السياسات تجاه الإسلام في العصر الاستعماري

محمد الحدّاد

السياسات تجاه الإسلام في العصر الاستعماري موضوع شديد التوسّع والتشعّب؛ فالبلدان الاستعمارية لم تكن تسلك سياسة موحّدة، وإن التقت غاياتها وأهدافها وتقاربت وسائلها ومناهجها في كثير من الأحيان، كما أنها لم تكن تتعامل مع الإسلام بصفته دينا أو حضارة بقدر ما كانت تعامله بصفته فضاء جغرافيا وسياسيا، وكثيرا ما عنت كلمة "إسلام" في الأدبيات الاستعمارية ما نطلق عليه عادة عبارة "العالم الإسلامي"، ولذلك فإنّ السياسات قد اختلفت أيضا حسب المناطق وما كان منها مطلوبا لذاته بسبب ما يزخر به من خيرات (الهند مثلا) وما كان مهمّا بسبب موقعه الجغرافي والاستراتيجي، وأخيرا ما برز شأنه بسبب الجوار وسعي القويّ إلى فرض سيطرته على الضعيف، لا سيما إذا حضرت مشاعر الثأر من تاريخ لم يكن فيه القويّ قويّا دائما، ولا الضعيف ضعيفا دائما.

ثم إنّ هذا الموضوع قابل لأن يطرح من وجهة نظر أصحاب السياسات أو من وجهة نظر الذين خضعوا لتلك السياسات. فمن وجهة النظر الأولى، لم يكن الاستعمار إلاّ مسارا لإدخال الشعوب المتخلفة إلى الحضارة واقتسام مكتسبات الحداثة معها وتدريبها على استعمال التكنولوجيات والإضاءة بالكهرباء والتواصل بالتلغراف والتلفون وتدريبها على المعارف الرياضية والجغرافية والطبية الحديثة وصدّ حكامها عن التصرّف بالإطلاق في الرعية وإلزامهم بالتقيّد بالدستور والقوانين، هذه هي الصورة التي تبرز مثلا في مذكرات بعض كبار السياسيين الذين تولوا مناصب خطيرة وحساسة في الإدارة الاستعمارية، مثل لورد كرومر(1).

أما من وجهة النظر الثانية - أي رؤية المستعمَرين (بالفتح)- فستبرز الصورة طبعا على طرف نقيض، وسيعد الاستعمار ضربا لوحدة البلد ونسيجه الاجتماعي المتماسك وثقافته العريقة وأخلاقه السامية، وستحتلّ مسألة التحديث المادي مكانة ثانوية مقارنة بالجوانب المعنوية والأدبية؛ نظرا لما أصاب الأمة من ويلات، وقد تحمّل السياسات الاستعمارية أحيانا المسؤولية الكاملة في كل مواطن الخلل والوهن، مع أن بعضها موروث من مرحلة ما قبل الاستعمار، بيد أنّ بناء الوحدة الوطنية ضدّ المستعمر وتجييش الإرادات لمقاومته والسعي إلى إقناع المجتمعات بإمكانية التغيير كانت تفرض صرف النظر عن التاريخ البعيد وحصر الاهتمام في اللحظة الاستعمارية ذاتها، مفصولة عما كان المفكر الجزائري مالك بن نبي يطلق عليه "القابلية للاستعمار".

ولقد فضلنا في هذا المقال أن نطرق الموضوع من زاوية مختلفة، فلم نتجه إلى أصحاب الوجهة الأولى ولا إلى أصحاب الوجهة الثانية؛ وإنما أردنا أن نعرّف بأثر طريف وغير معروف، تركه كاتب أصبح اليوم في عداد المغمورين، بل المجهولين، مع أنّه كان من الشخصيات المعروفة في عصره، فقد وجدنا في هذا الأثر وصفا وتحليلا ونقدا للسياسات تجاه الإسلام في العصر الاستعماري، تخرج عن المعهود وتأبى أن تتنزّل في التقسيمات العادية التي تطرح عادة مع طرح هذا الموضوع. لقد عزمنا على أن نعرّف القارئ بكتاب نشر باللغة الفرنسية بباريس (فرنسا) سنة 1922، عنوانه: "الإفلاس الأخلاقي للسياسة الغربية في المشرق"(2). وقد يقول قائل: إنّ هذا العنوان يدلّ على انتماء صاحبه لوجهة النظر الثانية؛ لكنّ الطريف في الموضوع أنّ صاحب الكتاب- وهو تركي - كان من كبار المعجبين بالثقافة الغربية والمتأثرين بفلسفة الأنوار والمطلعين على الحضارة الغربية، بل كان من أتباع فيلسوف الوضعية أوغست كونت، فليس في تكوينه ومواقفه ما يمكن أن يجعله موضع اتهام بالتعصب لدينه أو التحامل على الغرب عن جهل أو انغلاق، وقد جعل هذا الأثر آخر إصداراته، فكأنه قد ضمنه حصيلة تفكيره الطويل في جوهر السياسة الاستعمارية تجاه العالم الإسلامي.

ولئن كان صاحب الأثر- كما سنرى- قابلا أن يصنّف ضمن العلمانيين؛ بل قد يعد من غلاتهم في نظر البعض؛ فإنّ الطريف دفاعه في هذا الأثر عن أطروحة مفادها أنّ المحرّك الأوّل للسياسات الاستعمارية تجاه العالم الإسلامي هو محرّك ديني أساسا، وأنّ القوى الغربية في العصر الاستعماري ظلت تنشد أهدافا دينية وتستبطن مسلمات لاهوتية في رسم سياساتها في العالم الإسلامي، رغم أنها كانت قد تخلصت من الدين وتعلمنت في سياستها الداخلية، وهذه الأطروحة لا تخلو من خطر إذ صدرت عن شخص عارف بالغرب وثقافته وسياسته معرفة عميقة.

ولقد كان من محفزات اختيارنا لهذا الأثر بالذات أنّه ظلّ شبه مجهول، وقد يكون سبب ذلك أنه كتب باللغة الفرنسية ونشر بفرنسا؛ لكن ثمة أيضا أساب أخرى تتصل بتغيّر السياقات وتعاقب الأحداث، وسنعود إليها لاحقا.

وإنّ من الانتقادات التي وجهها الكاتب للسياسات الاستعمارية في عصره ما يمكن أن يتخذ توصيفا لبعض ما نراه اليوم في السياسات الراهنة، وبعض فقرات الكتاب يمكن أن نقرأ ما يوازيها في تحليل الوضع الإسلامي الراهن، أو أنه يمكن انتزاعها عن سياقها الأصلي لتطرح في السياق الحالي دون أن يشعر القارئ بالخلل أو التباعد. 

1) الإفلاس الأخلاقي للسياسات الغربية:

صاحب الأثر هو أحمد رضا، لن يجد القارئ الكثير من المعلومات عنه في المصادر العربية- وهو غير سميّه "أحمد رضا" اللغوي صاحب معجم "متن اللغة" - كاتب وسياسي تركي، ولد سنة 1858 بإسطنبول وتوفي بها سنة 1930، درس بالمعهد الفرنسي بالعاصمة التركية ثم هاجر إلى فرنسا لدراسة العلوم الزراعية الحديثة، وزار العديد من البلدان الأوروبية وأقام فترات في الغرب، عاد إلى بلده وعمل في القطاع الحكومي، وفي سنة 1889 قصد باريس لزيارة المعرض الدولي؛ لكنه كان ينوي في الحقيقة تنظيم المعارضة ضدّ السلطان عبد الحميد وتنظيم جمعية "تركيا الفتاة" التي كان من مؤسسيها وقيادييها، وفي سنة 1895 كلّف بمهمة إدارة الصحيفة الرسمية للجمعية التي نجحت في عزل السلطان عبد الحميد فيما دعي بالثورة الدستورية، فعاد إلى تركيا وعيّن رئيسا للبرلمان العثماني.

كان أحمد رضا شديد الإعجاب بالحضارة الأوروبية وبفلسفة أوغست كونت الوضعانية، وسخّر حياته كما يقول لمقاومة استبداد السلاطين العثمانيين من جهة، وتعريف شعوب الإمبراطورية بمحاسن الحضارة الحديثة، وسخّر قلمه لتحقيق الغايتين، فنشر مئات المقالات الصحفية وأسهم في العديد من المناسبات الفكرية والسياسية؛ لكنّ تواصله مع الغرب واصطدامه بالسياسات الاستعمارية جعله يهتمّ أكثر فأكثر بنقد الصورة السلبية المرسومة للإنسان المسلم، وبما أنه كان يتقن اللغة الفرنسية فقد سعى إلى إصلاح هذه الصورة لدى المثقفين وعموم الغربيين، فأصدر سنة 1897 كتابا عنوانه "التسامح الإسلامي"، سعى فيه إلى تأكيد أنّ الإسلام ليس أقلّ تسامحا من الأديان الأخرى؛ بل إنّه الدين الذي كان أكثر تحقيقا للتسامح في مبادئه وفي تاريخه. ثم أصدر سنة 1907 كتابا، باللغة الفرنسية أيضا، عنوانه "الأزمة الشرقية: العلل والحلول"، سعى فيه إلى تفسير قضية الإصلاحات في الإمبراطورية العثمانية للرأي العام الغربي الذي لا يعرف وضع المسلمين إلاّ من خلال ما تنشره الحكومات والأوساط الاستعمارية. وأخيرا، أصدر سنة 1922 كتاب "الإفلاس السياسي للسياسة الغربية في المشرق" وهو موضوع بحثنا.

رغم الجهود التي بذلها أحمد رضا بك للدفاع عن صورة الإسلام والمسلمين ومهاجمة السياسات الاستعمارية تجاههم، فإنّ ذكره يكاد يكون معدوما في المراجع العربية، وإذا ما ذكر فيشار إليه غالبا بصورة المتغرّب، ويرجع ذلك إلى عدّة أسباب منها أنه لم يكن يخفي إعجابه بالثقافة والحضارة الحديثتين وإن لم يكن يخلطهما بالسياسات الاستعمارية، ومنها دوره في جمعية "تركيا الفتاة" التي أسهمت في الإطاحة بالسلطان عبد الحميد سنة 1909، ومنها مناصرته لقضية تحرير المرأة، وتحضرنا هنا حادثة طريفة تثبت مدى تغيّر الأفكار بتغيّر الأزمنة، فمن المآخذ على أحمد رضا عبارة اشتهرت عنه وقد نقلها شكيب أرسلان وقالها عندما تولّى رئاسة البرلمان العثماني الذي استعيد بعد عزل عبد الحميد الثاني، إذ هنأه أحدهم باستعادة البرلمان وقال له: إنّ الإمبراطورية العثمانية قد دخلت بذلك في مصافّ البلدان المتقدّمة، فردّ عليه بالقول: إنّ الإمبراطورية لن تكون جديرة بصفة التقدّم إلاّ إذا جاء يوم نرى فيه شاباتها يعبرن مع الشبان جسر البوسفور سافرات الوجوه متساويات في الحقوق، وقد اعتبرت هذه الأمنية من الكبائر في ذلك الوقت، وكثيرا ما وقع الاحتجاج بها واعتبارها شاهدا من شواهد الحملة الممنهجة ضدّ الإسلام، جمعا بين إضعاف الخلافة وتغيير نمط حياة المرأة، والواضح أن الذين ذهبوا هذا المذهب لم يطلعوا على كتابات أحمد رضا بالفرنسية التي سخرها للدفاع عن الإسلام والمسلمين، لا سيما ونحن نرى اليوم عبور الفتيات جسور إستنبول وقد أصبح أمرا عاديا لا يكاد يثير حفيظة أحد، وإنما هي العادات والتقاليد تستقرّ في الأذهان وتختلط بالدين فتصبح وكأنها جزء من قداسته وعلوّه، ويتهم كلّ من يتجرّأ على نقدها بالتطاول على الدين ذاته.

أمّا الكتاب الثالث لأحمد رضا قد خصّص لتحليل السياسات الاستعمارية، وقد كتب في لحظة تتسم باليأس والمرارة، نتيجة ما أصاب تركيا والعالم العثماني من جراء الحرب العالمية الأولى، وهو يعبّر عن تمزّق صاحبه بين الإيمان بالحضارة الحديثة وفكر الأنوار من جهة، وفضحه للسياسات الاستعمارية الغاشمة من جهة أخرى. ومن هنا تتنزّل الأطروحة المفاجئة التي يسعى الكاتب للدفاع عنها، وهي أننا لا يمكن أن نفهم تلك السياسات إلاّ باعتبار محفزاتها الدينية غير المستبطنة، فالغرب لم يتعلمن في علاقته بالمسلمين؛ بل ظلّ يتعامل معهم على أساس ديني، ولا يمكن فهم السياسات الاستعمارية تجاه الإسلام مفصولة عن تاريخ طويل للصراعات الدينية بين الإسلام والمسيحية. بل يذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك فيتهم السياسات الغربية بأنها تسعى على الدوام إلى إشغال المسلمين بالحروب والمواجهات لمنعهم من إصلاح أوضاعهم الداخلية وإبرازهم في صورة المناوئين للحضارة والمعادين للسلام والأخوّة بين البشر.

2) الدوافع الدينية للسياسات الاستعمارية:

لقد تراجع الدافع الديني ظاهريا وأصبحت الدوافع المادية هي الطاغية في العلاقات بين الأمم، وأصبحت البنوك هي المعابد و"بلوتوس" (إله الحرب) معبود الغربيين؛ بيد أنّ "أوروبا الرسمية" -يقول الكاتب- لم تتحرّر من المفاهيم اللاهوتية والميتافيزيقية ولم تتخلص من تعصبها القديم ضدّ الإسلام، وقد تجلّى ذلك في سياساتها الاستعمارية. أما عامة المواطنين فإنهم لا يقيمون آراءهم ومواقفهم على معرفة، وإنما هم ضحايا ما يقوله الرسميون من سياسييهم، ولا قدرة لهم على تبين حقائق الأمور. يقول الكاتب: "إذا رفع قناع الحضارة الحديثة فلن نجد غير أفكار العصر الوسيط ومسلماته".

ويذكر انطباعاته الخاصة عن رجال سياسة فرنسيين كانوا يعدّون أنفسهم ورثة الثورة الفرنسية وفلسفة التنوير؛ لكنهم كما يقول، إذا سبرت مواقفهم من السياسات الاستعمارية في العالم العثماني رأيتها قائمة على نقيض تلك المرجعيات. أما في بلدان أقل تعلمنا من فرنسا فإنّ كبار رجال السياسة لا يحجمون عن إبراز مواقفهم الدينية عند تناول السياسة الشرقية، مثل غلادستون(3) وغيره.

يؤكّد رضا أن السياسات الغربية قائمة على مسلمات موروثة لذلك تتسم بالإطلاقية، ولا تتعامل مع الوقائع بدرجة من التنسيب والتمحيص. وكلّ ما يقوم على المسلمات فهو نقيض التنوير والحداثة، ألم يقل "ديكارت" بأنّ الإنسان المستنير هو الذي لا يسلّم بشيء لم يصحّ الدليل عليه ولم يخضع للتمحيص؟ ألم يحذّر "ديدرو" من أنّ الأفكار الموروثة هي المصدر الرئيس لضلالات البشر؟ لقد حلّت وزارات الخارجية (الغربية) محلّ الكنائس القديمة في تأجيج العداوات بين الشعوب، كما يقول. وكما كان الإنسان البسيط في العصر الوسيط يصدّق كلّ ما يقول له كاهن القرية، فإنّ الأوروبيين يصدّقون أيضا ما تقوله وزارات الخارجية في بلدانهم دون أدنى نظر وتدقيق، مع أن هذه الوزارات تخفي عليهم حقيقة هذه السياسات التي يخطّط لها في الغالب في غرف مظلمة وبين أيدي أجهزة الاستخبارات.

ويقتبس الكاتب تعريف هذا النوع من السياسة من كتاب فريديريك الأكبر "فنّ الحكم" حيث قال: "لما اتفق البشر على أنّ مخادعة الآخر تعد عملا خسيسا، فقد ذهب البعض إلى ابتداع كلمة مرادفة للخداع، فاستعملوا كلمة سياسة". فالسياسة (الخارجية) ليست إلاّ فنّا لمخادعة الآخرين ومخادعة الحكومات الغربية لشعوبها أيضا، حتى قال بسمارك في آخر حياته: إنّه لم ير في مساره السياسي الطويل شيئا غير النفاق والكذب. 

ومن أكبر الخدع التي ابتدعتها السياسات الاستعمارية تبرير احتلال الغير والسيطرة على إراداته وثوراته وخيراته بالادعاء أنها تساعده على الخروج من التخلف، أو تمارس عليه حقّ الوصاية بسبب انتمائه إلى عرق أدنى وقاصر لا بدّ من تلقينه مبادئ الحضارة والتمدّن. ولا يكلف أحد نفسه عناء التأكد من مشاعر الشعوب وحقيقة مصالحها، وهل استفادت مما يدعونه تحضرا أم أنّ أوضاعها قد ازدادت سوءا؟ 

ولا ينكر الكاتب مزايا الحضارة الحديثة في جوانبها المادية؛ لكنه يعد هذه الجوانب محدودة القيمة إذا لم يصاحبها رقيّ معنوي في حياة البشر، كما لا ينكر الكاتب الأخطاء التي ترتكبها السياسات الشرقية من جهتها (الإمبراطورية العثمانية تحديدا)؛ لكنه لا يرى مبرّرا للوقوف على هذه الأخطاء وحدها.

وبما أنّ الكتاب قد حرّر أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد اتخذ الكاتب مثال الإمبراطورية العثمانية التي أخطأت حسب رأيه في قرارها المشاركة في الحرب؛ بيد أن مشاركتها التي لم تكن أساسية ودورها الذي لم يكن من الأدوار الأولى، قد جنيا عليها جناية لم تشهدها البلدان الأخرى المشاركة في الحرب والمبادرة بها، فالحقيقة أنّ مخططات تقسيمها كانت جاهزة قبل تلك الحرب، وأنّ الحرب لم تكن إلاّ تعلة لتنفيذها، في حين يظنّ الرأي العام الأوروبي أنّ التقسيم كان نتيجة من نتائج الحرب. ويستشهد الكاتب بمصير بلغاريا والمجر اللذين هزما أيضا؛ لكنهما لم يتعرضا إلى العقاب نفسه، ولم ينالهما الدرجة نفسها من الحقد، ويرجع ذلك- حسب الكاتب- إلى كونهما بلدين مسيحيين، ويكتب رضا بعبارى ساخرة: كان على عصبة الأمم والزعيم ويلسون أن يضيفوا إلى مبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها عبارة تقول: إلاّ إذا كانت تلك الشعوب مسلمة وأراضيها غنية بالثروات!وهو يرجع ذلك إلى أسباب عميقة مرتبطة بطبيعة المجتمعات الغربية، فهي تنشد مستويات من العيش تتجاوز ما هي قادرة على تحقيقه، فلا سبيل أمامها إلاّ الاعتداء على الآخرين لسلبهم خيراتهم، لذلك تقع البلدان الضعيفة نتيجة هذا النهم عديم الأخلاق.

ويؤكد الكاتب أنّ المسلمين لا يحملون مشاعر معادية للغرب؛ بل إنهم لا يعرفون الغرب إلاّ من شخصيات إيجابية قدمت خدمات جليلة للإنسانية مثل الفلاسفة والمخترعين والمستكشفين، وأغلب ما يقرأه المسلمون عن الغرب فسلفة وأدب وغير ذلك مما يحبّب في الحضارة الغربية وليس العكس. أمّا في الغرب، فإنّ المواطن هناك أسير المعلومات المضللة التي يقدمها له السياسيون والمسلمات الموروثة عن قرون من الصراع الديني ومحاربة الكنيسة للإسلام.

ويقدّم الكاتب وضعه الشخصي نموذجا على ما يقول، فقد درس الفكر الأوروبي وأعجب به وعمل على نشره، وهو إذ يسعى إلى كشف معالم السياسة الاستعمارية تجاه المسلمين فلأنه يراها غبر لائقة بأن تمثل هؤلاء العلماء والفلاسفة الذين صنعوا حضارة الغرب، مثل ديكارت وبيكون وليبنتز وهيوم وديدرو وكانط ومنتسكيو ونيوتن وكونت الخ. ولئن كان أوغست كونت يقول بأنّ الأموات هم الذين يديرون شؤون الأحياء؛ فإنّ السياسات الغربية تمثل حسب الكاتب انتفاضة الأحياء ضدّ هؤلاء الأعلام الموتى، وهي انتفاضة تتنكر لمبادئهم وأفكارهم. كما أن تلك السياسات لا تمثل المبادئ والتعاليم الحقيقة للمسيحية، فقد كان السيد المسيح يعد ملكوته في السماوات، والغربيون ما فتأوا يوسعون ملكوتهم ليشمل كلّ بقعة في الأرض، وبولس الرسول يشدّد على ضرورة احترام المختلفين، والغربيون يشنون حربا ضارية على كل من يختلف عنهم من البشر.

ويقدّم رضا أمثلة من التعامل المزدوج عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، فالسياسي والقائد الفرنسي الكبير جورج كليمنسو كان قد كتب في مذكراته الشخصية عندما اعتدت السفن الغربية على الصين بأنّه يتأسف أن ترفع راية الثورة الفرنسية لدعم الاعتداء على بلد مسالم؛ لكنه عندما تولّى رئاسة الحكومة الفرنسية لم ير مخلاّ بشرف بلده أن يقع الاعتداء على بلد مسلم، وربما يكون قد عد أهله متوحشين تجوز السيطرة عليهم لتمدينهم، لذلك تسعى السياسات الغربية باستمرار إلى إبراز المسلمين في صورة قبيحة للتمهيد للسيطرة والعدوان عليهم. ويذكّر بأنّ الغرب اعتمد باستمرار سياسة متهافتة تجاه الإمبراطورية العثمانية فلم يساعدها على الإصلاح وأسهم بذلك في تنامي شعور وطني متشدّد بسبب شعور سكانها بالظلم، وقد تحوّل الحقد على "الغرب الرسمي"- أي الساسة وصناع القرار- إلى حقد على الفكر الغربي وعلى كلّ ما يصدر عن الغرب ولو كان مفيدا.

3) السياسات الاستعمارية وتعطيل مسارات الإصلاح:

لقد كان الكاتب أحد قادة المعارضة لحكم السلطان عبد الحميد من سنة 1889 إلى سنة 1909، وهو يعود إلى ذكرياته في هذه الفترة، فيقرّ أنّ السلطان كان قد أغلق المجال أمام تدخل القوى الأوروبية، ونشر بين شعبه مشاعر العداوة للغرب والاحتراس من كل ما هو أوروبي، ولم يكن الدافع الحقيقي رفض التقدم والتمدن؛ بل اعتبار أن انتشار ذلك الشعور شرط ضروري لكفّ مطامع الأوربيين عن الإمبراطورية، فقد كان مقتنعا أنها لا تريد خيرا لبلده، فلئن كان عبد الحميد الثاني طاغية يستحقّ النضال ضدّه من أجل الحرية؛ فإنّ رأيه في القوى الغربية كان صائبا، فتلك القوى لم تقم بجهد حقيقي لتطوير الإصلاحات في المجتمعات الإسلامية وإن تظاهرت بذلك طويلا، ولن تساعد تلك المجتمعات على تطوير أوضاعها بقدر ما كانت تستغل دعاوى الإصلاح لمزيد من إرباك تلك المجتمعات والبلدان والإمعان في إضعافها. 

ويستشهد على هذا التقييم بشهادات يستقيها من مصادر غربية، منها فقرة ترد في دائرة المعارف البريطانية يرد فيها ما يلي: "يوم 11 مايو 1895 تقدّمت القوى الأوروبية الثلاث (بريطانيا وفرنسا وروسيا) ببرنامج معقّد للإصلاح لا يذلّل صعوبات الإمبراطورية العثمانية في تعاملها مع قضية الأرمن؛ بل يقصد منه مضاعفة تلك الصعوبات"، ومنها فقرة كتبها غلادستون في مقال صادر بمجلة سياسية يقول فيها: "إنّي أقرّ دون تحفظ بأنّ كل الإصلاحات المفيدة التي حصلت في الإمبراطورية العثمانية لم يدفع إليها الأوروبيون؛ بل قد حصلت في الغالب رغما عن إرادتهم"، ومنها قولة للفيلسوف بيار لافيت: "على الغرب أن يصلح نفسه أوّلا قبل ادعاء إصلاح الآخرين، ولا أرى أكثر غباء من ادعائه الحق في توجيه كلّ البشر"، وأخرى للفيلسوف المشهور هربرت سبنسر يقول فيها: إنّ أفضل خدمة يمكن أن تقدّم للشرقيين هي أن يسمح لهم بأن يختاروا طريقهم بأنفسهم وبمحض إرادتهم. ثم يذكر الكاتب كيف بادر حزب "تركيا الفتاة" بعد ثورة 1909 إلى دعوة القوى الأوروبية إلى توضيح سياساتها وأهدافها تجاه الإمبراطورية العثمانية؛ لكنه لم يتلقّ منها جوابا، وهذا الموقف السلبي الذي ينم على الاستكبار هو الذي دفع الجماهير إلى معادة برامج "تركيا الفتاة" وإصلاحاتها المقتبسة من التنظيمات الغربية الحديثة. 

ثم يعرض بعض الأمثلة من الاستفزازات الغربية بعد هزيمة الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى، منها ضغط الإنجليز لفتح بيوت الدعارة بذريعة أنها من حقوق المرأة، وفتح مصبّ للفحم قرب موقع يحتفظ فيه العثمانيون ببردة نبيّ الإسلام، وهو يعدّ هذه الاستفزازات ترجمة للحقد الديني الغربي، ويتساءل: لم سلطت أقصى العقوبات على تركيا مع أنها ليست المسؤولة عن اندلاع الحرب العالمية الأولى وإن كانت قد أخطأت بقرارها المشاركة فيها، ويؤكد الكاتب أنّ الحرب إنما اتخذت ذريعة لتدمير القوّة الإسلامية الوحيدة التي كان يمكن أن تواجه الغرب.

4) نحو تحالف الأحرار؟

ذكرنا أن صاحب الكتاب المعروض كان من كبار المطلعين على الفكر الغربي والمعجبين بالحضارة الغربية، فلئن بدا في نقده قاسيا على السياسات الغربية تجاه الإسلام والمسلمين فإنه ظلّ مع ذلك مؤمنا بأنّ الحقيقة لا بدّ أن تنتصر، وأنّ الشعوب الغربية ستنتهي باكتشاف أكاذيب سياسييهم وتضليلهم لهم، وبصفته يؤمن بالفلسفة الوضعانية لأوغست كونت فإنه لا يرى الحلّ في قيام حوار للأديان؛ لكنه لا يرى العلم قادرا أيضا على حلّ معضلة العلاقة بين الغرب والإسلام؛ وإنما يتمثل الحلّ من وجهة نظره في أن يصدع المثقفون الغربيون بالحقيقة ويعلنوا صراحة عن مناوأتهم للسياسات الغربية تجاه الإسلام، من موقع تحرير أوروبا من صدى المسلمات التي زرعتها الأفكار الكنسية ضدّ الإسلام، وهو يتهم هؤلاء المثقفين بالصمت والتواطؤ أحيانا، ويرى ذلك مخلاّ بمكانتهم ورسالتهم، وينفي عن نفسه أن يكون قد قصد معاداة الغرب؛ لكنه يصف نقده للسياسات الغربية بأنها "صرخة ألم" من شخص خبر جيدا هذه السياسات وأدرك خفاياها وأسرارها. 

وقد دعا إلى "معاهدة لمنع التسلح بالحقد" في العلاقات الدولية، تستوجب مراجعة جذرية من قبل الغربيين لعلاقاتهم بالإسلام، والاعتراف الواضح بفضل الحضارة الإسلامية في انبعاث نهضتهم الحديثة، مقابل جرائمهم البشعة أثناء الحروب الصليبية. ولذلك يخصّص جزءا مهما من كتابه للحديث عن هاذين الموضوعين الحساسين في توجيه العلاقة بين الطرفين.

لقد رأى الكاتب أن السياسات الغربية تجاه الإسلام في عصره كانت قائمة على مبررين أساسين؛ أولهما الزعم بانتماء الشعوب الإسلامية إلى أعراق دنيا، بما يبرر تدخل الغربيين لنشر الحضارة والتمدن بينها، وثانيهما الزعم برفض الشعوب الإسلامية للتقدّم والحداثة، بما يبرّر تدخل الغربيين لإصلاح مؤسساتها السياسية والاقتصادية وغيرها.

وبما أن الكاتب كان يسعى إلى تصحيح صورة الإسلام والمسلمين لضرب مبرّرات السياسة الغربية تجاههم، فقد خصّص أجزاء رئيسة من كتابه لمناقشة ثلاث قضايا:

الأولى: هل الأعمال الوحشية المنسوبة لدول ومجتمعات مسلمة لا تجد لها مثيلا في تاريخ الدول الغربية؟

الثانية: هل تاريخ الإسلام كان دائما تاريخ معاداة للتقدّم والعلوم والفنون؟

الثالثة: ما هي اللحظة الفارقة في تاريخ العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، ومن المتسبب في تأجيج العداوة بينهما؟ 

لن توسّع في عرض إجاباته على هذه الأسئلة الثلاثة؛ لأن الكثير مما ذكره كان جديدا ومختلفا فيه في بداية القرن العشرين وقد أصبح اليوم متداولا ومسلّما به لدى جمهور واسع من المهتمين ومنهم الغربيون. بيد أنّنا ندرك أنّ المسائل المطروحة ليست مسائل نظرية وتاريخية بقدر ما هي مسائل سياسية موجهة لتعامل الغربيين مع المسلمين، وهي أساسية في توفير المبرّرات الاخلاقية والذرائع التي تقنع الرأي العام الغربي بالسياسات التي تنتهجها دولهم. فإثبات تهافت المبرّرات والذرائع هو إثبات للإفلاس الأخلاقي للسياسات الغربية تجاه الإسلام، وحافز للرأي العام الأوروبي للضغط على حكوماته كي تغيّر جذريّا من تلك السياسات.

يسلّم الكاتب بأنّ تاريخ الإمبراطورية العثمانية- والتاريخ الإسلامي عامة- لا يخلو من صفحات سوداء، مثل الحروب القائمة على الأطماع أو التعصب الديني؛ لكنه يتساءل: هل توجد أمّة يخلو تاريخها من مثل تلك الفظائع؟ ولماذا يراد من المسلمين دون غيرهم أن يحاسبوا على ماضيهم؟ ولماذا تلصق بهم دون غيرهم تهم التوحش انطلاقا من أحداث محدودة؟ ويستغلّ الكاتب ثقافته الواسعة ومعرفته الدقيقة بالتاريخ الغربي ليعرض على أنظار قرائه الأوربيين (بما أنه يكتب بالفرنسية) الكثير من الفظائع التي شهدها ذلك التاريخ، وهي معطيات أصبحت- كما ذكرنا- معروفة ومتداولة اليوم؛ لكنها لم تكن في الدرجة نفسها من الشيوع في العصر الاستعماري، فالمسلمون كانوا يحتفظون أساسا بالعناصر الإيجابية من أوروبا، مثل التقدّم التقني وحيوية المؤسسات السياسية؛ بينما كان الغربيون -إلى حدّ الحرب العالمية الأولى- أكثر افتخارا بأفكارهم وحضارتهم، ولم يتراجع هذا الموقف إلاّ بعد حربين عالميتين عنيفتين سقط فيهما عشرات الملايين من البشر، وهذا ما سمح بظهور المثقفين النقديّين مع منتصف القرن العشرين، عكس السائد في العصر الاستعماري الممتدّ طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. 

وبالمثل، يعرض تاريخ التقدّم العلمي لدى المسلمين وأهمية دورهم في نقل المعارف وتطوريها أثناء العلم الوسيط وفي بداية النهضة الأوروبية، ويقارن وضع العلوم والمعارف لدى المسلمين والغربيين في ذلك العصر مؤكدا طبعا التفوق الواضح للأوّلين، بما ينسف الترابط الذي كانت السياسات الاستعمارية تسعى إلى تكريسه بين الإسلام والتخلّف؛ تبريرا لتدخلاتها في الشؤون الإسلامية باسم التنوير والتمدين. وقد جمع المعطيات من مصادر غربية ظهرت في القرن التاسع عشر واعترفت بالدين الأوروبي للعرب وهي: "تاريخ العرب"لسيدليو، و"حضارة العرب" لغوستاف لوبون، و"مسلمو الأندلس"لدوزي. وقد سبك الكاتب تلك المعطيات في قالب مقتبس من نظرية أوغست كونت في التقدم البشري، وهي نظرية تعد الحضارة ملتقى روافد مختلفة ومتعدّدة. فالمعارف الإسلامية هي إحدى تلك الروافد، والمسلمون يصبحون تبعا لذلك شركاء في الحضارة الحديثة وليسوا أعداءها ونقيضها، عكس ما تسعى الخطابات الاستعمارية لتصويرهم.

أخيرا، يدافع الكاتب عن أطروحة مفادها أنّ اللحظة الفارقة في العلاقة بين الإسلام والغرب هي الحروب الصليبية، فتلك الحروب هي التي أنهكت المسلمين وأوقفت تقدّمهم الحضاري، وهي التي مكنت الغربيين من اقتباس الكثير من المعارف الإسلامية ونقلها إلى بلدانهم، كما عجّلت بتداعي سلطة الكنيسة وفسح المجال للعلماء والأدباء المجدّدين وتخليص التعليم من مراقبة رجال الدين، وقد أثّر هذا الوضع في الرؤية الغربية إلى الإسلام تأثيرا يتواصل إلى اليوم، وأهم معالمه السعي المستمرّ للغرب لإخفاء فضل الحضارة الإسلامية عليه، بما يتطلبه ذلك من سعي مستمرّ لاستنقاص تلك الحضارة وتهميش دورها التاريخي، وإلهاء العالم الإسلامي بالتدخلات والمشاكل والمناورات والحروب، بما يمنعه من إصلاح شؤونه الداخلية والتركيز على قضاياه الحقيقية. 

5) خاتمة:

عرضنا في هذا البحث السياسات تجاه الإسلام في العصر الاستعماري من خلال تحليل شخصية لم تكن تحمل موقفا عدائيا من الغرب ثقافة وحضارة؛ لكنها أدركت من خلال المتابعة النظرية والميدانية أن تلك السياسات لم تكن محدّدة بالعوامل المادية وحدها، وأنها لم تكن تهدف إلى تحقيق المصالح فحسب؛ وإنما هي موجهة في جزء مهم منها بموجهات ثقافية غير معلنة. إنّ هذه الموجهات لا يمكن أن تفهم إلاّ في إطار تاريخ طويل من الصراعات الدينية لم يتجاوزها الغرب رغم علمنته وحداثته، لم يتجاوزها في علاقته بالمسلمين تحديدا، فظلت حاضرة لا يمكن أن تفهم تلك السياسات دون فهمها، ولا يمكن تجاوز تلك السياسات دون تجاوزها.

ومما لا شكّ فيه أنّ رؤية الكاتب كانت منطبعة بمصير بلده وما ناله بسبب الحرب العالمية الأولى وما كان ينتظره من مشاريع للتقسيم والإضعاف، كما أنها عبّرت عن خيبة أمل من شخص آمن بالتنوير والحداثة وكان ينتظر من الغرب سلوك سياسة إنسانية وعقلانية وأن يلتزم بالقيم الكونية، بدل سياسات المراوغة والمخادعة والثأر. 

ولقد أردنا أن نرفع بعض النسيان على شخصية أحمد رضا التي ظلت مجهولة ومتحاملا عليها، ونعرّف بكتابه الذي حالت صياغته باللغة الفرنسية دون تعّرف القرّاء المسلمين عليه؛ لكنّنا أردنا كذلك أن نعيد للطرح فرضية العامل الثقافي في تفسير النزاعات الدولية، فالعديد من المعطيات التي احتجّ بها رضا قد تكون قابلة للمناقشة والتنسيب، فهو لم يعش إلى حدّ الحرب العالمية الثانية ليشهد دمارا أكبر وقع بين البلدان الغربية المسيحية، ولم يشهد استعمال السلاح النووي ضدّ اليابان رغم أنها سلكت طريق الاقتباس من الغرب وكانت تعدّ جزءا من الغرب.

ويبقى الجانب المهم في كتابه التنبيه إلى أنّ العديد من الأزمات والمواجهات والحروب لا يمكن تفسيرها بطريقة منطقية ومعقلنة. وهو ما يذكرنا بنظرية طرحها مؤخرا الخبير الاستراتيجي دومينيك موازي دعاها "جغراسياسة العواطف (أو الانفعالات)" (Géopolitique de l’émotion)، وهذا هو أيضا عنوان كتابه(4) الذي شرح فيه هذه النظرية، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2010، ثم صدرت الطبعة الثانية سنة 2011 متضمنة مراجعات تقحم تحليل الكاتب لوقائع الثورات العربية؛ باعتبارها -في رأيه- أحداثا قائمة على العواطف ولا يمكن فهمها إلا بتحليل الأسباب العميقة لتلك العواطف والانفعالات. وحسب نظرية موازي فإنّ النزاعات الأساسية في العالم الراهن تحركها العواطف وهي الخوف والأمل والشعور بالمهانة، وعلى هذا الأساس يقرأ أحداث الثورات العربية على أنها ثورات ضدّ الشعور بالمهانة؛ بينما يحلّل الوضع الآسيوي على أنه نتيجة الشعور بالأمل، والوضع الإسرائيلي على أنه نتيجة الشعور بالخوف. وبصرف النظر عن هذه التفاصيل؛ فإنّ الرابط الذي نجده بين كتابي أحمد رضا ودومينيك موازي هو إقحام العوامل غير المادية في فهم النزاعات والصراعات، فلئن كانت العوامل المادية مثل البحث عن الثورات الجديدة ومصادر الطاقة وتوسيع الأسواق يمكن متابعتها بسهولة، فإنّ هناك عوامل أخرى لا تقلّ أهمية؛ لكنها غير معلنة وكثيرا ما يصعب تحديدها والاستدلال عليها، وأثرها في النزاعات عميق ومتواصل. فمن هذه العوامل وزن المسلمات التاريخية والثقافية والرؤى المستبطنة تجاه الآخرين وتصنيفات جزء من البشر على أنهم يمثّلون استثناء يبرّر معاملتهم خارج القواعد الإنسانية المعهودة، الخ.

وتستند هذه الادعاءات إلى صياغات محرفة للتاريخ وللحاضر تتخذ ذرائع لتبرير الاعتداءات بمختلف أشكالها. إنّ العالم الإسلامي يثير كثيرا من الانفعالات في الغرب، بما يجعل التعامل معه- سابقا وراهنا- تعاملا قليل العقلنة يكاد يكون غير قابل للفهم والتحليل لمن أراد أن يتعاطى معه من جوانبه المادية لا غير ولا يسبر خلفياته التي قد تكون أحيانا غائبة على أصحاب القرار أنفسهم. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) لورد كرومر (1841- 1917)، ديبلوماسي بريطاني يعدّ من كبار مخطّطي السياسة الاستعمارية لبلده، عمل بالهند وأقام بمصر مندوبا للحماية البريطانية على مدى ربع قرن، من بداية الحملة البريطانية على مصر سنة 1883 إلى سنة 1906، ترك وثيقة بالغة الأهمية عن السياسات الاستعمارية، وتحتوي الكثير من المعلومات والحقائق، وهي كتابه المنشور باللغة الإنجليزية سنة 1908 وعنوانه "مصر الحديثة"، كما ترك عدّة تقارير عن حالة مصر والسودان والهند.

2) العنوان بالفرنسية:

Ahmed Riza: La faillite morale de la politique occidentale en orient.

Paris, Librairie Picart, 1922, 207 p/, 25 cm.

3) غلادستون (1809- 1898) سياسي بريطاني تولّى عدّة مرات رئاسة الوزارة البريطانية، منها فترة امتدت من 1880 إلى 1885 وتزامنت مع احتلال فرنسا لتونس سنة 1881 وردّ بريطانيا بإعلان الحماية على مصر سنة 1882، وكان غلادستون بذلك المسؤول الأوّل على تنفيذ السياسة الاستعمارية لبلده. اشتهر بشدّة صراحته ونقده اللاذع لخصومه، وفي هذا الإطار تتنزّل العديد من العبارات التي نسبت إليه وتتسم بازدراء الإسلام وأهله.

4) Dominique Moisi: La géopolitique de l’émotion Paris, Flammarion, 2010 et 2011.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/219

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك