الأدب السياسي بين نصح الأمير ونصح الإمارة

كريبي عبد الكريم

تمهيد:

تتعدد أنماط تناول الباحث للظاهرة السياسية؛ فالمؤرخ يتناول الفعل السياسي بوصفه حدثا أو واقعة تاريخية، ويتناوله القانوني بوصفه قاعدة، ويتناوله عالم الاجتماع بوصفه علاقات سلطة؛أما "عالم" السياسة فيتناوله بوصفه مؤسسات ونظما وتنظيما، في حين يتناوله مؤرخ الأفكار بوصفه مذاهب ونظريات.

إلى جانب هذه المباحث التي تتناول الفعل السياسي تناولا "واقعيا"، بحثا عن "الفهم"،يوجد نوع آخر من المعارف يهتم بالفعل السياسي، بحثا عن"الفعل". 

لا يتحدث هذا النمط الأخير من المعارف عن الحياة السياسية كما هي؛ بل يتحدث عنها كما يجب أن تكون، وتشكل هذه المعارف كتابة سياسية تنقسم إلى خطاب نظري وآخر عملي، يتجلى الخطاب النظري في "الفلسفة السياسية"، في حين يتجلى الخطاب العملي في الأدب المشهور باسم "فنون الحكم". 

انقسم خطاب "الفلسفة السياسية" إلى قديم وحديث؛ فقد تناول النمط الإغريقي القديم السياسة من خلال المعيار؛ أما النمط الحديث فقد تناولها من خلال الفعالية حينا(نيقولا مكيافيل 1469-1527م.Machiavel Nicolas)، ومن خلال تمثلٍ "قانوني سياسي"لمفهوم السيادة حينا آخر(جان بودان 1529-1596م. Jean Bodin/ طوماس هوبز Thomas Hobbes 1588-1679م.).

من جهة ثانية، انقسم خطاب "فنون الحكم"(les Arts de gouverner)إلى كتابتين سياسيتين؛ اشتهرت الأولى باسم"أدب المرايا"(les Miroirs politiques)، وعُرِفت الثانية باسم "منطق الدولة"(la raison d’Etat).

لن نهتم في بحثنا هذا بخطاب "الفلسفة السياسية"؛ بل سنركز فقط على "فنون الحكم" كما تمثَّلت- إبّان العصر الوسيط والعصر الحديث- في "أدب المرايا" و"منطق الدولة".

ينشغل "أدب المرايا" بخصال الأمير (أولا)، أما "منطق الدولة" فلا يهتم بأخلاق الأمير؛ بل ينشغل بالعناصر الضرورية لتنمية قوة "الإمارة" واستمرار هذه القوة (ثانيا).

أولا: أدب المرايا:

لـ"أدب المرايا"(1) مُرْسَل إليه، ورسالة، وقناة إرسال، وجنس. 

يتوجه "أدب المرايا" إلى مُرسَلٍ هو الأمير، يحمل إليه رسالة مضمونها هو النصح والتوجيه وأحيانا التنبيه، الذي يكون غالبا لطيفا. وتتجسد قناة الإرسال التي يعتمدها "أدب المرايا" أجناسا أدبية متنوعة، هي الرسالة والموعظة والخطبة والملَخَّص.وقد تمظهر "أدب المرايا" في أنماط أو "مرايا" متنوعة؛ فالتسمية نفسها لا تقال بصيغة المفرد ("أدب المرآة")؛ بل جاءت بصيغة الجمع ("أدب المرايا"). فهناك النمط المرآوي الديني (I)، وهناك النمط المرآوي السياسي (II).

النمط المرآوي الديني مرايا؛ فهناك "مرآة القدوة" التي تُبَجِّل الأمير وتقدمه مثالا يُطلَب من "الرعية" محاكاتُه(1). وهناك أيضا "مرآة الإلزام" التي تُكَبِّل الأميرَ؛ لأنها تَذْكُر خصاله فتفرض عليه الالتزام بها(2). وأخيرا هناك "مرآة التقويم"، التي هي في الواقع مرآة لتعديل سلوك الأمير وتصحيحه(3).

يتميز النمط المرآوي السياسي بأنه نمط برزخي؛ فقد عمل هذا الأدب على تغيير موضوع "النصح" الموجه إلى الأمير؛ لم يعد الهدف هو حث الأمير على التحلي بـ"مكارم الأخلاق" فقط؛ بل صار همه هو حث الأمير على التحلي بـ" معالم الحيطة والحذر" حرصا ليس على سمعة الأمير؛ بل على سلامة الإمارة.

إذا كان من الممكن أن ننعت أدب المرايا الديني بأنه أدب مرايا الأمير، فإنه من الممكن أن ننعت أدب المرايا السياسي بأنه أدب مرايا الإمارة. لقد فتح هذا الأدب ثغرة في جدار الفكر المرآوي الديني، حينما عمل على نقل اهتمام "المرايا" من الاهتمام بالأمير إلى الاهتمام بالإمارة، فتناغم بذلك مع التحولات التاريخية التي مهدت لميلاد "الدولة". 

هكذا حصل تلاقي تدريجي بين "أدب المرايا" باعتباره منتوجا إبستمولوجيا لـ "التدبير الوزاري"، وبين الكتابة السياسية المسماة "منطق الدولة" باعتبارها منتوجا إبستمولوجيا لهذا الكيان الجديد: الدولة.

I - النمط المرآوي الديني:

1- مرآة القدوة، أو مرآة التبجيل:

يتوجه هذا النوع من الكتابة المرآوية إلى الأمير ليقدم له النصيحة؛ لكن غرض النصيحة الفعلي لم يكن هو "تأديب" الأمير؛ بل كان الغرض هو تربية الأمير؛ كي يكون قدوة للمأمورين. لهذا نسمي هذا النمط من المرايا بالمرآة النموذج.

انتشر هذا النمط المرآوي النموذج بكثرة خلال العصر الوسيط؛ لكن ظهوره الأول كان في العصر الهليني مع سيشرون (104-43ق.م. Cicéron).

يقول سيشرون- متحدثا عن اختيار القائد الأفضل-:

"يجب عليه [الحاكم الأفضل] ألا يتوقف أبدا عن التعلم وعن مراقبة ذاته، كما عليه أن يخلق لدى الآخرين الرغبة في تقليده، وعليه أن يصير هو نفسه - من خلال بهاء نفسه وأفعاله- مرآة يرى مواطنوه فيها أنفسهم"(2).

تلقى الأدب المرآوي الديني هذا النص باهتمام؛ والسبب في ذلك هو الكيفية التي تصور بها الفكر "السياسي" المسيحي الوسيط "السلطة السياسية".

وقد انتشرت بداية العصر الوسيط المسيحي نظرية "سياسية" لدى مفكري المسيحية اصطلح المؤرخون على تسميتها بالنظرية الوزارية أو نظرية التفويض. وقد كان أول من أسس هذه النظرية هو البابا غريغوار الأول المشهور باسم غريغوار الأكبر(540-604م. (Grégoire le Grand، وترى هذه النظرية أن هناك سلطتين؛ هما السلطة السياسية للملك/الإمبراطور، والسلطة الرعوية للحبر أو الأسقف؛ فالملك يقوم بتدير الأبدان، في حين يقوم الأسقف بتدبير القلوب. فالسلطة السياسية تتعامل مع البدن "الخطاء"، ويمكن لها أن تلجأ إلى الإكراه والجبر والضغط؛ أما "السلطة" الرعوية فتتعامل مع القلوب، ويجب عليها أن تلجأ إلى الإقناع والتربية. إن غاية التدبير السياسي هي ترويض البدن كي يتناغم مع القلب، فيحصل الخلاص؛ فالملك لا يمارس السلطة السياسية بالأصالة؛ بل بالتفويض؛ إنه مجرد "وزير". ولكي ينجح صاحب السلطة السياسية في المهمة التي فوضها الحبر له يجب عليه أن يواصل عملية "تأديب" نفسه والاستمرار في التعلم والتأدب دونما توقف. 

هكذا يتبين لنا أن الحظوة التي تمتع بها نص سيشرون في العصر الوسيط، فشكل مادة في "أدب المرايا" عامة والأدب المرآوي النموذجي خاصة؛ سببها أنه نصٌّ عد الملك قدوة لـ"الرعايا"؛ فهذه النظرة التبجيلية للملك هي ما كان يتم التركيز عليه في البدايات الأولى للعصر الوسيط المسيحي. لقد كان يُطلب من الملك أن يكون صاحب خُلُقٍ وفضائل؛ كي يشكل قدوة لجموع المؤمنين المسيحيين فيقودهم نحو الخلاص.

حمل نص سيشرون ملامح "أخلاقية" لقيت قبولا لدى الفكر الوسيطي، مثلما حمل ملامح أفلاطونية. فقد مثَّل الملك مكانة مركزية في هذا النص؛ إنه قدوة شعبه؛ بل شمس تشع بنورها على الجميع. ألم تكن هذه هي صورة الملك/الفيلسوف عند أفلاطون؟ بلى؛ فبفضل علمه بالماهيات صار ملك أفلاطون شمسا تنير المدينة، أو قدوة يشرئب إليها أهل المدينة.

يشغل كل من الملك الأفلاطوني ونظيره المسيحي المركز داخل المدينة وبين جموع المؤمنين؛ لكنهما يختلفان في نقطتين:الأولى هي أساس المركزية والثانية هي موقعهما من مسألة التراتبية داخل المدينة.

تتأسس مركزية الملك الأفلاطوني على العلم بالماهيات، في حين تنبني مركزية الملك المسيحي على التحلي بسمو الأخلاق وشريف الفِعال. تبعا لهذا، فـ"السمو العقلي" لملك أفلاطون سمو ذاتي يجد أصله في المعرفة العقلية، أما "السمو الأخلاقي" للملك المسيحي فهو سمو خارجي يجد أصله في تعاليم الكنيسة.

من جهة أخرى لا يلغي ملك أفلاطون التراتبية التي تتميز بها المدينة؛ فالمدينة تتشكل من فئات متباينة، لكل منها وظيفة طبيعية محددة لا تحيد عنها، مثلما لها موقع طبيعي قار داخل البناء البشري للمدينة. ويقوم هذا البناء وفق تراتبية تكون الأفضلية أو الشرف فيها للعقلي على الحسي.

على هذا الأساس يكون التدبير فاضلا بالنتيجة إذا تم التدبير من خلال خضوع الحسي للعقلي، سواء تعلق التدبير بتدبير النفس أو بتدبير المدينة. في وضع كهذا ما كان للملك الأفلاطوني إلا أن يرسخ التراتبية والتفاوت الطبيعي.

إذا كان التفاوت في مدينة أفلاطون يندرج في إطار الصواب السياسي (ذي المبررات الأنطولوجية والمعرفية)؛ فإنه ليس من الضروري- حسب أفلاطون- أن يكون الملك قدوة لـ"الرعايا"، وليس مطلوبا من الرعايا أن يكونوا على علم بالماهية؛ إن هذا أمر خاص بالفيلسوف/الملك؛ فكل ميسر لما خُلِقَ له؛ فلا يليق بأي فئة أن تؤدي دورا ليس خاصا بها وفق التراتبية الأنطولوجية والمعرفية.

إنه لما لم يكن من المطلوب أن يقتدي الناس بالملك/الفيلسوف، وإنه لما كان الملك/الفيلسوف يغني الناس عن تقليده، فإنه لم تكن هناك حاجة أبدا إلى "مرآة" مثالية تكون قدوة للعالمين.لأجل ذلك ما كان ممكنا أن يظهر "أدب مرآوي" لدى أفلاطون؛ إن الممكن "الإبستمولوجي" الذي تسمح به النظرة الأفلاطونية للمدينة هو "الفلسفة السياسية"؛ فالفلسفة السياسية" هي نوع من "التسوية" النظرية التي صاغها الفيلسوف؛ لكي يتأقلم مع مدينة لا يعيش فيها الفلاسفة وحدهم؛ بل يعيش فيها أيضا العامة أو الجمهور.

إذا يمَّمْنا وجهنا ناحية الملك المسيحي سنجد أنه يعمل على إلغاء التراتبية؛ فالناس جميعا حسب المسيحية سواسية "أمام الله". إن المساواة المقصودة هنا هي المساواة في الإيمان وليست المساواة الاجتماعية او السياسية. فإذا كانت الخطيئة بشرية، فالخلاص إنساني أيضا. ويأتي الخلاص عن طرق "المخَلِّص"، مثلما يأتي عن طريق التزام المؤمن بتعاليم السماء طواعية على يد القس أو كراهية على يد الملك. فالمطلوب من الملك- وفق "النظرية الوزارية"- أن يتصف بالورع؛ وذلك لكي يتخذه المؤمنون قدوة. إن القول بأن الملك قدوة هو إقرار بأنه لا فرق بينه وبين الرعايا، فالجميع سواسية "أمام الله"؛ إن الجميع قادر على أن يرقى درجات الإيمان والورع. 

إذا كانت التراتبية تشكل الإطار النظري للملك لدى أفلاطون؛ فإن هذا الإطار سيصبح مع التصور المسيحي للملك "المساواة". وإذا كانت "الفلسفة السياسية" هي التعبير النظري عن المُلْك الأفلاطوني فإن "أدب المرايا" هو التعبير النظري عن المُلْك المسيحي؛ فاعتبار المساواة إمكانا بشريا هو شرط لميلاد "أدب مرآوي" نموذجي. فحينما نتصور الناس سواسية؛ فهذا يعني أنه بإمكان الأدنى أن يقلد الأعلى؛ هذا يعني أيضا أن الملك/القدوة ليس كائنا خارقا للعادة يعجز البشر عن محاكاته. إن الملك المسيحي لا يَفْضُلُ بقية الناس بشكل جوهري كما هو حال ملك أفلاطون؛ بل يفضلهم بكسب إنساني مفاده الحرص على اتباع تعاليم السماء والسعي وراء التقوى؛ والتقوى "أعدل قسمة بين البشر"، شريطة أن يتحلى المؤمن بـ"الإرادة"، أو أن يمارس الملك سلطة الضبط لترويض "الإرادة". وقد يتعرض الملك نفسه للتيه فيغفل عن مكارم الأخلاق. وتفاديا لتيه الملك وغفلته تلجأ الكنيسة إلى الوعظ والإرشاد، أو تلجأ في حالة فشل الوعظ إلى الإكراه. ومن بين الأنماط التي يتخذها الوعظ، نذكر "أدب المرايا".

على كلٍّ، يمكن القول في الأخير: إن "المرآة النموذج" هي منتوج إبستمولوجي له شروط إمكان مسيحية وسيطية، أهمها فكرة الخلاص من جهة وفكرة المساواة "أمام الله" من جهة أخرى.

2 - مرآة الإلزام، أو مرآة التكبيل:

ظهر أدب مرآوي ثان، غرضه هو ذكر مزايا الأمير، والغاية من هذا الذكر هو تنبيه الأمير إلى طبيعة الخصال التي شكلت عنه صورة مثالية لدى الناس. إنه تذكير توريطي، أو فخ وحبل يلتف حول "رقبة" الأمير؛ فيلزمه بعدم إتيان السيئ من الأفعال، وعدم اتباع الهوى في لحظات الضعف البشري.

يقول سينيك (04-65م.Sénèque)في هذا الإطار:

"لقد عزمتُ- أيها القيصر نيرون - أن أكتب حول الرحمة؛ لكي أقوم بدور المرآة، وآخذك - عبر عرض صورتك أمامك- نحو أعلى درجات الانتشاء والرضى في الوجود"(3)

لم تُعُدِ الغاية من الكتابة المرآوية هي مدح الحاكم وتبجيله؛ بل غَدتِ الغاية هي تذكيره بما يتمتع به من خصال، قصد إلزامه بتمثل هذه الخصال نفسها، وعدم الانجرار وراء انفعالاته. 

يضيف سينيك: " إنها لحالة بئيسة حقا أن تكون كل هذه الطِّيبة التي تعمل على إظهارها مجرد رياء وتصنع"(4).

مع هذا النموذج المرآوي حصل الانتقال من "التبجيل" إلى "التكبيل". كان الغرض في الأول هو تبجيل الأمير ومدحه، وانتقلنا الآن إلى إلزامه وتكبيله بما فيه من خصال سامية كيلا يحيد عنها. 

ربما كان النموذج الأول ملائما للروح الأفلاطونية التي تتصور الأمير منارة مكتفية بذاتها، تضيء ذاتها بذاتها؛ أما النموذج الثاني فهو تعبير عن "خيبة أمل" من الأمير. فهذا الأخير صار بليَّة على قومه، وليس هناك من سبيل لإرجاعه إلى جادة الصواب إلا دغدغة أناه.

يمكن القول: إن هذا الانتقال على هذا الشكل من الترتيب حصل في العصر الوسيط المسيحي؛ ففي مرحلة أولى كان الملك أيام هيمنة الكنيسة تحت نظر الإكليروس ورقابته أما لاحقا لمَّا كاد الملك يستقل بالسيادة، فقد صار نارا على الرعايا، ولم يعد هناك مخرج للحد من جبروته إلا الوعظ والمداراة. 

3- مرآة التقويم، أو مرآة التعديل:

خلال القرن الثامن للميلاد، وجَّه ألكوين(732-804م.Alcuin)كتابا إلى الكونت ويبو البروطاني Wibo de Bretagne. وقد حدد ألكوين هدف كتابه بالقول:

"ابني العزيز، لقد دبجت هذه النصائح في كلمات قليلة، نزولا عند رغبتك كي تكون دائما تحت بصرك مثل وِرْد يومي، تمتحن نفسك على ضوئه، وتعرف ما يجب عليك فعله وما يجب عليك تركه"(5).

هكذا أصبحت المرآة مع رجل الدين المسيحي ألكوين وسيلة لمعرفة النفس ومحاسبتها، ولم تعد وسيلة تكبل الأمير برباط الخصال السامية التي يتوفر عليها؛ بل أصبحت وسيلة يراقب بها نفسه ويصلح بها اعوجاج هذه النفس برباط الخصال التي لا يتوفر عليها. لم تعد المرآة تقود النفس الزكية نحو الرضى في الدنيا؛ بل أصبحت المرآة تقود النفس كي تتزكى فتنقاد نحو السعادة في الآخرة.

يمثِّلُ يونس الأورلياني(760-843م.Jonas d’Orléans) أشهر الكتاب الذين أنتجوا "أدبا مرآويا" خلال العصر الوسيط؛ فقد اطلع يونس هذا على مؤلفات ألكوين وتأثر بأفكاره، ويظهر هذا الاطلاع في كتاب صدر سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة (831م) للميلاد، وهو كتابle De institutione regia. ويُعَدُّ هذا الكتاب أهم ما تم تأليفه في أدب المرايا خلال العصر الكارولينجي أو الشارلماني. تحدث يونس في هذا الكتاب عن واجبات الملك، واستند إلى الشواهد الدينية، مثلما استند على مقتطفات من كتابٍ ينسب للقديس سيبريان.Saint Cyprien

في هذا السياق يخاطب يونس الأورلياني بيبان ملك أكيطان (Pépin roi d’Aquitaine):

" أهدي إلى جنابكم هذا الكتيب الذي هو ثمرة ضآلة قدرنا، وقد ضمَّنتُه بعضا من كلمات شهيد المسيح - القديس سيبريان - كي يكون في متناول جنابكم تَتْلُونه وتتأملونه كثيرا. تَبَصَّروا في كلماته جيدا ولا تتوقفوا...تَبَصَّروا فيه كما لو كنتم تتبصَّرون في مرآة؛ لِتَرَوْا ما الذي يجب أن تكونوا عليه، وما الذي يجب أن تفعلوه، وما الذي يجب أن تتجنبوه"(6).

لم نعد هنا مع أدب المرايا الذي يغازل نرجسية الحاكم، فيُعلي من قدره ويشيد بخصاله، ويُلقي بذلك الشرك للرعايا كي يقتدوا بملكهم، أو يلقي الشرك للملك نفسه فيلزمه بأن يكون في مستوى طبيعته. أصبحنا مع أدب المرايا الذي يكبل الأمير بشكل صريح؛ فالأمير مطالب - حسب ألكوين ويونس - بمحاسبة نفسه ومراقبتها، من خلال الحرص على ورده اليومي كما تحدده له " المرآة الناصحة" أو التقويمية. لم يعد الأمير مطالبا بأن يكون في مستوى طبيعته السامية؛ بل عليه أن يكون في مستوى متطلبات وظيفته. انتقلنا من المَلِك الذي على الرعايا أن يقلدوه إلى الملك الذي عليه أن يلتزم بتعاليم وتوجيهات الكنيسة؛ كي يستحق وظيفته. 

يمكن القول بصفة عامة: إن "الأدب المرآوي" كان له دور في نقل الوظيفة السياسية من وظيفة مطلقة لا تقيدها حدود- كما كان الأمر مع السلطة السياسية الإمبراطورية- إلى سلطة سياسية مقيدة بـ "المتعالي". مع هذا الأدب، حصل انتقال من الملك الحاكم "بأمره"، إلى الملك الحاكم "بأمر غيره". لقد أصبح ممكنا مع التقليد المسيحي الوزاري - ولو عن غير قصد - أن تنتقل السلطة السياسية شيئا فشيئا نحو التقييد. 

II– النمط المرآوي السياسي:

تَعتبِر الكتابة المرآوية السياسية أن تحديق الأمير في "المرآة" لا يكون من أجل النظر في أخلاق الأمير وخصاله؛ بل من أجل النظر في مصالح الإمارة.

من كتاب النمط المرآوي الجديد، يذكر الباحث الفرنسي ميشيل سينيلار كاتبا مغمورا من كتاب النزعة الإنسية خلال عصر النهضة، وهو"غيوم دو لا بيريير"(1499/1503- 1556م.Guillaume de la Perrière)؛ فقد ألّف غيوم كتابا أعطاه عنوانا هو "المرآة السياسية".

يقول غيوم: "إنه بنفس الشكل الذي لا يشاهد من يقف أمام مرآة وجهه فقط؛ بل يشاهد القسم الأكبر من القاعة التي يوجد فيها، فإن أي حاكم يريد أن يرى نفسه في هذه المرآة التي أقدمها بين يديه[يقصد كتاب النصيحة الذي يقدمه للأمير] سيرى فيها بشكل مختصر وملخص كل ما هو ضروري له لأداء وظيفته، دون الحاجة إلى تصفح مؤلفات عدد من الكتاب الإغريق واللاتين الذين كتبوا عن ذلك بشكل واسع"(7).

يحمل هذا النص جِدَّة في الأدب المرآوي على مستوى الموضوع ومستوى النموذج؛ لكنه لا يأتي بالجديد على مستوى أسلوب "النصح".

أصبحنا مع هذا النص أمام نمط مرآوي جديد بموضوع جديد؛ فإذا كان موضوع المرايا الدينية موضوعا أخلاقيا هو الخصال الأخلاقية للأمير؛ فإن موضوع المرايا السياسية موضوع سياسي هو كيفية تدبير "الإمارة". يشير النص إلى عنصرين ينعكسان على مرآة الأمير: الأول هو وجه الأمير نفسه، والذي لم تعد المرآة تنشغل به.

والثاني هو القاعة التي يوجد فيها الأمير، وهذا ما يهم هذا الأدب المرآوي الجديد، فوجه الأمير يرمز إلى الخصال الواجب توفرها في الأمير؛ أما القاعة فتدل على فضاء أو مجال يمارس فيه الأمير سلطته، وهذا المجال هو هذا الكيان الجديد الذي أصبح يؤطر التدبير السياسي؛ إنه "الدولة". العنصر الأول عنصر كيفي؛ أما العنصر الثاني فهو عنصر كمي؛ فالمكان هو حيز أو كم من "الأرض"؛ إنه يحيل على مفهوم قانوني بدأ للتو في الانبثاق، وهو مفهوم "التراب" أو المجال الترابي.

هناك إذن موضوع جديد هو "التدبير السياسي"، بإطار جديد بدأ يتمتع بالاستقلالية عن مؤسسة الكنيسة، وهو "الدولة".

إن التحول الذي مَسَّ الموضوع تبِعه تحول مَسَّ النموذج أو في المثال الذي يستلهمه هذا النمط المرآوي الجديد. فإذا كان النموذج الذي تقتدي به المرايا الدينية هو النموذج الأخلاقي الروحي، فإن النمط المرآوي السياسي الجديد يستلهم نموذجا جديدا هو النموذج القانوني والسياسي. لأجل ذلك أصبحت المرايا السياسية تركز على كيفية تدبير قضايا الساكنة داخل الدولة، ولم تعد تركز على خصال الأمير. أصبح التدبير يتطلَّب التوفر على معارفٍ وليس على فضائلَ؛ لهذا تُشدِّدُ المرايا السياسية- إذ هي تنصح الأمير- على نوعٍ خاصٍّ من المعارف يتوقف عليه نجاح تدبير الإمارة.

وتتعلق هذه المعارف بمجالات متنوعة ترتبط بالحياة "المادية" للساكنة، هي مجالات القانون والمعاش والحرب والسلم والقضاء والمالية والضرائب. هناك إذن نموذج جديد تستلهمه المرايا السياسية وهو النموذج القانوني السياسي، وليس النموذج الأخلاقي الديني.

إن تميز المرايا السياسية بموضوع ونموذج خاصين لا يعني أنها لم تَعُدْ كتابة سياسية مرآوية. إن أهم معيار يجعل من كتابةٍ ما كتابةً سياسية هو أن تجمع بين عنصرين: العنصر الأول أنها " فن للحكم" وليس تفكيرا نظريا في الحكم كما هو الأمر بالنسبة للفلسفة السياسية.

أما العنصر الثاني فهو أنها فن للحكم يُظْهِر ولا يُضْمِر، يطلب من الأمير أن يبرز خصاله وعناصر قوته، لا أن يخفي عناصر القوة عن الخصوم والأعداء كي يفاجئهم في حربه معهم.

إذا كانت المرايا السياسية قد هجرت الحديث عن التهذيب الأخلاقي لدى الأمير، واهتمت بقضايا التدبير السياسي للدولة، وإذا كانت قد هجرت النموذج الأخلاقي لتستلهم النموذج السياسي، فإنها لم تطالب الأمير بإخفاء عناصر قوته وعدم كشف ما لديه من معارف ومعطيات يُدَبِّر بها الدولة. لهذا يمكن القول: إن المرايا السياسية هي كتابة سياسية مرآوية؛ لكن نظرا لجِدَّة موضوعها ونموذجها مقارنة مع المرايا الدينية، فيمكن اعتبارها حالة وسطى أو انتقالية بين "أدب المرايا" وبين "منطق الدولة". فالمرايا السياسية تبقى مشدودة إلى الأدب المرآوي من خلال طابعها العلني؛ لكنها تتطلع أو تمهد السبيل لـ"منطق الدولة" من خلال ابتعادها عن المقولة الأخلاقية واهتمامها بالمقولة السياسية.

ثانيا: منطق الدولة:

إذا اتفقنا على أن "منطق الدولة" هو كتابة سياسية أو أدب سياسي وليس ممارسة للسياسة؛ فإنه يرافق بالضرورة بشكل منسجم نوعا خاصا من الممارسة السياسية. لقد حصل تحول في مادة الممارسة السياسية خلال العصر الوسيط المتأخر، وتبعه تحول في الكتابة السياسية. كان ذلكم التحول هو الانتقال من تدبير "رعايا" يحتاجون للخلاص الروحي إلى تدبير لـ"ساكنة" لها حاجات حياتية ضرورية، وتعيش فوق تراب أو أرض ذات حدود. تبع هذا التحول تحول "إبستمولوجي" مفاده الانتقال من "أدب المرايا" إلى "منطق الدولة".

"منطق الدولة": كتابة سياسية لا تهتم بفضائل الأمير ولا تحدد "أخلاق الملوك"؛ بل هي كتابة غايتها تقديم معرفة تقنية للحاكم كي يحافظ على قوة "الإمارة" ويُنَمِّيها، سواء أمام خصومها في الداخل أو أمام أعدائها في الخارج. 

كان الإيطاليون هم أول من استعمل عبارة "منطق الدولة"، وذلك في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي (1547م) على يد الأرشفيك جيوفاني ديلا كاسا(1503-1556م Giovanni della Casa).

وفي الربع الأخير من القرن نفسه- وخصوصا في ثمانينات القرن السادس عشر الميلادي - سيعرف المفهوم رواجا كبيرا لدى المفكرين وأهل النظر ولدى رجال السلطة وأهل العمل، سواء بسواء.

أما أول كتاب يحمل عنوان "منطق الدولة" فهو للإيطالي جيوفاني بوطيرو(1544-1617مGiovanni Botero)بعنوان Ragio di Stato الصادر سنة تسع وثمانين وخمسمائة وألف (1589م)، والذي ستتلوه سلسلة من الكتب تحمل نفس العنوان. 

خلال عشرينات القرن السابع عشر الميلادي استوت أسس "منطق الدولة"، ولم يعد الأمر إلا تكرارا لما قيل خلال هذا التاريخ.

سنحاول تقديم تعريف لـ"منطق الدولة (I)، ثم نعرض بعد ذلك الشروط التي سمحت بنشوء هذا الأدب السياسي(II)، التاريخية منها (1) والنظرية (2). سنتحدث أخيرا عن خصائص "منطق الدولة"(III)على مستوى الموضوع(1)، والغاية(2)، والنموذج (3).

I -تعريف "منطق الدولة":

أول من استعمل عبارة "منطق الدولة" هم الإيطاليون، وكان ذلك في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي (1547م) على يد جيوفاني ديلا كاسا. وفي الربع الأخير من القرن نفسه- وخصوصا في ثمانينات القرن السادس عشر الميلادي- سيعرف المفهوم رواجا كبيرا لدى المفكرين ولدى رجال السلطة سواء بسواء.

أما أول كتاب يحمل عنوان "منطق الدولة" فهو للإيطالي جيوفاني بوطيرو(1544-1617م) Giovanni Botero بعنوان Ragio di Stato الصادر سنة تسع وثمانين وخمسمائة وألف (1589م) والذي ستتلوه سلسلة من الكتب تحمل نفس العنوان. 

ما هو "منطق الدولة"؟ 

يقول بوطيرو: "الدولة هي حكم الشعب بشكل ناجز، و"منطق الدولة" هو العلم بالوسائل التي بواسطتها يقوم هذا الحكم، وبها تتم المحافظة عليه، وتنميته وتوسيعه"(8).

ويقول الألماني فردريك ماينك (Meinecke, Friedrich) أحد كبار المختصين في أدب "منطق الدولة":

" منطق الدولة" هو القاعدة التي بموجبها تتحرك الدولة، والقانون الذي تشتغل وفقه. إنه ما يحدد لرجل السياسة الواجب الذي عليه فعله إن أراد المحافظة على قوة الدولة وعافيتها. 

وبما أن الدولة جسم حي فقوتها لا تستمر على حالها التام إلا من خلال القدرة على إنمائها بشكل أو بآخر؛ لهذا يحدد منطق الدولة أيضا أهداف ووسائل هذه التنمية"(9).

نلاحظ - سواء في التعريف الذي يقدمه مؤسس أدب "منطق الدولة"، أو في ذلك الذي يقدمه أكبر دارسي هذا الأدب- أن "منطق الدولة" كتابة سياسية لها موضوع وغاية ووسيلة. 

موضوع "منطق الدولة" هو الدولة؛ أما غايتها فهي الحفاظ على قوة الدولة وتنمية هذه القوة. أما وسيلتها فهي مبدأ "الحق في الخرق" حفاظا على قوة الدولة وتنمية لهذه القوة.

يرتبط "منطق الدولة" بمؤسسة الدولة التي بدأت تنبثق ابتداء من القرن الثالث عشر، وأصبحت تستوي على أركانها خلال القرن السادس عشر الميلادي، قبل أن يكتمل بناؤها في القرن السابع عشر للميلاد. 

لم يعد موضوع الاهتمام هو "السلطة السياسية" المندرجة ضمن البناء الكنسي العام، والتي [السلطة السياسية] ليست إلا تدبيرا مأذونا له من طرف الكنيسة صاحبة التدبير الرعوي المهيمن.

غاية "منطق الدولة" هو الحفاظ على قوة الدولة وتنمية هذه القوة. يتم ذلك من خلال تزويد "الحاكم" بمعرفة نظرية وأخرى تقنية ضروريتين لممارسة هذا الفن المسمى فن الحكم.

إذا كانت الغاية الأخلاقية مع أدب المرايا تتحقق من خلال التركيز على منطق كيفي، ينشغل بالأخلاق وبطبيعة الأفعال؛(نظرا لأن مادة الحكم هي بشر لهم رغبات وانفعالات، يجب إرشادهم من خلال التأثير على قلوبهم) فإن الغاية مع منطق الدولة صارت غاية سياسية كمية؛ (نظرا لأن مادة الحكم هي "الساكنة" التي يتم النظر إليها بوصفها فئات وظيفية)، تروم حساب القدرات والإمكانات التي تمتلكها الدولة، ولا تروم تعداد الفضائل التي يمتلكها الأمير.

بيِّنٌ إذن أن فن الحكم لم يعد ينحصر في الحث على الالتزام بمكارم الأخلاق، ولم يعد فن مندرجا ضمن دائرة أوسع من مقولة "السياسة" وهي مقولة "الواجب الديني"؛ لقد أصبح فن الحكم تدبيرا سياسيا مستقلا عما هو أخلاقي وديني. أصبحت "السياسة" فنا للممكن والممكن مفعول حسابي، ولم تعد "السياسة" فن الالتزام بالواجب حيث الواجب "آمِر أخلاقي". 

يتوسل "منطق الدولة" لتحقيق غايته بـ"كل ما من شأنه" أن يحافظ على قوة الدولة، ويمكن تلخيص ما يندرج تحت عبارة "كل ما من شأنه" في المبدأ الآتي: "الحق في الخرق".

في سنة 1594م ألف الإيطالي أميراطو سيبيون(1531-1603م (Ammirato Scipione كتابا حدّد فيه الصفة التي تجعل من فعل سياسي ما فعلا سياسيا يندرج في إطار "منطق الدولة" فقال:

إنه " لا يجب أن نعتبر أن أميرا ما يتصرف وفق "منطق الدولة"؛ إلا إذا كان تصرفه هذا يتم وفق الطرق القانونية والشرعية العادية"(10).

نحن هنا أمام ثنائية الشرعية والمشروعية. فـ"الحاكم" الذي يتصرف وفق القوانين الجاري بها العمل هو حاكم يمارس التدبير السياسي العادي والشرعي؛ وهذا تدبير لا يندرج ضمن "منطق الدولة"؛ بل إنه فعل قد يفرط في قوة الدولة باسم احترام الشرعية. أما "الحاكم" الذي يمارس التدبير السياسي في تجاوز لهذه القوانين العادية فهو يقوم بفعل مشمول بـ"منطق الدولة"، مستندا في ذلك على مشروعيته بوصفه "متسيد" يخضع للواجب/الممكن الذي يقتضي الدفاع عن الدولة؛ عن قوتها ونموها. 

"منطق الدولة" هو أدب سياسي يقوم على معطى تاريخي ونظري، وهو استقلالية "السياسي" عن المتعالي الديني؛ لكن ليس كل استقلال للسياسي هو انخراط في أدب "منطق الدولة". إن "منطق الدولة" يتحدث عن تنمية قوة "الإمارة"، ولا يتحدث عن تنمية قوة "الأمير". يَدين "منطق الدولة" في وجوده إلى مكيافيل؛ لكن بوطيرو فتح طريقا داخل آداب "منطق الدولة" بعيدا عن ماكيافيل. ميز بوطيرو "منطقه" للدولة عن "منطق" مكيافيل بالقول: إن "منطق الدولة" نوعان: واحد مسيحي جيِّد وخيِّر يسعى نحو غاية الدولة ككل، وثان سيئ وشرير غايته خدمة مصلحة الأمير. ربما في انشغال "منطق الدولة" عند مكيافيل بـ"الأمير" ما يسمح بالقول: إن مكيافيل ليس مؤسسا للفكر السياسي الحديث بالمعنى الكامل للكلمة؛ مكيافيل مُدشِّن للقول الحديث في السياسة. لقد تناول الظاهرة السياسية بوصفها ظاهرة دهرية. لكن صاحبنا بقي ضمن الإطار الأفلاطوني الذي- أعني الإطار الأفلاطوني- يفكر في "المدينة" من خلال الفيلسوف/الملك. عذر مكيافيل في ذلك هو أن عهده لم يشهد اكتمال نشوء مؤسسة الدولة. ستتكرس حداثة الفعل والقول السياسيين حينما تنبثق مؤسسة الدولة بوصفها الإطار الجديد للتدبير السياسي. "منطق الدولة" عند مكيافيل يهتم بمصلحة وقوة "الأمير"؛ أما نظير هذا المنطق عند بوطيرو فيهتم بمصلحة الإمارة/الدولة.

II - شروط إمكان "منطق الدولة":

يمكن القول: إن إمكان انبثاق الكتابة السياسية المسماة بـ"منطق الدولة" ارتبط بشرط تاريخي وآخر نظري:

1- الشرط التاريخي: انبثاق العقل التجاري:

إذا كان من الممكن لنا أن نغامر ونقول: إن النشاط البشري الذي تفاعل معه "أدب المرايا" هو النشاط الرعوي والإرشادي للكنيسة ولرجال الدين، فإن النشاط الذي تفاعل معه أدب "منطق الدولة" هو النشاط التجاري. 

يقول أميراتو في أحد كتبه المنشورة عام 1495م: "يمتلك التجار الأثرياء دفترا يسمونه الدفتر السري، ولم يكن مسموحا أن يتناول عمالُ المتجر هذا الدفتر؛ بل كان ذلك خاصا بسيد المتجر وحده، يحتفظ به لديه، يُدَوِّن فيه كل تجارته، ويلخص فيه كل وسائل عمله وقدراته... من واجب كل أمير أن يقوم بنفس الأمر في إمارته"(11).

يفرض النشاط التجاري على التاجر أن يعمل على تنمية تجارته، ولا يلجأ التاجر من أجل تنمية تجارته لأخلاق الواجب المتعالية على العمل التجاري؛ بل يلجأ إلى "أخلاق" الممكن الخاصة بالعمل التجاري. نعم تستهجن "أخلاق" التجارة الكذب والغش والتدليس؛ لكن التزام التاجر بهذه الأخلاق، هو التزام يمليه العقل التجاري الذي يرى أن الربح لا يتحقق إلا إذا تحصلت هذه الأخلاق. فالصدق والنزاهة والجودة مطلوبة لغيرها وليس لذاتها. فهي مداخل لم يتوسلها التاجر إلا لأنها تحقق الربح؛ فقد يكون التاجر نزيها وصادقا في تجارته؛ لكنه قد لا يكون نزيها ولا صادقا في مجالات الحياة الأخرى غير التجارية. 

إن الذهنية التجارية ذهنية حسابية، لا تهتم بخصال التاجر ومحامد الأخلاق في ذاتها بقدر ما تهتم بها- إذا حصل واهتمت بها- لأجل تنمية قدرات التاجر التنافسية وتنمية أرباحه. إن هذا المنطق التجاري هو الذي نلمسه كمنطق ضمني في "منطق الدولة"؛ فهذا الأدب- كما قلنا أعلاه- لم يعد ينشغل بأخلاق الأمير؛ بل أصبح يهتم بطرق تنمية قوة الإمارة/الدولة.

أليس منطق الدولة- كما حدده "بوطيرو" وأشار إليه "ماينك" أعلاه- هو تنمية قدرات الدولة للحفاظ عليها؟ أليس هذا ما يقوم به التاجر، حينما ينمي أدوات اقتحامه المجال التجاري لتنمية ثروته؟ بلى.

2- الشرط النظري: الوعي الشقي، والسيادة المقيدة.

الشرط النظري شرطان، واحد سيكولوجي (1- 2) وآخر سياسي (2-2).

1-2) الشرط النظري السيكولوجي:

يتمثل الشرط النظري الذي يخلق شرط إمكان انبثاق "منطق الدولة"- وهو شرط من طبيعة سيكولوجية- في الوعي الشقي. ويتجلى الوعي الشقي في حصول وعي بعدم التطابق بين الحال وبين المثال. فالتعارض بين واقع الدولة المتردي، وبين طموح الدولة في الترقي هو ما يدفع "السياسي" إلى البحث عن حلول لردم الفجوة بين الطرفين. وردم الفجوة هذا يكون عن طريق العلم بعناصر القدرة والقوة الضرورية لتنمية قوة الدولة والمحافظة على هذه القوة. ويتم جرد هذه العناصر الضرورية لامتلاك القوة أو استعادتها أو المحافظة عليها، من خلال كتابة سياسية قد انتبهت إلى الطابع العملي والنفعي لعملية البحث عن القوة. فالبحث عن القوة يدفعنا دفعا نحو تفضيل "الوسيلة" على "الفضيلة".

2-2) الشرط النظري السياسي:

انبثق أدب "منطق الدولة" في ظل شرط سياسي من نوع خاص يتمثل في وجود مؤسسة سياسية هي دولة "السيادة المحدودة".

وفق معيار السيادة تقع دولة "السيادة المحدودة" في منزلة بين منزلتين؛ إنها منزلة "السيادة المحدودة" التي تقع بين منزلة "السيادة المعدومة" ومنزلة "السيادة التامة".

إن النموذج الأول الذي تتقابل معه دولة "السيادة المحدودة" هو السلطة السياسية المُفَوَّضة؛ إنها سلطة معدومة السيادة. وسلطة كهذه لا يمكنها البتة أن تخرق ما لم تقم بوضعه من قوانين. إنها سلطة مجبرة على الامتثال للواجب الديني، ولا تحتاج لأدب "منطق الدولة"؛ فمن لم يضع "القانون" لا يعاني من مفارقة عدم انطباقه مع الواقع. 

قبل ظهور مؤسسة الدولة كانت السلطة السياسية في العصر الوسيط بيد قوة سياسية فوضت لها الكنيسة تدبير "الأبدان" فيما قامت هي – الكنيسة- باحتكار المهمة الأشرف في نظرها وهي تدبير الأنفس. كانت السيادة وفق هذا "النموذج الوزاري" بيد الكنيسة في حين لم يكن للسلطة السياسية المُفَوضة أي سيادة. لا يمكن لسلطة لا سيادة لها أن تخرق القانون؛ فالقانون الذي تعمل وفقه السلطة الوزارية هو قانون من وضع السلطة الرقابية ذات السيادة؛ أي الكنيسة. لا يمكن إذن لمن لم يضع القانون أن يخرقه؛ فلا "حق في الخرق" لمن لا سيادة له. لهذا لا يمكن أن ينبثق "منطق الدولة" في ظل سلطة سياسية بدون سيادة. إذا كانت السيادة في هذه المرحلة بيد الكنيسة، فلماذا لم ينبثق "منطق الدولة" في ظل النظرية الوزارية للكنيسة؟ 

إن السبب في ذلك هو أن سلطة الكنيسة تندرج هي نفسها تحت سلطة أعلى، وهي سلطة القانون الديني؛ فالكنيسة مأمورة بالالتزام بـ"الواجب" الذي يحدده النص الديني. 

إن النموذج الثاني الذي يقابل دولة "السيادة المحدودة" هو نموذج دولة "السيادة المطلقة"؛ إن دولة ذات سيادة مطلقة - غير مجبرة تحت أي ظرف من الظروف على خرق قوانينها - لا تنتج أدب "منطق الدولة" حيث إن هذه الدولة لا تعاني من مفارقة عدم التطابق بين الطموح والواقع.

الدولة القوية لا تعاني مفارقة الواقع والطموح؛ فدولة كهذه لا تحتاج لأي نصيحة أو استشارة لتستبين طرق امتلاك القوة وطرق المحافظة عليها. إن هذه الدولة القوية هي دولة تتحرك وفق القوانين التي تُصدرها. ونظرا لغياب أي نقص في السيادة وغياب "الوعي الشقي"، فهذه القوانين تصبح هي "الواجب" الذي لا يتم التدبير إلا به؛ إنه واجب ملزم للدولة ذات السيادة نفسها، وبالتالي لا يمكنها ان تخرق القوانين التي تمثل "الواجب"، فلا منطق هنا إلا منطق "الواجب"، السياسي طبعا.

كيف تحتاج الدولة القوية لأدب يبين طرق امتلاك القوة وهي تمتلكها سلفا؟ رب قائل يقول: إن امتلاك القوة لا ينفي ضرورة البحث عن طرق المحافظة على هذه القوة. إن فكرة المحافظة على القوة تفترض في ذاتها وجود ضعف مفترض.

منزلة سلطة السيادة المنعدمة، ومنزلة دولة السيادة المطلقة، هما منزلتان لا تسمحان بانبثاق "منطق الدولة". وحدها منزلة السيادة المحدودة تنتج هذا الأدب.

"منطق الدولة" هو تدبير سياسي جوهره "خرق" القانون الذي وضعته الدولة نفسها؛ لكن لماذا هذا اللجوء إلى خرق القانون؟ إن سبب ذلك هو أن ظرفا ما يفرض على الدولة ألا تلتزم بما وضعته من قوانين، والخرق في ذاته تعبير عن ضعف وعجز عن الالتزام بالقانون؛ فالدولة وضعت القانون واعتبرته نموذجها في الممارسة؛ لكن الواقع فرض عليها التخلي عن هذا المثال. ما هي الدولة التي تخرق القانون الذي قامت بوضعه؟ إنها دولة ذات صفتين: الأولى أنها سيدة نفسها، والثانية أن سيادتها مهددة لا تبعث على الاطمئنان ولا تخلق لديها الثقة في قوتها.

شرط انبثاق أدب "منطق الدولة" إذن هو قيام كيان سياسي يتمتع بالسيادة؛ لكنها سيادة غير مطلقة. يؤكد المؤرخون أن ظهور مؤسسة "الدولة" بدأ مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، واستمرت العملية إلى أن عرفت اكتمالها مع القرن السابع عشر الميلادي.

وقد نتجت الدولة عن صراع طويل بين الكنيسة والملكية من جهة والإمبراطورية من جهة أخرى؛ ثم كانت المرحلة الثانية من الصراع بين الكنيسة والملكية مقابل القوى الفيودالية المحلية التي أصبحت تهدد الأمن العام للعالم المسيحي. في هذه المرحلة الثانية بدأت الملكيات تأخذ طابعا مؤسسيا ينحو نحو "الدولة"، دون التخلص نهائيا من ضغط الكنيسة وشغب الفيودالية. في المرحلة الثالثة والنهائية تمكنت الملكية من الاستقلال بذاتها سياسيا في إطار مؤسسة الدولة بعيدا عن أي تهديد كنسي أو فيودالي. إن نموذج الدولة الذي أنتج "منطق الدولة" هو النموذج الذي ظهر قبيل ميلاد "الدولة القومية" المطمئنة إلى سيادتها دون خوف من قوة مشاغبة أو ضاغطة. دولة "منطق الدولة" هي دولة ذات سيادة؛ لكنها دولة لم تتخلص بعد من خطر التدخل الكنسي ومن خطر الاختراق الفيودالي. إن حفاظ هذه الدولة على قوتها وتنمية هذه القوة يفرض عليها أحيانا أن تتحايل على ما وضعت من قوانين فتخرقها. 

وحدها الدولة التي تعاني نقصا في سيادتها، عبر الإحساس بالتقييد- من طرف سلطة الوصاية الكنسية- أو عبر الإحساس بالتهديد –من طرف الفيودالية الحربية- تمتلك ذلكم "الوعي الشقي" الذي يجعلها تعي انعدام التطابق بين الحال المكسوب وبين المثال المرغوب. ولهذا نجد أن الدولة التي تعاني نقصا في السيادة تُنْتِج كتابة سياسية تفكر بمنطق "الضرورة" الذي يبحث عن الممكن، ولا تفكر بمنطق الواجب. إنها تضطر إلى خرق "الواجب"– القانوني- الذي اعتادت عليه. فالضرورات تبيح "خرق المسطورات". فكل ما تم تسطيره من قواعد يمكن خرقه إذا صارت قوة الدولة مهددة.

III- مميزات أدب"منطق الدولة" ونتائجه:

إذا اعتبرنا أن أدب "منطق الدولة" يوجه "نصحه" لصاحب الأمر، كي يقود الإمارة بناء على مبدأ الممكن وليس بناء على مبدأ الواجب الأخلاقي؛ فإنه يمكننا الجزم أن هذا الأدب يختلف عن "أدب المرايا".

تتعلق أوجه الاختلاف بالموضوع(1)، والغاية(2)، والنموذج (3).

1- الموضوع:

إذا كان الموضوع الذي يهتم به "أدب المرايا" هو أخلاق الأمير والخصال التي يجب أن يتحلى بها كي يمارس الحكم، عملا بقاعدة(اعرف ضعفك لتنمي فضائلك)؛ فإن ما يهتم به أدب "منطق الدولة" ليس هو قوة "الأمير"؛ بل قوة الدولة من خلال تحديد كافة الإمكانيات الضرورية والمطلوبة في الدولة كي تتمكن من تنمية قوتها والحفاظ عليها على أعلى مستوى ممكن، عملا بقاعدة(اعرف قوتك لتنمي سلطتك).

يتحدث بوطيرو عن ثلاثة عناصر، وهي الأمير والإمارة والشعب. ويميز جيوفاني بين الأمير وبين الدولة؛ إنه يشبِّه الأمير بالبنَّاء والدولة بمادة البناء. فالأمير يبحث عن قوة الإمارة من خلال تدبير الشعب.

لم تعد الدولة كيانا فيزيائيا مُشخَّصا (الإمبراطور، الملك المُفَوَّض)؛ ليست الدولة شخصية معنوية أو شخصا مجردا (سيادة المتسيد)؛ الدولة هي علاقة بين "الأمير" والشعب.

أساس هذه العلاقة هو هيمنة الدولة (من خلال البَنّاء/الأمير) على الشعب. إن المجال الذي يمارس فيه الأميرُ السلطةَ ليس هو المجال الترابي(الإمبراطورية الرومانية)، أو المجال البشري (رعايا البابا)؛ بل المجال هو هذه العلاقة بين الأمير والشعب.

مادة خاصة إذن، هذه التي ينشغل بها أدب "منطق الدولة". إنها علاقة الأمير بالشعب. ما الذي ينتج عن هذه العلاقة؟ هذا ما سيتضح إذا بينا هدف "منطق الدولة".

2 – الغاية:

إذا كان هدف أدب المرايا هو العمل على تحقيق الخلاص الأخروي، فإن هدف منطق الدولة هو تكريس هيمنة الإمارة (قوة الدولة).

يرى جيوفاني بوطيرو أن " الدولة هي هيمنة تامة على الناس". كيف تتم هذه الهيمنة؟ هل عبر الإكراه والضغط، أم عبر الصناعة و"الاختراع"؟

إذا كانت الوسائل المطلوبة من الأمير لكي يحقق غايات الإمارة- حسب "أدب المرايا" - هي امتلاكه معارف دينية وحِكَما أخلاقية؛ فإن وسائل تحقيق الأمير البَنّاء لهدفه المتمثل في تنمية قوة الدولة والمحافظة عليها هي هذه المعارف الجديدة التي تزامن ظهورها مع حدوث الانتقال من الاهتمام بالرعية إلى الاهتمام بالساكنة. هذه المعارف هي علم الإحصاء والديمغرافيا والصحة وعلوم الإدارة.

هدف جديد هو علاقات الهيمنة بين الدولة والشعب. معارف جديدة، هي علم الإحصاء والديمغرافيا، وعلوم الإدارة. لم تعد الدولة- مع أدب "منطق الدولة"- في حاجة إلى اللاهوت والفلسفة الأخلاقية (ولم تعد في حاجة إلى الفلسفة السياسية).

III - النموذج:

يفترض"منطق الدولة" نموذجا سياسيا(1)، ونموذجا نظريا (2). يتعلق النموذج السياسي بطبيعة "الدولة" التي ينبثق في ظلها أدب "منطق الدولة"؛ ويتعلق النموذج النظري بطبيعة القاعدة "القانونية" التي تقوم عليها دولة "منطق الدولة"، وطبيعة المعارف والعلوم المطلوبة، وفق أدب "منطق الدولة".

1– دولة "منطق الدولة":

إن النموذج النظري للدولة الذي يشكل شرطا لانبثاق أدب "منطق الدولة"، هو نموذج الدولة ذات السيادة المحدودة.

قلنا أعلاه: إن هذا النموذج يوجد بين نموذجين مخالفين، هما نموذج الكيان السياسي المنزوع السيادة (ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي)، ونموذج الدولة ذات السيادة الناجزة والمكتملة (القرن السابع عشر).

إن نموذج الكيان السياسي غير المتسيد هو الكيان الذي أفرزته النظرية الوزارية. فهذا كيان يمثل سلطة سياسية، تمارس "التدبير" وفق مبدأ التفويض الكنسي، وتحت رقابة و"سيادة" الكنيسة. نحن هنا في مرحلة لم تظهر فيها "الدولة"، فـ"دولة" ضعيفة جدا كهذه - لم تصبح دولة بالمعنى التام للكلمة، ولا زالت تحت وصاية قوة أعلى منها (الكنيسة أو الإمبراطورية)- لا يمكنها أن تنتج أدب "منطق الدولة". فـ "دولة" كهذه ليس لها طموح يمكنه أن يتعارض مع واقع ما، فينتج "وعيا شقيا"؛ "دولة" كهذه ليست مجبرة على خرق الواجب؛ بل وليست قادرة على خرقه، ما دامت تقوم بوظيفة "الوزارة" والمساعدة بجانب قوة أعلى منها. "دولة" كهذه ليست إلا "مُلحقة" سياسية تدبر أمر "الرعية" في المجال السياسي/البدني، بتفويض من الكنيسة.

أما بالنسبة لدولة السيادة الناجزة والمكتملة، فهي أيضا لا تسمح بانبثاق أدب "منطق الدولة".

لا يمكن لدولة قوية تتمتع بالسيادة المطلقة - مثل دولة القرن السابع عشر الميلادي - أن تنتج أدب "منطق الدولة". إن دولة كهذه لا تعاني أي نقص في السيادة؛ إنها ليست مجبرة على التلاؤم مع وضع المفارقة وعدم التطابق بين الواقع والمثال؛ لأنها لا تعاني المفارقة. إنها سيدة نفسها، تصدر ما تشاء من القوانين، وتنفذها على مجمل التراب الذي هي فوقه سيدة. إنها "الدولة" القومية (l’Etat – nation).

هكذا يمكن أن نفهم أن أدب "منطق الدولة" لا يمكنه أن ينبثق في ظل "دولة" التفويض، كما لا يمكنه أن ينبثق في ظل دولة السيادة الكاملة. نموذج "دولة" الكتابة السياسية المسماة "منطق الدولة" هو دولة ذات سيادة؛ لكنها سيادة غير ناجزة، سيادة لازالت تتعرض للتهديد.

2– أي نظام معرفي لـ"منطق الدولة"؟

يستلهم أدب "منطق الدولة" نموذجا نظريا، ويستحضر ثنائية مفهومية، وينتج إستراتيجية عملية، ويفرز نظاما معرفيا يلائم طبيعة موضوعه.

يقول فيليبو كافريانا - أحد كتاب أدب "منطق الدولة" الإيطاليين -:

"إن المرض يصيب الدول مثلما يصيب الأبدان؛ لكن علاجها ممكن على يد قادة حكماء مثلما أنه بإمكان أطباء أكفاء علاج أمراض البدن"(12).

يستلهم "منطق الدولة" نموذجا نظريا هو الطب، وتبعا لهذا النموذج، فـ"منطق الدولة" يتصور الدولة بوصفها جسما.

ومثل أي جسم، فالدولة تصِح وتَعْتَلُّ. ومثلما أن الطبيب مطالب لممارسة الطب بمعرفة أنواع السموم، فالحاكم مطالب بالمثل بمعرفة "منطق الدولة" السيئ، حيث الحاكم يسعى وراء مصلحته الشخصية دون المصلحة العامة التي تشكل غاية "منطق الدولة" السليم. إذا كان الطبيب مطالبا بتحليل أعراض المرض من أجل معالجته، فالحاكم بالمثل مطالب بتحليل مختلف أنواع الأزمات التي تصيب هذا الجسم السياسي.

هذا الانتقال من الصحة إلى المرض، يفرض على الحاكم/الطبيب أن يكون عالما بالشكل الذي تصح فيه الدولة وتَعْتَلُّ، تعرف الدولة حالة الأزمة مثلما تعرف حالة العافية؛ وكما أن الطبيب مطالب بمعرفة السموم، فالحاكم مطالب أيضا بمعرفة "منطق الدولة" السيئ، الذي ينشغل الحاكم فيه بمصلحته الشخصية، معرفة تجعله لا يغفل "منطق الدولة" السليم الذي يشكل تحقيقُ المصلحة العامة هدفَه. يشترط في الطبيب أن يعرف متى يحتاج المريض إلى عملية جراحية، ويكون عارفا أيضا بحجم هذه العملية، هل هي تدخل جراحي كبير أم مجرد حجامة بسيطة؛ بنفس الشكل يَشترط "منطق الدولة" في الحاكم أن يمتلك معرفة باللحظة التي تستدعي تدخلا "عنيفا"، ومتى يكون حربا ومتى يكون مجرد حملة محدودة.

إن استلهام الممارسة الطبية في تدبير البشر ليس جديدا؛ فقد استحضر الفكر "السياسي" المسيحي خلال العصر الوسيط الأول – والفكر السياسي الإغريقي قبل ذلك - الممارسة الطبية في تدبير و"سياسة" الناس. 

اصطبغ "التدبير" في الفكر المسيحي بطابع أخلاقي، وقد شيَّد البابا الشهير غريغوار الأول نظرية "التدبير الرعوي" التي عرضها في كتابه "القاعدة الأخلاقية". وتقوم هذه النظرية على التمييز بين الجسم والنفس. وسيرا على خطى القديس أوغسطين(354-430م (Saint Augustin عد غريغوار الأكبر أن منبع الخطيئة هو النفس عامة والإرادة خاصة، وأن الجسم ليس إلا عنصرا تابعا للنفس؛ فأي إصلاح يجب أن يكون إصلاحا للنفس؛ لكن إصلاح النفس لا يكون بالتوجه إلى النفس في ذاتها؛ بل بالتوجه إلى العنصر المحرك داخلها وهو الإرادة. كيف نتعامل مع النفس/الإرادة، وكيف نتعامل مع الجسم؟ 

هنا يستلهم غريغوار أحد آباء الكنيسة الغريق وهو غريغوار النازياني(329-390م (Grégoire de Naziance. يفرق غريغوار النازياني بين طب الأبدان وطب القلوب؛ فالأول يتعامل مع عنصر مادي هو الجسم، حينما يتعامل الطبيب مع الجسم العليل فهو يتعامل مع عنصر عام، هو الجسم الإنساني. فإذا كان هناك مرض ما هو نفسه لدى كل الأجسام العليلة؛ فإن الطبيب لا ينشغل هنا بالمريض في فرديته؛ بل ينشغل بالمرض في عمومه. لا يهتم الطبيب بالمريض في ذاته إلا إذا كان شخص المريض يعوق العلاج؛ فقد يمتنع المريض عن أخذ الدواء، فيكون مسموحا ومفهوما أن يلجأ الطبيب إلى الإكراه؛ بل قد يلجأ إلى "عنف" العملية الجراحية.

إذا كان طب الأدبان يتعامل مع موضوع "عام" هو البدن، ويلجأ إلى الإكراه من أجل علاج البدن العليل، فإن طب القلوب يتعامل مع موضوع "فردي". فكل نفس بما كسبت رهينة. وعلاج النفس العليلة يقتضي التعامل مع كل نفس بشكل منفرد؛ فإذا كانت كل الأبدان عبارة عن "شيء" أو عبارة عن "كم"، فإن كل نفس هي عبارة عن "كيف".

من هنا تأتي ضرورة الخطاب الأخلاقي؛ لكن هذا الخطاب الأخلاقي لا يأخذ طابع الكونية التي تتميز بها مبادئ أو أوليات المقولة الأخلاقية. إن أخلاقية طب القلوب هي أخلاقية "فردية"، تحمل هذه الأخلاقية طابعا سيكولوجيا ولا تحمل طابعا عقليا كانطيا. وهذا الطابع السيكولوجي هو الذي يجعل طب القلوب يتبلور في مواعظ وإرشادات تتوجه ليس إلى النوع الإنساني بل تتوجه إلى الأفراد من المؤمنين (تقنيات الاعتراف والتأمل). 

موضوع طب الأبدان هو جسم يوجد "هنا" أمام الطبيب. وليس للجسم ردود أفعال إلا ما قد يصدر من "نفس" المريض فترفض العلاج. هنا يمكن للطبيب اللجوء إلى الإكراه البدني، إما بشكل مباشر عبر الإجبار أو بشكل غير مباشر عبر "العمليات الجراحية". موضوع طب القلوب ليس "شيئا". إنه كائن حي له إرادة، وله قدرة على التمويه والمداراة.

إذا كان من الممكن أن ينجح الطبيب في علاج علة البدن عبر اللجوء إلى الإكراه، فإن ذلك مستحيل إذا تعلق الأمر بالنفس؛ فالنفس التي تتميز بالقدرة على التمويه حين تعرضها للإكراه سرعان ما تعود إلى سابق عهدها فور زوال الإكراه. لهذا يطالب غريغوار الأكبر- على إثر غريغوار النازياني- بالمعاملة اللطيفة مع النفوس العليلة. 

موضوعان اثنان هما: الجسم التابع، والنفس "الأمارة" بالسوء وبالخير. منهجان اثنان هما: الإكراه والضغط من جهة، والإقناع من جهة أخرى. سلطتان اثنتان هما: السلطة السياسية (التدبير السياسي) التي تعتمد الإكراه من جهة، والسلطة الروحية التي تعتمد الإقناع والوعظ والإرشاد من جهة أخرى (التدبير الرعوي).

في إطار هذا التمييز بين البدن والنفس، تضع نظرية "التدبير الرعوي" التدبير السياسي في يد السلطة السياسية (الملوك أو الأباطرة)، في حين تحتكر السلطة الكنسية التدبير الروحي في يد "السلطة" الرعوية (الكنيسة). إن أساس هذا التقسيم للعمل التدبيري هو أن طب القلوب أشرف من طب الأبدان؛ ونظرا لأن الأساقفة والأحبار مكلفون بمهمة جليلة هي قيادة الناس نحو الخلاص، فلا يليق بهم أن يقوموا بالعمل القذر المتمثل في اللجوء إلى العنف لتدبير المؤمنين. هكذا كان هناك في العصر الوسيط المسيحي تمييز بين سلطتين: سلطة سياسية وسلطة دينية. إن السلطة السياسية هي مجرد سلطة تفويضية تمنحها السلطة الدينية للملوك والأمراء والأباطرة قصد تهيئ الأبدان ومراقبتها؛ كي تكون عونا للأنفس والقلوب في بحثها عن "الخلاص". أنتج الفكر المسيحي الوسيطي تصورا "أخلاقيا" للتدبير. 

نعم كان هناك "تدبير سياسي" خلال العصر الوسيط؛ لكن إلحاق هذا التدبير بغايات روحية حددتها الكنيسة في إطار نظرية التفويض أو "النظرية الوزارية" أفرغ هذا التدبير من جوهره السياسي، لما جعل شرفه في شرف غايته الروحية والأخلاقية.

بعد هذا العرض للدور الذي لعبه النموذج الطبي في الخطاب السياسي المسيحي الوسيطي المتقدم، نشير إلى أن استلهام "منطق الدولة" للنموذج الطبي لم يكن على الصورة نفسها. 

لقد كان النموذج الطبي في العصر الوسيط المسيحي مزدوجا. كان هناك نموذج طبي بدني، وآخر نفسي؛ فالأول هو الذي يستحق أن يعد نموذجا طبيا، على أساس أن الطب ممارسة علاجية تُعنى بالبدن. أما النموذج الثاني المهتم بطب القلوب، فهو في الواقع نموذج تربوي سيكولوجي لا علاقة له بالطب كمهنة وممارسة مادية.

لقد لعب النموذج الطبي دورا سلبيا في الفكر السياسي المسيحي المذكور أعلاه. لقد كان هذا النموذج لصيقا بموضوع لم يشكل موضوع اهتمام النظرية السياسية المسيحية؛ إنه البدن. إن هذه الوضعية السلبية للنموذج الطبي ستتغير مع "منطق الدولة". سيصبح الطب أنموذجا إيجابيا، يجب على الحاكم أن يتمثله. لماذا هذا التحول في وضعية النموذج الطبي من وضعية "الفزاعة" التي لا يجب أن يتمثلها رجل الدين صاحب التدبير الرعوي الشريف، إلى وضعية "المنار" الذي يجب أن يقود خطوات رجل السياسة؟

إن سبب التحول هو التحول الذي مس مفهوم التدبير السياسي نفسه، ومس طبيعة الإطار الذي يمارس فيه ومن خلاله تدبير أمور الناس.

لقد استقل التدبير السياسي عن الإطار الديني العام. أصبح للفعل السياسي مرجعية جديدة، وهي مرجعية المنفعة والمصلحة وتحقيق حاجات الناس. وبالشكل نفسه استقلت تلكم الهيئة التي كانت جنينية يدبر من خلالها الملك المفوض والموظف/الوزير أمور الناس. أصبحنا أمام "الدولة" وقد استقلت عن الكنيسة. هذا الاستقلال للسياسة بدأ مع مطلع القرن الثالث عشر للميلاد، على يد القديس طوماس الإكويني الذي اطلع على كتاب "السياسة" لأرسطو الذي اكتشفته أوربا عام 1260م. لقد صور أرسطو "السياسة" على أنها فعل طبيعي يسعى إلى تحقيق غايات بشرية دهرية ومادية. وهذا "التطبيع" للسياسة هو ما أدخله الإكويني في بناء النظري السياسية المسيحية الوسيطية؛ لقد أسهم الاختراق الأرسطي في النظر إلى السياسة في استقلال عن المتعالي. وقد أسهمت تحولات تاريخية عديدة في انبثاق مؤسسة الدولة كيانا قائم الذات يرتبط بـ"الدنيا" وبمصالح الناس. أصبحت الدولة كيانا ماديا منطلقا وغاية، وأصبح التدبير سياسيا منطلقا وغاية. لأجل ذلك تصور "منطق الدولة" السياسة والدولة تصورا ماديا؛ سمحت هذه النظرة بتشبيه الدولة بالجسم، وتشبيه السياسة بالطب. هنا أصبح الطب نموذجا مغريا ولم يعد فزاعة يجب تجنبها من طرف أصحاب التدبير "الشريف". لقد سقطت ثنائية التدبير الشريف (الرعوي) والتدبير الحقير (السياسي). لقد سقطت ثنائية السلطة السياسية والسلطة الدينية. صار ممكنا الحديث عن سلطة دينية تختص بمجال المتعالي دون التدخل في المجال السياسي؛ صار ممكنا في حالات أخرى الحديث عن احتواء الدولة للدين/الكنيسة.

الدولة جسم حي. هكذا تحدث "منطق الدولة" المستلهم للنموذج الطبي. الجسم كائن حي؛ ومثل كل كائن حي تتصف الدولة - وهي تسعى نحو مصلحتها - بالحذر.

إن مصلحة الدولة المركزية هي الحفاظ على القوة وتنميتها. "منطق الدولة" يستحضر مفهوم "المصلحة" خلافا لـ"أدب المرايا" الذي يستحضر الفضائل والواجبات الدينية. إن "نظرية الدولة" أصبحت تسمح بالحديث عن غايات دهرية، كما أصبحت تسمح بالتخلص من قيود الغايات المتعالية. لكن مفهوم المصلحة هذا هو غاية تستدعي وسائل للعمل على تحقيقها. إن أهم وسيلة هي "الحذر"؛ فالحذر هو حالة سياسية وليس حالة سيكولوجية؛ لهذا يتمظهر الحذر في "منطق الدولة" في معارف وإجراءات عملية، ولا ينحصر في خصائص وخصال أخلاقية.

الحذر "معرفة" تسمح للأمير بالتمييز خلال لحظات الاستثناء بين المصلحة وبين الواجب. والحذر ليس - كما قلنا أعلاه- حالة نفسية؛ بل هو تصرف عن علم ودراية. لهذا فالحذر يصبح معرفة بعناصر قوة الدولة وعناصر ضعفها. والحذر أيضا هو طريقة في التعامل مع هذه المعرفة المكتسبة؛ فالأمير في "منطق الدولة" ليس مفكرا أو فيلسوفا ينشر الحقيقة بين الناس؛ الأمير حاكم يخوض صراعا مع أعداء فعليين وأعداء محتملين.

لهذا ليس من "مصلحة" الحاكم في "منطق الدولة" أن يكشف عناصر قوة دولته وعناصر ضعفها؛ فالحذر إضمار وإخفاء. فإذا كان الملك في "أدب المرايا" يكشف خصاله للرعايا علها تقتدي به، فإن حاكم "منطق الدولة" مضطر للتخفي والتمويه. أتحدث هنا عن إستراتيجية دولة "منطق الدولة"؛ إنها استراتيجية التمويه والتخفي التي تقوم على مفهوم "أسرار الدولة"؛ فـ"منطق الدولة" يقتضي العمل بمنطق "أسرار الدولة".

المعرفة عنصر من عناصر القوة التي يجب على الحاكم أن يتوفر عليها؛ لهذا ارتبط "منطق الدولة" بظهور بمجموعة من المعارف والعلوم، شكلت نظاما معرفيا متكاملا أسهم في تحقيق "مصلحة" الدولة.

لم تهتم دولة "منطق الدولة" بالقاعدة الأخلاقية التي تشكل أساس التدبير الرعوي (أدب المرايا)، ولم تهتم بالقاعدة القانونية التي تشكل أساس الخطاب القانوني والسياسي للسيادة(الفلسفة السياسية). اهتمت دولة "منطق الدولة" بـ"العلاقة" الموجودة بين الأمير والدولة عبر الشعب. العلاقة تهميش للقاعدة، أخلاقية كانت هذه القاعدة أم قانونية. 

إن تهميش القاعدة هو تهميش لـ"الواجب" سواء أكان هذا الواجب أخلاقيا أم قانونيا وسياسيا. ليست العلاقة جوهرا؛ بل هي تفاعل علائقي بين قوى متصارعة. لهذا تحتاج دولة "العلاقة" إلى تقنيات في الحكم أكثر من حاجتها إلى "فضائل" أو إلى "شرعية". فضيلةُ وشرعيةُ دولةِ أدبِ "منطق الدولة" هي القوة. ولامتلاك القوة احتاجت هذه الدولة إلى تقنيات، وتطلبت التقنيات معارف جديدة. إن "الابستمولوجيا" أداة ضرورية لامتلاك القوة؛ بل هي نفسها قوة.

إن ما أنتج النظام المعرفي الملائم لـ"منطق الدولة" هو طبيعة موضوع هذا الأدب السياسي.

إذا كان موضوع سلطة التفويض الوزاري هو الرعية، وموضوع دولة السيادة هو "المجال الترابي" le territoire التي تقوم عليها سيادة الدولة، فإن موضوع دولة "منطق الدولة" هو "الساكنة" la population ". لقد فرضت طبيعة موضوع "منطق الدولة" نمطا خاصا من المعارف والعلوم.

ما طبيعة الموضوع؟ ما طبيعة المعارف؟ أي علوم لأي موضوع؟

الساكنة "كمٌّ" ومقدارٌ، في حين أن الرعية "كيفٌ". يتطلب الكم علوما "رقمية" تٌحصي وتَزِنُ بمعايير الكم، في حين يتطلب الكيف معارف كيفية تُقَوِّم وتزن بمعايير الكيف. يركز الكم على علوم العدد والمثقال، وتركز علوم الكيف على علوم الأخلاق والمثال. لهذا كانت معارف الكيف - في ظل "الحكم الوزاري" - معارف أخلاقية، أو أداتية لغوية تفسر المتن الديني الحامل لقواعد الأخلاق. أما المعارف في ظل دولة "منطق الدولة" فهي معارف كمية ترتبط بالساكنة ككتلة، ولا تهتم بالرعية كأفراد أو "خِراف". معارف دولة "منطق الدولة"، تُحصي الساكنة (علم الإحصاء) وتراقب تحولات حجمها (الديمغرافيا)، وتؤطرها وتؤطر حركتها ووضعيتها (علوم الإدارة)، وتهتم برفاهيتها (المعارف الصناعية) وبسلامتها البدنية (الصحة) وسلامتها الروحية دون إحالة على ما هو أخلاقي بالمعنى الديني؛ بل بالإحالة على الأخلاق المدنية والسياسية والوطنية (علوم التربية عامة، والتربية الوطنية والمدنية خاصة).

إن طبيعة موضوع "منطق الدولة"- بما هو كم أو كتلة حية (الساكنة) - اقتضت علوما ذات منزع "بيولوجي" أو حيوي، هي علم الإحصاء وعلم الديمغرافية وعلوم الصحة الوقائية وعلوم الإدارة (لتدبير جسم حي) وعلوم التهذيب الوطني والمدني. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أول تأليف غربي في أدب المرايا" يستعمل صراحة لفظة "المرآة"، هو كتاب « Speculum regale »، وهو من تأليف الكاتب" غودفروي فيتيربو" Godfroy de Viterbe (1180- 1183م). انظر:

Senellart Michel « les arts de gouverner, du regimen médiéval au concept de gouvernement », Ed. Paris, Éditions du Seuil, 1995, p47.

2- مذكور في: Senellart المرجع السابق، ص48.

3- المرجع السابق، ص48.

4- المرجع السابق، ص49.

5- المرجع السابق. ص50.

6-المرجع السابق ص51. 

7- المرجع السابق ص53.

8- مذكور في:

Taranto Domenico « le discours de la raison d’État», in. Caillé Alain, Senellart Michel, Lazzeri Christian (dir.) «histoire raisonnée de la philosophie morale et politique», le bonheur et l’utile, t.1, de l’antiquité aux lumières, éd. Paris, Flammarion, 2007, p319.

9- انظر:

Meinecke Friedrich« L’idée de la raison d’Etat dans l’histoire des temps modernes », traduit de l’allemand par Chevallier, Maurice. Ed. Genève, librairie Droz, 1973, P.11.

10- مذكور في:

Burke Peter, l’influence de Tacite, le scepticisme et la raison d’État, in. Burns James Henderson, «Histoire de la pensée politique moderne », édition française, Paris, presses universitaires de France, col. Léviathan, 1997, p. 436.

11- سينيلار، مصدر سابق، ص54. 

12- مذكور في Burke Peter، المرجع السابق ص441.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/230

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك