القرآن الكريم والوصايا العشر

سبستيان غينثر

لا مراء أن "الوصايا العشر" -كما وردت في التوراة العبرانية- تكتسي دلالة أساسية بالنسبة إلى جماعات ومجتمعات وثقافات التقليد اليهودي/المسيحي. وبالفعل -في اعتقاد العديد من اليهود والمسيحيين- تعد هذه اللائحة التوراتية من التعاليم الدينية والأخلاقية بمثابة "ميثاق" النظام الاجتماعي؛ إذ هي سجل مميز من النواميس التي تشكل أنموذجا توراتيا مصغرا من عهد الرب مع بني البشر. 

وبطبيعة الحال، ينبلج السؤال عما إذا كان القرآن يتضمن هو أيضا أو يحيل إحالة صريحة إلى الوصايا العشر. وبتعبير آخر، هل يُحتملُ أن يتقاسم أتباع الديانات التوحيدية الثلاث مدونةَ مبادئ دينية وأخلاقية تعد ذات أهمية حيوية قصوى في أمر حياتهم ووجودهم، وذلك بالقدر نفسه وعلى الأهمية نفسها؟ 
1- الوصايا في التوراة:
ترد الوصايا في التوراة بوفق صيغتين اثنتين: أولاهما وردت في السفر الثاني من أسفار التوراة المسمى "سفر الخروج"، الإصحاح 20: 1-17، وفي السفر الخامس المدعو "سفر تثنية الاشتراع"، الإصحاح 5: 5-21. على أن ثمة لائحة إضافية ثانية للوصايا العشر -لربما تكون أقدم ولكنها أقل شهرة- وردت في سفر الخروج، الإصحاح 34: 14-28.
والحال أن التعبير التوراتي المستعمل للحديث عن مضمون الوصايا العشر في التوراة العبرانية هو التعبير العبري aseret ha-dvarim - "العشر كلمات" - إلا أنه يطلق عليها أيضا اسم "الوصايا العشر". والتعبير الذي اشتهرت به decalogue إنما اشتقاقه عائد إلى التعبير اليوناني deka logoi، الذي يعني بدوره كذلك "عشر كلمات" أو "عشرة أقوال". وحسب ما ورد في هذه المقاطع من التوراة العبرانية، فإن هذه الوصايا إنما أنزلها الله على موسى في طور سيناء، وقد رقمت في لوحين من الصخر. 
هذا ولقد جرى التعارف على تقسيم الوصايا التوراتية إلى مجموعتين، وكل مجموعة تضم خمس وصايا. 
وهكذا تتضمن المجموعة الأولى قواعد مدارها على صلة البشر بالرب. وهي تحرم تحريما قاطعا: 1)- الشرك بالرب و2)- كل ألوان عبادة الأصنام. كما تنص هي على: 3)- ألا يساء إلى اسم الرب. 4)- أن يستريح الإنسان يوما في كل سبعة أيام؛ و5)- أن يكرم الإنسان أبويه. 
وتنظم المجموعة الثانية تنظيما مباشرا صلات البشر فيما بينهم، وتنص هذه القواعد - التي سنها الرب لبني إسرائيل - على أنه ليس ينبغي للمرء أن 6)- يقتل النفس البشرية و7)- وألا يزني 8)- وألا يسرق 9)- وألا يشهد الزور 10)- وألا يشته الأشخاص أو الأشياء التي ليس من حقه أن يشتهيها. 
2- الألواح في القرآن: السورة 7 (الأعراف)، الآيات 142-46.
من المعلوم أن القرآن لا يتضمن مقطعا يُعرف معرفة جلية باسم "الوصايا العشر". 
لكن السورة 7 (الأعراف)، الآيات 142-46، ذات صلة بالفترة من تاريخ الوحي التي تجلى فيها الرب إلى موسى بطور سيناء، وكتب له (وأنا هنا أستشهد استشهادا): "موعظة وتفصيلا من كل شيء" في الألواح. غير أن مضامين النص في الألواح تبقى مجملة غير مفصلة، وذلك سواء في هذا المقطع من القرآن أم في غيره من المواضع. 
3- المفسرون القدامى:
يتطرق المفسرون القدامى -إلى حد ما- إلى الألواح التي أنزلها الله على موسى، وهم يذكرون -مثلا- المواد الثمينة التي صنعت منها هذه الألواح، مشيرين إلى زمردة خضراء وياقوتة حمراء وزبرجد، وإلى خشب من شجرة بالجنة، كما يقال: إن النقش الذي نقشت به الألواح إنما كان من ذهب. 
على أنه يمكننا أن نقول: إن الملاحظات حول هذه التفاصيل "التقنية" إنما كانت ترد على وجه شديد الإيجاز.
وهكذا، يروي لنا ابن كثير - وهو مفسر للقرآن عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، لماذا كان الأمر على هذا النحو من الإيجاز (وأنا أنقل كلامه هنا): 
لقد تقدم أن فسر الله لنا (يعني المسلمين) [عبر تنزيل القرآن] ما الذي ينبغي لنا أن نعلمه من أمر ما تحتويه هذه الألواح. ولهذا ليس من المهم...أن نعلم حجمها ولا تفاصيل أخرى عنها. 
وفيما يخص النص المتعلق بالألواح؛ فإن تفاسير الطبري والرازي والقرطبي وابن كثير -فضلا عن تفسير الجلالين- كلها لا تورد إلا شروحا شديدة الإيجاز. 
- في القرن العاشر الميلادي يذهب الطبري مثلا إلى أن هذه الألواح تحدد الأشياء التي أباحها بنو إسرائيل وتلك التي حرموها".
- وفي القرن 12 الميلادي قال الرازي: إن نصوص هذه الألواح متعلقة بالأحكام. 
- وفي القرن 14م ذهب ابن كثير إلى أن: أ)- الألواح أنزلت على موسى قبل أن يتلقى التوراة، ب)- وأن الألواح تمثل أم الكتاب. 
- وفي تفسير الجلالين -وهو تفسير يعود على القرن 15 الميلادي- يقرأ المرء: "الألواح؛ أي ألواح التوراة".
يبدو حسب ما يستشف من هذه الأقوال -فضلا عن غيرها من الأقوال الشبيهة التي تعود إل تفاسير العصر الوسيط- أن المفسرين المسلمين في العصر الوسيط لم يحاولوا -على وجه العموم- أن يتعرفوا على الوصايا العشر "التوراتية" في القرآن؛ إذ بالنسبة إلى العديد منهم، ما الألواح المنزلة على موسى إلا شيء يمثل نص التوراة. 
4- المفسرون المبكرون وقصص الأنبياء:
ثمة صورة مباينة لما رأينا ترتسم في التفسير المبكر للقرآن الذي قام به مقاتل بن سليمان وفي أدبيات قصص الأنبياء. 
مقاتل بن سليمان (ت: 150هـ/767م): 
عرف مقاتل بن سليمان - الذي عاش في القرن الثامن الميلادي، وكان دوما محط نقد من لدن متأخري علماء الإسلام في العصر الوسيط - بإدماجه المرويات الإسرائيلية (الإسرائيليات) في القرآن، وبعودته الدائمة إلى الاستشهاد ب"أهل الكتاب". فمثلا، لا يشير الطبري أبدا إلى مقاتل. 
والحال أن مقاتلا هذا يبدو أنه تفرد بأمر دون المفسرين الآخرين، عندما تحدث عن الألواح المنزلة على موسى. وأنا أنقل كلامه ههنا: 
" فكَتَب فيها: إنِّي أنا الله الذي لاَ إلهَ إلاَّ‪ ‬أنا الرحمن الرحيم،
لا تُشْرِكوا بِي شَيْئاً، 
ولا تَقْتُلوا النفْس،
ولا تَزْنُوا،
ولا تَقْطَعُوا‪ ‬السَبِيلَ،
ولا تَسُبُّوا الوالِدَيْن. 
(تفسير مقاتل، 62-63).
ثمة أيضا لفتة أخرى دقيقة يوفرها لنا العلامة صاحب كتاب (الفهرست) ذائع الصيت ابن النديم (385هـ/995م)، وهو المؤلف الضخم الذي أفرده لجرد أسماء الكتب العربية التي كانت متوفرة في عصره. فقد ذكر الرجل أن أحد اللوحين اللذين أنزلهما الله على موسى يتضمن "الميثاق" مع الله، والآخر يشتمل على "الشهادة" بأن لا إله إلا الله.
أبو الحسن الكسائي (القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي):
يورد أبو الحسن الكسائي -في كتابه "قصص الأنبياء"- تفاصيل أوفى؛ ذلك أن الكسائي - وهو عالم لغة ونحو وعارف بعلم القراءات عاش في القرن 11 الميلادي [بل القرن الثامن] - يروي -مثلا- كيف أن الملك جبريل هبط إلى موسى وقال له: " قم واركب جناحي المرصع باللؤلؤ والمرجان الذي لم يركبه أحد من قبلك". كما روى لنا أيضا أن جبريل احتمل موسى إلى المكان الذي كلمه فيه ربه، وأنه ما إن بلغ طور سيناء حتى سمع صرير القلم كيف يجري في الألواح، وذلك لما أوحى الله إلى القلم أن " اكتب"!. 
ثم ما لبث أن أورد الكسائي لائحة الوصايا التي أملاها الرب. 
كما أنه استشهد بابن عباس - وهو صحابي معروف، وأحد أهم مفسري القرآن المبكرين - الذي حدد نظيرا لكل وصية من الوصايا التوراتية في القرآن. 
يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ولا تشرك بي شيئا"
قال ابن عباس: "ونظيرها في القرآن" هو ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (لقمان: 14)

"يا موسى لا تقتل النفس التي حرمت إلا بالحق..."

قال ابن عباس: "ونظيرها في القرآن" هو: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء: 93).
"يا موسى لا تسرق مال غيرك... "
قال ابن عباس: "ونظيرها في القرآن": ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة:38). وهكذا دواليك...
وعند الكسائي، ما من سبيل إلى الشك في أن الوصايا التي أُنزلت على موسى إنما وردت متضمنةً في القرآن، وأنه يلزم المسلمين العمل بها. 
لا حاجة بنا -في اللحظة التي نحن فيها الآن- إلى مواصلة طرح مسائل أخرى متعلقة بما إذا كانت الوصايا التي أوردها الكسائي تتماشى مع الوصايا المذكورة في التوراة، وما إذا كانت النظائر التي ذكرها ابن عباس لهذه الوصايا تسوغ أم لا. 
أبو إسحاق الثعلبي (توفي عام 427هـ/1035م):
مثالنا الثالث هو أبو إسحاق الثعلبي، وهو دارس قرآن وحامل قلم عاش في القرن 11 الميلادي. وقد أفرد -في كتابه "قصص الأنبياء"- عدة صفحات للألواح التي تنزلت على موسى. ووصف كيف أن الله أرسل جبريل إلى جنة عدن فقطع منها شجرة فاتخذ منها تسعة ألواح طول كل لوح منها عشرة أذرع بذراع موسى. 
يقال أيضاً: إنّ الله صيَّر من تسعة أغصانٍ من سدرة المنتهى نورا وصار النور قلما أطول مما بين السماء والأرض وكتب التوراة لموسى بيده، كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا، وذلك يوم الجمعة. 
[تنبغي الإشارة هنا إلى أن طلبتي سرعان من شاقهم هذا الأمر لما كنا في طور قراءة هذا الوصف الحي أثناء الفصل، وذلك حتى إن بعض طلبة العلوم علق بالقول: "يبدو أن شعاع النور هذا كان أول أشعة ليزر كتب لها أن تكون"]. 
بعد ذلك أورد الثعلبي فصلا كان عنوانه - وأنا أستشهد بكلامه هنا - "فصل في نسخة العشر الكلمات [هكذا] التي كتبها الله تعالى لموسى نبيه وصفيه في الألواح وهي معظم التوراة وعليها مدار كل شريعة". 
نلاحظ ههنا إيراد التعبير "العشر كلمات" - وهو التعبير الذي يقابل التعبير التوراتي aseret ha-dvarim (من الناحية اللغوية، الأصح في العربية القول "الكلمات العشر"). 
وفيما أعقب، أورد الثعلبي الوصايا العشر. وقد ختم المقطع بالقول (وأنا أنقل كلامه هنا): 
"فهذه نسخة العشر الكلمات وقد أعطاها الله جميعا لمحمد صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة آية. وهي قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾ إلى قوله: ﴿ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة﴾ [الإسراء: 23-38]. ثم جمعها في ثلاث آيات من سورة الأنعام. وهي قوله تعالى: ﴿قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون﴾ [الأنعام: 151-153]". 
يطرح هذا التفسير أمرين: 
1- في اعتقاد الثعلبي، أن القرآن لا ينقل وصايا التوراة بتعابير مجملة؛ وإنما يتضمنها بتفاصيلها.
2- أن الوصايا المنزلة على موسى أوحيت إلى محمد بتفانينها، وذلك في 10 آيات من السورة 17 -سورة الإسراء (بني إسرائيل)- وبإيجاز في السورة 6، سورة الأنعام. 
4-1 سورة الإسراء (سورة بني إسرائيل) 17: 22-39:
ترد الوصايا في السورة 17، الآيات 22-39، في شكلها الموجز، على النحو التالي: 
[1] ﴿ولاَ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً﴾.
[2] ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾.
[3] ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.
[4] ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾.
[5] ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ...﴾.
[6] ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى...﴾.
[7] ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ...﴾.
[8] ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...﴾.
[9] ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ...﴾.
[10] ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا...﴾.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات».
قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ 
قال: 
1. «الشرك بالله، 
2. والسحر، 
3. وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، 
4. وأكل الربا، 
5. وأكل مال اليتيم، 
6. والتولي يوم الزحف، 
7. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
وجب التنبيه ههنا على أن هذه اللوائح من الأقوال النبوية المتميزة إنما كانت معروفة جدا متداولة بين المؤمنين منذ أن ظهر الإسلام، وقد ازدهرت هذه الأفكار في الثقافة الشفاهية المتعلقة بعملية رواية الأحاديث المبكرة (على نحو ما يشهد على ذلك مدى انتشارها الواسع في الأدبيات الدينية خلال حقبة العصر الوسيط)، وذلك إلى حد أنها صارت جزءا لا يتجزأ من آداب السلوك الأخلاقي في الحضارة الإسلامية. 
لكن، دعنا نعود مرة أخرى إلى الأدبيات القديمة المتعلقة بتفسير القرآن. 
علينا أن نتذكر -ضمن ما تم الاستدلال عليه أعلاه- بأنه كانت لمفسري القرآن المسلمين في العصر الوسيط دراية -إلى حد ما- بالمظهر الفيزيائي (المادي) للألواح وللظروف المحيطة بتنزيلها على موسى. 
لكن -وكما رأينا ذلك- ما كان أغلب المفسرين يحيلون إحالة مباشرة على الوصايا العشر أو "العشر كلمات" المنزلة على موسى، وما فعلوا ذلك لا في تحشياتهم على السورة 6، الآي 151-153 والسورة 17: 22-34، لا ولا في شروحاتهم على السورة 2: 83-4، وذلك على الرغم من واقع أن بعضهم - وليكن الطبري وابن كثير مثلا - أشار بعموم اللفظ إلى أن هذه المقاطع القرآنية تتضمن إشارات يعتقد أنها توجد في التوراة. 
4-2 القرآن (الأنعام): 151-153:
من بين العديد من المفسرين ومن المصادر التاريخية في العصر الوسيط، التي تحققت منها، لا توجد إلا نسبة قليلة من الفقهاء أحالت على "الوصايا العشر"، وأشدهم دلالة على الشأن:
1- في القرن 13 م الفقيه المالكي القرطبي وكتابه "الجامع لأحكام القرآن".
2- في القرن 13 م المؤرخ ابن كثير في تاريخه الكبير "البداية والنهاية".
3- في القرن 15 عالم الكلام المالكي المنحدر من شمال إفريقيا عبد الرحمن الثعالبي في كتابه "تفسير القرآن".
4- وأخيرا في القرن 17 العالم العثماني حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون".
وقد أحال القرطبي -في تفسيره للسورة السادسة- إلى كعب الأحبار؛ وهو رجل يهودي أسلم ونقل التراث اليهودي الشعبي والمرّوي من العلماء، وذلك في قوله: "هذه الآية مفتتح التوراة". 
ثم استشهد بعد ذلك بابن عباس (وأنا أنقل هنا قوله): "هذه الآيات المحكمات... أجمعت عليها شرائع الخلق... وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزلة على موسى" (انظر القرطبي: تفسير سورة الأنعام. الآية 151).
وقد ختم القرطبي بالقول: هذه الآية أَمْرٌ من الله تعالى لنبيه عليه السلام [موسى] بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله. 
تعكس وجهات النظر هذه -لا مرية في ذلك- المعتقد الإسلامي الشهير الذي بحسبه يعتبر القرآن تتميما بالفعل وختما واستيفاء لما أوحى به الله من وحي إلى أنبيائه. 
ومع ذلك، فإن العديد من المفسرين القدامى كانوا يركزون -بالأَولى- على الصلاحية الكونية لهذه الجملة من القيم الدينية / الأخلاقية المنزلة في السورتين السادسة والسابعة عشرة، وذلك أكثر مما ركزوا هم على الإحالات الممكنة إلى الوصايا العشر.
والحال أن شروح القرن 12 م، ممثلة في الرازي (ت: 1210)، تبقى ذات أهمية خاصة بالنسبة إلى ما نحن بشأنه: 
إذ يميز الرازي بين التعاليم المتضمنة في السورة السادسة، الآيات 151-153، و"الكتاب" الذي أنزله الله على موسى (المشار إليه في الآية اللاحقة، 154). 
وهو يقول: إن هذه التعاليم القرآنية أبدية، ويرى أنها تعود إلى الزمن الأول الذي متع الله فيه البشر بحقوقهم، وألزمهم بمسؤولياتهم. 
والذي عند الرازي أن التعاليم التي يوفرها القرآن إنما هي موجهة إلى كل البشر، مشتركة بينهم، وهي تبقى صالحة وصحيحة إلى يوم الدين، وأن التوراة -كما قال- نزلت على موسى في زمن متأخر عن الزمن الذي تمثله هذه التعاليم. 
ويعزز الرازي فكرة القيمة الكونية لوصايا القرآن عندما يعلق على السورة 17: الإسراء، وهنا يقول: إن القواعد المنزلة ههنا مشتركة بين كل الأديان. 
5- المفسرون المحدثون:
أعطيت الأولوية لفكرة القيمة الكونية لوصايا القرآن أيضا من لدن المفسرين المحدثين ونقلة القرآن إلى الألسن الأخرى. وهم يشددون، بالإحالة إلى السورة 17، على نقطتين:
أولا: أن واقعة أن الوصايا العشر إنما نزلت هي -أول ما نزلت- على إبراهيم، ثم إثره على موسى؛ لمن شأنها أن تظهر أن كل الأديان التي كلف الرسل بتبليغها إلى البشر إنما تقوم على المبادئ الأساسية عينها، وهذا ما لاحظه مترجم القرآن عبد الحميد صديقي تعليقا على السورة 6. 
ثانيا: أن لائحة الوصايا في هاتين السورتين إنما تعبر عن: "التعاليم الأساسية التي يشيد على أساسها الإسلام بنية الحياة البشرية برمتها، وهي تعاليم تتعلق بكل مجالات الدولة والمجتمع وشؤون الأمة. وهي "بيان" نزل على النبي محمد بمكة قُبيل الهجرة؛ ومن ثمة دشن عهداً جديداً... لكي يجعل كل إنسان يعلم أن المجتمع الجديد، وأن الدولة الجديدة، إنما يقومان على هذه المبادئ الإيديولوجية والأخلاقية والثقافية والاقتصادية والشرعية". 
وهذا ما لاحظه أبو الأعلى المودودي (1903-1979م)- وهو داعية إسلامي معروف في القرن العشرين. 
وكذلك يؤدي مفهوم القيمة الكونية للوصايا في القرآن دورا كبيرا في شرح سيد قطب للسورة 6، الآيات 151-153، فهو يقول: "وننظر في هذه الوصايا، فإذا هي قوام هذا الدين كله؛ إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات".
ويختم سيد قطب بالقول: "هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية".
استنتاجات:
ما كانت البغية من هذه الورقة تحديد العبارات الواضحة في القرآن وفحصها؛ عنيت تلك التي تحيل مباشرة - بالأكثر أو بالأقل- إلى المسائل المثارة في الوصايا العشر الواردة في التوراة. فلئن نحن افترضنا أن هذه كانت هي الحالة، لكان علينا آنها أن نناقش العديد من القواعد الواردة في القرآن بشأن: أ)- صلات بني البشر بالرب وبعضهم ببعض، ب)- البر بالوالدين، واحترام الحياة، والأسرة والجنس ج)- العناية بالحقيقة والعدالة وحماية الملكية...إلخ. ولكان علينا -بالخصوص- أن ندرس كل تلك المقاطع القرآنية الأخرى التي - شأنها شأن الوصايا العشر - تستعمل "لائحة" تحمل وتنقل القواعد والتعاليم الأخرى ذات الدلالة الدينية والأخلاقية.
وإنما بدل هذا، سعت هذه الورقة إلى التنقيب عما يقوله القرآن وعلماء الإسلام في أمر "الوصايا العشر"، وعرض ذلك كله، وبيان مدى أهميته عند المسلمين. والحق أن هذه المقاربة سمحت بإماطة اللثام عن نقاط مفتاحية ثلاث: 
أولا: منذ بدء أمر الإسلام، شكل النظر في مقطعين من مقاطع القرآن - السورة 6، الآيات 151-153 والسورة 17، الآيات 22-39 - جزءا لا يتجزأ من خطاب علماء الإسلام، وذلك بما أن هذه المقاطع تعرض جملة من الوصايا تعكس أو تتوازى -إلى حد ما- مع وصايا التوراة العشر.
(وقد اعتبرت وجهة النظر هذه كذلك من لدن العديد من الباحثين الغربيين في القرن التاسع عشر الميلادي)
وعلى الرغم من ذلك، فإنه في الوقت الذي كانت فيه الصلة الوثيقة بين هذه المقاطع القرآنية المخصوصة وبين التوراة بادية للعيان، وتم التنصيص عليها من لدن المفسر المبكر مقاتل بن سليمان، كما نص عليها أيضا بعض حملة القلم والمؤرخين المسلمون في حقبة العصر الوسيط؛ فإنها ما كانت على الحال نفسه عند مفسري القرآن القدامى الذين شددوا -بالبدل من ذلك- على الطابع الإسلامي والكوني الأبدي لهذه الجملة من التعاليم القرآنية الدينية والأخلاقية. 
والحال أن هذا التغير الدقيق في نبرة التشديد هذه لربما يعكس - أو لربما كان رد فعل - تطور مجتمع إسلامي ودولة كانت زمن العصر الوسيط قائمة بقوة وذات دعامة أكيدة، غير أنها كانت في الوقت ذاته في حاجة إلى قواعد إلهية اجتماعية منظمة وإلى هوية. 
ومع ذلك، يمكن أن يكون هذا التغير ثمرة لتنامي وعي المفسرين وحساسيتهم بمسائل شأن أصالة النص ورسالية القرآن، وصلة القرآن بالتوراة، ومنزلة الإسلام بالقياس إلى اليهودية والمسيحية... وهي مسائل صارت -بطبيعة الحال- الموضوع الذي طغى على الجدالات الكلامية والمساجلات الفكرية بين المسلمين والمسيحيين واليهود في ذلك الزمان. 
ثانيا: لئن نحن عمدنا إلى المقارنة بين لائحة الوصايا الواردة في التوراة وتلك الواردة في القرآن؛ لألفينا أنه من المثير حقا أن الوحيين معا يوليان أشد العناية إلى وجود إله واحد حق - هو الإله الوحيد لهذا الكون، وهو الحاكم الوحيد الذي لا حاكم سواه. 
والحال أنه سواء نظرنا في التوراة أم اعتبرنا القرآن، فإن الوصية الأولى الحقيقية هي تلك التي تتطلب من أولئك الذين يؤمنون بالله أن يغذوا إيمانهم وأن يصونوه، وأن يرفضوا كل ما من شأنه أن يكون معارضا له. 
وفضلا عن هذا، فإن الأوامر الشرعية -والأخلاقية التي هي مفتاح الحياة البشرية والوجود- إنما تم التعبير عنها في الوحيين معا على نحو متشابه من حيث الوضوح والقوة.
ثالثا: على الرغم من التماثلات، فإن ثمة تباينات بين لائحتي التعاليم الدينية الأخلاقية الواردة في كل من التوراة والقرآن. 
والحال أن هذه التباينات إنما مردها إلى درجة التشديد والتنصيص على بعض الوصايا. أكثر من هذا، ثمة وصايا أخرى في لوائح القرآن للوصايا غائبة بالتمام والكمال من لوائح التوراة؛ وذلك مثلما أن بعض الوصايا التوراتية غير منصوص عليها في القرآن.
من جهة أولى ثمة -مثلا- الوصية: 
اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك.
فإنها غير واردة ضمن جملة وصايا القرآن.
ومن جهة ثانية، على خلاف نظيراتها في التوراة، تشدد اللوائح القرآنية للوصايا، على وجه الخصوص، على قيم إنسانية شأن:
• ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ...﴾.
• ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ...﴾.
• ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ...﴾.
• ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...﴾.
والحال أنه في زمن نزول القرآن، كانت التوجهات الأخلاقية من مثل هذا القبيل، ذات دلالة خاصة في المجتمع العربي (البدوي). 
وباعتبار الأهمية الدائمة لهذه المبادئ مع ذلك، فإنه ليس من الأمر المفاجئ للمرء حقا أن يتم التشديد عليها من لدن العلماء المسلمين في العصر الوسيط، وبالخصوص في الفترة الحديثة لدى أولئك الذين استشهدنا بهم في ورقتنا هذه. 
والحق أن من شأن هذه الكشوفات أن تجعل من المستحيل الحديث عن مدونة واحدة مشتركة - وملزمة أيضا - بين الأديان التوحيدية الثلاثة. 
وعلى الرغم من ذلك، وكما سبق أن برهنا على هذا الأمر، فإن أغلب الأفكار الحاسمة المطروحة للنظر هنا إنما هي متقاسمة متشاطرة بين التوراة والقرآن. وهي تحظى -على وجه الخصوص- بتقدير عال من لدن كل أتباع الديانات التوحيدية الثلاث. 
يمكننا أن نختم باقتباس من رسالة يعتقد أن النبي محمد كان قد بعث بها إلى إمبراطور البيزنطيين هرقل (حكم ما بين 610 و641 ميلادية). وفيها خاطب نبي الإسلام الحاكم النصراني عن طريق الاستشهاد بالآية: 
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
وبالنسبة إلى أولئك الذين لهم ألفة بالقرآن وأنسة، فإن استشهاد محمد المقتبس من السورة 3 يثير في أذهانهم نص وميثاق هذه السورة. 
إنما هذه السورة فصل من القرآن هو بحسب محمد عبد الحليم -مترجم معاني القرآن ومدير المعهد الإسلامي بجامعة لندن- وكما أشار إلى ذلك: "يوثق لبداية التوتر الذي نشب بين المسلمين وبعض اليهود والنصارى" زمن نزول الوحي القرآني. لكن - وهذا هو الأهم - يختم بالتشديد على وحدة الإيمان والسلوك بين المسلمين وأهل الكتاب. 
أكثر من هذا، تدعو هذه الإحالة بالفعل إلى تذكر بعض المقاطع القرآنية الأخرى التي تبدأ بالتوجيه التالي: 
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (السورة 2: الآية 83)؛ قلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ (السورة 6: 151)؛ ﴿لاَ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (السور ة 17: 22-3). 
وكما رأينا، فإن هذه المقاطع القرآنية تحظى بالخصوص بتقدير خاص من لدن علماء الإسلام القدامى والمحدثين على حد السواء. 
ههنا تنقدح ثلاث نقاط أساسية: 
(1) أن الإعلان الصريح والقطعي على أن الله واحد -وهو مذهب مركزي بالنسبة إلى التوراة وإلى القرآن معا- هو ما تحمله هذه المقاطع الثلاثة وتنقله.
(2) تصوغ هذه المقاطع الوجيزة والبدية "المبادئ الأساسية والمطلقة للإيمان الإلهي"، وهي مبادئ تبقى ذات قوة دائمة عبر التاريخ البشري. 
(3) تحيل هذه المقاطع إحالة خاصة إلى ميثاق الله الشرفي مع بني البشر وإلى تنزيل الوصايا العشر بطور سيناء.
وإن الدعوة النبوية إلى الجنوح إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، وإلى البحث عن أساس مشترك بين المسلمين والمسيحيين واليهود، لتصير بهذا الشأن ذات بعد دلالي جديد. 
ومع الأخذ بعين الاعتبار عالمنا الذي يشهد على التعدد أكثر فأكثر، فإن المرء قد يتساءل عما إذا لم تكن هذه الرسالة النبوية تشجيعا قويا لنا على الاعتراف والاستفادة من الإمكانات الضخمة المتضمنة في المبادئ والقيم التي تتقاسمها الحضارات والثقافات والجماعات الإيمانية. 
والحق أن من شأن مثل هذا المنظور أن يساعد بالفعل على إنعاش حوار صريح وبناء بين مختلف الجماعات وضروب الإيمان؛ وذلك في الوقت نفسه الذي يمكنه أن يعمل فيه على تقوية فكرة أن احترام الاختلافات وتقدير التنوع الثقافي والتعدد ما كانت هي قطعا من أسباب الفرقة والشقاق؛ وإنما هي على الضد من ذلك منابع القوة ومصادر التقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

باب: آفـاق
الإيمان والتسامح من منظور مسيحي بروتستانتي
فرانك أوتفريد يولاي(*
مدخل إلى موضوع التسامح من منظور مسيحي:
إن التسامح يعدّ شعاراً خاصاً بالنسبة إلى الكنائس البروتستانتية بألمانيا عام 2013 م. لماذا هو كذلك؟ لأننا نمضي نحو عام 2017 م، وللذكرى، فإن هذه هي المناسبة التي سوف يحتفي فيها المسيحيون البروتستانت بالذكرى الخمسمائة لمولد حركة الإصلاح الديني. ولقد شكل هذا الأمر حدثا جللا جدد أمر الكنيسة تجديدا، إلا أنه سجل أيضا بداية انقسام المسيحيين بالغرب إلى بروتستانتيين وكاثوليكيين، وبقي هذا الانقسام قائما إلى أيامنا هذه، غير أن المسيحيين بألمانيا المنتمين إلى الكنيسة معا أمسوا يشتغلون اليوم جنبا إلى جنب. 
وفي سياق الاستعدادات لذكرى 2017 م هذه، وضعت الكنيسة الإنجيلية بألمانيا كل سنة من السنوات القادمة المتبقية عن حلول الذكرى تحت شعار خاص. والموضوع الذي وقع الاختيار عليه لهذا العام هو "الإصلاح الديني والتسامح"، ونحن نود في الكنائس البروتستانتية أن نفكر في موضوع التسامح في ألمانيا المتغيرة وفي المجتمع الأوربي وفي العالم برمته، كما نروم فعل ذلك من زاوية الإيمان الديني. فما أساس التسامح ههنا في إيماننا؟ وما الذي يعنيه ذلك بالقياس إلى صلتنا بالمسلمين؟ 
ما الأمر الذي تغير في عالمنا؟ وما هو الإطار الذي صرنا نشتغل فيه الآن؟ 
اسمحوا لي أن أشرع في الكلام عن عمان. ذلك أنه بوسم عمان مجتمعا بحريا شديد العراقة، فإن لهذا البلد صلات تضرب بعمق في التاريخ مع كل من إفريقيا والهند والشرق الأقصى، فضلا عن أن لها صلات -بطبيعة الحال- ببقية البلدان الإسلامية، وبأوربا، وبأمريكا. والحال أنه ما بعمان وحدها؛ وإنما بالعالم بأسره حدثت تحولات عميقة شهدتها الأربعون سنة الأخيرة مست الحركية والتواصل والتفاعل السياسي والديني، وقد سُمِّيت بالجملة باسم "العولمة"، وإن علينا ألا نسيء تقدير هذه التحولات. 
هذا وقد أمسينا نلفي في العالم بأسره أن الثقافات والجهات والمعتقدات التي كانت فيما قَبْلُ لا تعلم بعضها عن بعضها الآخر شيئا، أضحت تتجه بعيدا إلى تجاوز ما دون عالمها المخصوص والتطلع إلى آفاق غير آفاقها المحدودة. وبالفعل، باتت هي تلاحظ وجود الآخرين، وتتصل بهم، وتتناقش معهم، وتطرح أسئلة عن معتقداتهم، وتستفسر عن مقاصدهم امشتركة، وتتحدث عن اختلافاتهم. 
وهكذا، أمسينا نكتشف الآن أن بالبيت الكبير الذي هو العالم الذي نحيا فيه توجد غرف كثيرة، على أننا جميعا نحيا في هذا البيت الذي هو بيتنا الوحيد، وإن لبمقدرتنا -بل ومن المحتم علينا أيضا- ألا يتلافى بعضنا بعضا وألا يتحاشاه - وإلا فإنه سوف يكون علينا أن نظل قابعين في غرفتنا في كل الأوقات لا نبرحها أبدا. 
وقد أضحينا على وعي تام بأن "العولمة" - بجميع آثارها الجانبية - أمر مقلق بالنسبة إلى العديد من الناس. كيف لا يكون الأمر كذلك وهم شاهدون على صدام بين العديد من الصور والعوائد والأحكام المسبقة الثقافية والدينية المتنوعة؟ 
وإن البعض لا يروم قطعا أن يعرض إلى الخطر الأسسَ الآمنةَ التي شكلت دعامته لأجيال عديدة مديدة. ولهذا السبب أنت تراه ينكمش على نفسه انكماشا، وما يلبث أن يَكُون ردُّ فعله قائما على العنف والرفض، بل يصير حتى من ذوي العقول الضيقة. هذا بينما ترى البعض الآخر ينفتح انفتاحا واسعا، ويَكُون على أتم استعداد لكي يتشرب من كل أمر جديد، غير أنه يخاطر من جهته بإمكان أن ينسى تقليده الخاص، وأن يفقد قيمه، وأن يعمى عن توجهاته. 
ومن جهتنا نحن نميل شيئاً فشيئاً إلى إدراك العالم - بمجرياته الطيبة والسيئة سواء بسواء - على أنه أسرة بشرية واحدة. والحال أنه في العديد من أقطار العالم تلعب الأديان دوراً خاصاً بهذا الشأن. 
ومن شأن الناس -من أهل الديانات- أنهم يرومون المساعدة على تشكيل العالم، وعلى الدفاع عن القيم والتوجهات. وهم يضطلعون بمسؤولية خاصة في أزمنة التحول الكبير هذه. إذ عليهم أن يبرزوا إمكانات صناعة السلام، وإمكانات الإيمان التصالحية، وذلك حتى يتمكن الناس من التوحد بغاية إنشاء بيت يكون للبشرية قاطبة. 
من حديث جاد إلا وشأنه أن يكون حديث البعض للبعض وليس حديث البعض عن البعض، وأي حديث جاد لابد أن يعني الوعي بخلفية ما نتحدث عنه، ولابد كذلك أن يستدعي الوضوح في كل ما يخص تصوراتنا المسبقة وآراءنا السائدة عن الآخر. 
اعتدنا في بلدي على ألا نرى من المسلمين إلا القليل، وبطبيعة الحال فقد وُجد في هذا المجتمع على وجه الدوام طلبة من البلدان الإسلامية وأعضاء في جماعة رجال الأعمال وزوار آخرون. لكن ما كان من المعتاد - اللهم إلا فيما ندر - لقاء مسلم. على أن هذا ليس يمنع من القول: كانت لنا تصورات ذهنية استبطناها عن المسلمين والإسلام كنا نعيد إنتاجها في العالم البراني الخارجي. 
في دروس التاريخ عهدَ الصبا لطالما بلغ إلى مسامعي أن المسيحية إنما تم إنقاذها بأوربا في معركة تورـ بواتييه (723 بعد الميلاد)، وذلك بعد أن تم الانتصار على العرب المسلمين، فما كان مني إلا أن تشكلت في ذهني صورة عن الإسلام بوسمه خطرا مهددا مرعبا. 
ولما كنت أدرس بالجامعة -بعد مضي سنوات، في فيينا، عاصمة النمسا- صدمت بالإشارة المتكررة إلى المعارض والنصب المقامة لتخليد ذكرى حصار الأتراك المزدوج في القرنين 16 و17 الميلاديين (1529 و1683). هذا ولقد كان المعلقون من الذي عاصروا تلك الأحداث - بمن فيهم مصلحنا الديني مارتن لوثر - يتحدثون عن الخطر الداهم من الأتراك بنفس النبرة [التخويفية].
على أنه ما كان الخوف والقلق هما ما نميا عن هذا الخطر، ففي نفسها، كانت الحروب والصراعات يصاحبها لقاء ثقافي جديد ما كان معهودا من ذي قبل أدى إلى حماس للشرق، وعرف تحت مسمى "الاستشراق". وأكثر من ثمرة لهذا اللقاء الثقافي صارت اليوم جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا، وذلك بدءا بالعلوم العربية الإسلامية وانتهاء بالقهوة وبمرافق الحمامات العمومية الرائعة.
في أيام فتوتي، كنت قد قرأت العديد من الكتب التي ألفها الروائي الألماني كارل ماي، ولقد كان الرجل مشهورا في البلدة التي أتيت منها (1842-1912)، وكان قد كتب عن مغامرات الهنود الحمر في أقصى الغرب، ولكنه كتب أيضا عن كارة بن نمسي، الذي خاض مغامرات عديدة في العالم العربي إبان القرن التاسع عشر الميلادي مع صاحبه الحاج عمر أَلِف. وبالمناسبة، فإنه حدث لي أن اطلعت على أول عبارات القرآن التي أمكنني أن أطلع عليها من خلال أحد كتب كارل ماي هذا. وبمعنى ما من المعاني، فإن الأحاديث الممتعة التي كانت تدور بين كارة بن نمسي والحاج ألف عمر كانت تنتهي إلى حوار بين الأديان والثقافات. ومهما قيل عن كارل ماي وأوصافه، فإن الصورة التي رسمها لي [عن الإسلام والمسلمين] كانت مختلفة عن تلك التي رسمها لي أستاذي في التاريخ. 
وبعد أن غادرت المدرسة، سافرت مع أصحاب لي إلى الأندلس، وهناك قرأت عن التاريخ وأعجبت بالثقافة العربية الأندلسية، وبالوجه العلمي للإسلام، وبدوره بحسبانه قنطرة وصل بين الشرق والغرب، ولقد كانت تلك الحقبة بحق العصر الذهبي للأندلس (ومن شأن كل من وقف في ساحة الأسود بقصر الحمراء أن يدرك بحق ما أعنيه). وإن زفرات أبي عبد الله (أبي عبد الله محمد الثاني عشر) -آخر العرب الذين غادروا غرناطة- لازالت ترن في أذني. وإن الصِّلات ذات الأوجه المتعددة بين الشرق والغرب المسيحي (والذي كان بدوره ينغرس أكثر فأكثر في وحل الصراعات) قد انعكست في آدابنا انعكاسا العظيم (عَنَيْتُ شاعرنا الكبير ولفغانغ فون جوته الذي جمعت أشعاره في الديوان الغربي والديوان الشرقي، كما عنيت أيضا غوتليب إفرائيم ليسنغ الذي استعمل أمثولة الخواتم في [مسرحيته] ناتان الحكيم). 
كل هذه المرويات المقتنصة الملتقطة من حياتي الشخصية إنما كان القصد من إيرادها أن أُبَيِّنَ لكم كيف تَبَدَّى الإسلام والعالم العربي في حياة شخص من أوربا الوسطى. وكل أفراد بعثتي الصغيرة هذه لربما تكون لهم صور وتصورات أخر نظيرة.
وأفترض أن الآخر أنه لديه صوراً عن المسيحية مثلاً وعن المسيحيين، وحتى عن الأوربيين أنفسهم. ومن المهم أن نعرف شيئا عن هذه الصور حتى نستطيع على أن نتحاور بنزاهة، ونستعد الاستعداد لإجراء الحوار فيما بيننا.
فما الذي صار إليه الوضع اليوم في بلدنا؟ 
اختلفت الصورة اليوم اختلافا شديدا؛ ذلك أن حوالي 5 بالمائة من سكان ألمانيا يعلنون أنهم يدينون بالإسلام (وذلك ضمن حوالي 80 مليون من السكان؛ بما يعني حوالي أربعة ملايين من الناس). والحال أن ثلثي هذه الملايين الأربعة إنما هم أتراك، والثلث الباقي أتى أساسا من البلدان العربية، وقد ارتبط بعضها ببعض، وأمسينا يحيا بعضنا إلى جانب البعض.
والحال أن هذا التقارب والتجاور في إطار العيش المشترك دفع بنا إلى مواجهة تحديات مستجدة، إذ صارت تبنى مساجد في بلد ما كان يوجد بها قديما إلا الكنائس والبِيَع. وأمست معتقدات مباينة تلتقي بعضها ببعض، وكل واحدة منها تعلن بقوة أنها تمتلك الحق في الوحي وسلطة تمامه وكماله. وفضلا عن هذا، حدثت ثمة امتزاجات ثقافية ووشائج تقاليد. 
كيف يلاقي بعضنا بعضا؟ وبوفق أية صورة نكون في الوقت نفسه أناس إيمان وأناس تسامح؟ 
قبل أن أقدم على خطوة أبعد، أود أن أبدي ملاحظة؛ ترى الكنائس بألمانيا -سواء أكانت بروتستانتية أم كاثوليكية- أن من مسؤوليتها أن يستطيع المسلمون أن يعيشوا إيمانهم وأن ينظموه بحسبانهم جيراناً يحسنون جوار المسيحيين. وهذا يقتضي عقد لقاءات متبادلة وزيارات للكنائس والمساجد وتأليف كتب من قبيل "ما الذي ينبغي لك أن تعرفه عن الإسلام؟" وما شابه هذه الأمور. 
وبطبيعة الحال، فهم يأملون في أن يكون نموذج العيش المشترك وحسن الجوار هذا يمكن أن يتحقق في دول أخرى تكون فيها الأغلبية للمسلمين. وهو الأمر الذي يستدعي التسامح. 
لكن الآن: التسامح والإيمان، الإيمان والتسامح. ما التعريف؟ 
عندما أتحدث عن التسامح أعني به موقفا نشيطا يدافع عن حق الأديان الأخرى في أن تحيا في مجتمع، وأن يتم التعبير بحرية عن وجهات النظر الأخرى. 
لكن، لا يمكن أن يكون التسامح بلا حد، إذ ثمة شعار يقول: لا تسامح مع المواقف التي تشيع الكراهية والعنف والعنصرية وبغض الأجانب. 
وفي ألمانيا كذلك، فإن مفهوم التسامح يفهم ويؤول بطرق شتى، ذلك أن أصل لفظ "التسامح" إنما ينحدر من الفعل اللاتيني «tolerare» الذي يعني حرفيا "احتمل" و"تحمل". فمن شأني - بناء على هذا المعنى الأولي - أن أتسامح مع شيء لا أقدر حقا على تحمله واحتماله. والحال أن ثمة أمرا يثوي خلف هذا الموقف مع ذلك، إذ ليس يتعلق الأمر بالتعود على تحمل أمر لا يحتمل أو عدم المبالاة بشخص، فليس ينبغي الخلط بين التسامح والاعتباط، لا، ولا القبول بفكرة "تعدد الحقائق" بدعوى أن "الكل على حق". 
إنما المشكلة تتعلق بإعلان المواقف والجمود عليها، لا لشيء إلا لمجرد التصارع من أجل الحقائق والمقاصد، وأحيانا لمجرد مواجهة بعضنا لبعض، وذلك من دون أن نحدث تقدما أو فتحا، ومن غير البحث عن السير قدما نحو مزيد من الفهم. يتعلق الأمر بمسألة الاحترام، حتى إن نحن فهمنا بعض قناعات الغير. لكن دعوني ألح على أن هذا الاحترام من شأنه أن يسري عندما لا تكون القناعات والمواقف تدعو إلى بغض الأجانب وإلى العنف وإلى الإرهاب. 
ونحن إنما نريد أن نعيش في عالم من الاختلاف والتضامن معا. وعلى الأديان - على وجه التخصيص - أن تبدي كيف أن اوعي بحقيقة الإيمان يمكن أن يرتبط ليس بالتسامح فحسب، وإنما بالتفاهم المشترك أيضا، وبالاحترام تجاه الغير. 
ليس هذا وقت تقديم دراسة تاريخية موسعة عن كيف عالجت اليهودية والمسيحية والإسلام التفاعل بين الإيمان وعدم الإيمان، أو كيف ربطت هي بين دعواها امتلاك الحق والانفتاح عن الآخرين، أو كيف آلفت بين الوفاء لتقليدها الخاص والتسامح ففي المجال الذي انتشرت فيه المسيحية، سرعان ما تم درك حدود التسامح ما إن صارت المسيحية ديانة دولة. وإن العديد من معتقدات وعقائد الكنيسة الأولى إنما كان القصد منها مقاومة أولئك القوم الذين سُموا "الهراطقة".
لكن حتى في العصر الوسيط -وبالذات في القرنين 12 و13 الميلاديين- كان النظام الاجتماعي والديني متعالقين بأشد تعالق يكون، ذلك أن أولئك الذين طردتهم الكنيسة وأدانتهم ما عاد لهم من مكان في المجتمع. وما واجه الناس في الغرب واقعة أنهم أمام كنيستين مسيحيتين: بروتستانتية وكاثوليكية (بينما كانت الكنائس الأرثدوكسية الشرقية بعيدة) إلا على عهد الإصلاح الديني عام 1517 م. وههنا أيضا ما كان من هامش للتسامح يمكن تصوره. وبعد صراعات مريرة مديدة، تم اتخاذ القرار بأن على الملك أو الأمير أن يختار الديانة التي عليه أن يتبناها، وأن على سكان البلد إما أن يقبلوا بالنحلة التي ينتحلها الحاكم أو أن يغادروا البلد، ولا زال يمكنك أن تشاهد بألمانيا حتى اليوم آثار هذه القرارات، إذ ثمة مناطق ذات أغلبية بروتستانتية، وأخرى ذات أغلبية كاثوليكية. 
على أن اشتغال مزيد من الحروب، وظهور نزعات جديدة في تاريخ الأفكار، والتحولات التي شهد عليها القرن العشرون، فضلاً عن النزوع إلى العولمة وإلى عالم متعدد اليوم؛ كل هذه الأمور كان من شأنها أن أدت إلى أخذ حرية الاعتقاد وحرية التدين بعين الاعتبار، ولا زال الاعتبار يزداد حتى صارتا ذواتي قيمة عالية لدى كل كائن بشري فرد. لقد صار من كرامة كل البشر - بما أنهم خلقوا لكي يكونوا عيال الله - أن تكون لهم المقدرة على أن يقرروا أمرهم بحرية. 
وفي أوربا ومناطق أخرى من العالم، ترى درجة عالية من تعدد المعتقدات الدينية وسبل العيش، كما أنك تراها اتخذت طابعا فرديان ولهذا الأمر فوائد عظيمةح غير أن هذا يمكن أن يؤدي أيضا إلى خطر ذبول القيم المشتركة أو التوجهات، وإلى الحاجة إلى ضرورة إعادة اكتشافها على الدوام عبر النقاشات الدائرة داخل مجتمعنا. لقد أمسينا نحيا بوفق شروط مسبقة ليس يمكننا أن نمنحها بأنفسنا لأنفسنا، على حد تعبير أحد فقهاء القانون الدستوري الألماني - إرنست فولفغانغ بوكنفورده - ذات مرة. والحال أن من شأن إثارة الانتباه إلى هذه الشروط الروحية والومضات اللاهوتية أن يشكل مهمة بالغة القيمة بالنسبة إلى كنائس بلدنا، فضلا عن أهميته حتى بالنسبة إلى الأديان الأخرى(1).
كيف يكون الإيمان المسيحي مستعدا للحفاظ على معتقداته الأساسية وفي الوقت نفسه ممارسا للتسامح؟ ما الذي يعنيه التسامح البروتستنتي؟
1- التسامح في التوراة:
نحن المسيحيين ندعي أننا متسامحون، لكن ما جذور تسامحنا المسيحي؟ للإجابة عن هذا التساؤل المتعلق بالتسامح أود أن أعود إلى التوراة لبرهة من الزمن. فإن فعلنا ذلك ألفينا أن لفظة "التسامح" لا تلعب دورا محوريا في تقليدي قسمي العهد القديم [التوراة بمعناه المخصوص] والعهد الجديد [الإنجيل]. ومع هذا، فإن "معنى" التسامح وارد فيهما (بالمعنى وليس باللفظ) المرة تلو المرة، إذ نكتشف عبارات توراتية عديدة تحض على الصبر والغفران والرحمة والعفو والخيرية واللطف والقبول؛ وكل هذه المعاني تجري مجرى معنى التسامح، والتسامح هو جوابنا البشري عن محبة الرب لمخلوقاته. إذ الرب يقبلنا نحن معشر الكائنات البشرية، واللطف الإلهي يسري على الجميع، بما أن كل مخلوقات الرب خلقت على صورته. وإنه لرحمان بها وإنه لرحيم. وهذا الأمر يؤدى بنا إلى إقامة تمييز دقيق: من شأن "التسامح الرباني" أن يترتب عن رعاية الرب غير المشروطة للأشخاص الذين ينكرون ذاته، وعن محبته إياهم. غير أنه ينبغي التنبيه ههنا - وهنا مكمن الفرق - إلى أن هذا الأمر لا يقتضي التبخيس من شأن خطاياهم أو موافقتهم على هذه الخطايا. إن مغفرة الله تسري على الأشخاص الذين يعادون الرب وليس على عدائهم الصراح (من شأن التسامح أن يتعلق بالشخص وليس بفعله). فهذا العداء مما ليس ينبغي أن "يتسامح" معه - أي أن يتم إقرارهم عليه أو القبول به منهم - وإنما هو مما ينبغي تجاوزه. وإن التوراة لتقيم التمييز بين الشخص من حيث هو شخص - وهو مقبول عند الرب سواء أكان ذكرا أم أنثى - وبين سلوكه الذي لن يتم التسامح معه إن هو "كان يهدد الحياة والمحبة". 
ولنا أن ننظر في سيرة يسوع، فإنه كان مثالا حيا مجسدا للتسامح! روي لنا عنه أنه التفت إلى أولئك الذين ما أظهروا التسامح قط -شأن رجال السامرة ونسائها- وقد اتهموا بأنهم كانوا يعيشون في ضلالة خارج شعب الرب، فكان أن عوملوا باستهجان شديد. ولكن يسوع استقبلهم من غير رأي مسبق منحاز؛ وضرب لقومه مثلا أن من بين كل الأشخاص،فإن السامري هو من عمل العمل الصالح والفعل السديد(2).
لقد أعان السامري المحتاج؛ بينما آخرون - وكانوا يعدون أهل ديانة - ظلوا على الطرف النقيض (إنجيل لوقا 10. 25-37). وهذا يظهر أن يسوع يمكن أن يجد نظيرا للسلوك القويم حتى لدى شخص يتم احتقاره وينتبذ. وثمة مثال آخر على تسامح يسوع: فقد جلس إلى الضيافة التي جلس إليها عشارون وخطاة (لوقا 5: 29-30). وهذا سلوك ينبغي النظر إليه على أنه متسامح؛ وذلك لأن جماع العشارين والخطاة كانوا مكروهين من لدن العديد من الناس، وقد طردوا من شعب الرب طردا: العشارون لأنهم كانوا دوما على صلة بالمال وبالأمم، بسبب من مهنتهم، والخطاة لأنه كان يعتقد أنهم منبوذون من طرف الرب إلى أبد الآبدين، بسبب من خطاياهم. وقد أظهر يسوع التسامح هنا أيضا مرة أخرى. 
وهنا أيضا يبدو لي أنه من الأهمية بمكان أن نفكر اليوم في أمر التسامح باستيحاء هذه القصص، ويتعلق الأمر بالطريقة التي دافع بها يسوع عن التسامح، إذ فعل ذلك في إطار التزام ودعوة، من غير أي إكراه. وقد وجه يسوع أعين الناس نحو الرب. وشجعهم على ألا يسيئوا الظن بالآخرين الذين يبدون غرباء أو غير معهودين، وألا يؤذوهم. وما أدانهم هو أبدا؛ وإنما بالضد من ذلك أعمل صورا لوصفهم: إنما هم شبيه الشاة الضالة، ومثل الابن الضال، ونظير المرضى الذين يحتاجون إلى من يتطببهم. وإذا ما كان تم التقليل من خطيئتهم كأنها محض لمم؛ إلا أنها صارت تظهر الآن على ضوء مبدأ اللطف الإلهي. والمسألة هنا برمتها إنما هي مسألة النظر إلى الغير بعيون جديدة، ومواصلة اعتبار هذا الغير سواء أكان ذكرا أم أنثى بعيني الرب. 
كلا ما كان يسوع الأرضي ويسوع المبعوث مجرد نموذج تاريخي للتسامح، وإنما كانا هما عماد كل مطلب مسيحي بالتسامح. وخلال فترة ما بعد المسيح؛ أي فترة الجماعات المسيحية الأولى، كان على أعضاء هذه الجماعات أن يواجهوا مسألة معرفة كيف يتعاملون مع الأعضاء الآخرين الذين فكروا بطريقة مخالفة وساروا على نحو مباين، أو اقترفوا ذنبا. فقد ورد في التوراة (إنجيل متى 18) نداء إلى التسامح والرعاية لرعايا الكنيسة. وقد تمثل هذا النداء في مطلب أن يولي المرء الرعاية لبسطاء الناس وأن يكون سخيا وسمحا. وهنا يمسي الأمر بَيِّنَا: ليس يصَيِّر التسامح الإيمان أمرا نسبيا؛ وإنما التسامح بالأوْلى ثمرة للإيمان. وهذا ينطبق على أولئك الذين يتصرفون اتجاه أولئك الذين يؤمنون بيسوع تصرفا يقوم على النبذ والتهكم والكراهية. ويظهر هذا الأمر واضحا في الوصية: " لكني أقول: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم.باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم " (لوقا 6: 27-28)؛ إذ ليس لك أن تتحاشى أولئك الذين ليس يمكنك أن تدافع عنهم بسبب من معتقداتهم وسلوكهم! وبالبدل من ذلك أحسن إليهم، وجادلهم، وحاورهم! ولا تتفادى المشاكل الحساسة! لِمَ هذا الأمر صار ممكنا؟ يقدم لنا التوراة نفسه - ممثلا في إنجيل لوقا - السبب في ذلك: لأن الرب منعم حتى على غير الشاكرين وعلى الأشرار (لوقا6، 35)، ولأننا نحن معشر الكائنات البشرية يسندنا الرب، ونحن قادرون على أكثر من مجرد "تحمل" الآخرين؛ بل يمكننا حتى أن ندعهم تكون لهم الكلمة الأخيرة. إن الرب "يعيننا ويقوينا على طاعة أمر يسوع"، وفي إطار هذه الروح، فإن بولس الرسول دعانا إلى أن نبدي التسامح بعضنا تجاه بعض وقبول ببعضنا بعضا: "اقْبَلُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا قَبِلَنَا، لِمَجْدِ اللهِ" (بولس: رسالة إلى أهل رومية 15: 7). لقد دعانا بولس إلى احترام غيرنا حتى أكثر مما يكون علينا أن نحترم أنفسنا، ونحن إذ نفعل ذلك فما نكون في ذلك إلا متبعين لتعاليم المسيح (رسالة بولس الرسول إلى أهل فليبي 2: 3)
والحال أنه لن يكون تأملنا التوراتي هذا كاملا ما لم نذهب لكي نلق نظرة على نهاية العصر، فنحن الكائنات البشرية ليس من شأننا أن نفعل ذلك؛ وإنما الرب نفسه: "وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد" (سفر الرؤيا: 1). 
2 - التسامح الحواري:
عندما نتقصى هذا السبيل التوراتي، يقودنا مباشرة إلى موقف أحب أن أدعوه نشيطا، هو موقف التسامح الحواري. 
لسنا نمارس التسامح لأنه يبدو موقفا ملائما، ومن الناحية السياسية موقفا حكيما في زمن معين؛ بل حتى بوصفه تنازلا لشروط التعددية. إنما بالضد نحن متسامحون لأننا تلقينا وعد الرب وتسويغه بوسمه فضاء حرية، ومن ثمة صرنا قمينين وراغبين في أن نحيا في الحوار مع الآخرين. 
فما الذي يميز التسامح الحواري يا ترى؟ 
يحاول التسامح الحواري أن يستكشف الرأي الآخر وأن يفهمه، وليس يعني هذا بالضرورة أن نكون على وفاق على الرأي نفسه، كما يفترض ذلك عادة؛ ذلك أننا عندما ننخرط في حوار، فإن من شأن الإنسان المتسامح أن يتساءل: لماذا يا ترى يفكر الناس على هذا النحو؟ ولماذا يعبرون هم عن إيمانهم بهذه الطريقة وليس بتلك؟ 
إنما التسامح الحواري هو -إذا ما قبله الطرفان- نقاش على قدم الندية، وإن مجتمعنا والعالم من حوالينا ليحتاجان إلى مزيد من التسامح الحواري - وليس إلى أقل قدر منه. وليس باستطاعتي أن أكون شريكا في التسامح الحواري اللهم إلا إذا أنا علمت موقعي علم اليقين، وإننا لنصف وجهة نظرنا المسيحية بالعودة إلى التوراة: لقد قبلنا المسيح!
ومن ثمة، فإنه بدءا من التسامح المتجذر في الإيمان، نبدي التزاما - بوسمنا الكنيسة - باسم المسلمين في بلدنا. وهم أقلية، وعديد منهم يأتي إلى ألمانيا عمالا مهاجرين. وما كانت منزلتهم الاجتماعية بالمنزلة الرفيعة في المجتمع الألماني. على أن سيرورات التحولات في هذا المجال نفسه قد بدأت بدايتها، وإن الكنائس لتدعم هذه السيرورات بقوة. 
أين يكمن هذا الدعم؟ دعوني أقدم أمثلة من خلال خدمتي بوسمي أسقفا: 
• منذ سنوات قليلة مضت قام ثمة نقاش حول الترخيص للمسلمين بإلقاء كلمتهم في برنامج للإنترنت أقامته الإذاعة العمومية لمنطقة فوتمبورغ. وبصفتي أسقفا، بدا لي أن من العدل أن أناصر الفكرة. وها نحن أولاء اليوم -بعد مضي أكثر من عشر سنوات- يفتخر الناس بشتوتغارت بهذا البرنامج. وإنه لأمر حسن بالنظر إلى عيشنا المشترك وبالنظر إلى الحوار فيما بيننا، أَمَّا وقتها فقد كان لا يزال هذا الأمر موضع نقاش. 
• تشدد كنيستنا تشديدا على التربية وعلى الإعداد والتكوين، لا سيما في مجال اللاهوت، ويتم تدريس اللاهوت المسيحي في العديد من الجامعات. وجامعة توبنغن -قرب شتوتغارت- بكلية اللاهوت البروتستانتية التابعة لها معروفة، كما هي معروفة بالكلية التي أقامتها لتدريس اللاهوت الكاثوليكي. ومؤخرا أقيم معهد لعلم الكلام الإسلامي بتوبنغن. ولقد دعم البروفيسور شتيفان شراينه هذه المبادرة دعما كبيرا. أما من جهتي الشخصية، فإنني أنا وكنيستي دعمنا هذه العملية لأنا نأمل أن يؤدي ذلك إلى بلوغ مستوى من الحوار يكون جيدا. ولهذا الباعث، فإنه يلزم أن يتم تدريس علم الكلام الإسلامي بألمانيا، هكذا أفهم "التسامح الحواري". 
• لن أمدد هذه السلسلة من الأمثلة بلا نهاية، فالكثير من الأفراد بكنيستنا يبذلون جهدا لتطوير العلاقات الحوارية مع المسلمين بمنطقتنا، أذكر منهم على سبيل المثال ريف ورولهه، وهو منسقنا بالنسبة إلى الأمور المتعلقة بالإسلام، وهو يتعاون مع المنظمات الإسلامية -مثلا-حول إعداد دورات تكوينية للقساوسة والأئمة. وإن لاهوتيينا ليتعلمون بعضهم من بعض في هذه الدورات التكوينية وينخرطون في الحوار الذي يحتاج إليه مجتمعنا. والحال أنه صارت توجد الآن عدة منشورات حول هذا الموضوع نشرت من لدن الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية، على حد السواء. 
• إن عالمنا يحتاج إلى إقامة نقاش بين مختلف الشركاء وبين مختلف الثقافات وبين الشعوب وبين الديانات. ولقد صرنا أقرب بعضنا الى بعض، وعلينا أن يقترب بعضنا من بعض أكثر فأكثر. 
وإننا لنحيا في بيت بشري واحد، وإن العولمة والتواصل العالمي والتعالق الاقتصادي لا يسمحون لأي منا أن يبقى منعزلا في غرفته الخاصة.
وليس يعني هذا أن علينا أن نهجر معتقدنا الديني وإيماننا وقيمنا وتوجهاتنا، وإنما يعني بالضد من ذلك أن علينا أن ننفتح على المحاورة واللقاء؛ فالرب الذي له وحده الدوام خلقنا بشرا لكي نكون شهداء على خيريته وعلى محبته. ولهذا الداعي، دعونا نبحث أجمعين عن سبل للدفاع عن حقوق الإنسان وعن التسامح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) "أمست الدولة الحرة الدنيوية تحيا على شروط مسبقة لا يمكنها هي نفسها أن تضمنها، وهو الرهان الأكبر الذي راهنت عليه باسم الحرية، وباعتبارها دولة حرة، فإنه ليس يمكن أن تستمر في الحياة، من جهة، اللهم إلا إن كانت الحرية التي تهبها لمواطنيها يحكمها من الداخل الجوهر الأخلاقي للفرد وانسجام الجماعة وتناغمها. ومن جهة أخرى، فإنه ليس يمكنها أن تضمن هذه القوى الداخلية من تلقاء نفسها وبقوتها الخاصة؛ أي باستعمال وسائل قوة القانون وسلطة الدولة، وذلك من غير أن تتخلى عن حريتها و- على المستوى الدنيوي - من دون أن تسقط في نزعة الحكم الاستبدادية المطلقة التي تقود إلى حروب أهلية دينية". إرنست وولفغانغ بوكنفورده: الدولة والمجتمع والحرية، 1976، ص60.
2) يشير الأسقف هنا إلى ما ورد في إنجيل لوقا الإصحاح 10 الآي 25-37: " 25وإذا ناموسي قام يجربه قائلا يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية26 فقال له ما هو مكتوب في الناموس.كيف تقرأ 27 فأجاب وقال تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك 28 فقال له بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا 29 وأما هو فإذ أراد أن يبرر نفسه قال ليسوع ومن هو قريبي30؛ فأجاب يسوع وقال. إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص فعروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت 31 فعرض أن كاهنا نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله 32 وكذلك لاوي أيضا إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله 33 ولكن سامريا مسافرا جاء إليه ولما رآه تحنن34 فتقدم وضمد جراحاته وصب عليها زيتا وخمرا واركبه على دابته واتى به الى فندق واعتنى به35 وفي الغد لما مضى اخرج دينارين واعطاهما لصاحب الفندق وقال له اعتن به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك 36 فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص 37 فقال الذي صنع معه الرحمة. فقال له يسوع اذهب أنت أيضا واصنع هكذا [المترجم]].

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/227

الأكثر مشاركة في الفيس بوك