التفكير في مستقبل العلاقات بين الدين والدولة في العالم العربي

رضوان السيد

يتّسم موضوع علائق الدين بالدولة (أيّ دين وأيّ دولة) بالإشكالية والتعقيد، ويرجع ذلك لأمرين: التاريخ الإشكالي لمسألة العلاقة في المجال الأوروبي الوسيط، والآخر الحديث. ففي الزمن الوسيط أرادت الكنيسة الاستيلاء على إدارة الشأن العام باعتبارها مرجعيةً مفوَّضةً من المسيح في الشأنين الديني والدنيوي. وفي الزمن الحديث تجددت الإشكالية من موقعٍ راديكالي معاكس: علمانية متشددية (ليبرالية أو ماركسية) أرادت "فصلاً قاطعاً بين الكنيسة والدولة، بل وبين الكنيسة والمجتمع عملاً وتأثيراً. أمّا الأمر الآخر الذي يحيل العلائق مسألةً إشكالية فهو التشابُك بين المؤسستين في الأزمنة الإسلامية الوسيطة، والتحول باتجاه الاشتباك في الزمن المعاصر. وكلا المفردين (التشابك، والاشتباك) إشكاليٌّ بدوره؛ لأنه يتطلب تحديد الحدود، وإيضاح المرجعيات، وملاحظة السياقات والوقائع. فَلنسِرْ باتجاه المقاربة التاريخية، والأُخرى الحديثة والمستقبلية مع استمرار المقارنات لجهات النصوص والسياقات والوقائع.

أولاً: علاقات الزمن الإسلامي الوسيط: 

ليس بالوسع تحديد حقبة أو واقعة تبلور فيها هذا التشابُك في العلائق بصورةٍ يمكن استنطاقُها أو تبيان منطقها، وصولاً للقياس عليها. وكان المستشرق الألماني Tilman Nagel قد رأى أنّ الإشكالية الرئيسة بعد وفاة الرسول(ص) كانت الاتفاق على المؤسَّسة البديلة (لمؤسسة النبوة)، وما بدت مؤسسةُ الخلافة قادرةً على استيعاب الأمر الهائل هذا؛ فقد ظهر الخلاف من حولها في الشأن الديني بالذات منذ فترةٍ مبكّرة؛ فما كانت المشكلة طاعة أمير المؤمنين في هذا الأمر السياسي أو الإداري أو العسكري بالذات؛ بل كانت المشكلة المرجعية في الشأن الديني والحكم الديني. وقد كان أبو بكرٍ وعمر واضحَين في التمييز بين ما خَلَفَا رسول الله(ص) فيه وما لم يخلفاه؛ لكنّ المفرد (خَلَف، واستخلف، واستخلاف) في القرآن عامٌّ وشامل، كما أنّ اللقب الذي أُعطي في القرآن لداود (خليفة) أوضح أنّ داود كان نبياً وملكاً في الوقت نفسِه. وهذا الغموض أو "الإشكال" استخدمه الأمويون لصالحهم عندما سمَّى بعضُهم نفسَه على نقوده ومسكوكاته خليفةَ الله(مقارنةً برسول الله؟). وقد كانت كلُّ المعارضات للأُمويين سياسية الطابع؛ لكنّ مرجعيتها أو مرجعياتها كانت دينيةً؛ أي أنها تقول: إنّ الله لا يقبل الظلم في قسمة الفيء أو التجمير في البعوث أو الاحتجاج بالقَدَر في هذا الأمر أو ذاك. إنما في أواسط أيام الأمويين ظهرت شخصيات وليس فئات تحتج في حديثها الديني بالكتاب والسنة ولا تفعل ذلك في حديثها السياسي. وقد اهتمّ لذلك عمر بن عبد العزيز (99-101هـ)؛ لكنه قَصَرَ الأمر على الأحكام القضائية، فقال بأمرين اثنين: بأنه يطمح لجعل قضاء الأجناد حكماً واحداً، والأمر الآخر: أنه لا مدخل لأمير المؤمنين مع حكم الكتاب والسنة؛ لكن رأيه يأتي بعدهما مباشرةً. وما استطاع إنفاذ توجُّهه في الحالتين؛ فالقُضاة في الأمصار ظلُّوا في أحكامهم يتبعون بعد الكتاب والسنة أَعراف المِصْر وليس توجُّه أمير المؤمنين. ثم إنّ أحداً من الفقهاء الذين بدأ ظهورهم آنذاك أَدخل رأْيَ أمير المؤمنين في النظام الفقهي أو القضائي، بل ذهبوا إلى استحضار الإجماع بعد الكتاب والسنة. ووضعوا أنفُسَهُمْ في صُلْب ذاك النظام المتدرّج الظهور عندما تولَّوا إنفاذ آلية القياس الذي رفعوه (في رسالة الشافعي) إلى مرتبةٍ مرجعيةٍ عندما وضعوه رابعاً بين مصادر أو أدلة الاستنباط: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهناك عدة مناسبات خلال القرنين الثاني والثالث للهجـرة، إنما أهمُّها مناسبتان: رسالة عبد الله بن المقفَّع(-142هـ؟) إلى أبي جعفر المنصور(136-158هـ) بعنوان: رسالة في الصحابة. والمناسبة الأُخرى خلاف أحمد بن حنبل(- 241هـ) مع الخليفة المأمون(195-218هـ) في مسألة خَلْق القرآن. رسـالة الصحابة تعني الصُحْبـة؛ أي الاستشـارة. وهـو يشيـر على أمير المؤمنيـن بما حاول عمر بن عبد العزيزفعله. فقد انتشرت الفوضى في الأحكام القضائية بسبب اختلاف المرجعيات، واختلاف شخصيات القضاة والآراء التي يعتمدونها. ولذلك فهو يطابق أمير المؤمنين ويرى أن له مسألتين: أن يكون هو المرجع بعد الكتاب والسنة، وأن يوحّد الأحكام القضائية ببيانٍ يحدّد الخطوط الرئيسة التي ينبغي أن يعتمدها القضاة في أحكامهم. أما المسألة الثانية -وهي شديدة الأهمية- فإنه يحدّد فيها "صلاحيات" أمير المؤمنين، أو أبعاد الشأن السياسي الذي يتـولاّه للأمة؛ وهـو: الجمعُ والقَسم (في الشأن المالي)، والتـوليةُ والعـزل(في الشأن الإداري)، والحرب والسلم (في العلاقة مع الخارج). وما استطاع أمير المؤمنين توحيد القضاء من طريق قانونٍ جامع؛ لكنه حفيده هارون الرشيد(170-193هـ) استطاع السيطرة على النوافر والخلافات من طريق تعيين قاضٍ للقضاة لتوحيدة القضاء من رأْسه. وما سلَّمت إمارةُ المؤمنين بالصلاحيات المدنية المحدودة التي تركها لها ابن المقفع؛ بل إنها سعت دائماً لتوسيعها باتجاهين: اتجاه المجتمع المدني إذا صحَّ التعبير على ذلك الزمان. واتجاه المـرجعية في الشـأن الديني. وفي الاتجاهين لقيت مخاصمةً من الفقهاء وأهـل الحديـث، والمعارضـين السياسييـن. فمنذ كتاب الأُمّ للشافعي(-205هـ) صار الفقهاء يعقدون في كتبهم فصلاً عن البُغاة أو أحكام قتال البُغاة. والبغاةُ هم المعارضون السياسيون الذين يصلون في معارضتهم إلى حمل السلاح. وكان الفقهاء والقضاة وأهل التفكير في الشأن العام يريدون أن يعود الأمر للقضاء في محاكمة المعارضين المسلَّحين بعد استسلامهم؛ بينما كانت السلطة السياسية تريد إعادتهم إلى "قضاة أمير المؤمنين" وفيما بعد إلى "قضاء المظالم". والطريف أنّ حُجج القضاة وأهل الفكر في الإحالة إلى القضاء ما استندت إلى سوابق قضائية، بل سياسية: سابقة علي بن أبي طالب في التعامل مع خصومه المسلَّحيـن، وفتوى الزُهري(-124هـ) لسليمان بن هشام بن عبد الملك بشأن التعامُل مع المشاركين في "الفتنة" عند الانقضاء. فعليٌّ كان يرى أن(البُغاة) (وهذا مصطلح قرآني محايد معناه: أصحاب المطلب؛ لكنه اتخذ دلالاتٍ سلبية فيما بعد) لا يُساءلون بعد وضع السلاح في الدماء والأموال وإنما كانت الإشكالية في تحديد ما هو المطلب "المشروع"، وما الفرق بين"الباغي" و"المحارب". أما الزُّهري فقال لسليمان بن هشام: إنّ المسلمين قرروا بعد "الفتنة" ألا يتبعوا أحداً بدمٍ أو مال! وما أصعت السلطة السياسية بالطبع لمطلب الفقهاء الذين كان همهم حفظ الحقوق من طريق القضاء، وإظهار شمولية صلاحيات القضاء بالنظر في كل أنواع "الارتكابات" التي تتضمن النيل أو ادّعاء النيل من الحريات أو الدماء أو الأموال.

وإذا كانت مسألة "البُغاة" تتناول حالةً عملية تُظهر الوعي المتنامي للفقهاء (والقُضاة) بالصلاحيات والمسؤوليات؛ فإنّ مسألة خَلْق القرآن التي أثارها المأمون تتناول المرجعية في الدين والعقيدة؛ لأنها تتعلق بالنصّ القرآني. قال المأمون: إنّ النصَّ القرآني "مخلوق"، باعتبار ما صار إليه من وضعْ بين دفتي المصحف، وقراءةٍ بالأبصار والألسنة والأصوات. وما اكتفى الخليفة بالإعلان عن ذلك في مجالسه الثقافية؛ بل أصدر منشوراً بذلك، وأمر وُلاته على الأمصار باستدعاء "العلماء" وأخذ إقرارهم بذلك. فأمير المؤمنين مسؤولٌ أيضاً عن تصحيح الاعتقاد، بقدر مسؤوليته عن صحة الدولة والسياسة. لكن ما يخرج عن علمنا وعلم المؤرخين: هو لماذا أثار الرجل ذلك في هذا الوقت(217هـ) بالذات؟ ولماذا لم يكتف بالإعلان من على المنابر، بل أراد تحويل الأمر إلى إلزام أو إلى عقيدة رسمية؟! وقد تردد كثيرون في التوقيع، ليس لأنهم كانوا ضدَّ الفكرة بحدّ ذاتها؛ بل لأنها كانت المرة الأولى التي تُطرح فيها الفكرة ليس من جانب "متكلِّم"؛ بل بل من جانب أمير المؤمنين وعلى سبيل الإلزام؛ بيد أنّ هناك قلةً من العلماء من حول أحمد بن حنبل رفضت التوقيع، ليس لأنّ الأمر كان جديداً فقط؛ بل لأنها اعتبرتْهُ بدعةً في الدين، ولا يدخُلُ من جهةٍ أُخرى في صلاحيات أمير المؤمنين أو مسؤولياته. وقد استمرت حملات السجن والضرب ومنع التدريس على أحمد وغيره فيما بين عامي 218هـ و233هـ، عندما قرر الخليفة المتوكل (232-248هـ) إنهاء "المحنة"، وفي الحقيقة: الإعلان عن أنّ السلطة السياسية ليست لها حقوق وصلاحيات (أو أنها ليست ذات مرجعية) في الشأن الديني. وبالطبع ما انتهى الأمر عند هذا الحدّ؛ لكنّ الواقعة كانت ذات معنى تاريخي كبير ولعدة جهات؛ فقد أظهرت أنّ هناك تمييزاً شبه واضح بين الشأنين الديني والسياسي، كما أظهرت أنّ فئة رجال الدين أو رجال العلم قد بلغت من القوة والاستقلال بحيث تتولى بمفردها الشأن الديني. وأظهرت أخيراً أنّ التمييز السالف الذكر لا يؤدي إلى فصلٍ؛ بل إلى "تشابُك"، سواء في عمل المؤسسات أو في صلاحياتها. فقد تبلورت قسمةٌ للعمل بين "أرباب السيوف" و"أرباب الأقلام"، وبقيت هناك مجالاتٌ مشتركةٌ للتعاوُن أو التنازع مثل أداء الزكاة، وولاية الحسبة، وولاية الأوقاف، وقضاء البُغاة، وقضاء الزنادقة..الخ. ومن هذه الناحية أتت النقاشات اللاحقة بشأن الشريعة والسياسة(وصولاً للسياسة الشرعية)، وبشأن الشريعة والقانون زمن العثمانيين(وصولاً للازدواجية التعاونية بين السلطتين).

ثانياً: العلاقات المتغيرة في الأزمنة الحديثة والمعاصرة: 

في عام 1771-1772م ثار أحد وجهاء المماليك المصريين بالقاهرة وطرد الوالي العثماني. ثم أرسل علي بك الكبير هذا أحد قادته واسمه محمد بك أبو الذهب إلى دمشق لطرد إنكشارية العثمانيين منها؛ لكنّ علياً الكبير هذا ما لبث أن توفّي، فاضطر محمد أبو الذهب إلى مغادرة دمشق بسرعة لضبط الأمور بالقاهرة؛ لكنه قبل سفره جمع علماء دمشق ومنهم القاضي والمفتي وأراد أن يعهد إليهم بإدارة المدينة في غيبته. وقد رفض العلماء ذلك بالإجماع، وقالوا: إنهم لا عِلْم لهم بأمور السلطة، وإنهم ما يزالون على ولائهم للسلطان، فإمّا أن يبقى هو بالقلعة والمدينة أو يعيد والي السلطان إليها! وحدث الأمر نفسه عندما احتلّ نابليون مصر عام 1799م، فقد استدعى إليه علماء الأزهر وأَوهمهم أنه يريد توليتهم إدارة مدينة القاهرة؛ لكنّ رئيسهم شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي قال له: إنهم مساكين ولا شأن لهم بالأمر السياسي، وهم ما يزالون على ولائهم للسلطان العثماني. ولذلك، وعندما أخرج الأسطول الإنجليزي والعثمانيون الآتون معه الجنود الفرنسيين من مصر، سارع العلماء إلى نُصرة محمد علي الذي عيَّنه السلطان والياً جديداً على مصر. وقد يظنُّ القارئُ لهاتين الواقعتين أنّ العلماء إنما كانوا مصرّين على الولاء للشرعية العثمانية. وهذا صحيحٌ في جزءٌ منه؛ لكنّ الجزءَ الآخَر من الحقيقة هو أنّ العلماء كانوا ما يزالون خاضعين للقسمة التاريخية للسلطة بين أرباب السيوف(= الشأن السياسي)، وأرباب الأقلام(= الشأن الديني). ويدلُّ على ذلك حَدَثٌ ثالثٌ بتونس في أواخر الخمسينات من القرن التاسع عشر؛ فقد أراد الباي التونسي -التابع للعثمانيين رسمياً- اشتراع دستورٍ للبلاد، وعيَّن لكتابة الدستور لجنةً من العسكريين والإداريين والعلماء الأربعة الكبار ذوي المناصب بالبلاد. وفكَّر العلماء وقدّروا ثم أخبروا الباي باعتزالهم للجنة؛ لأنه لا شأنَ لهم بالأمور السياسية والإدارية؛ وإنما هم معنيون فحسب بالشأن الديني!

وما استمر الوضع على هذا النحو بعد ستينات القرن التاسع عشر فقد تبلور آنذاك لدى بعض شباب العلماء تيارٌ يدعو لأمرين: دعم المشروع السياسي الجديد، والإصلاح الديني. كان الطهطاوي قد تحدث منذ أربعينات القرن التاسع عشر عن نشر وعيٍ باسم الدين بالمنافع العمومية أو المصالح العامة، التي تصون الأنفس والأعراض والأموال. ثم حاول خير الدين التونسي في كتابه الصادر عام 1867 بعنوان: "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" إقناع العلماء والجمهور بأنّ مشروعَ الدولة الجديدة ومؤسَّساتها المستحدَثة يمكن الاستناد فيه إلى المصالح العمومية التي تحدث عنها علماء "مقاصد الشريعة" منذ القديم. قال التونسي ذلك في مقدمته الطويلة للكتاب، والتي تشبّه فيها بابن خلدون في مقدمته المعروفة للتاريخ. فإذا كان ابن خلدون قد درس في المقدمة طبائع العمران البشري وفلسفة التاريخ؛ فإنّ التونسي درس في مقدمة "أقوم المسالك" طبائع العمران الحديث، والتي قال فيها إنّ "ضروريات" الشريعة تدعو إلى التلاؤم مع متغيرات الأحوال، بحيث تُصبحُ الدولة الحديثة التي يراد إنشاؤها عملاً دينياً مقاصدياً؛ لأنها تصون الأمة والدين من هذا السيل الذي لا يمكن دفعُهُ إلاّ بأدواتٍ جديدة. وما كانت فكرة المقاصد الشرعية جديدةً على الفقه وأُصوله؛ وإنما كان الجديد استعمالها وتوظيفها على هذا النحو. وقد استظهرتُ في دراساتٍ سابقة أنّ الفكرة وتوظيفاتها من جانب التونسي مأخوذة من عمل الفقيه التونسي الحنفي محمد بيرم الخامس الذي كتب رسالة في "السياسة الشرعية" نُشرت فيما بعد، وترِدُ فيها الاقتباساتُ ذاتُها التي يذكر خير الدين بعضاً منها في مقدمة عروضه لحالات دولٍ أوروبيةٍ ناهضة في مؤسساتها الصناعية والزراعية وشركاتها ونظامها الدستوري. وعندما ذهب الشيخ محمد عبده(1849-1905) إلى تونس لأول مرة عام 1885 وجد أنّ مطبعة الدولة التونسية نشرت عام 1884 كتاب "الموافقات" للشاطبي الفقيه المالكي(ت. حوالي عام 790هـ) الذي كان رئيسياً في نشر هذه الفكرة في الحقبة الكلاسيكية المتأخرة. ومنذ ذلك الحين سادت لدى "السلفيين الإصلاحيين" ممارساتُ استخدام مقولة مقاصد الشريعة الخمسة: (حفظ الدين والنفس والعقل والعِرض والمِلك) لدعم الأمرين السالفي الذكر: إصلاح الشأن الديني بالاجتهاد ونبذ التقليد، ودعم مشروع الدولة الحديثة والقوية. إنما لا ينبغي أن نُخطئ فنعتبر أنّ الفقهاء الإصلاحيين صار عندهم مشروعٌ سياسي كما قد يوهمُ كلامُ الأستاذ عبد الله العروي في "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" الصادر عام 1970. فالفقيه الإصلاحي دخل في مشروع الدولة الوطنية، وحاول نُصرته بدفع الناس وتحشيدهم من حوله باسم القيم الأساسية للإسلام، وقَوله بالسُنن والقوانين الطبيعية والاجتماعية للنهوض والمدنية، والتي أدَّى الإعراضُ عنها إلى التخلف والانحطاط. ويدلُّ على ذلك دفاع الشيخ عبده في مطلع القرن العشرين عن مدنية الحكم في الإسلام. وهذا الأمر صرَّح به الشيخ علي عبد الرازق في كتابه: "الإسلام وأُصول الحكم" (1925) في ردّه على ما أظهره العلماء التقليديون من فجيعةٍ بإزالة الخلافة على يد مصطفى كمال بتركيا(عام 1924). ويمكن قول الشيء نفسه عن مقالات تلميذ عبده الرئيس الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، والذي كتب مقالاتٍ عنيفةً في الدفاع عن مؤسسة الخلافة، فقد ظلَّ رشيد رضا (وخصوم عبد الرازق الآخرين مثل محمد الطاهر بن عاشور ومحمد الخضر حسين) على محافظته وتوجهاته السلفية الجديدة، يقول: إنّ الخلافة مؤسَّسةٌ تاريخيةٌ أنجزها الصحابة بعد وفاة النبي (ص)، وليست من أركان الدين أو ضروراته؛ لكنّ الحرصَ عليها رغم الانحطاط الكبير الذي أصابها خلال عدة قرونٍ يعود إلى التداخُل الذي حصل بينها وبين الدين في مَدَياتٍ متطاولة بحيث صارت رمزاً عريقاً للإسلام، وعَلَماً عليه. ومما يدل على ذلك تكالُبُ المستعمرين على إزالتها بأي ثمن، وهو الأمر الذي جاراهُم فيه مصطفى كمال بحماسٍ مشهود!

إنّ الواقع أنّ الخلافات التي حدثت في عشرينات القرن العشرين وما بعد كانت حصيلة تغيرٍ في المزاج الشعبي، وأمزجة النُخَب الدينية والمدنية؛ فقد ظهرت لدى النخب الدينية أَولوياتٌ أُخرى تتعلق كلُّها بالهوية وخصوصية الإسلام. وقد أثر ذلك في التوجهات حتى لدى عددٍ من الإصلاحيين، فبعد أن كانت الأَولويةُ لفكرة التقدم، برزت فكرة الحفاظ على الهوية. وقد آذن بذلك الجدال حول مسألة إلغاء الخلافة باعتبار ذلك إيذاناً بإقصاء الإسلام. وبالطبع ما كان ذلك التوجُّس واضح المعالم؛ إنما كان من نتائجه ظهور جمعيات كثيرة تحمل عناوين إسلامية؛ منها الشبان المسلمون والإخوان المسلمون والجمعية الشرعية. وانتشرت الظاهرة بسائر أنحاء العالم الإسلامي فيما بين الهند وإندونيسيا وآسيا الوسطى وبلاد الشام والعراق وإيران. ومع ظهور تلك الجمعيات بدا كأنما المُراد الذهاب إلى أنّ هذه الهيئات الجديدة إنما هي بؤر لتركُّز الشرعية بعد أن اتجهت للتضاؤل في الدول والمجتمعات التي كان أكثرها خاضعاً للاستعمار. وبالطبع ما كان ذلك التوجُّه ذو الدلالة سائداً؛ لأنّ نُخَباً واسعةً أُخرى كانت تعمل ضمن جهود الحركات الوطنية الرامية للتخلص من الاستعمار، وتعتقد أنّ أقامة السلطة الوطنية المستقلة هي السبيل الأجدى لاستعادة المشروعية والشرعية. وهكذا فقد كان وعي الجمعيات الشرعية والإسلامية وعياً خاصاً بفئةٍ أو فئاتٍ من المتدينين ذوي الحساسية العالية بتلك المسألة. وما حدثت في البدايات وحتى الأربعينات من القرن العشرين قطيعةٌ بين النُخَب الإسلامية والأُخرى الوطنية. وكانت تتشارك في النضال العامّ للخلاص من الاستعمار والتغريب الاجتماعي والثقافي والسياسي. إنما في ظروف الحرب العالمية الثانية، وازدياد الضغوط على المجتمعات؛ فإنّ التحشُّد من حول الحزبيات الراديكالية الوطنية والإسلامية قد ازداد. وبذلك فقد تبلور مع الوقت وعيٌ دينيٌّ من حول فكرة الخوف على الهوية، وحول فقدان الشرعية، وتركُّز الهوية الخالصة والكاملة ضمن تلك الجمعيات والتنظيمات، التي اتجه بعضُها للانكفاء والتقوقع، وبعضها الآخر إلى الامتداد والانتشار. وبذلك فقد ظهرت بالتدريج ممارسات القطيعة الدينية، والقطيعة الثقافية والتربوية والقطيعة الاجتماعية، وأفكار الانفصال بين الشريعة والقوانين المدنية التي بدأت تظهر في الدولة الوطنية الجديدة. وازدادت بذلك فكرة تركُّز الشرعية في التنظيم، وخروجها من الدول وإداراتها أولاً ثم من المجتمعات. وعندما حدث الصِدام الأكبر عام 1954 بين النظام المصري الجديد وجماعة الإخوان المسلمين، كان ذلك إيذاناً بمقارفة الإسلاميين للدولة الوطنية أو فكرتها وسواء أكان المستعمر قد غادر الديار أم لم يغادرها. وترك ظهور دولة باكستان باعتبارها الحاضن للمسلمين الذين انفصلوا عن الهند أثراً عميقاً في أذهان الكثيرين الذين رأوا في ذلك الانفصال المروِّع دليلاً لا يُدحَضُ على استحالة العيش بين المسلمين وغيرهم في دولةٍ واحدة. وتبع ذلك أو اقترن به ظهور نظرية الحاكمية الإلهية، وفكرة النظام الكامل الذي يتيحه بل يفرضه الإسلام على أتباعه الذين يكون عليهم العيش في ظل نظامهم الخاصّ إمّا بالانفصال عندما لا يمكن السوادُ، أو بمحاولة الوصول إلى السلطة لاستعادة الشرعية من طريق تطبيق الشريعة التي هي رمز الحاكمية والنظام الكامل. وما استطاعت "الجماعة الإسلامية" بباكستان المسلمة الوصول إلى السلطة، وكذلك ما استطاع "الإخوان المسلمون" ومتفرعاتهم. ولذلك تكررت الصدامات في أنحاء شتى من العالمين العربي والإسلامي بين الأنظمة من جهة، والتنظيمات الإسلامية من جهةٍ أُخرى. وعندما اتجهت السلطات الوطنية إلى التأزُّم وتضاءلت شعبيتها بسبب الهزائم أو عدم تحقق الأهداف -دون أن يعني ذلك سقوطها- ركب الإسلاميون العقائديون الموجات الشعبية، فوصلت المؤسسة الدينية الإيرانية إلى السلطة، وأقامت جمهوريةً إسلاميةً عام 1979، بينما انفجرت الجهاديات الثورية في المجتمعات السنية من على يمين التنظيمات الإسلامية وشمالها. وقد أمكن لتنظيم الإخوان المسلمين ببنيته الصلبة الصمود وزيادة الشعبية وسط العواصف لعدم اندفاعه في ممارسة العنف من جهة، وانكسار دعاوى السلطات الوطنية تحت وطأة الاستبداد والفساد من جهةٍ ثانية. وبسببٍ من هذين العاملَين تأهَّل التنظيم للسلطة باختراقه للطبقة الوسطى في الثمانينات والتسعينات، وشبكاته الاجتماعية والإغاثية الواسعة في المدن والأرياف.

على أنّ العاملَ الأبرز فيما وصلت إليه التنظيمات الإسلامية السرية والعلنية من شعبيةٍ بين الخاصة والعامة؛ كان تلك العملية الواسعة التي قام بها عبر عدة عقودٍ لتحويل المفاهيم إذا صحَّ التعبير. وأبرزُ تلك المفاهيم الجديدة المحوَّلة أنّ الإسلام دينٌ ودولة، وأنّ الدولة (أي الشرعية السياسية) مفتقدة، وأنها تتركز في التنظيم الذي ينبغي أن يصل للسلطة من أجل استعادة الشرعية بتطبيق الشريعة بعد "التمكين". وكما سبق القول فإنّ الدولة الوطنية التي استولى عليها العسكريون ما نجحت في الاحتفاظ بشعبيتها بسبب وجوه الفشل المتعددة، فأعرضت عنها النُخَب الجديدةُ المتدينة وبعض القديمة. وانصرفت للتحالف أو العمل مع التنظيمات الإسلامية غير العنيفة والتي تستأثر بالأمانة للشريعة الإلهية مصدر الشرعية وضابطها. وهكذا حوصرت المجتمعات بين الراديكاليات والجهاديات المقاتلة وغير المقاتلة، والطغيان والفساد في الأنظمة؛ فظهر الإسلاميون للكثيرين باعتبارهم تارةً المخرج والملاذ وتارةً أُخرى باعتبارهم الحلَّ الأمثل إن لم يكن الأَوحد. وما نجح الإسلاميون الإحيائيون هؤلاء في تحويل المفاهيم فقط(عندما جعلوا فكرة الدولة الدينية في الإسلام مقبولة)؛ بل نجحوا أيضاً في إظهار مرونةٍ بالغةٍ بتأكيد إرادة مشاركة الأنظمة بطرائق سلمية، وتقبل أفكار الانتخابات والتحزُّب والتداول على السلطة؛ أي كلُّ ما كانت الأنظمة القائمة في الجمهوريات الخالدة ترفضه أو تحوّره وتزوّرُه. والقصة بعد ذلك معروفة، فبعد التجريف الفظيع للبلدان والدول والمجتمعات، انفجرت الحركات الداعية إلى التغيير التي أظهرت عجزاً فاضحاً عن إقامة أنظمةٍ بديلةٍ للحكم الصالح، فما عاد هناك غير الإسلاميين الذين بدأوا يصلون للسلطة في كل مكان؛ بيد أنّ عَجْزَهُم كان أفظَع من عجز الشبان المدنيين؛ لأنهم أصحابُ مشروعٍ سلطويٍّ عريقٍ مستندٍ إلى عقائدية الحاكمية والنظام الكامل، والأدبيات الهائلة عن ذلك المشروع طوال خمسة عقودٍ وأكثر!

ثالثاً: ملاحظات في مستقبل العلاقة بين الدين والدولة: 

عرفت العلائق بين الدين والدولة في نصف القرن الأخير، وفي العالمين العربي والإسلامي، اضطراباً شديداً واستنزافات متبادلة. وعندما نقول: الدين والدولة؛ فإننا نعني بالدين: الجهة أو الجهات التي امتلكت المرجعية أو حاولت ذلك، كما نعني المؤسسات الدينية، ونعني أخيراً مسألة الدين في الأوساط الثقافية والسياسية. أما الدولة فنعني بها بالدرجة الأُولى النظام السياسي السائد. ويعود الاضطراب الذي نتحدث عنه أو يتحمل مسؤولياته الطرفان. فمن جهة الدولة تعاملت الأنظمة السياسية مع المؤسسات الدينية بأحد ثلاثة أشكال: الجفاء والانتقاص، أو الدعم والاستتباع، أو الحيادية الودودة أو المتجهة. أمّا حالة الجفاء فظهرت في أكثر دول أو أنظمة الضباط وجمهورياتها الخالدة، ويرجع ذلك إلى الاعتقاد بأنّ المؤسسات الدينية (التقليدية) تحولُ دون انتصار برامج التحديث والعصرنة أو النماذج الاشتراكية في التنمية. والنمط الثاني من أنماط العلاقة وهو الحفظ والاستتباع؛ ظهر في دولٍ عربية كبرى وفاعلة مثل مصر والمغرب والسعودية؛ فقد نمت تلك المؤسسات واتسعت قدراتها التوظيفية ومؤسساتها التعليمية؛ لكنْ حدَّ من حجيتها وسُمعتها لدى الجمهور كثرة استخدام النظام السياسي لها في دعم مواقفه الداخلية والخارجية. وعرف النمط الثالث نمواً وظهوراً في عدة بلدان، أعرضت أنظمتها السياسية عن توظيف المؤسسة الدينية أو نبذها. وقد لاحظتُ في دراساتٍ سابقةٍ أنّ طرائق التعامل مع المؤسَّسات في الأنماط الثلاثة كانت لها تأثيراتها على ظهور الأصوليات والراديكاليات الدينية. فظهرت الأصولية العنيفة في دول الجفاء والقطيعة، وظهرت الأصوليات الاحتجاجية الأقلّ عنفاً في دول الاحتضان والاستتباع؛ في حين كان الظهور الأصولي خفيفاً في دول الحياد. إنما يكون علينا أن نلاحظ أنّ الصراعات ما كانت ثُنائية بل ثلاثية أو رُباعية الأبعاد. فقد نازعت الإحيائيات والأصوليات على المرجعية الدينية كلاًّ من المؤسسة الدينية والأنظمة السياسية. وفي سياق عمليات "تحويل المفاهيم" السالفة الذكر حدثت الانشاقات داخل الإسلام، وظهرت بدايةً في التنازُع على "المهام" بين المؤسسة الدينية والاحتجاجيات الإحيائية مثل التعليم (الديني) والفتوى وقيادة العبادات والإرشاد العام. ووقفت الأنظمة السياسية أخيراً مع المؤسسة بعد تصاعد الصراع بينها وبين الأصوليات؛ بيد أنّ ذلك كان بعد فوات الأوان؛ لأنه جاء بعد حدوث الانقسام وتحويلات المفاهيم ووقوعها (أي المفاهيم) في أيدي الأصوليين وتنظيماتهم. ولذا فإنه عندما تبلورت الجهاديات والإسلام السياسي، كانا قد انتزعا من المؤسسات الدينية جزءًا من المرجعية الرمزية والعملية، ومن الأنظمة السياسية إسقاط مسألة احتكار العنف أو مشروعية الانفراد باستخدامه. ووسط الصراع العنيف على المرجعيات والمفاهيم والمؤسَّسات خلال حوالي العقدين، والذي شاركت فيه جهاتٌ إقليميةٌ ودوليةٌ، تكسّرت الجهات أو معظمها معاً: تكسَّرت الجهاديات، وتكسّرت الأنظمة الاستبدادية، وانكسر الإسلام السياسي، وخرجت المؤسسات الدينية لدى أهل السنة ضعيفةً أو مشرذمة. لقد تغوَّلت الأنظمة على المجتمعات، وتغولت الأصوليات والإحيائيات على الدولة فكرةً وممارسةً، وعلى الدين والمجتمع وحدةً وانتظاماً وسكينةً وأخلاقيات.

وإنه لمن الصعوبة بمكان الحديث عن مستقبل منتظمٍ أو واضحٍ للعلائق بين الدين والدولة في العالمين العربي والإسلامي. ويرجع ذلك إلى المتغيرات العاصفة والعميقة والتي تتوالى وقائعها في هذه الأزمنة. فعندما كان الإصلاحيون في مطالع القرن العشرين يتحدثون عن الإصلاح الديني، كانوا يقصدون إلى إخراج المؤسسات الدينية من التقليد، وإقدارها على الفعالية والتأثير في الحداثة الاجتماعية والثقافية، وعرض الإسلام في العالم. وخلال القرن العشرين حدثت جهودٌ في المجالات السالفة الذكر؛ بيد أنّ أبرز التطورات ظهرت في مجال تسييس الدين، وظهور طموحات الأحزاب الدينية/ السياسية في الاستيلاء على إدارة الشأن العام بداعي صَون الدين من عَقَابيل الحداثة، ومن طاغوت الدولة الوطنية. وقد عَرَّض هذان"الجهادان" التسييسي والقتالي الدين لأخطار جمة، ويتساوى في هذا التعريض للأخطار الشيعةُ مع السنة. فقد ضبطت المؤسسة الدينية الشيعية المذهب من خلال الاستيلاء على الدولة الإيرانية فجنَّبت المذهب أخطارَ الجهاديات وتشرذماتها وحروبها الأهلية؛ لكنها سيَّست الدين والمذهب تسييساً كاملاً وسخرَّتهما لأهداف ومصالح الدولة الإيرانية في المنطقة الإسلامية والعالم. وبذلك يصبح صَونُ الدين أولويةً وهدفاً؛ لكنه صعبُ المنال؛ لأنّ رأس الأَولويات في هذا المجال يتمثّل في إخراج الدين من بطن الدولة، ومن حمأة الصراع السياسي. وهذا أمرٌ صعب المنال- كما سبق القول- لأنّ رجال الدين الشيعة تدغدغهم مناعم السلطة باسم الدين، ولأنّ الحزبيين السنة من جهاديين وتنظيميين ما يزالون يقدّمون مسائل الوصول للسلطة باسم الدين على كل اعتبارٍ آخر! ولذا فقد فكَّرتُ في السنوات الأخيرة أنه ربما كان الإصلاح السياسي والحكم الصالح هو الشرط الضروري للإصلاح الديني، وانتظام العلاقة بين الدين والمجتمع والدولة. لا بد أن يستعيد المجتمع وتستعيد قواه المدنية الشأن السياسيَّ والعام، فتبني الأنظمة السياسية الجديدة. والمجتمعاتُ ذاتُها هي التي تحتضن الدين الذي يشكّل نظامها الأخلاقي؛ فالإقدار في المجال السياسي والعامّ يُقْدِرُ تلك المجتمعات على استعادة دينها وقيمه أيضاً من وطأة الحزبيات وطموحاتها، ومن الهرمية الإمامية لرجال الدين الشيعة. ويحتاج ذلك بالطبع إلى نهوضٍ دينيٍ إصلاحي يتصدى له علماء متنورون لدى سائر الأطراف هدفه كسرُ عمليات "تحويل المفاهيم" الطويلة الأمد، والتي رمت إلى تغيير طبيعة الدين لدى السنة والشيعة. وهذه الأمور تبدو صعبة المنال، وحافلة بالاشتراطات المتضادّة أو المتبادلة؛ لكنها "عمليات" وليست انقلابات، ولذلك تظلُّ ممكنةً بل ومرجَّحة بسبب ضروراتها للدولة والدين معاً.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/223

الأكثر مشاركة في الفيس بوك