كيسنجر: النقاء وليس الاستقرار هو المبدأ الحاكم لتصوّر الإسلامويين عن النظام العالمي

بقلم محمد برهومة

يعدّ كتاب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "النظام العالمي" الصادر العام الماضي من ضمن كتب مرجعية قليلة تقرأ الأحداث والوقائع السياسية عبر ربطها بالتاريخ والفلسفة والاجتماع والجغرافيا والدين؛ ومع أن هذا الكتاب ـ المكتبة يعيد إلى الكتابة هيبتها واحترامها، فإنه لم يحظَ في المنطقة العربية بما يستحقه من النقاش والجدل والتعليق، على الرغم من أنه تناول في طياته صفحات كثيرة في الحديث عن السياسة والدين والصراع في المنطقة العربية قديماً وحديثاً.

يؤكد كيسنجر في كتابه أنه في ظل بعض حكومات الشرق الأوسط اليوم، يتعايش المؤمنون بنظام عالمي يقوم على هيكل الدولة الوطنية، والمؤمنون بنظام عالمي يقوم على الدين، وإن كان التعايش بينهما لا يتحقق بسهولة أحياناً. وفي نظر كثيرين من المؤمنين بالأيديولوجيا الحديثة التي تسعى لفرض النصوص الإسلامية المقدسة، على أنها المحكّم والمرجع الرئيس في شؤون الحياة الشخصية والسياسية والعلاقات الدولية، وخاصة في هذه الفترة التي تشهد عودة صعود الزخم الإسلاموي، فإن العالم الإسلامي مايزال في حالة مواجهة لا مهرب منها مع العالم الخارجي.

وينبّه الدبلوماسي الأمريكي العريق أنه ليس هناك عبر التاريخ، مجتمع امتلك وحده القوة الكافية لفرض قوانينه بصورة دائمة على العالم بأسره، وليس هناك قيادة امتلكت القدرة على الصمود وفرض سلطتها، وليس هناك دين امتلك الدينامية الكافية لفرض شرائعه على العالم برمّته. فلقد أثبتت فكرة العالمية (الانتشار العالمي)، أنها وهم وسراب أمام أي فاتح بما في ذلك الإسلام، وفق رأيه. ويبيّن أنه نظراً إلى توسع الإمبراطورية الإسلامية الأولى، فقد توزعت في النهاية إلى مراكز عدة للسلطة. وقد نشبت أزمة خلافة الحكم بعد وفاة النبي محمد مباشرة، وأدت تلك الأزمة إلى انقسام المسلمين إلى فرعين سنة وشيعة، وهو شرخ فاصل في العالم الإسلامي المعاصر. وفي أي مشروع سياسي جديد، تكون مسألة الخلافة عسيرة ومعقدة.

ويميل كيسنجر إلى تقرير أن الحرب المقدسة تغذي أحياناً الجهود القوية أصلاً لتصبح ذات قوة أعظم؛ ولكنها محكوم عليها بالفشل كلما استهانت بالحقائق/الوقائع الاستراتيجية والسياسية. ويؤكد عبر سبره لكثير من الوقائع والأحداث في التاريخ القديم والحديث ولدى مختلف الحضارات أن المصالح تعلو في كثير من الأحيان على الأيديولوجيا والعقائد، ويذكر أنه عندما وصل العثمانيون إلى ذروة قدراتهم العسكرية، كان الطرفان [العثمانيون والأوروبيون] كلاهما يجد نفسه بين الحين والآخر مشاركاً في تحالف مع الطرف الآخر من أجل تحقيق ميزة/أفضلية تكتيكية؛ فالمصالح الاستراتيجية والتجارية أحياناً، تتفوق على العقيدة الدينية أو تلتف عليها. ويسوق كيسنجر مثالاً على ذلك من القرن السادس عشر الميلادي، ففي عام 1526، كانت فرنسا ترى قوات إمبراطورية هابسبيرغ [ومركزها النمسا] تحيط بها، في إسبانيا في الجنوب، وقوات الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة آل هابسبيرغ أيضاً في الشرق، فاقترحت فرنسا إنشاء حلف عسكري مع السلطان العثماني سليمان القانوني (الذي كان يلقب بسليمان المعظم). وكان ذلك المفهوم الاستراتيجي ذاته هو الذي دفع فرنسا الكاثوليكية بعد ذلك التاريخ بمئة سنة؛ إلى أن تنحاز لدعم قضية البروتستانت في "حرب الثلاثين عاماً". وكان السلطان سليمان ينظر إلى قوة مملكة هابسبيرغ على أنها العقبة الكبرى التي تعترض طموحات العثمانيين في أوروبا الشرقية، ورد على طلب فرنسا بالإيجاب، مع أنه كان يعامل ملك فرنسا فرانسيس الأول بعنجهية واضحة على أنه شريك صغير. ولم يوافق على إنشاء تحالف؛ لأن ذلك يعني ضمناً مساواة معنوية بين الطرفين؛ وبدلاً من التحالف منح دعمه لفرنسا كهبة أحادية الطرف من مركز أعلى، وجاء ردّه كالآتي:

"أنا سلطان السلاطين، وملك الملوك، وموزع التيجان على الملوك على وجه الأرض، وظل الله على الأرض، وأنا السلطان والسيد المطلق على البحر الأبيض والبحر الأسود، وروميليا وأناضوليا وكرمانيا... إليك أنت يا فرانسيس، ملك أرض فرنسا.

أنت أرسلت رسالة إلى بوابة بلاطي، وهو ملجأ الملوك... طلبت مني العـون والنجـدة لإنقـاذك... تحلَّ بالشجاعة إذن، فلن يخيب أملك. إن أسلافنا العظماء وأجدادنا المشهورين (طيب الله ثراهم وأنار قبورهم!)، لم يتوقفوا يوماً عن شن الحروب لصدّ العدو وغزو أراضيه. ونحن نسير على خطاهم، وفي كل المرات كنا نغزو مناطق وحصوناً تتمتع بقوة عظيمة ويصعب الاقتراب منها. وكانت خيولنا تظل مسرجة وسيوفنا جاهزة ليل نهار."

ونشأ بينهما تعاون عسكري فعال، وتضمن ذلك عمليات عسكرية بحرية مشتركة بين القوات العثمانية والفرنسية ضد إسبانيا وشبه جزيرة إيطاليا. ولعب ملوك آل هابسبيرغ وفق القواعد نفسها، وقفزوا فوق العثمانيين، وطلبوا التحالف مع السلالة الصفوية الشيعية الحاكمة في بلاد فارس. وقد تغلبت المستلزمات الجيوسياسية، في تلك المرة، على الأيديولوجيا أو العقيدة الدينية.

لكن مع اختلال موازين القوى وتضارب المصالح أو غيابها، اختلفت الصورة في أواخر القرن الثامن عشر، إذ مع تزايد الحماسة في الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، بدأت هذه الدول بتحويل مسار الفتوحات الإسلامية في الاتجاه المعاكس. وتدريجياً أصبحت الإمبراطورية العثمانية متحجرة، عندما صارت الفصائل الدينية المتشددة تقاوم الحداثة في المحاكم وفي بلاط السلطان. وبدأت روسيا تضغط على السلطان من الشمال وتحركت القوات الروسية نحو البحر الأسود ووصلت إلى القوقاز.

ويلفت كيسنجر النظر إلى أنه في القرن العشرين، وفي منظور عالم تغلب عليه العلمانية وتيارات العولمة ويعد نفسه أنه تجاوز بسموه الصدامات الأيديولوجية المذكورة في كتب "التاريخ"، كانت آراء سيد قطب وأتباعه تبدو منذ زمن بعيد متطرفة جداً، حيث لم تكن تستحق اهتماماً جاداً. ويقول كيسنجر إنه نتيجة لخطأ في التصورات، كانت هناك نخب غربية عديدة تعد حماسة، مثل هؤلاء الثوار/ الثائرين غير قابلة للتفسير، وتفترض أن تصريحاتهم المتطرفة لا بد أن تكون مجازية أو يتم إطلاقها فقط كورقة مساومة. ولكن في نظر المتطرفين الإسلاميين، فإن هذه الآراء تمثل حقائق تتفوق على القوانين والأعراف التي جاء بها نظام وستفاليا العالمي، أو أي نظام عالمي آخر. وقد ظلت هذه الآراء المتطرفة صرخة الاستنفار لحشد الراديكاليين والجهاديين في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها طوال عقود؛ وكانت تردد صداها تنظيمات القاعدة وطالبان وحماس وحزب الله والنظام الكهنوتي الحاكم في إيران، و"حزب التحرير" (الناشط في الغرب والذي يدعو علانية إلى إعادة إنشاء دولة الخلافة في عالم يهيمن عليه الإسلام)، وحركة "بوكو حرام" النيجيرية، والميليشيا السورية المتطرفة "جبهة النصرة"، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والمشرق (داعش). هذا النمط من الفكر يمثل النقيض الكامل تقريباً لنظام وستفاليا العالمي. ويلخص كيسنجر فكرته الأساسية حول تعارض الأيديولوجيا المتشددة والفكرة الدينية حين تنغلق وتتطرف مع الصورة الحديثة للعالم، بقوله إنه من منظور هؤلاء الأيديولوجيين الدينيين المتطرفين، فإنه خلال السعي لإقامة النظام الإسلامي، لا يجوز للدولة أن تكون نقطة الانطلاق لإقامة نظام دولي لأن هذه الدول علمانية؛ ومن ثم فهي فاقدة للشرعية؛ وفي أفضل الحالات، يمكن للدول أن تحقق شكلاً من أشكال الكيان المؤقت على الطريق نحو بناء كيان ديني على نطاق أوسع. ووفق هؤلاء أيضا، فإنه لا يمكن لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أن يكون مبدأ منظماً للعلاقات؛ لأن الولاءات الوطنية تمثل انحرافاً عن العقيدة الصحيحة، ولأنه يترتب على الجهاديين واجب تغيير شكل دار الحرب التي هي عالم الكافرين.

بجملة أخيرة مختصرة، فإن النقاء - وليس الاستقرار - هو المبدأ الحاكم لهذا التصور الإسلاموي أو الجهادي عن النظام العالمي.

المصدر: http://mominoun.com/articles/%D9%83%D9%8A%D8%B3%D9%86%D8%AC%D8%B1-%D8%A7...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك