فلسفة العلوم ودورها في تكامل المعرفة

ناجح شاهين 

 

الواقع مجزأ إلى نتف صغيرة.  وتستطيع الذات العارفة أن تقبض على كل آن في عزلتها عن غيرها من الآنات.  ويمكن بالقياس إدراك الظواهر المكانية في عزلة وانفصال كاملين.  يمكن لنا تبعاً لهذا الفهم أن نبصر قطرة الندى دون أن نرى اللمعان الذي يعتريها، وحتى دون أن نبصر الوردة التي تحمل القطرة اللامعة.  ذاك على نحو مبسط جوهر الموقف الوضعي: الإحساسات هي كل ثروتنا من المعارف.  وهذه الإحساسات معزولة وبسيطة بطبيعة الواقع، لكنها كل ما لدينا لننتج معرفتنا بالواقع.  وكلما كان وصفنا أشد التصاقاً بهذه الجزئيات الحسية المستقلة كان أكثر دقة من حيث قدرته على وصف الواقع وصفاً أميناً يلتزم بما هو موجود حقاً، بدلاً من اختراع ما يحلو للذهن العارف من تركيبات يقوم بإسقاطها على الوجود دون وجه حق، أي دون جواز مرور معرفي سائغ.

 

كانت المعرفة البشرية السائدة معظم الوقت في العصور الحديثة معرفة تجسد الفهم الوضعي للأمور.  ولكن العكس ليس صحيحاً؛ أعني أن الفلسفة السائدة في المدينة لم تكن كلها وضعية المرجع في أي وقت من الأوقات.  ويمكن القول، مع قليل من التعسف، إن شمس الفلسفة الوضعية لم تسطع تماماً إلا لبعض الوقت، وبخاصة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.  غير أن ذلك لم يكن من قبيل الانفراد: ربما أن العالم الأنجلوسكسوني قد كان وضعياً بالفعل طوال النصف الأول من القرن العشرين على أقل تعديل، ولكن القارة لم تكن كذلك، وقد ردت قراءات جدلية وبنيوية ... الخ على المدرسة الوضعية التي رأت فيها تبسيطاً مخلاً للأمور، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإنسان ومنتجاته التي تقع في مستويات عدة متزامنة ومتراكبة، ما يمنع قراءاتها في عزلة عن ذلك التداخل والتأثير والتأثر المتبادلين.

وبالنظر إلى إصرار الوضعية العلموي على كل ما يقبل القياس الحسي المكمم، تراجع حضور الفلسفة، بل وفلسفة العلوم بالذات، إلى مستوى متواضع.  لقد بدا أن كل ما هنالك يمكن أن يبنى على أساس من التجربة العلمية المحسوبة كمياً بدقة متناهية.  يمكن القول إن نشوة الثورة العلمية والصناعية الحديثة قد ألهمت التيار الوضعي مواقفه المفرطة في تفاؤلها.  كان نيوتن يقف على ناصية الشارع ويبشر بثقة بالميكانيكا، وقد بدا أن الوجود برمته هو نوع من الميكانيكا، لكن ذلك الحلم تعرض لصدمة الواقع تماماً، كما حدث مع حلم ديكارت الجميل بخصوص الرياضيات.  فالواقع لم يستجب كفاية لكلا التطلعين: فهو لم يكن بناءً منطقياً متسقاً، كما أنه فشل في أن يجسد الطموح الوضعي المشرب بالمادية الميكانيكية.

تغيرت الفيزياء المعاصرة تغيراً واضحاً، واكتست من جديد حلة "ميتافيزيقية" لا يمكن إنكارها.  وقد شرعت في الحديث عن كائنات غير قابلة للإدراك أو القياس الحسي، ثم اتضح أن هناك ظواهر جدلية تتخلل الوجود الطبيعي مثلما تتخلل الوجود العام والاجتماعي بحسب كل من هيغل وماركس، وكان لا بد من صحوة تضع الأمور في نصابها: كان لا بد من ثورة كانتية جديدة ضد الوضعية.  لكن الثورة -والحق يقال - لم تقع إلا في مستوى جزئي، فحسب، وقد بقي الحضور الوضعي طاغياً في حقول عديدة.  ومن سخرية القدر أن يتحقق ذلك في مستوى الإنسانيات المراوغة والعصية على الموضوعية بالذات.  شكل ذلك انعكاساً لا شك فيه لسيطرة الاتجاه العلموي التكميمي على المدارس الأنجلوسكسونية، وبخاصة في الولايات المتحدة.  وبسبب الهيمنة الأمريكية على العالم، وبشكل أوضح العالم الذي ننتسب إليه، فقد بدا أن الاتجاهات الوضعية في العلوم التربوية والاجتماعية "علوم" لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.  ربما أن مدارس كثيرة لم توافق على ذلك بمنتهى البساطة، واعتبرت الموضوع متفائلاً كثيراً، ولكن ذلك هو ما حصل على وجه الدقة في بلاد الأنكل سام، ووجد صدى قوياً جداً في بلادنا.

يرفض أنصار الاتجاهات الأخرى الإفراط في اعتبار الإنسانيات علوماً بالمعنى الفيزيائي (أو حتى أكثر من الفيزيائي بحسب الفهم الوضعي الذي يريد أن يكون علموياً وملتزماً بالدليل الحسي أكثر من الفيزياء ذاتها التي توقفت في القرن العشرين عن أن تكون وضعية) ويكتفي مفكر مثل سمير أمين1 بتعبير الدراسات الإنسانية ليبين الحدود التي لا مفر منها في قراءة الفروع المعرفية التي ترتبط بنشاط الإنسان حول محور ذاته.  لقد اتضح تعقد الظاهرة الإنسانية وتشابكها الذي يجعل عزلها وقسمتها بمشرط إلى فروع صغيرة تخضع للقوانين التجريبية أمراً محالاً.  وهذا يعني أن علينا التفكير في التبصر في سلوك الإنسان في كليته الوجودية، بما يشمل أبعاده الثقافية والنفسية والاجتماعية والتاريخية والاقتصادية ... الخ، وعلى سبيل المثال ربما أن أفضل طريقة لقراءة ما حدث في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين من صعود للنازية أن يستعمل فيه علم الاقتصاد والسياسة وعلم النفس و...، بغرض فهم كيف أثر تكوين هتلر السيكولوجي الفريد مضافاً إلى الأحوال الاقتصادية، وكذلك تاريخ الألمان وتكوينهم الجمعي نفسياً وثقافياً فيما حدث.  لعل كل العناصر المشار إليها داخلة في تركيبات علائقية تتفاعل جدلياً أو ربما بنيوياً لتعطي في النهاية الأثر المحصلي النهائي الذي قاد ألمانيا الثملة إلى الانتحار والسقوط الذريع.

فشلت الدراسة الوضعية التجريبية كما فشلت القراءة التجزيئية للظاهرة الإنسانية في فهم ما حصل على صعيد ألماني.  وقد أدى ذلك إلى صعود تيارات أخرى كما ألمحنا، ولعل أبرزها مدرسة فرانكفورت2 التي قدمت النظرية النقدية طريقة لقراءة الواقع في تعقيده، مستفيدة من الميراث الماركسي والهيغلي معاً، بعد أن فشل التحليل الماركسي التقليدي في التنبؤ فيما حدث ثم في تفسيره.  وفي غضون ذلك تكونت البنيوية التي حاولت أن ترى الوجود بوصفه مكوناً من مستويات تترابط بنيوياً.  وعلى الرغم من أن البنيوية منهج في الأساس، فإنها في طرحها الفلسفي لم تكن بعيدة عن الموقف العلمي حتى في دائرة العلوم الطبيعية بالذات.  فقد رأت نظرية المجال أن كل نقطة في المجال هي مشروطة أو محكومة ببقية النقاط، ولكنها في الوقت نفسه تؤثر في بقية عناصر المجال؛ هكذا يصبح من العبث تقييم حالة أو وضع أي معطى من معطيات المجال دون أن نأخذ بعين الاعتبار الكامل العناصر المكونة له كافة.  لكن على الرغم من كل ذلك، فقد حافظ الاتجاه الوضعي على نفسه إلى أن وقع زلزال الحركات الطلابية في أوروبا 19683، وهو ما فشل "العلم" الوضعي في التنبؤ به، ما حتم التفكير بجدية في دقة الأداة الوضعية4 التي تفتت الوقائع وتذررها بغرض فهمها دون تشويش عناصر من خارج الظاهرة.  وهو الزعم الذي يفنده الطرف الآخر بإيضاح أن التشويش إنما يقع عندما نقوم بتفتيت الظاهرة الواحدة إلى أقسام، لا ترينا منها إلا واجهات للمبنى تخفي البناء الحقيقي بينما تدعي كشفه.  إن تقطيع الجسد الواحد إلى أجزاء لا يفيد في رؤية الجسد الكلي في تعاضده ووحدته، وإنما قد يفيد في فهم آلية عمل ذلك الجزء مبتوراً ومنعزلاً عن الكل.  ومهما ادعينا الحاجة إلى العزل بغرض التعمق في فهم الجزء، فلا بد من أن يبقى الكل مترابطاً في نهاية التحليل إذا أريد لنا أن ننتج معرفة مقاربة للواقع في الحدود الدنيا لمفهوم الواقعية.

في الزمن الكلاسيكي كان الكل الوجودي مرتبطاً ارتباطاً علائقياً في نسيج محكم يدور حول محور نظري واحد.  كان الكل في الفلسفة كما أن الفلسفة في الكل، وقد كان أمراً معتاداً أن يكون الفيلسوف العالم معنياً بكل فروع المعرفة المعطاة في لحظته التاريخية.  غير أن ذلك لم يكن بطبيعة الحال نوعاً من مراكمة المعارف المتناقضة في أكوام لا رابط بينها.  كان الأمر -كما أسلفنا- كلاً عضوياً متصلاً.  ولذلك، لم يكن مستهجناً أن يكون العالم موسوعة تضم كل مجالات العلم الذي يحوزه البشر، لأنها بالضرورة البنيوية حلقات تقود إحداها إلى الأخرى.  ما حصل لاحقاً هو أن الفرع العلمي الواحد اتسع اتساعاً هائلاً، وتراكمت فيه النظرية والطريقة والمعلومة بدرجة قضت على إمكانية محافظة الفيلسوف –العالم على القدرة على الإحاطة بكل المعارف المتاحة.  لقد كانت أسباباً عملية في جوهرها هي التي قادت إلى اكتفاء الباحث بتخصص أو تخصصين من بين فروع المعرفة.  وبالتدريج، تعمق الانفصال وتشكل وهم مفاده أن العلم التخصصي الدقيق ليس على صلة بغيره، وأنه يعمل بطرق وأساليب، ويقوم على أسس نظرية مغايرة لغيره كل المغايرة.  إنه نوع من تقسيم العمل الذهني انتهى بطلاق النشاطات الذهنية طلاقاً لا رجعة فيه.  في ذلك الجو بالذات صعدت الوضعية إلى القمة في القرن التاسع عشر.  غير أن المسيرة العلمية سرعان ما عادت إلى رؤية الكل في وحدته واتصاله منذ النصف الثاني من القرن العشرين بسبب الصعوبات الهائلة التي واجهها الموقف الوضعي.

إذن، فقد قادت النزعة "الانفصالية" في العلوم التي حققت انتصارها في العصور الحديثة إلى نتائج فجة نسبياً عند التطبيق.  وقد سادت اتجاهات ميكانيكية ترى إلى السببية5 علاقة بسيطة تقود فيها "أ" إلى "ب" في كل الظروف.  وإذا كان الفيزيائيون المعاصرون يصرحون بدرجة كافية من الوضوح أن الواقع الفيزيائي ليس ميكانيكياً بالدرجة التي افترضها نيوتن أو جاليليو، فإن الإنسانيات شكلت الحيز الذي ستفشل فيه الميكانيكية بامتياز.  وحتى مفكر معادٍ للميكانيكية وعلى رؤوس الأشهاد مثل كارل ماركس، فإن قصور تحليله للواقع -ربما بسبب اتصافه ببعض التبسيط- يكشف أن الحياة الإنسانية تستعصي حتى على "علم" جدلي مفارق تماماً للمادية الفجة على حد تعبير ماركس بالذات.  لقد وقع ماركس فريسة الثقة العلموية في ربط الظواهر بعلاقات سببية.  وعلى الرغم من كل المحاولات الطيبة التي قام بها الماركسيون لبحث الوجود الاجتماعي جدلياً بدلاً من الطرق الوضعية، فإن سببيتهم المتحفظة اقترفت مع ذلك خطيئة التصريح بأن قوانين حتمية يمكن قياسها بدرجة معينة من الدقة تحكم الواقع الإنساني كما الطبيعي.  يمكن رد هذا الاتجاه إلى فكرة إنجلز عن جدل الطبيعة، وبالتالي تبسيط الظواهر كلها وردها إلى نوع واحد، وهو أمر يختلف بالطبع عن رؤية التشابه والارتباطات في الوجود مع الاحتفاظ لهوية أرسطو بوجودها المستقل.  ولكن قمة هذا التوجه تصل غايتها مع التوسير، الذي زعم بأنه يبني علماً ماركسيا يشبه في دقته الفيزياء، مذكراً بالموقف الوضعي من حيث إصراره على نموذج علمي يستنسخ العلوم الطبيعية.  لقد ابتلع ماركس وبعض أتباعه جزءاً من المنجل الوضعي، وسقطوا في فخ الوهم بأن من الممكن بدرجة ما تكميم الواقع وقياسه.  ولذلك، جاءت إحدى مقولاتهم الرئيسة مفرطة في السذاجة نظرياً ومفرطة في التفاؤل سياسياً، تلك المقولة التي تنص على أن تصادم علاقات الإنتاج مع قوى الإنتاج سيقود لا محالة إلى التغيير.  كان الأساس المادي كلمة السر في توجيه الأشياء، وتراجعت قيمة الوعي والحرية الإنسانية، وأثر المعرفة في التأثير في الواقع.  وعلى الرغم من العمل الدؤوب الذي استمر طوال القرن العشرين لحل تلك المشاكل، فإن الماركسية التقليدية لم تخرج من أزمتها النظرية أبداً، كما أنها في المستوى السياسي تلقت صفعة الانهيار الكبير العام   .1990

لعل من المؤسف بالفعل أن نزعة ماركس "العملانية" قد قادته إلى مواقف "فلسفية" من الفلسفة تتفق في جوهرها مع الوضعية؛ فإذا كان الوضعيون قد اعتبروا الفلسفة خطوة أخرى على طريق العلم بعد الأسطورة، فإن ماركس نعى على الفلسفة أنها شغلت بتفسير العالم (كأن تفسير العالم فائض عن الحاجة) ، بينما الواجب هو تغييره.  من جانبنا، نميل إلى القول إن التغيير الذي يقترحه ماركس للعالم يشترط منطقياً الفهم أولاً.  ولكن الفهم العميق للظاهرة الإنسانية لا يمكن أن يتأتى عبر تقنيات الاقتصاد السياسي على أهميتها البالغة.  من هنا يبدو لنا أن "العلم" الماركسي قد وقع فريسة تبسيط الظاهرة وفصلها عن أدوات الذات العارفة المتعددة، مكتفياً بطريق واحد لا يرى إلا جانباً من أبعاد الواقعة الاجتماعية، وذلك باختزالها فعلياً -على الرغم من أن الخطاب الماركسي الأرثوذكسي ينكر ذلك- إلى جوهر اقتصادي.  كان لا بد من رؤية الكل الاجتماعي في كليته وغناه وتعقيده، وكان لا بد من إفساح المجال أمام فلسفة العلوم لتقول كلمتها.  غير أن ذلك على وجه الدقة ما لم يكن مرغوباً فيه.

في فرنسا المعاصرة وفي ألمانيا ودول أخرى، نشهد العديد من المحاولات النظرية للتغلب على صعوبات العلوم مجزوءة ومنفصلة، وقصورها بالتالي عن مقاربة الواقع، ولذلك فقد بدأت المؤسسة الأكاديمية الرسمية (الجامعة) في رد الاعتبار لموقف يريد أن يقرأ الكل بأدوات تعمل على رؤية التفاصيل في البناء الكلي.  ولعل ذلك ما يؤشر عليه الإصرار على تدريس الإيبستمولوجيا لجميع طلبة المرحلة الجامعية الأولى.  ربما أن ذلك يشكل خطوة على طريق التغلب على محدودية وميكانيكية العقل التخصصي الدقيق الذي هو عقل أداتي ووظيفي أساساً.  ولأنه كذلك فهو عقل مغترب بمعنى ما عن روح العلم لأنه لا يدرك من اللعبة العلمية إلا جزءاً معزولاً يذكر بدور العامل الصناعي (البروليتاري) في تثبيت جزء صغير في جسم السلعة المنتجة دون أن يعي كيفية إنتاجها بشكل مكتمل ونهائي.  إن القطع الصغير من دائرة عظيمة كالكرة الأرضية أو الشمس يبدو للعين المجردة مستقيماً، وذلك هو الحال عند إدراك كسرة أو نتفة صغيرة في انفصال عن مشروع المعرفة الكلي.

نحن نتوهم أن التكامل المعرفي إنما ينبع من طبيعة الواقع ذاته الذي هو واقع متصل في أبعاده ومناحيه كافة.  فمثلاً، عند معاينة مشكل التعليم، فإننا نرى إليه جزءاً من كل اجتماعي ينتجه ويتأثر به ويؤثر فيه.  بهذا المعنى، فإننا نلح على أن الحاضنة الاجتماعية-الاقتصادية تؤدي دوراً حاسماً في التعليم، كما أن التعليم-العلم يؤدي دوراً قد يكون مركزياً في النهوض بالواقع الاجتماعي-الاقتصادي.  إن اقتصاداً لا يحتاج ثورة علمية بسبب تخلفه أو خدميته أو كونه اقتصاداً ريعياً أو اقتصاد صدقات ومساعدات –والحالة الأخيرة تنطبق على فلسطين بوضوح- مثل هذا الاقتصاد لن يحفز نهوضاً تعليمياً أو علمياً أبداً، بل إنه على العكس قد يعمل على كبح جماح العناصر الأكثر ديناميكية في الواقع، لأن نمو العلم قد يضر بمصالح طبقية معينة.

كذلك، وفي الإطار نفسه، نرغب في الإشارة إلى أهمية التعليم من أجل رفد حركة الإنتاج والمجتمع ككل، بمواطن يتمتع بالخصائص الضرورية لكي يكون لبنة ملائمة لتغيير الأوضاع السائدة.  ولكن تعليماً تكاملياً فقط هو القادر على إنتاج إنسان سوي ومواطن كامل المواطنة.  ذلك أن العكس؛ أي عزل الظواهر عن بعضها وتقديمها في حزم معلوماتية منبتة الصلة، يشل قدرة الربط والاستنتاج والاستبصار والتصور الشمولي للواقع، ما يجعل المرء كائناً ميكانيكياً غير قادر على التفكير العلائقي الضروري للإحاطة بالظواهر في تشابكها وغناها وتعدد جوانبها.  ومن هنا، فإننا نرى أهمية لا لبس فيها لاتصال المعرفة وشمولها كافة الجوانب والأبعاد المرتبطة بطاقات الذات الإنسانية العارفة والحاسة والأخلاقية والاجتماعية.  ولذلك، فلا مناص من شمول المعارف واتصالها.  كيف يمكن للطالب أن يقرأ محمود درويش:

لم نولد لنسأل كيف تم الانتقال الفذ مما ليس عضوياً إلى العضوي

قد ولدنا هكذا مثلما اتفق

كيف يقرأ ذلك بمعزل عن علم الطبيعة والتاريخ الكوسمولوجي للأرض والكيمياء.  لا بد أن معلم لغة عربية بلا ثقافة متعددة الأبعاد سيقف عاجزاً أمام النص.  الإنسان كائن يحمل أدواراً أسرية واجتماعية واقتصادية وسياسية ومهنية عامة ومحددة، وما لم يدرب شمولياً فالناتج شبح إنسان ضائع ذي كفاءة محدودة للغاية.

بعض الأفكار العملية

إذا كان الاختلاف قائماً بالفعل بخصوص ماهية الواقع في ذاته من ناحية، وطبيعة المنهج-المناهج الأكثر ملاءمة لمقاربته من ناحية أخرى، فإن المحك النهائي لحسم الخلاف لا بد أن يكون في ممارسة إنتاج المعرفة بالذات.  وهنا، فإن حقلين على وجه التحديد يتصدران المشهد: أولاً حقل العلم النظري والتطبيقي على السواء.  ثانياً حقل المعرفة غير الرسمية بما تتضمنه من ثقافة شعبية، وإعلام جمعي ... الخ.  في هذا السياق، سوف نركز جل اهتمامنا على إمكانيات ربط التصور النظري لتكامل المعرفة وتواصلها في شموليتها بالتعليم الرسمي الذي يحتل أهمية خاصة في سيرورة إنتاج المعرفة واستهلاكها.

واقع التعليم المحلي:

إذا نظرنا إلى خريطة الواقع العربي المعاصر بشكل مبتسر، فإن تراكم التجارب المتعثرة هو أهم ما يميزه في المناحي كافة.  وعند مقاربة مشكل التعليم الذي هو موضوع البحث، يتضح أنه فشل في تزويدنا بأي من النتائج المرجوة.  وفي محاولتنا تفسير أسباب تعثر التعليم في بلادنا العربية وفلسطين خصوصاً، نود أن ننوه بأننا نرى إلى المشكل في ترابطه مع الكل الاجتماعي الذي ينتجه ويتأثر به ويؤثر فيه.  ليست غرفة التدريس في عزلة عن الشارع، وليس المدرس والطالب إلا فاعلين اجتماعيين قبل الدرس وأثنائه وبعد انقضائه.  لكن الممارسة تغفل هذه البدهية إغفالاً تاماً.  ويبدو على أرض الواقع كأن لا علاقة بين العلم والحياة.  ويفترض صانع لعبة التعليم أن اللاعبين (الطلبة والمعلمين) يأتون إلى العمل صفحات بيضاء، وأنهم يتلقون ما يتلقون وينتجون ما ينتجون دونما ارتباط بحاضنة سابقة.  كذلك يفترض المعلم ذلك فيما يخص الطلبة.  أود أن أعرض الحادثة التالية مثالاً على تداخل المعرفة في سياق الفاعلية الذهنية للإنسان: "كنت نصف نائم أشاهد فيلماً سينمائياً على شاشة التلفاز بعد وجبة غداء دسمة.  ظهرت على الشاشة كلمة تعلن عن وصول سيارة إلى مدينة "سيتابول" أو شيء من ذلك القبيل.  استدعت الكلمة على الفور مدينة استانبول التركية.  ونتيجة لتشابه الكلمتين خطر ببالي أن المقطع "بول" ربما يعني مدينة.  ثم تذكرت كلمة بوليس اليونانية التي تشير إلى المدينة-الدولة أثينا أو إسبارطة.  وجال بخاطري بسرعة أنه في كل الأحوال لا يجوز أن تكون استانبول مدينة تركية وهي قلب العالم البيزنطي القديم.  وقد فكرت في أن الحياة ليست عادلة في نهاية التحليل.  وبشيء من الحزن الأنطولوجي الشفيف رددت جملة مصطفى سعيد6 "ليس في هذه الدنيا عدل ولا اعتدال".  وتذكرت على الفور تشارلز داروين وصراع الحياة الذي ينتج مفرداته عبر انتخاب طبيعي لا يرحم.  وقد تداخل ذلك مع إيقاع أغنية شعبية تستوحي نظرية التطور قائلة "ومهما نزرع ونقلع والبقاء للي أصلح" فأحسست بالانقباض لأنني تذكرت الشعوب التي انقرضت.  وعندها شعرت بالحاجة إلى تناول بعض الحلوى وقد خشيت أن يكون السكر قد هبط عندي بسبب التوتر، ولكنني فكرت في احتمال آخر هو أن تناول الطعام قد يكون شكلاً من أشكال مقاومة فكرة النهاية التي اجتاحتني فجأة".

تداعي الأفكار والمشاعر الذي يتضمنه السرد السالف يوضح كيف ينتقل الذهن البشري بشكل حر من حقل معرفي إلى آخر، من التاريخ إلى الأدب إلى الطب إلى السياسة إلى المشاعر الشخصية ... الخ، ويبدو أن عمل العقل البشري لا يعرف حدود التخصصات أبداً.  لا شيء يمنع وعي الإنسان من الانتقال من موضوع عاطفي إلى موضوع كيماوي دون استئذان.  وعلى الرغم من تاريخ طويل لمواضيع وعلوم تدرس بانفصال عن بعضها، فإن من الواضح فيما نزعم أن القاعدة في نشاط العقل هي الاتصال المعرفي، وبخاصة على صعيد الفاعلية المدركة والمنتجة للمعرفة، أياً كان محتواها.  ربما أن من الممكن بل وحتى من الضروري في مستوى معين أن نقوم بفصل مواضيع المعرفة عن بعضها، ولكن ذلك لا يجوز أن يسمح لنا بالاستنتاج أنها منفصلة بالفعل في بعدها الوجودي، أو في سيرورة إنتاجها من قبل الذات البشرية العارفة.

لا بد لهذا السياق أن يقودنا إلى أهمية تدريس نظرية المعرفة وفلسفة العلوم من أجل تأسيس الوعي بتواصلية المعرفة وإنهاء حالة الأمية الإيبستمولوجية الراهنة.  وهنا نود أن نؤكد أهمية تزويد المدرسة بالذات بمعلمين يدركون القضايا الأساس في فلسفة العلوم والإيبستمولوجيا.  ودون أن يكون المعلم واعياً بطبيعة العلم-العلوم المختلفة، يصبح من العبث توهم القدرة على إجراء ممارسة تعليمية ترتكز على رؤية العلم في وحدته وترابطه.  وفي بلادنا تبدو المشكلة شائكة بكل معاني الكلمة، وذلك بسبب الجدران العالية بين فروع المعرفة التي تحول دون الرؤية المتبادلة بين أقرب فروع العلم.  وقد وصلت الأمور لسوء الحظ إلي حد القسمة النهائية للعلوم إلى نوعين متباينين كل التباين، هما: العلمي والأدبي.  وللأسف الشديد، فإن أحداً لا يخبرنا على وجه الدقة بالدواعي المعرفية أو البيداغوجية لهذه القسمة العجيبة.  كما أننا لا نستطيع تحديد الأسباب التي تجعل العلمي علمياً، والأدبي أدبياً من النواحي النظرية المرتكزة على فلسفة العلم.  وللتدليل على الصعوبة المذكورة، نود أن نشير إلى اضطراب تصنيف تخصص الجغرافيا في العديد من الجامعات العربية والحيرة في وضعه في كلية العلوم أو الآداب ... الخ، وعند تناول الموضوع من زاوية الإنسان متعاطي المعرفة ومنتجها يتضح أن القسمة المشار إليها لا وجود لها بالفعل.  ويكفي أن نذكر أن كثيراً من الناس يعملون في حقول عدة تنتمي إلى العالمين المنفصلين في نظامنا التعليمي.  وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد رياضياً بأهمية برترند رسل يكتب في الوقت نفسه في المنطق والفلسفة والرياضيات والسياسة والتاريخ وأخيراً التربية.  وأظن من المحزن لنظامنا التعليمي أن نخبره بأن كتب رسل في التاريخ والتربية لا تقل أهمية عن أعماله في الرياضيات والمنطق.  وعلى الرغم من العلاقة الحميمة جداً التي تربط الرياضيات بالفلسفة والمنطق، فإن الفلسفة تصنف باعتبارها تخصصاً أدبياً.  ومرة أخرى علينا أن نحزن لهذه السذاجة بسبب معرفتنا الواقعية أن فيلسوف اليوم (كأن فيلسوف الأمس لم يكن كذلك وأزيد) هو عالم في المستوى النظري على الأقل.  لكن تعليم بلادنا مولع بإقامة الحدود والفواصل، ولعله ما زال يقتصر في إنجازه العلمي على مهارة التصنيف فحسب.

لسنا نشك في أن تصور الانفصال بين ما يسمى علمي وما يسمى أدبي لا مسوغ له أبداً.  وبسبب التشابك والعلاقات المتعددة الأبعاد بين جوانب المعرفة، يجدر بنا أن نقول إن الحدود المصطنعة على مستوى الوعي المدرسي يجب أن تسقط، وبخاصة، وبشكل ملح، مقولة العلمي والأدبي المغرقة في السذاجة.  ولا يسهل بالفعل تقديم تسويغات واقعية لهذه الفكرة.  فمثلاً لو انطلقنا من واقعة أن ما يجعل الأدبي كذلك هو أنه يدور حول الإنسانيات لوقعنا في مشكلة مع الجغرافيا.  وفي المقابل إذا اعتبرنا العلمي يدور حول مواضيع طبيعية نقع في مشكلة الرياضيات التي لا تمت للطبيعيات بصلة، باعتبارها إنشاء ذهنياً خالصاً على وجه التقريب، بغض النظر عن حيازتها تطبيقات عملية شتى.

إن المحاولة لتعيينا بالفعل في سعينا لتقديم تفسير معقول لفكرة قسمة المعارف السالفة الذكر إلى علمي وأدبي.  فإن التاريخ والاقتصاد علوم مهما كان شكنا في درجة تطورها.  إنها ليست "آداباً" أبداً، وفشلها في تحقيق إنجازات وفتوح بمستوى نجاح الفيزياء لا علاقة له بتصنيفها، إذ أن النجاح بطبيعة الحال ليس شرطاً من شروط التصنيف الإيبستمولوجي.  ومن المعروف أن الفيزياء كانت أقرب إلى الأسطورة، وكذلك وبدرجة أكبر، علوماً كالسيمياء المتمحورة حول فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة، وبخاصة إلى ذهب.  لقد كانت السيمياء أقرب إلى السحر والشعوذة مما هي إلى العلم بمعناه المعاصر، ومع ذلك فلم يخطر ببال أحد أن يقول إن السيمياء فرع أدبي.

في بعض الأحيان يسقط في الذهن (وبخاصة بالنسبة للطلبة) أن المواد التي تتضمن "حل مسائل" تنتمي "للعلمي"، بينما المساقات الأدبية تخلو من ذلك.  ولكن وبغض النظر عن السذاجة في هذا الرأي، فإن فحوى الفكرة هو أن "المسائل" غائبة عن العلوم الإنسانية، ولذلك فهي علوم حفظ صم، بينما الفرع العلمي ميدان التفكير والإبداع بسبب المسائل بالذات.  من نافلة القول إن الفكرة مجافية لروح العلم بعامة، وإن كل نشاط عقلي، حتى عندما يتعلق الأمر بفك أحداث مسلسل تلفزيوني أو مواجهة موقف أسري، فإنه يستدعي التفكير لإنتاج أفضل قرار يتعلق بالموضوع المعني أو لإنتاج أفضل سلوك ملائم للموقف بالمعنى الواسع لكلمتي سلوك وموقف.  لكننا نود أن نؤكد أن الممارسة تكشف زيف الادعاء باختلاف فرعي الأدبي والعلمي، بما في ذلك في مجال طريقة التعامل معهما في مدارسنا.  فالواقع أن الطالب يحفظ المواد الأدبية عن ظهر قلب، وتطبق المهارة ذاتها في العلمي الذي يرتكز أسلوب تدريسه ودراسته على حفظ الحلول المبتكرة للمسائل من قبل المعلم والطالب على السواء.  وإذا شئنا أن نتفاءل، فإن علينا أن نتحدث عن حفظ طريقة الحل.

كنت في معظم الأوقات -على الأرجح- أتمنى أن يكون المسجلون في مساق المنطق الذي أدرسه من تخصصات كالفيزياء والرياضيات ... الخ، باعتبار أنهم أنسب لاحتياجات المساق.  ولتذكيري بالواقع المر، فقد حدث في أحد الفصول أن جاءتني طالبة فيزياء لتسحب المساق متعللة بما يلي: “صحيح أنني أستمتع بالمساق، لكن بصراحة احنا في الفيزياء مش متعودين على التفكير، احنا متعودين نحفظ قوانين ونطبقها زي ما هي”، هكذا ينتقم الواقع لنفسه -على رأي ماركس -فإن الذين شطروا العلوم في بلادنا شطرين يثبتون بالممارسة أنها واحد في الطريقة على الأقل.  وبما أن طريقتنا تقوم على التلقين من جانب المعلم، والحفظ الصم من جانب الطالب، فلا بد أن يشمل ذلك الفيزياء والتاريخ على السواء.

ليس بإمكان من يفكر في قسمة العلوم على نحو صارخ إلى فروع بينها جدر عالية أن يتفهم موقف هيزنبرج الغريب الذي يزعم أن طالباً لا يلم بأرسطو لا يمكن أن يتمثل الفيزياء المعاصرة.

من أجل مقاربة أكثر التصاقاً بالواقع:

أفكار أولية حول تدريس التاريخ:

قرأت في صحيفة القدس عدد 12 آذار من العام 2006 أنهم بصدد حسم الجدل بخصوص مكان دفن كريستوفر كولومبس: هل هو في إسبانيا أم في إحدى دول أمريكا اللاتينية؟ ويتوقع التوصل إلى النتيجة النهائية قريباً عبر فحص الـ دي.أن.إي للجثة المزعومة ومقارنتها بجثث أقاربه.  هكذا يعمل علم الجينات في داخل حقل التاريخ الذي يوظف هذه التقنية الجديدة لإنتاج معارفه الخاصة.

لعل علم التاريخ بالذات الذي يواجه استهانة بالغة في بلادنا باعتباره فرعاً للأخلاق أو للوعظ والإرشاد أو للتدريب على الحفظ الصم، لعله يقدم ميداناً نموذجياً لتطبيق فكرة تكامل المعرفة واتصالها في حقل التعليم المدرسي والجامعي على السواء.

لا نظن أننا نمارس القفز السريع إلى النتائج عندما نقول إن من الواجب استبدال كتاب التاريخ المقرر والمجهز بمعلومات سريعة للحفظ يتلوها تظاهر ساذج أو مدعٍ بالتأمل والتفكير، بمنهج تكاملي يتضمن ممارسة منهج التاريخ في اتصاله مع المناهج الأخرى.  لنأخذ المثال التالي من كتاب الصف التاسع” : حرب العام 7 “1967 :

في العام 1967 قامت إسرائيل بمهاجمة الدول العربية، فاحتلت الجولان وأراضي عربية أخرى (التشديد من عندنا)، فأصدر مجلس الأمن قراراً يطالبها بالانسحاب، ولكنها رفضت.

وفي العام 1971 تولى الرئيس حافظ الأسد السلطة في سوريا، وفي العام 2000 توفي فخلفه ابنه بشار الأسد” .. انتهى.  بعد ذلك يأتي سؤال من قبيل: فكر وتأمل: متى قامت إسرائيل بضم الجولان؟

إنها لسخرية مريرة من العقل الإنساني الذي أنتج الفلسفة والفيزياء أن يصل إلى هذا الدرك من اللاتعقل.  لكننا نترك الحديث عن مناهجنا المحلية لمناسبة أخرى، ونحاول توظيف ما تبقى في معالجة أفكار أولية بخصوص تاريخ تكاملي.

نود أن نقول أولاً إن التاريخ ليس سرداً للأحداث، وليس سجلاً بسيطاً للوقائع الماضية.  ومن المهم التمييز بأن الواقعة التاريخية ليست هي هي أحداث الماضي.  فهذه الأخيرة مضت وانقضت ولا أمل في استعادتها أبداً.  والتاريخ من جانبه هو إعادة إنتاج للماضي بدرجة أو بأخرى من الدقة، أما إقامة علاقة تماهي بين الواقعة التاريخية وحدث الماضي فهو أمر محال، ما لم نكن ساذجين تماماً بخصوص طريقة عمل المؤرخ.

يفيدنا هنا أيما فائدة أن نعود بالذاكرة إلى عبد الرحمن بن خالد الشهير بابن خلدون: فالتاريخ عنده “نظر وتدقيق وعلم بأسباب الوقائع عميق” كما يخبرنا في المقدمة.  ومن أجل ذلك، فإن المنهج التاريخي لا يعتمد فكرة الرواة الشائعة في الحديث، وإنما يعرض المعلومة على “طبائع العمران”، فإذا سمحت طبائع العمران بها أخذناها، وإلا طرحناها، ولنقدم من جانبنا مثلاً لتوضيح فكرة الرجل.

إذا أخبرنا الطبري أن عدد جيش البيزنطيين في معركة مؤتة كان 200000 مقاتل، فإننا نفحص الموقف بالعودة إلى تجارب البشر ومعارفهم المتصلة بطبائع العمران.  هل يتحمل اقتصاد الدولة نشر حامية عسكرية بهذه الضخامة في صحراء شرق الأردن وحدها؟ يضطرنا السؤال إلى دراسة أوضاع الإمبراطورية الاقتصادية.  ثم سياسياً، هل كان شرق الأردن بتلك الأهمية ليحتفظ فيه بكل ذلك الجيش؟ ثم نسأل الآثار: أين هي المدينة أو المعسكر الذي أقام فيه ذلك الجيش العتيد؟ ولو افترضنا أن الجيش البيزنطي لم يكن في الأردن، وإنما جاء من العاصمة لمواجهة تحرك العرب، فأين هي وسائل الاتصالات التي سمحت بوصول المعلومات بسرعة البرق إلى القسطنطينية، أي قبل خروج العرب من يثرب.  وذلك سيدفعنا إلى دراسة حالة الاتصالات في تلك اللحظة من الزمن.  ثم أليس من المفترض أن نسأل: حتى لو تم التوصل إلى المعلومة عبر الكهانة أو بحلم عرافة أو نبي – كما كان يقال في ذلك الوقت- فأين هي المواصلات التي ستسمح بانتقال الجيش بالسرعة الكافية؟ ذلك بالطبع يقودنا إلى قراءة وضع الطرق وسبل المواصلات وأنواع الحيوانات المستخدمة وخصائصها الفيزيائية والبيولوجية لنعرف مدى ملاءمتها للرحلة ... الخ.

يمكن أيضا اللجوء إلى علم السكان لفحص عدد سكان الإمبراطورية، والتحقق من وجود ما يسمح بتجنيد كل ذلك العدد من الجند.  ونعود إلى السياسة لنسأل هل تستطيع الإمبراطورية ترك حدودها الشرقية مع فارس دون حماية ... الخ.  إذاً اتضح بعد ذلك كله أن طبائع العمران المشار إليها ترفض معلومة الطبري، فلا بد من طرحها جانباً وإن شهد معها كل سكان الأرض.  هذا هو باختصار أسلوب ابن خلدون، وهو فيما نزعم يؤسس لرؤية قريبة من العلم ومن الفهم الشمولي التكاملي للتاريخ.

وإذا كنا لا نزعم لأنفسنا الخبرة الواسعة في الموضوع الذي كان ابن خلدون فيه رائداً بارعاً، فإننا نؤكد بحذر شديد أن ما يرد هنا هو مجرد مقاربة أولية لما يمكن أن نفعل على صعيد هذا الموضع الشائك.  نقدم في هذا السياق مثلاً مبسطا لكيف يمكن أن ُيقدم محتوى التاريخ مرتبطاً مع غيره دون أن نخوض الآن بأي شكل في طرق عمل التاريخ ولا أساليب تفكيره.

لنأخذ مثالاً من تاريخ الدولة العباسية، ولنقل إنها زمن الخليفة المأمون، يمكن قسمة الطلبة إلى مجموعات تدرس في الوقت نفسه مختلف جوانب الحياة في ذلك العصر:

الجوانب العلمية، الرياضيات، والطبيعة، والكيمياء، والسيمياء، والبصريات، والطب، والصيدلة، والفلك.

  • مجموعة أخرى تدرس حالة العمران وأساليب البناء والمواد المستعملة فيه.
  • مجموعة تدرس العادات والتقاليد.
  • مجموعة تدرس الفن: الغناء، الرسم، الرقص، ... الخ.
  • مجموعة تدرس اللغة والأدب والشعر ... الخ.
  • مجموعة تدرس النظام السياسي، وعلاقات الدولة الخارجية، وأوضاعها الداخلية، وعلاقة الحاكم بالمحكوم ... الخ.
  • مجموعة تدرس الوضع الاقتصادي: الزراعة، والصناعة، والتجارة.

بعد ذلك يمكن للطلبة ومعلمهم أن يرسموا صورة كلية لواقع الحياة زمن المأمون.

هكذا يتم دمج كل فروع المعرفة بيسر وسهولة ولا يتم بتر السياسة بمعناها المبسط عن بقية عناصر الكلية الاجتماعية التي تشرط السياسة وتشترط بها.  وهكذا أيضاً يصبح من غير الممكن التفكير في التاريخ منفصلاً عن غيره من العلوم.  في مثال حرب 1967 المشار إليه فيما سبق لا علاقة للتاريخ حتى بنفسه، أما في مثالنا فالتاريخ جزء من نسيج عضوي متكامل لا يختلف في شيء عن نسيج الحياة ذاتها.

طبعاً، نحن لم نهدف إلى أكثر من إعطاء فكرة عامة، والواقع أن العديد من الأمور، وبخاصة في مستوى المنهج وطرق التفكير، قد تم إغفالها، ولكننا نشير بسرعة إلى أن التعليم التكاملي يجب أن يدرب على مهارات التفكير وطرق البحث في المعارف المختلفة، ويقارنها ليتحقق من فهمها.  وليس سراً أن السببية المنطقية مثلاً ليست هي هي السببية الواقعية، والسببية التاريخية غير السببية الفيزيائية.  ومن الممكن بالطبع أن تدور فكرة التعلم التكاملي حول مثل هذا المحور؛ أعني التدريب على فكرة السببية بين العلوم المختلفة وما إلى ذلك.  ولكن كل هذا ليس موضعه هنا، وإنما أردنا أن نقدم النموذج كيف يمكن لتدريس التاريخ أن يكون ثرياً وممتعاً ومثيراً للتفكير وقادراً على إكساب المرء مهارات التفكير العامة والخاصة بتحويله إلى لوحة من لوحات الحياة ليتوقف عن وضعية الحفظ الصم المثالية لتدمير الطالب، بوصفه عقلاً وإنساناً على السواء.  لكن، بالطبع، لا يتأتى هذا للتاريخ، إلا إذا تأتى لبقية عناصر التجربة الإنسانية في كليتها المتعددة الجوانب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1مفكر ماركسي من مصر، اشتهر بمساهماته النظرية في الفكر الاشتراكي، وبخاصة نظرية المركز والأطراف المنبثقة من تصوره للتراكم على صعيد عالمي.  من كتبه المعروفة التراكم على صعيد عالمي، والأمة العربية-البعد الثقافي، وفي مواجهةقضايا العصر، والعديد من الكتب والدراسات الأخرى.

  2مدرسة فرانكفورت: من أهم المراكز البحثية في القرن العشرين، تأسست في ألمانيا في منتصف العشرينيات، وغذت البحث الاجتماعي بالعديد من الدراسات التي أبدعت رؤية هي مزيج من الهيغلية والماركسية.  ومن أهم أعلامها ماكس هوركهيمر، وادورنو، وهربرت ماركوز، وأبرز مفكري الجيل الخير هابرماس.

  3سنة 1968 انتفض الطلبة على امتداد شهر أيار في أوروبا وخصاصة في فرنسا، وطالبوا في مظاهراتهم بتغييرات واسعة في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتعليمي، وربما أرادوا ثورة تشمل مناحي الحياة كافة.

  4فلسفة معاصرة تعود في جذورها إلى التجريبية الإنجليزية الحديثة، ومؤسسها هو الفرنسي أوغست كومت الذي أكد أن المعطيات الحسية هي أساس المعارف جميعها، وقسم تاريخ المعرفة إلى المرحلة الأسطورية، ثم الفلسفة، والميتافيزيقا، وأخيراً الوضعية التي هي مرحلة العلم الحقيقي.

  5السببية مصطلح يشير إلى ارتباط الظواهر علائقياً، بحيث أن وجود واقعة ما ولنفرض أنها “ع” يقود إلى واقعة أخرى ولنسمها “ل” في كل الأحوال.  لكن درجة حتمية الارتباط وفحوى ذلك الارتباط تختلف بشكل كبير بين ظاهرة وأخرى، وبين موضوع معرفي وآخر.

  6مصطفى سعيد هو بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال “ للكاتب السوداني الطيب صالح.  صدرت عن دار صلاح الدين، القدس،  .1976

  7صادر عن وزارة التربية والتعليم العالي، مركز المناهج، ط2 التجريبية. البيرة (فلسطين)   .2003

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/86319

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك