمواطنين في بلدانهم.. هل تغيرت الرؤية ما بين الفاتيكاني الثاني والسينودس المشار إليه؟ 

بالقطع لم تتغير بل تجذرت أكثر، لاسيما مع المخاوف التي كانت الداعي الرئيس لانعقاد هذا السينودس؛ أي وجود مسيحي الشرق الأوسط من الأصل، والعقبات التي تواجه حياتهم لاسيما ممارسة شعائرهم الدينية، والنظرة إليهم في أحايين كثر على أنهم ذميون لا مواطنون، والمفارقة أن أعمال هذا السينودس قد جرت قبل ثورات ما عرف بالربيع العربي، والذي أوصل العديد من التيارات الراديكالية الإسلامية إلى مقاعد الحكم مما عقد تلك المخاوف بشكل أكبر وأوسع من تلك التي كانت قائمة زمن انعقاد السينودس الأخير.

ومهما يكن من أمر؛ فإن الوثيقة النهائية(6) ترى أن المؤمنين من أتباعها- أي مواطني العالم العربي - رسل في العالم، يترجمون - بأعمال ملموسة - الإنجيل والعقيدة وتعليم الكنيسة الاجتماعي(7).

وتضيف الوثيقة "بالفعل يستطيع المسيحيون -لكونهم مواطنين كاملي الحقوق، لا بل يتعين عليهم- أن يقدموا، بروح التطويبات، إسهامهم فيصحبوا بذلك بناة سلام ورسل مصالحة لخير المجتمع بأسره(8).

كيف تشجع الكنيسة الكاثوليكية مؤمنيها في العالم العربي على المضي قدما في تحديات البحث عن طريق المواطنة الحقيقية الناجزة غير العاجزة عن تقديم المواطنين جميعا على قدم المساواة؟

تبرز واضحا هنا كلمات الحبر الروماني وفيها يوجه حديثه قائلا: "بما أن الاهتمام بالأمور الزمنية هو مجال عملكم الخاص(9)، فإنني أشجعكم أعزائي المؤمنين العلمانيين على تعزيز علاقات أخوة وتعاون مع الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة، للبحث عن الخير العام، والإدارة الرشيدة للخيرات العامة، والحرية الدينية، واحترام كرامة كل شخص".

يلفت الانتباه كذلك في توصيات البابا بندكتوس أنه يدفع في طريق المواطنة، دون أن ينادي بذلك بشكل جهري؛ إذ يدعو مواطني الدول العربية من المسيحيين إلى السهر بمعني التيقظ تجاه عدم الفصل بين الحياة الإيمانية المسيحية مع قيمها ومتطلباتها، وبين كافة مناحي الحياة، في العائلة أو في المجتمع، في العمل والسياسة والثقافة؛ لأن كل المجالات المتعددة لحياة العلماني تدخل في تدبير الله.

والخلاصة أن هناك مسؤولية تقع على عاتق مؤمني كنائس الشرق الأوسط لجهة إظهار تفاعلهم مع أوطانهم، من أجل إظهار روح المواطنة الحقيقية، وهنا يصح القول:إن الشرق الأوسط مختبر يحقق مستقبل الوضع الكنسي عربيا ومواطنيا دون جدال.

الوطن والمواطنة رؤية أرثوذكسية:

كيف تنظر الكنيسة الأرثوذكسية المصرية إلى العلاقة بين المسيحي والمجتمع، وبين الكنيسة والدولة في سياق سيادة منظومة المواطنة وروح القوانين والدولة ما بعد القبلية؟ 

لعل أفضل من قدم رؤية موضوعية صالحة للألفية الثالثة، وبروح استشرافية منذ بضع عشرات من السنين: اثنان من معلمي الكنيسة القبطية، الأنبا غريغوريوس أسقف عام الدراسات العليا اللاهوتية، والثقافة القبطية والبحث العلمي، والثاني هو الأب متى المسكين، الكاتب والمفكر، وتوما الأكويني العصر كما يطلق عليه الكثير من أتباعه وتلاميذه، وهو الراهب ورئيس دير أبي مقار في صحراء مصر، وكلاهما رحل عن عالمنا العقد الماضي.

حدث وقت كتابة الدستور المصري عام 1971 أن أرسل الأنبا غريغوريوس إلى اللجنة التحضيرية للدستور الدائم للدولة اقتراح حول علاقة الدين بالدولة(10) جاء نصه كما يلي: 

من الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي بالقاهرة.... ما دمنا نضع دستورا دائما للدولة العصرية، فالدولة العصرية في كل العالم يجب ألا تجعل الدين أساسا للتفريق بين المواطنين الذين تظللهم الدولة بعدلها، وعلى ذلك، وتأسيسا على عصرية الدولة، وتأكيدا لمبدأ تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، ومنعا من سوء استغلال النص على دين بالذات كدين للدولة أو دين للأغلبية فيها، ومنعا لسوء التطبيق في كافة الميادين أو بعضها، وتحقيقا للحرية الحقيقية لكل مواطن، وبعثا لروح الوطنية الصادقة والقومية المخلصة التامة، أقترح النص الآتي: "مصر دولة ديمقراطية اشتراكية ذات تراث فرعوني قديم، وعربي أصيل، يقوم بنيانها على ركيزتين أساسيتين وهما: العلم بكافة مستوياته وتفريعاته، والإيمان بالله وبالقيم الدينية النابعة من الأديان السماوية الكتابية"..

كان ذلك في 14 يونيو ـ حزيران لسنة 1971 أي منذ ما يزيد عن أربعين عاما من الآن، وهو أمر يدعو للتأمل؛ إذ بعد تلك العقود من هذه الرؤية الكنسية لفكر المواطنة المجرد عن مسارات الدولة الدينية، كان النقاش يتكرر من جديد، غداة وضع الدستور المصري الأخير، الذي أرى أنه شكل حجر عثرة بين المصريين وعلامة افتراق لا طريق للاتفاق.

هل كانت دعوة الأنبا غريفوريوس تحمل في طياتها رفضا لفكرة أن "الإسلام هو دين الدولة" كما يمكن أن يتراءى الأمر للبعض؟

ربما تبين للراحل مثلث الرحمات هذه الإشكالية، وعليه ففي 22 يونيو لسنة 1971؛ أي بعد أسبوع تقريبا من مقترحه الأول أرسل للجنة المعنية بوضع الدستور يقول: على أنني مع شدة يقيني واقتناعي المطلق بالنص الذي اقترحته إلا أنني أعود وأقرر توكيدا لهذا الاقتناع، بأنه إذا رؤي النص على أن الإسلام دين الدولة، كما جاء في البند الخامس من الدستور المؤقت في مارس 1964، فإنني أقترح عملا بالمبادئ الإنسانية السامية، وبتكافؤ الفرص لجميع المواطنين أن يضاف التعبير الآتي: "وتعترف الدولة بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية بصفتها الكنيسة الأم".

هذه الرؤية أضاف إليها الأنبا غريغوريوس تعديلاً جديداً في الوقت نفسه، فقد كانت المادة 34 من الدستور المؤقت لسنة 1964 تنص على أن: "حرية الاعتقاد مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب".

وهنا اقترح مثلث الرحمات حذف الجزء الأخير من المادة وهو: "طبقا للعادات المرعية... إلى آخر النص".. لماذا؟ لأن في تقديره عبارة العادات المرعية، عبارة غامضة مبهمة ويمكن أن يساء استغلالها وتطبيقها، ويمكن أن تنصرف إلى الخط الهمايوني الصادر في عام 1856، أو الفرمان المؤرخ 14/12/1874 أو إلى الشروط العشرة لقيود بناء الكنائس التي وضعها البعض في وقت ما وصارت قيداً على حرية إقامة بيوت للعبادة للمسيحيين.. وهنا اقترح أن يصير نص المادة 34 على النحو الآتي: "حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان، والعقائد، وتكفل الدولة حرية إقامة بيوت العبادة للمواطنين بغير قيد".

هل تجد المواطنة في عالمنا العربي وبحسب الرؤية الكنسية المتقدمة مسارا تقدميا إيجابيا؟ 

يبدو المشهد في واقع الحال عكس ذلك، والدليل أن ما اشتكي منه الأنبا غريغوريوس في سبعينات القرن الماضي على أساس أنه ينتقص من فكرة المواطنة، ويميل لطرح الدين كعامل تمايز واختلاف عاد وبأشد قوة، وبأكثر سلبية في الدستور المصري الأخير، والذي فيه تتقلص أطروحات المواطنة كنسيا وأزهريا على حد سواء.

متّى المسكين بين الكنيسة والوطن:

ربما لم يثْر كاتب راهبٌ عربي المكتبةَ العربية بكتابات عميقة كل العمق بقدر ما فعل الأب متى المسكين، حتى إن رسائل علمية قائمة بذاتها باتت تدور حول فكر الرجل الذي حلل وفكك ونظر لدور المسيحي في المجتمع، وللعلاقة بين الكنيسة والدولة، ما بين الوطنية والطائفية، وقد حذر دائما وأبدا من الآثار السلبية للمد الراديكالي على صورة الدولة المدنية، وفيها المواطنة "حجر الزاوية" الأساس للبناء.

يلفت الأب متى المسكين بداية إلى أن العالم فيما مضي كان لا يتغير شكله إلا مرة كل قرن تقريبا(11)، أما الآن فالعالم يستهدف لتحولات هائلة شديدة الجرأة سريعة لا تتجاوز في انسلاخها الكلي أكثر من ربع قرن، وعليه فإن التساؤل ما هو موقف المسيحي من المجتمع في ظل مثل هذه التطورات التي تتطلبها معطيات كل عصر؟ 

في نظر الأب متى المسكين، أولا أنه لكي يؤدي المسيحي رسالته داخل المجتمع فإنه يلزمه أولا أن يقبل هذا المجتمع بل يحبه، ويحبه بالرغم مما فيه من تيارات خطيرة وشر وفساد قد لا توافق الذوق ولا الضمير المسيحي.. هل هذه دعوة أولية فكرية مسيحية للانخراط في خضم معارك الحياة والأوطان؛ أي أنها دعوة للمواطنة وإعلاء قيمتها وقيمها وللنأي بعيدا عن روح الانعزالية، وسكنى الجيتو؟

لعل الذي يتأمل حياة وأقوال وكتابات هذا الراهب المصري يدرك الرؤية الكنسية وراء طرح المواطنة عن حق وكيفية عيشها بواقعية وفعالية، وبعيدا عن الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة.

يحدثنا الأب متى المسكين(12) عن فترة مهمة للغاية في حياته، مثلت بالنسبة له عمق فكر المواطنة فيقول: "لا أنسي أني في فترة ما من حياتي (ربما 1962 على حد تذكره) ازداد شعوري جدا بالظلم الذي يعانيه الفلسطينيون، وفكرت جديا أن التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية لأعمل في صفوفها في فرقة الإنقاذ كصيدلي (هو في الأصل صيدلي قبل أن يلتحق بالرهبنة).

لم تكن رهبنة الأب متى المسكين داعيا للتخاذل عن التفاعل مع الوطن من حيث توجهه السياسي، كانت مصر في ذلك الوقت خير داعم للقضية الفلسطينية، وبروح الراهب/المواطن، وإن لم يكن مصطلح المواطنة وقتها يملأ الأجواء؛ لأنه كان معاش بالفعل، بدت رؤاه وأفعاله وكتاباته تتسق وفكرة المواطنة التي لا تتوقف عند حدود العرق أو اللغة أو الجنس أو الدين، كان متى المسكين رؤيةً مواطنية حقيقية على الأرض.

يقص علينا ردود أفعاله تجاه ما جرى عام 1967، لاسيما بعد أن علم بهزيمة مصر، فيقول(13): استمعت للإذاعة المصرية وحزنت حزنا مريرا جداً أمرضني، عندما كنت استمع إلى وقائع الانهزام وعودة الجند عراة، وتنحي جمال عبد الناصر. ويضيف: "لم أطق الموقف وجمعت الرهبان، والتقيت بهم وألقيت في وسطهم محاضرة شرحت فيها أسباب الهزيمة، وكتبت أول كتاب نزل من المطابع بعد الهزيمة باسم "ما وراء خط النار"، وأرسلت نسخة منه للرئيس جمال عبد الناصر باليد وتقبلها وأرسل لي خطاب شكر وامتنان".

على أن الأهم من ذلك كله أنه منذ قيام ثورة يوليو 1952، والأب متى المسكين كان ينادي بضرورة الانضمام إلى ركب العمل الوطني، وعدم التخلف عن المناداة بالاشتراكية التي كانت سائدة آنذاك، وإزاء الأخطار المهددة لمصر كتب وقتها سبعة مقالات عن الاشتراكية من وجهة نظر مسيحية..

بأي روح أذكى متى المسكين وكتاباته حركة المواطنة في مصر في هدوء وسكينة مسترجعاً عبر الماضي وخبرات الزمن الجميل؟

كان الرجل عندما يكتب في الأمور الوطنية يكتب بروح الأقباط، وبحاسة وطنية روحية، ترتفع بمستوى الأحداث ومستوى القارئ إلى هدف أعلى، وإلى سلوك وطني مخلص لمنفعة الأمة كلها وبالتالي الأقباط.

وفي هذه الرؤية أيضا كان الإحياء لحقائق تاريخية حول أقباط مصر في أوائل القرن العشرين، وكيف أنهم كانوا في حزب سعد زغلول وحزب الوفد يمثلون عقل الحزب الروحي وشجاعته، والأسخياء منهم كانوا أهم الذين يمولون الحزب بالمال، وباختصار القول كان الأقباط - وعبر رؤاهم الشخصية وفي تفاعلاتهم مع التوجهات الكنسية - يشعرون أنهم جزء من الوطن، وأن دماءهم رخيصة لفدائه في أي موقع، وهذا ما جعل "سنيوت حنا باشا" يتلقى طعنة السنكي عوضا عن "سعد زغلول" ليلقي مصرعه فداء لرمز الأمة.. هل بعد ذلك مثال حي على المواطنة الحية الفعالة؟!

متى المسكين هو مثال حي متجدد لرؤية تقول بأن "الوطن السمائي لا يلغي وجود الأوطان، والسعي نحو الوطن السمائي لا يشمل معنى إنكار الأوطان.. والحنين الذي ينمو في الإنسان جسديا نحو وطنه الأرضي لا يعطل الحنين الذي ينمو في الإنسان روحيا نحو وطنه الأعلى"(14).

البروتستانتية العربية بين المواطنة والانعزالية:

لا تكتمل الرؤية الكنسية في واقع الحال لهذه القضية الحيوية دون التوقف أمام رأى وتوجهات خطاب الجماعات الدينية البروتستانتية، ولأن عددها يتجاوز في حقيقية الأمر الستمائة جماعة، فإننا نغلب مناقشة رؤى أكبر جماعة فيها أي "الإنجيلية منها" والمؤكد أن وجودها في الغرب بكثافة لا يعني أن أتباعها في الشرق ليست لهم آراء تجاه فكر المشاركة والمواطنة، وبناء الأوطان ومسيرة التقدم.

يطرح القس الإنجيلي "جون ستوت" علامة استفهام مهمة ومثيرة في ذات الوقت: "لماذا يجب على المسيحيين أن ينخرطوا في المجال العام ويؤدوا دورهم كمواطنين صالحين في خدمة أوطانهم؟ (15).

يرى أن هناك في آخر الأمر موقفين يمكن للمسيحيين أن يتبنوهما تجاه العالم: أولهما: موقف الهروب. والثاني: موقف الارتباط.

والهروب يعني أن ندير ظهورنا للعالم علامة للرفض، وأن ننفض أيدينا منه، وأن نقسي قلوبنا ونسد آذاننا في مواجهة صرخات الأنين التي تطلق طلبا للعون.

أما "الارتباط" فهو أن ندير وجوهنا صوب العالم، وبقلوب عامرة بالحنان والمحبة بحيث تتسخ أيدينا وتتورم وتتقرح في خدمته، ونحن نحس في داخلنا بمحبة الله غير المحدودة العاملة فينا.. هل يعني ذلك في الفكر الإنجيلي المسيحي أنه على المؤمنين أن يكونوا بأنفسهم مراجع في كل مجالات الحياة؟ 

الثابت أنه من المشكوك فيه ما إذا كان على الكنيسة بالذات أن توصي بانتهاج سياسات معينة ومفصلة. 

وإليك كمثال: وليم تمبل "رئيس أساقفة كانتربري (أي الكنيسة الإنجليكانية) وهو من أكثر شخصيات هذا القرن اهتماما بالأمور الاجتماعية والمواطنة والذي أوضح الحاجة إلى التفريق بين المبادئ والسياسات.. فقد كتب عام 1941 عن استمرار الفقر وسوء التغذية في بريطانيا وعن الحياة الصناعية في البلاد... التي لحق بها الخزي من جراء البطالة المزمنة(16)، ومضي إلى القول...: "إن الكنيسة مؤهلة لإدانة المجتمع الذي يتصف بالشرور؛ بل هي ملزمة بذلك؛ لكنها ليست مؤهلة بإمكاناتها المشتركة لتؤيد علاجات محددة، وبدلا من ذلك على الكنيسة أن توحي لأعضائها - سواء أكانوا من السياسيين أو موظفي الحكومة أو رجال الأعمال أو نقابات العمال، أو في أية مجالات أخرى - أن يسعوا إلى أيجاد السبل المناسبة لمواجهة هذه المشاكل والعمل على تطبيقها. 

وبعبارة أخرى على الكنيسة أن تضع المبادئ، وعلى المواطن المسيحي أن يطبقها، وفي سبيل ذلك عليه أن يستخدم أجهزة الدولة وإمكانياتها". كذلك لا تستطيع الكنيسة أن تبين كيفية تنفيذ ذلك، فرسالتها قاصرة على التشديد في المطالبة به فحسب.

ومن الأصوات البروتستانتية الأجنبية إلى العربية والمستشار وليم سليمان قلادة الذي يرى أن هناك نوعين من الحقوق: الحقوق المدنية والحقوق السياسية(17).

الأول يؤمن لكل فرد في المجتمع حق التعبير والملكية وغيرها من الحقوق المدنية.

أما الثاني فهو الأهم حيث يمثل الحقوق السياسية والمشاركة في الحكم، من خلال المشاركة في المؤسسات التشريعية والسياسية؛ فالمواطنة تتحقق من خلال ممارسة الحقوق السياسية. والمساواة لا تتحقق إلا من خلال المشاركة السياسية، مما يترتب عليه أن كل الأفراد يكون لهم الحقوق نفسها، وعليهم الواجبات نفسها، ومن هنا تصبح المواطنة حقيقية من خلال الانتماء للتراب الوطني والمشاركة والمساواة.

هل ينهي مفهوم المواطنة عند الكنيسة الإنجيلية فكرة أهل الذمة؟

هم يرون بالفعل ذلك كذلك، ومرجعهم في الأمر كتابات المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد سليم العوا، الذي يؤيد فكرة انتهاء عقد الذمة من خلال الكفاح المشترك بين المسلمين والمسيحيين، من أجل الاستقلال، حيث روت الدماء المشتركة المواطنة؛ بل إن العوا يقدم رأيا أكثر تقدما بإعلانه أن الذمة عقد وليس عهدا، وبغياب أحد بنود العقد ينتهي هذا العقد(18).

ذلك أكد كل من المفكر الإسلامي الدكتور أحمد كمال أبو المجد، والكاتب الإسلامي الكبير فهمي هويدي انتهاء فكرة أهل الذمة، وضرورة تطوير فقه جديد يتناسب مع المفهوم السياسي المعاصر(19).

تقدم الكنيسة الإنجيلية العربية كذلك رؤية مقارنة لعالمية العقيدة ونظرية المواطنة، وفيها يتحتم التمييز بين المواطنة كأساس للدولة القطرية وكبناء سياسي مؤسسي على المساواة والمشاركة، وبين العقيدة التي تسعى إلى بناء العلاقة المباشرة مع الله(20)، فالعقيدة هنا طريق لفهم النص وتعبير عن أسلوب عبادة واقتناع وممارسة، لذلك عندما نخلط بين المواطنة كمنهج سياسي والعقيدة كنموذج عالمي للعلاقة بين الإنسان والله يحدث التباس وارتباك.. هل في المسيحية وحياة السيد المسيح ودعوته العلنية ما يدعم هذا الطرح؟

في المراحل الأولي من خدمته أعلن السيد المسيح أن رسالته موجهة إلى الأمة اليهودية فقط؛ إلا أنه في مرحلة تالية اتسمت بالتدرج أعلن أن رسالته تتخطي حدود الديانة والقومية والهوية إلى نطاق العالمية. 

وفي تصريح السيد المسيح بأن رسالته للعالم قدم لسامعيه نقطة تحول مهمة وصادقة وغير تقليدية، فقد أسقط - من خلال التأكيد على عالمية الرسالة - مفاهيم كثيرة كانت سائدة مثل تميز شعب إسرائيل بوصفه شعب الله المختار، أو ارتباط الدين بالقومية والأنساب؛ أي إسقاط مفاهيم هلاك الآخر، وتدمير حواجز التميز والأنانية. ويعد مثل السامري الصالح(21) نموذجا واضحا لهذه القضية، فقد كان الصراع العرقي والعقائدي بين السامريين واليهود حادا ومتوهجاً، وإذا أردنا أن نتعرف بعمق على طبيعة هذا الصراع وتفاعلاته، علينا تصوره في موقف معاصر، فمثلا إذا نظرنا إلى الجانب العرقي من هذا الصراع في واقعنا المعاصر، لوجدنا أن الصراع بين العرب واليهود يعد نموذجا جيدا لصراع عرقي يحمل في أعماقه كراهية وحقدا وخوفا ورغبة في تدمير الآخر والقضاء على هويته.

من هذا المنطلق نؤكد على أن موقف السيد المسيح من عالمية رسالته ارتبط بالإنسان على أساس الفصل بين نظام الحكم المؤسس على القومية والمواطنة، وبين الإيمان الذي يمثل علاقة شخصية مع الله. تؤكد التيارات الإنجيلية العربية كذلك على أن السعي في طريق المواطنة هو عملية طويلة ومستمرة؛ إنها تمثل حلما موازيا لذاك الذي حلم به مارتن لوثركنج للأمريكيين من أصول أفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينات القرن الماضي(22)، عندما قاد في أغسطس 1963 مظاهرة تاريخية في واشنطن احتشد فيها أكثر من مائتي ألف نسمة، وقدم فيها أشهر وأفضل خطاب له بعنوان "عندي حلم" ولا يغيب عن القارئ أنه كان قسا إنجيليا بدوره، وقد قال: "عندي حلم أن يعيش أولادي الأربعة الصغار يوما ما في بلد لا يعرفون أو يوصفون فيه بلون بشرتهم بل بمحتوى شخصياتهم، عندي حلم أن يأتي يوم يسمح فيه حاكم ولاية الآباما بأن تتشابك أيدي الأولاد والبنات السود، مع الأولاد والبنات البيض، وأن يسير الجميع معا كإخوة وأخوات".

كان الرجل دعوة مبكرة للمواطنة بروح كنسية أنجيلية حتى لو كلفه الأمر حياته.

في التعددية وحديث تجليات الألفية:

ما من شك في أن المواطنة على النحو المتقدم والحديث عنها أمر تستتبعه أحاديث ومناقشات مطولة حول قضايا فرعية متصلة لا يمكن لأحد أن يفصلها فصلا قسريا عن الإشكالية الأم، والتعددية كرؤية عصرية هي -ولا مراء- تجلّ من تجليات المواطنة، والمواطنة والتعددية معا يدوران في فلك إفرازات عالم ما بعد الحداثة، والذي اتفقنا على إطلاق اسم "تجليات الألفية الثالثة" عليه.. ما هي ملامح التعددية كما تذهب إليها الرؤى الكنسية المتباينة؟ وكيف باتت النقاشات من حولها تحتل مكانة متقدمة على موائد الحوار، حتى لا يضحى "الآخر هو الجحيم" كما قال الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر ذات مرة؟ وهل تعني التعددية فرض آرائنا قسراً؟ أم التعاطي بالحجة والإقناع في عالم يعد فيه الحوار سمة من سمات الدول المتحضرة، حيث الاختلاف يثري ولا يضر على عكس العوالم النامية والرجعية؟

ربما ينطلق الحديث في هذه الجزئية من تلك القراءة من لبنان على نحو خاص، لاسيما أنه البلد العربي الذي تتجلى فيه فسيفساء التعددية، بأبهى صورة، رغم ما عاناه من آلام الاحتراب الأهلي والطائفي.

بداية يمكن القول:إن الكنيسة المشرقية والغربية على حد سواء تنظر إلى التعددية - لاسيما الدينية منها - على أنها مصدر غنى وثراء يميز هذه المنطقة من العالم، أي منطقة الشرق الأوسط؛ لا بل إنها ترى فيها ضرورة لتفاعل ثقافي حضاري إيجابي. 

وقد أكدت الكنائس العربية خاصة على ضرورة الاشتراك في مسيرة واحدة يحكمها الانتماء إلى شرق تتوحد فيه الهوية، وتتفوق فيه المواطنة في القيام بمسؤولية البناء والإصلاح، محملة المسيحيين دور محاربة الشرور على أنواعها في مجتمعاتهم من أجل بناء مجتمع أكثر عدلا وتضامناً(23).

هل التعددية إرادة ربانية من وجهة النظر الكنسية-المسيحية؟

تؤمن المسيحية بأن هناك خالقا مطلقا واحدا أحدا لجميع البشر والأكوان، هذا الخالق هو مصدر الكل، إنه ذاته الذي يحتفي به "الوحي الكوني" والذي يتجلى في مزامير داود النبي: "السموات تتحدث بمجد الله، والجلد يخبر بما صنعت يداه.. النهار للنهار يعلن أمره، والليل لليل يذيع خبره"(24). هذا الكون لفت انتباه البشر منذ ما قبل الأديان التوحيدية، وجميعها - بقدر اختلافاتها السابقة واللاحقة على ظهور الأديان السماوية ومع انتشار دعوات التوحيد يهوديا ومسيحيا وإسلاميا - تلاقت من حول الاعتراف بوجود قوة كونية، كانت وراء الخلق التعددي أجناسا وألوانا، ألسنة وعقولا، وكأن الله تعالى يكشف عن ذاته للخليقة كلها؛ ليتعارفوا ويتلاقوا متعددين في الواحد.. ولعل الرؤية الكنسية لفكرة التعددية تنطلق من الإيمان واليقين بأن أحدا لا يمتلك المطلق الجوهري، وأن أحداً أيضا لا يحوز الحقيقية الكاملة دون غيره من البشر. 

في كتابه الذي يعد أول المصنفات العلمية العربية التي تناولت موضوع التعددية الشائك بدراية فائقة وإحاطة شاملة من كل جوانبه، يحدثنا الدكتور "مشير باسيل عون"(25) عما يسميه سر الأسرار، وهو الله تبارك اسمه ذلك "سر الأسرار" لا تدركه الأبصار، ولا تعقله الأذهان، ولا تستغرقه الألسنة، ولذلك ينبغي للأديان أن تقر بعجزها المطلق عن الإمساك بجوهر السر الإلهي".

ما الذي يفيدنا من هذا الإقرار؟

هذا الإقرار بالعجز عن إدراك الله في جوهره، لا فيما كشفه عن نفسه للبشر يفترض تواضعا كبيرا لدى أهل المسيحية في مقاربة مكانة الأديان الأخرى في تصميم الله.

ماذا يعني ذلك؟ 

باختصار غير مخل يعني أنه ليس هدف المسيحي أو المسيحية استيعاب واحتواء الآخر عبر الهيمنة أو الاستعلاء؛ بل إن المسيحية هي ديانة القبول بالتنوع الديني الذي تختبره البشرية عبر تاريخها.

يفيد هذا العمل المتميز جداً الباحث الكنسي عن حقيقة وما ورائيات التعددية في بلورة رؤية مسيحية كنسية رصينة، وإن كانت صادمة للبعض لاسيما أصحاب النظريات اللاهوتية التقليدية، ويخلص إلى أن الرؤية الكنسية لا يمكن أن تطرح ذاتها في ثياب من الاقتدار والتسلط وفرض الذات بالإكراه، بل في إظهار عظمة الحب الإلهي لجميع الناس في غير تمييز(26) ولا تفرقة، والمسيحية كسيدها مدعوة إلى الاقتداء بهذا الإخلاء الإلهي: فلا تكون فرادة المسيحية حينئذ استعلاء؛ بل اتضاع لا يحرم الآخرين من فرادتهم" وأن الحقيقة مصهر التنقية لجميع الفرادات في منتهى الدهر".

لقد استخدم مصطلح التعددية أحيانا في الفكر السياسي للقرن العشرين للتعبير عن ثقافة سياسية لا مركزية، ثقافة تتطلع إلى تعددية المراكز الفاعلة في المجتمع، بدلاً من الثقافة التي تعطي الدولة الصلاحية لفرض كل شيء من أعلى إلى أسفل.

والمجتمع التعددي بحسب العديد من علماء الاجتماع والاجتماع السياسي هو مجتمع تطورت فيه مبادرات وقدرات المجتمع المدني لأقصي درجة ممكنة. وتفترض التعددية بهذا المعني وفي هذا السياق السياسي رؤية بعيدة كل البعد عن الهرمية والمركزية للنظام الاجتماعي، وتتحدى النظرة المتسلطة والقهرية لسيادة الدولة الوطنية والسيطرة المطلقة للهيكلية السياسية.

يثور هنا تساؤل: "هل للتعددية بهذا المعنى جذور كنسية مسيحية"؟ الجواب نجده عند رئيس أساقفة الكنيسة الإنجيلكانية السابق " د. روان ويليامز(27)"، والذي يذهب إلى وجود تلك الجذور خاصة في الدراسات المسيحية التي وضعت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بل وفي بعض الدراسات اللاهوتية للقرنين السادس عشر والسابع عشر في بدايات الحركة الإصلاحية في أوربا والتي كانت امتدادا للإصلاحات التي استهدفت المفاهيم السياسية والاجتماعية.

وعند روان ويليامز كذلك أن التعددية بهذا المعنى تتعلق بالإصرار على أن الشرعية لأي نشاط اجتماعي، ولأي التحام أو تجمع على مستوى المجتمع، هي شرعية لا تمنحها الدولة ذات السلطان المطلق لرعاياها التابعين لها؛ بل على العكس من ذلك تستمد الدولة شرعيتها من نجاحها وإدارتها الخلاقة للعلاقات بين مؤسسات المجتمع المدني المتنوعة، والفئات الدينية المختلفة، وكذلك فئات المجتمع الأخرى(28). 

والشاهد أن رؤية الكنيسة - لاسيما في مشرقنا العربي لفكرة التعددية- تتجاوز الاكليروس والمجامع المسكونية إلى كبار المفكرين المسيحيين من العلمانيين.

على سبيل المثال يرى الكاتب والمفكر اللبناني "جورج قرم"(29) أن هناك نوعين من التعددية؛ إذ يدل التاريخ على وجود تعددية داخل الدين الواحد، وتعددية داخل الأديان المختلفة، وبحسب معطيات التاريخ فإن التعددية في قلب الديانة الواحدة قد تكون أصعب من التعددية بين أبناء الديانات المختلفة.

ويقر بأن الكنيسة الكاثوليكية قد وصلت إلى شاطئ الأمان عبر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي بالفعل أخذ العبر من تاريخ الكنائس المختلفة فأحدث انفتاحا مطلقا على الديانات الأخرى السماوية من جهة وأيضا الديانات غير السماوية.

أما النوع الثاني من التعددية ففي الديانات السماوية وهي الديانات الثلاثة (اليهودية، المسيحية والإسلام) والديانات التي تمارس عقائد تقبل بتعددية الآلهة كالوثنية.

هنا يطرح قرم سؤالا جوهرياً: كيف نوفق بين الوحدة وبين التعددية؟ والجواب عنده أن التوق إلى تحقيق الوحدة في البشرية موجود في الترتيل الإلهي وفي الديانات السماوية الثلاثة وتنزيلاتها؛ بينما الشعوب الآسيوية تقبل بأن يكون الواحد بوذيا وفي الوقت نفسه يبقى مسيحيا أو مسلما.

هل تولدت بالفعل نظرة كنيسة كوسمولوجية لفكرة التعددية وقبول الآخر؟

قطعا إن ذلك كذلك؛ إذ ثبت للمجامع الكنسية وغالبية أن لم يكن كل اللقاءات والمؤتمرات في العقدين الأخيرين أن مسألة التعددية وقبول الآخر باتت تتجاوز حدود الدولة الوطنية، ورسخ يقين عند الجميع بأن العالم اليوم هو عالم تعددي، ونتيجة للتطور الشامل الذي يتوسع باستمرار نشأت "قرية عالمية متعددة ومتنوعة، وأضحى الناس فيها يطلع بعضهم على بعض بسهولة.

هل الأديان المختلفة عقبة في طريق قبول فكرة التعددية؟

يرى البروفيسور "نور كلش مجيد" - من معهد إندونيسيا للعلوم ومقره جاكارتا - أن على أهل الإيمان أو ذوي الديانات الذين يعيشون في هذه "القرية العالمية" أن تكون لديهم رؤية دينية تطابق قناعتهم الدينية وقناعات الجماعات الدينية الأخرى مع أخذ الفوارق بين المجموعات المختلفة بوعي إيجابي. وأنه على كل جماعة مؤمنة أن تفهم التاريخ بشكل يتيح لها أن تدخل في حسابها الوعي الذاتي عند كل جماعة، وأن تراعي أيضا التنوع الراهن، مما يعني وجوب قيام حوار دائم بين شتى التقاليد الدينية. والثابت ولاشك أن رؤية الكنيسة العربية تحديدا لإشكالية التعددية قد باتت تنظر إلى ما هو أبعد من الاختزال أو التمحور في وحول قضايا بعينها.

هنا يؤكد الكاثوليكي اللبناني الدكتور "أنطوان مسرة" أمين سر اللجنة الأسقفية المارونية لوسائل الإعلام أن: "ما يهمنا مستقبلا هو حماية التعددية الدينية عربيا بآفاق جديدة، وأن ما يقتضي بالفعل تجنبه هو اختزال التعددية الدينية في قضايا فرعية مثل: الحضور المسيحي، الأصوليات، الحوار الثقافي بين الأديان.. في حين تهدد المجتمعات العربية عدوى الصهينة، أي ضرب تعددية نسميها التعددي الديني من خلال الترادف بين مساحة جغرافية وهوية دينية متجددة.

ويبقي الآن السؤال: هل من إطار أو رؤية مشتركة كنسية للمواطنة والتعددية في العالم العربي، حتى ينتقل الحديث من دائرة التنظير الفكري والدوجمائي إلى ميدان العمل مع بني البشر على الأرض؟

المواطنة والتعددية والثقافة الوطنية:

هل نحن في عالمنا العربي في حاجة إلى لاهوت تحرير عربي على غرار لاهوت التحرير الذي عرفته دول أمريكا اللاتينية في ثمانينات القرن المنصرم؟

المقطوع به هو أن هناك حاجة أخرى تسبق تلك الحاجة، تلك التي تتعلق بـ"إعادة بناء الثقافة الوطنية من مستواها الإلهي إلى مستواها الإنساني في عصر حقوق الإنسان"(30)، هذا ما يؤكده المفكر المصري الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة الشهير، وعنده أن الله غني عن العالمين، ولا يحتاج لدفاع البشر عنه وإثبات وجوده وحقوقه. الإنسان أولى بالدفاع، فحقوقه منتهكة، ووجوده مستلب في غيره، وقد وصف الله نفسه بلغة البشر، وخاطب البشر، وأرسل إليهم الرسل.. ماذا يعني ذلك؟ 

يعني: أن الوحي متجه نحو الناس، يصف حقوقهم وواجباتهم ومن يدافع عن الإنسان وكرامته فإنه يدافع عن خلق الله، وعمن كرمه الله في البر والبحر، وجعله خليفة له في الأرض، وعمن قبل الرسالة والأمانة بعد أن رفضتها السموات والأرض والجبال خشية منه.

هل من مهام رعاة الكنيسة التدخل المباشر في البناء السياسي وتنظيم الحياة الاجتماعية والتعاطي مع أطروحات المواطنة والتعددية، عطفا على حقوق الإنسان والحريات العامة، والأوضاع الاقتصادية والثقافية وكافة مناحي الحياة؟

قطعا ليس من مهام رعاة الكنيسة ذلك، فهذه المهمة هي جزء من دعوة العلمانيين في المجتمع بمبادرتهم الخاصة مع مواطنيهم(31)؛ فالعمل الاجتماعي - الذي يفترض تعددية الطرق العينية - يجب أن يأخذ في الاعتبار دائما المصلحة المشتركة، وأن يكون مطابقا للرسالة الإنجيلية ولتعاليم الكنيسة، ويجب أن نتجنب أن يكون اختلاف الهدف مضراً بمعنى التعاون، أو يقود إلى شلل المجهودات أو يسبب بلبلة الشعب.

هل من أمثلة واقعية يمكن أن نقيس عليها الرؤى النظرية السابقة سواء للمفكر الإسلامي د. حسن حنفي أو للأب اليسوعي وليم سيدهم صاحب الرؤية الأخيرة؟

إليك بعض الأمثلة التي تبرز الدور الفاعل للكنيسة القبطية في مصر تجاه دفع مواطنيها في سبيل تجذير فكر المواطنة، وممارسة حياة التعددية، دون استعلانات دعائية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن(32).

1. لقد استشعر المسيحيون ضرورة التعليم، ففتحوا المدارس لجميع المصريين على اختلاف انتماءاتهم، في وقت لم يكن قد بدأ التعليم الإلزامي، وأسهموا في خلق أجيال من المفكرين الذين عملوا على ارتقاء البلاد.

2. أيد المسيحيون الثورة العرابية وثورة 1919، كما شاركوا جنبا إلى جنب إخوانهم المسلمين في حرب 56 و67 و73، فلم يتعارض إيمانهم مع التزامهم الدفاع عن وطنهم واستقلاله.

3. اهتمت الكنائس المسيحية بمناصرة القضية الفلسطينية وما زالت؛ بل شارك المسيحيون في حرب 1948. وتقف الرئاسات الكنسية الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية موقفا مناصرا للشعب الفلسطيني في جميع المحافل الدولية، وتطالب باسترداد حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة.

4. شارك المسيحيون في النضالات الوطنية الخاصة بحق التعبير (الصحافة)، وحق تنظيم الانتماء إلى الأحزاب المختلفة وممارسة الحقوق السياسية والديمقراطية.

5. أنشأت مختلف الكنائس المؤسسات الاجتماعية التي تهتم بالطفل والمرأة....

يتساءل المرء بعد هذه النظرة للمشاركات الكنسية ـ المسيحية المصرية: هل باتت حقوق المواطنة قائمة بشكل يتسق وهذا الدور أم أن هناك نقدا واضحا لحالة المواطنة المصرية من وجهة نظر كنسية؟

في كتابه القيم "مسيحيو مصر إلى أين؟ (33) يحدثنا المستشار نجيب وهبه عن مثال لحالة حقوق المواطنة في مصر عبر إشكالية بناء الكنائس والمواطنة المنقوصة فيقول: "تخدم إحدى الكنائس ما لا يقل عن عشرين ألف نسمة في منطقة فقيرة، وبينما تبلغ مساحة هذه الكنيسة ألفا ومائتي متر مسطح، فإن المساحة التي تقام بها الشعائر الدينية لا تتعدى الثلاثمائة متر.. هي في الحقيقة (عشة صفيح).. فكيف تكفي مساحة صغيرة كهذه أن تخدم شعبا غفيرا كهذا؟ ويضيف متسائلا: من يحل لنا هذه المعادلة الصعبة؟ إن ممارسة شعائر العبادة فيها هي في الحقيقة رحلة عذاب للأطفال والكبار... أليس من حق المواطن المسيحي أن يجد مكانا مقبولا معقولا يتعبد فيه؟ ولا يمثل الازدحام الرهيب كل المشكلة، ولكن السقف الصاج للكنيسة لا يوفر للمصلين الحماية، فيعانون من حرارة الشمس صيفا، ومن هطول الأمطار شتاء!!... لا ندري في واقع الحال ما الذي تستفيده الحكومة المصرية من تعذيبنا بهذا الشكل.. يقول مؤمنو تلك الكنيسة: وماذا يستفيد أي مسئول مصري حر من تعذيب إخوته المسيحيين في الوطن بهذه الصورة؟

لاهوت تحرير عربي.. تجليات الألفية:

يتساءل المرء في نهاية هذه القراءة السريعة عن الرؤية الكنسية لحقائق المواطنة والتعددية عن حتمية وجود "لاهوت تحرير عربي" مواز لنظيره في أمريكا اللاتينية مع الأخذ في عين الاعتبار بالتأكيد الفروقات السياسية والاجتماعية والثقافية للشعوب، وكذلك في ضوء عدم اليقين بما يمكن أن تسفر عنه التغيرات المستقبلية في عالمنا العربي بسبب حالة الفورات والثورات التي أطلق عليه "الربيع العربي".

في هذا السياق يمكننا أن نقدم عدة توصيات تراها الكنيسة داعمة ومساعدة لتجذير أفكار المواطنة والتعددية في الألفية الجديدة وبما يتسق وشرعة حقوق الإنسان لاسيما (المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).

تجذير حب الوطن والمواطنة:

لابد من أن يكون الطريق نحو المواطنة والتعددية مُعبّدأ بحب الوطن والحث على القيام بخدمته بقلب طيب وإرادة خلاقه. في هذا الشأن نتذكر ما أوصي به المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني جميع المؤمنين بمراعاة النزاهة في كل نشاط من شأنه أن يوقظ في كل إنسان حب الحق والخير؛ إذ يقول: "ينبغي أن يشعر الكاثوليك بأنهم ملتزمون بتنمية الخير الحقيقي المشترك في الإخلاص للوطن وفي تحقيق واجباتهم القومية، وليجتهد الكاثوليك في التعاون مع جميع الناس ذوي الإرادة الصالحة، من أجل تنمية كل ما هو حق وعدل ومقدس وجدير بأن يحب وليدخلوا في حوار معهم، ذاهبين إليه بفطنة ورقة(34).

تعميق الولاء بمفهومه الواسع:

أفضل السبل التي تراها الكنيسة في سياق تخليق لاهوت تحرير عربي حديث هو تعميق الولاءات والانتماءات بحيث تتساوق دون أن تتقاطع أو تتعارض انطلاقا من مقولة السيد المسيح: "أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"(35)، ما يعني أن العمل السياسي والحزبي والشعبوي لا يتعارض مع روح الإيمان والخدمة الكنسية، فالقديس جيروم يؤكد أن "مجد لله هو الإنسان الحي"، وعليه تدعو الكنيسة مؤمنيها للانخراط في فكر لاهوتي جديد يعترف بعمق الوطنية، ويؤمن بقدسية التعددية في العقيدة والهوية.

الإصلاح بين التعليم والإعلام:

تؤمن الرؤية الكنسية بأن الإصلاح الذي يحقق مواطنة كاملة وتعددية نموذجية أمر لا يتأتى بين عشية وضحاها، إنها عملية طويلة وشاقة، ولها مرتكزان أساسان: الأول: هو التعليم؛ حيث عملية غرس بذور الوحدة والألفة والمحبة بين الأجيال الصاعدة، والتمسك برؤية تعليمية إبداعية غير تلقينية، فيها من المشترك العام الأخلاقي وما يعرف بالقوة الأخلاقية Force Morale الكثير الذي يعد أساسا نموذجيا وإطارا معرفيا ومنهجيا للعقود القادمة.

أما الثاني فإنه الإعلام؛ ذلك أنه إذا كان قد قيل في زمن الإمبراطورية الرومانية:إن من يعطي الخبز يعطي الشريعة، فإن من يمتلك أبواق الإعلام ونواصيه اليوم لهو المسهم الأكبر في السير نحو طريق الاتفاق، أو الزج بالجميع إلى حافة جرف الافتراق.

إصلاح الخطاب الديني:

لن تستقيم أحوال المواطنة والتعددية دون إدخال إصلاحات جدية على الخطاب الديني الذي إما أنه ينظر للآخر نظرة مفادها "أنت أخي وأنا أحبك"، وأما أن يطلق في مواجهته سيل اتهامات التكفير والتجريح التي تقود إلى حد القتل وإهدار النفس البشرية.

في هذا السياق تركز الرؤية الكنسية على رسالتها في العالم المعاصر، لاسيما فيما يخص قضايا الوطن والمواطنة في بضع نقاط(36) هي:

• رسالة الكنيسة غير قاصرة على الأفراد؛ إنما تشمل الجماعات والفئات والمجتمع بأسره.

• رسالة الكنيسة غير قاصرة على الروحيات؛ إنما الشخص بكاملة كوحدة لا تتجرأ.

• لا ثنائية ولا انفصال بين الله والإنسان، بين السماويات والأرضيات، بين الكنيسة والعالم، وبين الروح والجسد.

تنمية ثقافة العمل المشترك:

تذهب الرؤية الكنسية ولاشك مع فجر أو ضحى الألفية الجديدة إلى أن قوة الإيمان الراسخ - كما يراها البروفيسور كريستيان ترول اللاهوتي في معهد سان جورجيان في فرانكفورت بألمانيا، واللازمة للتغلب على المشاكل العلمية وحلها - تتطلب العمل المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وأخلاقيات التعاون تتضمن الشفافية والاحترام والحساسية وبذل جهود كبيرة للتغلب على مشاكل الصراع الثقافي من خلال العمل الإنساني المشترك. فالاحترام المتبادل يظهر من الرفقة المشتركة لمختلف الأديان، ويتطلب الحديث عن الإيمان الاحترام المتبادل الذي يحمل في طياته التسامح وقبول الآخر كما هو، والاحترام غير مرتبط بالحالة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الجنس أو اللغة أو الهوية.

خاتمة:

إلي أين تمضي الكنيسة في العالم العربي على وجه خاص؟ 

إنها تمثل جذورا وجسورا، إنها جذور في التربة الوطنية العربية، فالمسيحية ولدت مشرقية، ومن فلسطين -في سويداء المشرق- انتشر حول العالم ذلك الغيث الإيماني، وفاض على الغرب رسالة وحكمة(37)، حواريين وقديسين، قصصا وتعاليم، صلوات وترانيم، وجسورا إلى الغرب الذي باتت قيم المواطنة والتعددية من عوامل نجاحات دولته الحديثة، واليوم تجد الكنيسة العربية باختلاف أطيافها وتعدد أطرافها في مواجهة استحقاقات ثورات الربيع العربي، وما جلبه من حكومات دوجمائية، لا دالة من قريب أو بعيد لها على مفاهيم المواطنة والتعددية، وأفضل ما يمكن أن تقدمه مرجعيات الذمية والنظرة إلى الآخر بوصفه من أهل الكتاب، وعليه يبدو المشهد وكأنه قدر مقدور في زمن منظور أن تعود كنيسة العرب إلى بدايات القرن التاسع عشر بحثا عن مفاهيم ارتبطت بظهور الدولة القومية العربية، احتماء بها من مخاوف ردة قوية على حداثة الدولة العربية، وهو تحد خلاق في كل الأحوال رغم صعوبته والأجواء التي تكتنفه، فهل سيقدر لها الاستمرار في المسير أم أن علامات الهجرة أقرب إليها من معطيات البقاء؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) الأديان العامة في العالم الحديث، خوسية كازانوفا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2005، ص78.

2) وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، القاهرة، الطبعة الثانية، 1979، ص29.

3) رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (1 ـ 21 ـ 25).

4) إنجيل القديس يوحنا (8: 34).

5) العلماني في الوثائق الكنسية بشكل عام لفظة تفيد بذاك الشخص المسيحي المؤمن؛ ولكنه من ليس من طغمة الإكليروس أي رجال الدين.

6) الكنيسة في الشرق الأوسط، مطبوعات الفاتيكان 2012، ص35.

7) راجع يوحنا بولس الثاني، الإرشاد ألرسولي ما بعد السينودس... رجاء جديد للبنان (10 آيار/ مايو 1997) فقرة 45-103، أعمال الكرسي ألرسولي 89 (1997)، ص350-352، و400 المقترح 24.

8) بندكتوس السادس عشر.. عظة قداس اختتام الجمعية الخاصة من أجل الشرق الأوسط لسينودس الأساقفة (24 تشرين الأول/ أكتوبر 2010، أعمال الكرسي ألرسولي 102 (2010)، ص814.

9) راجع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، فقرة 31.

10) الأنبا غريغوريوس، الكنيسة وقضايا الوطن والدولة والشرق الأوسط، الجزء الرابع، لجنة النشر للثقافة القبطية والأرثوذكسية، يوليو 1992، ص251.

11) المسيحي في المجتمع، الأب متى المسكين، مطبوعات دير أبو مقار 2012، ص5.

12) أحاديث الأب متى المسكين، مطبوعات برية شهيت، 2006، ص44.

13) المرجع السابق نفسه، ص45.

14) الكنيسة والدولة.. الطائفية والتعصب.. مطبوعات دير أبو مقار، 2006، ص35، الأب متى المسكين.

15) المسيحية والقضايا المعاصرة، مجموعة مؤلفين، دار الثقافة، القاهرة، 2007، ص23.

16) William Temple, Citizen and churchmen, eyre spottiswoode) 1941, P. 82.

17) وليم سليمان قلادة، مبادئ المواطنة.. دراسات ومقالات" القاهرة، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، 1991، ص140.

18) د. محمد سليم العوا، النظام الإسلامي ووضع غير المسلمين في المواطنة، تاريخيا، دستوريا، وفقهيا، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، 1998، ص75.

19) د. أحمد كمال أبو المجد، رؤية إسلامية معاصرة: إعلان مبادئ القاهرة، دار الشروق، 1991، ص38، فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، القاهرة، الشروق، 1999، ص 118-125.

20) الثقافة بين الحداثة والتحديث، الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات، القس أندرية زكي، القاهرة، 2008، ص204.

21) السامري الصالح، أنجيل القديس لوقا (10-25).

22) الفكر الديني ومسؤولية التقدم، القس الدكتور مكرم نجيب، دار الثقافة، القاهرة، 2008، ص93.

23) وليد غياض، ندوة صحيفة، المركز الكاثوليكي للإعلام، بيروت، 24/2/2011

24) مزمار (19: 2-3).

25) "النور والمصابيح.. التعددية الدينية في جرأة المساءلة اللاهوتية المسيحية"، مركز الدراسات المسيحية جامعة البلمند، مشير باسيل عون، بيروت، 2008، 

26) جريدة النهار اللبنانية، الأب جورج مسوح، 9/6/2008.

27) الإسلام والمسيحية والتعددية، روان ويليامز، مكتبة الشروق الدولية، ترجمة د. جاسر عودة 2011، ص26.

28) المرجع السابق عينه، ص27.

29) راجع (23) نفس الندوة.

30) الدين والثقافة والسياسة في العالم العربي... د. حسن حنفي.. مكتبة الأسرة 2012، ص319.

31) المجمع المقدس للعقيدة الإيمانية.. وثيقة الحرية المسيحية والتحرير.. ترجمة الأب وليم سيدهم اليسوعي، القاهرة، 1990، ص46.

32) الدين وحقوق الإنسان.. رؤية مسيحية.. موسوعة المعرفة المسيحية، بيروت، 1999، ص60، 61.

33) مسيحيو مصر إلى أين.. المستشار نجيب وهبه، القاهرة، 2012، دار النشر الأسقفية، ص175.

34) قرار مجمعي في رسالة العلمانيين البندان، 13، 14.

35) أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أنجيل القديس متى (22: 21).

36) الكنيسة في المجتمع.. الأب فاضل سيداروس اليسوعي، 1995، بيروت، ص67.

37) محمد حسنين هيكل.. محاضرة في جامعة أكسفورد، 2001.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/10/207

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك