الدولة الدينية المسيحية في العصور الوسطى ومسألة فصل الدولة عن الكنيسة

عزالدين عناية

مثّل اهتداء الإمبراطور الروماني قسطنطين إلى المسيحية (312م)، على إثر رؤيا رآها في منامه، مستهلّ انحشار الدين في بطن الدولة في السياق الغربي، وهو ما سيشهد تطوّرات لاحقة، ستخلّف آثارا عميقة على الجانبين الروحي والزمني على حد سواء. فقد استبدّ بقسطنطين يقين أنه مختار وأنه موكل من قبل العناية الإلهية بأمر عظيم في الاقتصاد الألفي للخلاص(1). عملية تحول قسطنطين التي بشّرت بتطبيع علاقة المسيحية مع الإمبراطورية حينها، بقدر ما سرّت أتباع الدين المستضعَف، وبثّت فيهم أملا وحماسا، أوشكت أن تدفع بالبابوية إلى مستوى ثانوي وإلى دور تابع جراء نفوذ الإمبراطور القويّ. استمرت تلك الغلبة للسياسي قرونا عدة، إلى حدود مطلع القرن الثامن الميلادي، حتى لاحت بوادر تنافس بين السلطتين الدنيوية والكنسية، أفرزت جدالات وصراعات طاحنة، دخلَ الدين جراءها في أوضاع مضطربة(2).

1- منشأ السلطة الزمنية للكنيسة:
عادة ما يستهلّ المؤرخون الغربيون حديثهم عن تطور السلطة الزمنية للكنيسة الرومانية بما يعرف بـ"هبة سوتري"، البلدة الواقعة في إقليم لاتسيو في إيطاليا، التي تبرع بها اللومبارديون للكنيسة سنة 728م، وهو ما تطور لاحقا مع الفرنجة وأدى إلى تغاضيهم عن مساعي الكنيسة لتشكيل "دولة" قائمة الذات. فما كان ذلك هينا لولا حدوث تحول اجتماعي عميق في القرون الوسطى، ألمّ بالشأن الديني، حتى غدا ثروة فاعلة توظّفه أطراف اجتماعية متنافرة، ولم يبق في حدود الميراث الرمزي أو الروحي المستبطَن فحسب. فمنذ حقبة بيبان القصير ووريثه شارلمان (742-814م)، بدأ التنازل عن مساحات واسعة من الأراضي للأسقفيات، وهو ما تطوّر بشكل ملحوظ مع الإقطاعيين، بغرض إيجاد حاضنة لاحتواء الفاعلية الدينية. واللافت في تنازل الإقطاعيين أنه ما كان سخاء طوعيا بل كان مقصودا، فغالبا ما جرى تصعيد أبنائهم لتولي المهام الأسقفية ورئاسة شؤون الأديرة، وذلك بغرض متابعة تلك الأسر إمساكها بمقاليد الأراضي الممنوحة، ومن ثمة التحكم بالقوة المادية التي تستند إليها المؤسسة الدينية. الأمر الذي حوّل الكنيسة إلى مِلكِية متحوّلة قابلة للبيع والشراء، جزئيا أو كليا؛ كما أن بعض رؤساء الأديرة والأساقفة شغلوا مناصب مزدوجة في الكنيسة وفي الدولة، وهو ما جعل الدور الديني ثانويا أمام النفوذ الإقطاعي، وبما أسهم كذلك في بثّ نوع من الفوضى في الحياة الدينية. فمن ناحية كانت الحقبة الإقطاعية فرصة مناسبة للكنيسة لتكديس ثروات طائلة؛ ومن ناحية أخرى انجرّ عنها تقليص هائل لاستقلالية الكنيسة.
كانت إعادة إنتاج سلطة الدين بالغة التشابك في العصور الوسطى، عقب استحواذ أطراف عدة- أسرية وسلطوية- على كافة مقدراته المادية والمعنوية، ما جرّ المؤسسة البابوية إلى الانغماس في لعبة تقاسم النفوذ والأدوار، بات معها من الصعب الحديث عن سلطة روحية مستقلة.
ولم ينشأ الدور الديني الجديد من عدم؛ بل سبقته إرهاصات لاهوتية وفكرية مهّدت له؛ فقد وجد المسار السياسي الكنسي سندا له في أطروحات "مدينة الله" للقديس أوغسطين (354-430م)، حيث يقدّم أسقف بونة (عنّابة الجزائرية) رؤيته للتاريخ بمثابة التجلّي للمراد الإلهي، سطرت مصيره العناية الربانية منذ البدء؛ أي منذ الخلق الأول. ليفضي ذلك المسار إلى عودة المسيح وإقامة الحساب الكوني. فالنظرة خطية للزمن، وهي تقف على نقيض النظرة المستوحاة من الثقافة الإغريقية التي ترى فيه مسارا دائريا لتاريخ العالم. وضمن ذلك الإدراك التاريخي الأوغسطيني تتشكل وقائع المدينتين: الأرضية، التي تمثلها الدول والإمبراطوريات والتي مآلها الزوال وإن بدت خالدة؛ وتلك الإلهية، التي كُتِب لها الخلود وإن أتت بشكل متدرّج حتى تسود تبعا للمراد الإلهي. ويعود هذا التباين وفق القديس أوغسطين إلى اختلاف جوهري بين المدينتين، فقد شكل حب الذات- إلى حد الغفلة عن مراعاة الله- المدينة الأرضية، وشكل حب الله- مدفوعا إلى حد احتقار الذات- المدينةَ السماويةَ. وبخلاصة، تجد المدينة الأولى مجدها في ذاتها، وتجد نظيرتها مجدها في الامتثال لتعاليم الرب(3).
الموقف الأوغسطيني الذي خيم بظلاله على القرون الوسطى، وامتد إلى عصر القديس توما الأكويني، مهّد إلى الفصل البيّن بين الكنيسة والعالم؛ لكن دعوة أوغسطين، بقيت في الواقع منحازة لخضوع السلطة الروحية إلى السلطة الزمنية(4). وهو ما تجلى في موقفه المناوئ للدوناتية، التي آخذ الكاثوليكُ الرومُ أتباعَها لكونهم أفارقة أولا، ثم مسيحيين ثانيا(5)، وهي الحركة التي رفضت روْمنة المسيحية، فاعتبرتها روما من الفرق الهرطوقية الضالّة.
رغم ذلك التأصيل الديني بشأن تمايز المدينتين، والإقرار بأن المؤسسات الدينية وُجِدت لتضع حدا للفساد المستشري عقب الخطيئة الأصلية، وأنها لا تشكل جانبا من طبيعته، بقي أوغسطين وفيا لولائه السياسي لروما، الداعي إلى وحدة المذبح والعرش. وسوف يشهد ذلك الولاء تطورا منذ احتضان القصر الإمبراطوري في ميلانو أسقف بونة المستقبلي، طيلة إقامته في إيطاليا خلال الفترة الممتدة بين (384-388م). فالإنسان وفق المنظور الأوغسطيني بطبعه علوي، والشيء الأساسي للمرء هو خلاص روحه. وأما المؤسسات السياسية فهي شرّ لا مناص منه، على المسيحي الحذر منها؛ لأنها مصدر الخطيئة والفساد، وينبغي بما تيسّر توجيهها إلى قدره الأزلي. فقد تميز خطاب الكنيسة- عقب رحيل أوغسطين- بالإلحاح على القياصرة لمراعاة السلطة الروحية، وهو ما بدا جليا مع الرسائل التي أرسل بها كل من البابا لاون الأول (460م)، والبابا فيليكس الثالث (484م)، والبابا جلاسيوس الأول (496م) إلى الأباطرة الرومان، ودعوا فيها إلى مراعاة ما يشد الكنيسة إلى الناس، ودون إلحاح أو إلماح إلى الثنائية السلطوية. ولكن وبشكل ملحوظ شكلت "الأوغسطينية السياسية" دعما قويا لأطروحات الثنائية السلطوية، والإمساك بالسلطتين، التي ستشغل رجالات الكنيسة طيلة القرون اللاحقة(6).
في مقابل أوغسطين يعترف توما الأكويني للمجال الإنساني باستقلاليته وديناميكيته وقوانينه، حتى وإن كان هذا المجال مقصورا على الإعداد إلى ذلك العالم العلوي، عالم الإيمان. ولكن في جوهره يتابع الفهمُ السياسيُ الأكوينيُ المسارَ نفسه، حيث يعترف- استنادا إلى أرسطو- بالطبيعة المدنية للبشر والحاجة للتنظم سياسيا.
وذلك الولاء السياسي لروما الذي وسم الطرح الأوغسطيني لم يحد عنه توما الأكويني، وإن طوّر فهماً مغايراً ينحو نحو احتواء الكنيسة للسلطة السياسية؛ فوفق الأكويني، أفضل أشكال الحكم هي الملَكية، بصفتها أرقى ما يترجم نظام العالم، حيث الرب هو الحاكم الأوحد، وبالتالي، الملَكية هي السبيل الأجدر لضمان الوحدة والتضامن داخل الدولة. ومن ثمة ليس من واجب الدولة فحسب ضمان الحفاظ على حياة الرعية؛ بل يتوجب عليها أيضا توجيهها نحو فعل الخير، نحو الفضيلة. لكن الهدف الأسمى للإنسان يبقى في تطلعه إلى الحياة الأبدية والتأمل في ذات الله، وذلك ما تأتيه الكنيسة التي لها سطوة وهيمنة على السلطة السياسية.
وبشكل عام اتخذ التأويل السياسي لدور الكنيسة أشكالا عدة عبر القرون الوسطى، ما ترتب عنه بحث جاد لترجمته عبر نفوذ فعلي؛ من إضفاء الشرعية على الملكيات القائمة، ما قاد إلى إعلان الإمبراطوريات الرومانية المقدسة تدعيم أسس الدولة الثيوقراطية المحكومة بالنظام الهيروقراطي؛ أي الخاضعة لسلطة رجال الدين. وهو مسعى للاستقلالية الباحثة عن إرساء دعائم الدولة الثيوقراطية وحشر السيفين في غمد واحد. فقد كان كلا الطرفين- الدولة والكنيسة- في سعي دؤوب للفوز بما لدى الآخر من كاريزما وسلطة ونفوذ، وهي مرحلة تميزت بالغزل المتبادل، ثم تطورت إلى بحث عن الاحتواء، كان كل واحد فيها يتطلّع لالتهام الآخر، وهو ما يميل تارة نحو الكنيسة وأخرى نحو الدولة؛ لقد خيّم الجدل بشأن العلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية بظلاله على مجمل العصور الوسطى.
2- البابوية ومساعي حشر السيفين في غمد واحد
بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية كثيرٌ من الشبه، في سعي كل منهما للتحكم بمصائر الناس، وإن تبدلت السبل وتغايرت الوسائل؛ فالكنيسة- كهيئة دينية -يتمثل دورها في قيادة الجماعة المسيحية في مجال الإيمان، أو بالأحرى في المسائل المتعلقة بخلاص الروح، وعلاقة الإنسان بربه، وشرح الأسفار المقدسة، وإشاعة مكارم الأخلاق التي يفترض أن تقود المؤمنين. كل هذا يدخل ضمن سلطانها الروحي؛ وأما المسائل الدنيوية- من حيث الإدارة السياسية، والتسيير الترابي، والتشريع القانوني- فهي من مشمولات الدائرة الزمنية الأرضية، وتعد من المهام الرئيسة لجهاز الدولة، ضمن كافة الأشكال التي تتخذها.
لم يكن تقاسم الأدوار بيّن المعالم في القرون الوسطى؛ فقد زعمت الكنيسة تقلد مهام السلطة الثانية أيضا؛ أي السلطة الزمنية، استلهاما لما ورد في الإنجيل: "يا رب ها هنا سيفان"(لوقا22: 38). وتطلعت لتحمّل الدور المنوط بالدولة: من حق ممارسة السيادة على الإقليم وعلى الناس، إلى الذود عن الحيز الترابي، إلى إصدار القوانين المدنية.
فقد شهد التأويل السياسي للنص الديني أشكالا من التناقض والتضارب في المسيحية، تحول معها من الأطروحة إلى نقيضها. ولذلك جاء تاريخ الكنيسة متراوحا بين الهجران للفعل السياسي والسعي للاستحواذ على الفعل السياسي. فالتفاوت في العمل السياسي ما كان خيارا جوهريا في المسيحية، كما يشيع راهنا؛ بل تلوّن وفق الوقائع السياسية والتحولات الاجتماعية. ولذلك حاز الالتزام بالفعل السياسي والسعي للاستحواذ على أدواته ووسائله ما حازه نقيضه، ولم يفتقر للسند اللاهوتي أو للحماسة البابوية في ذلك. بل تطور فكر لاهوتي تشريعي ضمن مجال القانون الكنسي وفّر السندات المقدّسة للسلطة البابوية ولاشتغال هياكل الكنيسة(7). وبالتالي ليس من الصواب القول: إن المسيحية في جوهرها هي ديانة لاسياسية، والواقع أن المسيحية هي ديانة تاريخية شهدت صراع تأويلات في علاقتها بالشأن السياسي، تلوّن وفق الظرف التاريخي.
فما كان تاريخ المسيحية تاريخ هجران أو انفصال عن السياسي، كما يروج من خلال النص الشائع: "أعطوا ما للقيصر للقيصر وما لله لله" (متى 22: 21)؛ بل كانت العصور الوسطى فترة صراع على الدين، احتد فيها السعي للجمع بين ما لقيصر وما لله، وبالمثل كانت فترة تنازع بين ما لقيصر وما لله، شهد فيها الفكر اللاهوتي تحولا جذريا، وشهد فيها السلوك الكنسي انقلابا تأويليا غير معهود؛ فالبابوية القروسطية واعتمادا على أطروحات الإفريقيين- القديس أوغسطين (354-430م) في مرحلة أولى، ثم البابا جلاسيوس الأول (ت. 496م) في مرحلة ثانية- طالبت مع البابوات غريغوريوس السابع وإينوسنت الثالث وبونيفاس الثامن بحيازة السيفين، الزمني والروحي(8).
ومن الجلي أن المزج المستوحى من اللاهوت ومن "القانون الكنسي"، الذي يرتئي أن الكنيسة والمجتمع المسيحي هما وحدة منصهرة يعتليها المسيح، قد انزاح من المجال اللاهوتي إلى مجال الدولة التي يقودها الملك، بدفع من فقهاء القانون. وكشأن الكنيسة التي هي بمثابة زوج المسيح، تغدو المملكة قرينة الملك أيضا. باتت استعارة القران شائعة في القرون الوسطى، فالملك يتلقى أثناء تتويجه خاتما رمزيا تعبيرا عن هذا التلاحم(9).
يورد المؤرخ غرادو جوفاني ميرلو في تعريف هوية الدولة البابوية إبان العصور الوسطى، أنها "تنبع من الرغبة في دفع المخاطر التي تتهدّد أركان ووظائف الهياكل الكنسية والدينية، وتعتمد الدولة البابوية على مركز ثقل يتمثل في الكوريا الرومانية -الهيئة السلطوية للكرسي الرسولي- تدعمه بيروقراطية لها مكاتب وأعوان تأخذ في التوسع والتخصص، مدعومة بالقانون الكنسي: فالقانون الكنسي والكوريا الرومانية- الأول ذو طابع نظري والثانية ذات مهام عملية- هما الأداتان اللتان تُمارَس بواسطتهما الصلاحيات البابوية في التسيير والحكم"(10).
ومنذ ذلك التحول الذي دبّ في هوية الكنيسة ودورها، شهدت السلطة الدينية سلسلة من التناقضات مع الإمبراطورية البيزنطية، التي لم ترض بحياد السلطة الروحية عن نظيرتها السياسية، وعدّت بابا روما بمثابة بطريارك خاضع لسلطة الإمبراطور. ولكن البابوية- ولدعم استقلاليتها عن أباطرة الشرق، واتقاء آثار التوسع اللومباردي الساعي إلى لم شمل شمال إيطاليا وجنوبها، الحاضن لما يعرف بـ"ميراث القديس بطرس"- سعت لبناء تحالف سياسي في الغرب المسيحي مع بيبان القصير (715-768) أحد ملوك الفرنجة، وهو ما تدعم مع وريثه شارلمان، الذي تُوِّج إمبراطورا للرومانيين، أثناء عيد ميلاد السيد المسيح (800م) على يد البابا ليون الثالث، وهكذا نشأت في الغرب الإمبراطورية الرومانية المقدسة(11).
وبوجه عام غالبا ما شكّل بحث الكنيسة عن ملاذ في السلطة، وتحت السلطة، ورطةً وتفريطاً في استقلاليتها، ودفع باتجاه مغامرة دنيوية، فخلال عام 800م حين واجه البابا ليون الثالث انتفاضة شعبية أجبرته على الفرار من روما، كان الفضل لشارلمان في إعادته إلى عرشه. حينها لم يجد البابا ليون الثالث من سبيل إلى شكره سوى تتويجه إمبراطورا للرومان، أثناء مشاركته في قداس أعياد الميلاد في كاتدرائية القديس بطرس، في الخامس والعشرين من ديسمبر(12).
وبإضفاء قداسة على تتويج شارلمان، كان تداخل السياسي بالديني قد بلغ شأوا بعيدا؛ فقد أدرك حكام العصور الوسطى ما لإضفاء القداسة على السياسة من دور وأثر(13). أصبح شارلمان شريكا فاعلا في مصائر الكنيسة، وهو ما بدا جليا في إلحاحه على عقد مجمع كنسي بقصد إصلاح أنشطة الأساقفة ومراجعة مهام رجال الدين، بعدما عاين ما حل بهم من انخرام وتشرذم على حد زعمه. وهو في الحقيقة إدراك من الرجل للدور الفاعل لإصلاح النظام الكنسي، لما له من أثر حاسم في تشديد قبضته على السلطة(14). جاء الحدث تتويجا لمسار من التحولات، باتت المؤسسة الدينية فيها شريكا في السلطة وجزءا منها. مع أن هناك فرقا جوهريا بين الإمبراطورية الرومانية المقدسة لشارلمان ومثيلتها الرومانية المقدسة التابعة لأوتو الأول بساكسونيا التي أتت في مرحلة لاحقة. حيث انطلق الأول من موضع ضعف، بحثا عن إضفاء شرعية على ملكه وحكمه، ما استوجب الإذعان لشروط الكنيسة الرومانية ولضغوط مختلف الإقطاعيين الفرنسيين؛ في حين انطلق الثاني- الذي استهل حكمه مع عام 936- بقوة لا تضاهيها قوة شارلمان، عقب سلسلة من الانتصارات، وتدعم ذلك بإذعان البابا لمشيئته سنة 962م وتنصيبه على رأس "الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، ما قاده إلى إقرار مبدأ "القيصرية البابوية" -cesaropapismo-؛ الشكل السلطوي الذي يجسد علاقة الدولة بالكنيسة ويعبر عن توحد السلطتين الزمنية والروحية في شخص الملك، ما حوّل الكنيسة إلى مؤسّسة خاضعة للدولة وأداة للتعبير عن إرادتها(15). وهكذا انطلقت الإمبراطورية الرومانية الجرمانية، التي استمرت إلى حدود عام 1806.
والشيء اللافت في ذلك التتويج أنه أتى في فترة ضعف للكنيسة الرومانية، كانت أثناءه في حاجة ماسة إلى "ذراع مدنية" تخمد بواسطتها الفتن المتفجرة هنا وهناك، بعد أن باتت السلطة الزمنية هاجسها؛ حيث أذعن البابا لمطالب السلطة الزمنية، رغم أن أوتو الأول وضع شروطا مجحفة تحدُّ من استقلالية الكنيسة. لعل أخطرها شروط اختيار البابا، بعد أن بات- منذ ذلك التاريخ فصاعدا- خاضعا إلى موافقة القيصر ذاته، امتثالا لما يمليه امتياز أوتو -privilegium Othonis-: وهو نوع من "القيصرية البابوية" المشطّة، التي لم يجرؤ الفرنجة على إملائها في تاريخهم السابق.
3- الكنيسة والدولة الثيوقراطية
شهدت كنيسة روما خلال القرن العاشر حالة من الضعف والتبعية، تحولت بموجبها إلى ما يشبه الوكالة، تسير وفق ما تمليه عليها السلطات القائمة، ولم تشهد أيام الكنيسة فسادا مثلما شهدته إبان الحقبة المعروفة بـ"حقبة الفجورقراطية"، أو "حكومة الفاجرات"، حين باتت تتدخل في تعيين البابوات نساءٌ هن أسوأ في سلوكهن من الفاجرات. وقد ساد هذا التأثير المشين طيلة فترة اعتلاء اثني عشر بابا سدة البابوية، من البابا سرجيوس الثالث (904-911) إلى البابا يوحنا الثاني عشر (955-964) (16).
فقد شكّلت التحولات الاجتماعية العميقة- التي نقلت الإكليروس من حيز الكنيسة/المعبد إلى حيز الفضاء الزمني -اختبارا عسيرا، لم يتيسر التحكم أثناءه بمجريات الواقع الجديد، الذي لم تقنع فيه الكنيسة بمجالها وسلطانها وسعت إلى توظيف سلاح القداسة في عالم السياسة. غير أن تلك المجازفة بدّلت الدين غير الدين والكنيسة غير الكنيسة، وانفتحت جراءه أبواب واقع جديد لا عهد لرجل الدين به.
فما إن أطلت الألفية الثانية، وتحديدا منذ عام (1054)، حتى برزت في الغرب اللاتيني سلطتان: إحداهما موالية للبابا والأخرى مناصرة للإمبراطور، لم تتفقا لا على وظيفة الكنيسة في المجتمع، ولا على ما كان يسمى بالسيادة على العالم - dominium mundi-، وذلك على خلاف الشرق المسيحي، الذي رضي بهيمنة السلطة السياسية على الروحية. فقد أخرجت هذه المستجدات سلطان الكنيسة من حيزه الضيق ومن لاهوته التقليدي، وهو خروجٌ ما كان إراديا؛ بل فرضته أوضاعٌ اجتماعيةٌ واقتصاديةٌ مستجدةٌ، خيمت بظلالها على أوروبا طيلة الفترة الممتدة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر. وهي الفترة التي انزاح فيها مركز المسيحية، وبشكل تدريجي من الدّير إلى الكاتدرائية، ومن الكاتدرائية إلى القصر، على حدّ التوصيف النبيه لجورج دوبي(17).
وفي أجواء تفتيش الكنيسة عن سيادتها، انزلقت نحو تشييد سلطة متشددة اتخذت طابعين أحدهما روحي والآخر دنيوي. كان أبرز ممثليها ثلاثة بابوات من أكثر الوجوه الدينية ثيوقراطيةً في العصور الوسطى: البابا غريغوريوس السابع، والبابا إنوسنت الثالث، والبابا بونيفاس الثامن. حيث اعتبر البابا غريغوريوس السابع وصاية الدولة على الكنيسة مرفوضة، مقدّرا أن بلوغ الاستقلالية مرهون بخوض إصلاح جريء، سعى إليه بشكل حازم حين صاغ ما عرف بـ"الإعلان البابوي" (1075) -Dictatus papae- وما تضمنه من مبادئ تحضّ على تركيز السلطتين الدينية والسياسية في قبضة البابا، منها: أن يكون تنصيب الأساقفة وعزلهم رهن قراره، ودون رجوع في ذلك إلى عقد المجامع، وأن البابا وحده من يتوجب على الأمراء تقبيل قدميه، وأنه وحده المخوَّل له عزل الأباطرة، وأن من صلاحياته تسريح الرعية من لزوم الخضوع للأمراء. وهكذا حصل مع البابا غريغوريوس السابع- ولأول مرة- إرساء دعائم الدولة الثيوقراطية المستقبلية، التي لن تقبل بأي نوع من أنواع الإذعان للإمبراطور الجرماني (فمنذ هذه الفترة بدأ التلويح بتسليط سوط الحرمان كسلاح سياسي، بما يجرد الحاكم من ولاء رعاياه)، وبالفعل تطورت الأمور نحو إقرار اتفاقية فورمس (1122م)، التي تخلى بموجبها الإمبراطور الروماني المقدس هنري الخامس عن رموز السلطة الروحية، من خاتم ومهام تنصيب الأساقفة وعصا الراعوية(18).
ومن اللافت في الإصلاح الذي دشنه غريغوريوس السابع إقراره مبادئ داخل الكنيسة بقيت جارية إلى اليوم على غرار:
1. وجوب انتخاب البابا من قبل الكرادلة، ودون تدخل من الإمبراطور أو الأساقفة (الذين كان يتم تعيين عدد وافر منهم من قبل الأباطرة)؛ فقد كانت قرارات "مجمع الكرادلة" تُتَّخذ بين قلة من الأساقفة يحوزون ثقة البابا، وممن يتولى تعيينهم بنفسه.
2. يقع اختيار كافة عناصر الإكليروس من قبل كبار رجال الدين ودون وفاق كنسي مع اللائكيين.
3. إلزام كافة عناصر الإكليروس بالعزوبة، وفي حال موت رجل دين- من أدناهم دورا إلى أعلاهم مقاما- تحوّل ثروته إلى خزينة الكنيسة.
واصل ذلك التحصين للدولة الثيوقراطية تطوره. فقد أصرّ البابا إنوسنت الثالث (1198-1216) على استئناف البرنامج الذي دشّنه غريغوريوس السابع، على اعتبار أن السلطة السياسية للحكام الكاثوليك مستمدة من الرب ومنوطة بعهدة رجال الكنيسة؛ أي لا شرعية لأي سلطة لائكية ما لم تفز برضى المؤسسة الموكلة بأمر الله فوق الأرض؛ إذ صاغ إنوسنت الثالث في ذلك تصوّرا مفاده أن "الإمبراطورية القمر" تستمدّ نورها من "الكنيسة الشمس"، واستهل تطبيق ما ذهب إليه من روما، من أن السلطة السياسية بيد رئيس المقاطعة، ممثل الإمبراطور، والتي يكون فيها مجلس الشيوخ أداة حكم الولاية. واشترط لذلك أداء رئيس المقاطعة القسم على يديه، في حين تقبل المقاطعة بدستور يمنح البابا سلطة تعيين العضو في مجلس الشيوخ الذي توكل إليه مهام تصريف شؤون المدينة. ولم تقتصر تلك الوصاية على مؤسسة القرار في روما؛ بل اتسعت دائرتها لتشمل مقاطعات أخرى في أومبريا وماركي وإقليم رومانيا، وهو ما سيدعم لاحقا بناء أركان دولة الكنيسة.
لقد ظل الحكم الثيوقراطي سائدا زهاء ثلاثة قرون، وكان البابا بونيفاس الثامن (1235-1303) آخر البابوات الذين رعوا ذلك التمشي؛ حيث أصدر في الثامن عشر من نوفمبر 1302 نظرية السيفين "Unam sanctum"، التي تقتضي أن يذعن أحدهما إلى الآخر، وأن تخضع السلطة الزمنية لنظيرتها الروحية. فمن منظور بونيفاس الثامن تستدعي الكنيسة الموحَّدة أن يكون لها جسد جامع ورأس أوحد لا رأسين كالوحش الغريب. وهكذا أزمع على تحدي ملك فرنسا فيليب الرابع الملقب بالوسيم؛ لكن هذا الأخير لم يمهله طويلا وهاجم قصره في روما ومقر إقامته في بلدة أناني الواقعة في أحواز روما أيضا، وبذلك وضعَ حدا لما عرف بحقبة السلطة الثيوقراطية(19).
وفي سعي الكنيسة الحثيث لترسيخ سطوتها السياسية، كانت مدعومة بعديد من السندات اللاهوتية، أبرزها مبدأ العصمة، الذي ألهمها عدم التسامح مع أي شكل من أشكال المعارضة، وسوط الحرمان المسلط على كل من تحدثه نفسه بشقّ عصا الطاعة، فضلا عن مساع جادة للإمساك بأسباب القوة المادية لتأديب العصاة وتوسيع رقعة النفوذ. هذا الفوران المستجد الذي استبد بورثة عرش بطرس، وهذا التطلع للإمساك بالسيفين أدخلا الكنيسة في طور جديد وتجربة عسيرة، تحول معها دين المسيحية إلى دين الكاتدرائية، المتحالفة مع القصور طورا والمناطحة لها أخرى. ولم تتوقف تجربة التعطش للهيمنة حتى جنت على صنّاعها وقادت الكنيسة نحو الانعزال والانحصار.
الكنيسة تسير نحو طور جديد
قبل أن تقود تجربة العصر الوسيط رجل الدين نحو عزلته، مثّل حدث الانشقاق العظيم (1378-1417) مستهل منعطف فاصل في تاريخ الكنيسة، ستتعمق ضراوته مع حركة المحتجين -البروتستانت- التي ستفرز ما سيعرف في التاريخ الديني الغربي بـ"حركة الإصلاح" و"الإصلاح المضاد"، وهو ما سيدشن طورا جديدا سيعيد تشكيل دور الكنيسة وحجمها في المجتمع. يستدعي بحثنا المتتبع لحضور مؤسسة الكنيسة في العصور الوسطى إيلاء حدث "الانشقاق العظيم" شيئا من الاهتمام. فمع اختيار البابا أوربانوس السادس المدعوم من قبل فرنسا (سنة 1378)، اعترض مجمع الكرادلة، الذي يتشكّل معظم أعضائه من رجال دين فرنسيين، واعتبر عملية الانتخاب زائفة جراء وقوعها في أجواء من التهديد، بعد إصرار حشود واسعة أن يكون البابا من روما أو على الأقل من إيطاليا. وهو ما دفع بالكرادلة المعارضين لاختيار البابا كليمنص السابع، المدعوم من قبل إنجلترا ومجمل أمراء ألمانيا، وهكذا انقسمت الكاثوليكية إلى معسكرين، كانت منطلق الأزمة التي عرفت بالانشقاق العظيم(20). وفي مسعى لتطويق تلك الأوضاع، اتفق جمع من الكرادلة من كلا الجانبين في مجمع بيزا سنة 1409، على عزل البابوين واختيار ثالث، اتخذ من مدينة بولونيا الإيطالية مقرا له، وهو البابا إسكندر الخامس. لكن البابوين الآخرين رفضا الاعتراف بشرعية المجمع، الذي يُفترَض أن يدعو له حبر الكنسية الأعظم، تبعا للقوانين المعمول بها ويتولى رئاسته. لم يتيسر إخماد الفتنة سوى بانعقاد مجمع كونستانس (1414-1418)، الذي دعا إليه الإمبراطور سيجيسموند وبموافقة البابوات الثلاثة، حينها تقرّر عزل الجميع وانتخاب مارتن الخامس على رأس الكنسية.
4- "الإصلاح" و"الإصلاح المضاد": خلاف في الدين وصراع على المجتمع

بين 1517م -مستهلّ حقبة الإصلاح البروتستانتي- و1555 -تاريخ عقد صلح أوغسبورغ بين الدول المتنازعة، الذي تمخض عن قاعدة (cuius regio eius religio)؛ أي أن كل حاكم يقرّ دين رعاياه بمعزل عما تمليه عليه كنيسة روما- شهدت المسيحية الغربية تحولات جذرية سوف تغير المشهد الديني التقليدي الذي دام قرونا(21)؛ فقبل ذلك التاريخ كانت المسيحية في الغرب شبه موحَّدة على المستويين اللاهوتي والعقدي، ولم تشكّل مظاهر الفتن والهرطقة والانقسامات مسّا من الوحدة الدينية السائدة؛ فقد كان بوسع روما استيعاب التطورات الحادثة وهضمها أو إخمادها، كما كان بمقدورها الإمساك بالتحولات الدينية وتوجيهها وفق مشيئتها.

لكن مع هذا التفجر الاحتجاجي الفارق طُرح سؤال محوري في الوعي الديني الفردي والجمعي: "كيف السبيل للوقوف أمام يدي الله يوم الحساب، إن كانت مقاضاة المرء تجري تبعا لأفعاله؟". كان وقْع السؤال كبيرا، على الجانبين الاجتماعي والسياسي، تسرّب بموجبه تشكك وانتقاد للجهاز الكنسي الموكل بشأن الخلاص. وقد جاءت الإجابةُ خلاصةَ تأمل صاغها القسّ مارتن لوثر؛ أنه يكفي بالكتاب المقدس وحده هاديا ودليلا، وأن بالإيمان لا غير يحصل الخلاص (Sola fides)، وبالتالي تغدو صكوك الغفران الرائجة في اقتصاد الغفران حينئذ وسيلة باطلة وغير مجدية. كانت رسائل لوثر الثلاث: "الأمة الألمانية وسمو الرسالة المسيحية بقصد الرقي بأوضاع المسيحية"، و"شرور الكنيسة البابلية"، و"حول حرية المسيحي" (1520-1521م) طرحا مستجدا في تناول أسرار الكنيسة.
حيث مثّلت حركة الإصلاح البروتستانتي دفعة قوية باتجاه فصل الدين عن الدولة. فلا ريب أن تيار المحتجين حينها كان متعدد الأبعاد والأهداف والمواقع، ما جعل أثره قويا وصداه مدوّيا. لكن في خضم هذا المستجد الرؤيوي والديني حضر المعطى السياسي بمعناه الدلالي بشكل فاعل ومؤثر؛ إذ مست الرؤى الإصلاحية شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية، ولم تبق حكرا على الجماعات الدينية؛ فقد غير الإصلاح شكل وجوهر صلة العبد ببارئه، وبالنتيجة علاقة المرء بوسطه وبالعالم. بإيجازٍ غيّر الإصلاح علاقة الإيمان بالتاريخ. وهكذا انبعثت مسيحية جديدة، وتولّد مسيحي مغاير، نجَم عنهما شكلٌ آخر في الحضور والفعل داخل الكنيسة وفي أحضان المجتمع(22).
بما يفيد أن السياقات التاريخية المستجدة التي دبت في الغرب الحديث، وما تبعها من تحولات سياسية ودينية، يتعذّر تفسيرها وفهمها دون العودة إلى حقبة الإصلاح؛ فالعلاقة بين موجة الإصلاح والحداثة هي في غاية التشابك والتداخل. والعلْمنة كظاهرة لصيقة بالمجتمعات الغربية الحديثة، لا يمكن الإحاطة بمنشئها وتطورها دون العودة إلى سياق الحدّ من سلطة الإكليروس في المسيحية الرومانية، وهو ما أراد الإصلاح إشاعته وسعى في ترسيخه. ما يبرّر الإقرار أن من عوامل نجاح العلمانية وتطورها مشاركة الحركة الإصلاحية البروتستانتية. ولمزيد من التدقيق نقول: إن مساعي الحد من سلطة الإكليروس في المسيحية -مع حركة الإصلاح- لا تضاهي ولا تستوعب حركة العلْمَنة الغربية في زخمها وشموليتها؛ لأن العلمانية المدفوعة بحركة الإصلاح، والناتجة عنها، كانت مستبطنة للإيمان ولا تضمر إلغاءه أو هجرانه، وهنا يمكن الحديث عن ضربين من العلمانية منذ بوادر ظهورها: العلمانية المؤمنة والعلمانية غير المبالية بالدين(23).
وضمن صيرورة ذلك الإصلاح تشكلت قيمٌ نموذجيةٌ لأوروبا الحديثة، على غرار مطلب فصل الكنيسة عن الدولة، والدعوة للتسامح ومراعاة التعددية الدينية، وإقرار حرية الفكر والمعتقد، واحترام حرية الضمير، وحق الاختلاف في الرأي، ومبدأ الانضمام الطوعي إلى معتقد مّا لا الانتماء إليه بالوراثة أو الإكراه. وبشكل عام بدأ تبلور الحقوق الأساسية للإنسان التي سوف تُعلَن مبادئ كونية من قبل قادة الثورة الفرنسية لاحقا.
من جانب آخر جاء انعقاد مجمع ترنت -أو كما يسمى المجمع التريندي، الذي افتتح أشغاله البابا بولس الثالث خلال عام 1545م واستمر إلى عام 1563- بمثابة المجمع المناهض لأطروحات لوثر الإصلاحية والداعم للخط التقليدي دون أدنى تحفّظ؛ إذ شهدت فترة المداولات المطوَّلة صعود عدة بابوات سدة البابوية، بدءا من بولس الثالث المفتتح للأشغال، إلى يوليوس الثالث (1550-1555)، إلى بولس الرابع (1555-1559)، إلى بيوس الرابع (1559-1565). لكن الملاحظ في سياسة بولس الرابع الصارمة -ضمن تلك الكوكبة من البابوات-، أنها فاقمت من حدة النفور من الكنيسة داخلا وخارجا. فقد تمخض هذا المجمع عما عرف بـ"الإصلاح المضاد" أو الإصلاح الكاثوليكي، تمييزا له عن الإصلاح البروتستانتي. لكن الجلي أن قراراته قد لفّها تأثر بارز بمواقف سفراء الأمراء الكاثوليك الذين تدخلوا في العديد من المناسبات لتوجيه مداولات المجمع، بحسب ما تمليه مصالح سادتهم الذين يمثلون العنصر اللائكي المشارك.
ومجمع ترنت المذكور والذي شاءت الكنيسة الكاثوليكية أن يكون فرصة لاستيعاب "الهرطقة البروتستانتية" لم ينته إلى ما أريد له، وإن كان محطة للكنيسة الكاثوليكية لصياغة إستراتيجية رد لاهوتي على الإصلاح بترتيب الإصلاح المضاد. مع ذلك لم يثن المجمع المحتجين عن حماستهم، بما لاقوه من احتضان لدى أوساط سياسية واجتماعية. ما أجج الانقسام السياسي في أوروبا بين الإصلاحيين وأنصار كنيسة روما التقليدية، وليبلغ التوتر حدته في حرب الثلاثين سنة. ولم تستتب الأوضاع سوى بعقد صلح ويستفاليا (1648) بعد أن بات الانقسام الديني أمرا واقعا، فتمّ الاعتراف بالمناخ الجديد بناء على اتفاق دولي راعى مبدأ السيادة، التزمت به كافة القوى المشاركة: فرنسا وهولاندا وإسبانيا والسويد والإمارات البروتستانتية الواقعة تحت الإمبراطورية الرومانية المقدسة(24).
وقد تميزت الأوضاع في أوروبا -عقب قبول أنصار الإصلاح الخارطة الأوروبية بعد فترة طويلة من القلاقل والحروب- بعدة ميزات: في المجال التشريعي، تولد مفهوم سيادة الدول، أو بشكل أدق سيادة الملوك على ممالكهم، وعلى المستوى الفعلي لممارسة السلطة: دعْم الملكيات المطلقة، التي تحولت إلى ملكيات متنوّرة، وبالنهاية في المجال الديني، خولت الأوضاع للملوك إمكانية تحديد دين رعاياهم، مع ضمان التسامح لمن يدينون بأديان أخرى(25).
5- الدولة والكنيسة: جدل الاتصال والانفصال
منذ القرن السادس عشر اتهم الجدل الكاثوليكي القراءة الذاتية للكتاب المقدس (القراءة البروتستانتية) بتدمير أسس الولاء لكنيسة روما. والحال أن نزْع القداسة عن السلطة الدينية قد دعَمَ نزْع القداسة عن السلطة السياسية، دافعا الأمور باتجاه مزيد من الرقابة المستندة إلى الشرعية الشعبية. ومن هذا المأتى شجعت البروتستانتية العلمنةَ السياسيةَ في مساعيها لبناء فضاء مستقل.
وإن ذهب البعض إلى أن قرارات مجمع اللاتيران الأول -من الثامن عشر من مارس إلى الحادي عشر من أبريل 1123م- كانت حجر زاوية في تحرير الكنيسة من وصاية الدولة، وفي إقرار فصل الدين عن الدولة، وهو ما مثّل إيذانا مبكرا بدخول عصر جديد. ففي الواقع إن ذلك الحدث -على ما يبدو له من عظيم الأثر- قد كان وليد أوضاع تاريخية تتغاير تغايرا جذريا مع أوضاع الإصلاح البروتستانتي اللاحق. حين مثلت بدايات عملية فصل الدين عن الدولة مرحلة أولى ضمن سياق تاريخي للعلمنة، وجاءت بمثابة رد فعل على تلاحم وثيق ساد طيلة القرون الوسطى، بين العرش والمذبح (الدولة والكنيسة)؛ إذ وضع هذا السياق التاريخي "النظام التشريعي اللااعترافي" في مقابل "النظام التشريعي الاعترافي". فقد مثّل "النظام التشريعي اللااعترافي" أولى الخطوات نحو نظام ليبرالي، في حين مثل نقيضُه الشكلَ البارزَ لنظام الحكم المطلق؛ فكان التشريع المتملص من سلطة الكنيسة بادرة استقلال مؤسّسَة الدولة عن الكنيسة، وهو ما لاحت بوادره منذ القرن السابع عشر، معلنا دخول الدين والدولة في طور جديد.
لكن مسارات هذا الفصل لا يمكن الحديث فيها عن نسخة موحّدة، فقد جاء الفصل تبعا لتطورات متفاوتة شهدتها المجتمعات الغربية كلّ على حدة. ويمكن الحديث عن أشكال عدة من الفصل أهمها: الفصل الليّن؛ والفصل المختلط؛ والفصل القسري. وهو ما تجلى على التوالي في الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وفرنسا. ولكن يبقى الطابع العام والشامل في كافة هذه الأشكال وهو حصول انهيار في مفهوم العصمة الكنسية، وبروز تشريعات مدنية تنظم الشأن الخاص بدل التشريعات الدينية.
لكن في ظل هذه التحولات ينبغي ألا نغفل عن إسهام المفكرين المسيحيين في تطوير مفاهيم الحداثة السياسية، حتى لا تبدو هذه التحولات جارية في معزل عن الفكر الديني، كما قد يصوَّر خطأً. حيث لم يمنع التجذر في الميراث المسيحي والانتصار إلى الروح الدينية العديد من المفكرين من دعم مبادئ الحداثة السياسية، لاسيما بالحث على الفصل بين الدين والدولة، بما شجع العلمانية السياسية ورفدها بسند قوي ومؤثر. فعلى سبيل الذكر دعا الكالفيني بيير بايل (1647-1706) إلى تسامح مدني أساسه حرية الضمير، وإلى احترام تساوي الذوات وحرية النقاش، على ما أورد ذلك في مؤلفه "حول التسامح، 1686". وبالمثل خلص الأنغليكاني جون لوك (1632-1704) في "رسالة في التسامح، 1689" إلى أن سيادة السلطة المدنية ينبغي أن تتّحد بالمآثر المدنية، ولا يمكن "بأي شكل من الأشكال أن تمتد إلى خلاص الأرواح"؛ وعلى خلاف هوبز عارض إنشاء دولة مسيحية، مؤكدا أن الدين ليس من مشمولاته، أو من مقدرته، تولي السلطة السياسية، وأن الكنيسة ينبغي ألا تهتم بالدولة وبالشؤون المدنية. موضحا أن من واجب الدولة ألا تتخذ قراراتها على أساس الاعتبارات الدينية، وأن تكون منصفة في التعامل مع القضايا الدينية، وأن الكنيسة بمثابة "المجتمع الحر والطوعي" يجمع أناسا شاءوا بمحض إرادتهم الانتماء إليها.
كما أن البابوية -في بداية الأمر- شهدت تعاملا حذرا مع التحولات الجديدة، فعلى سبيل المثال عرف النصف الثاني من القرن الثامن عشر جملة من البابوات تعاطوا بأشكال مختلفة مع المسألة الدينية السياسية؛ فالبابا بندكتوس الرابع عشر (1740-1758)-مع أنه شايع روح التجديد- لم يَحُلْ ذلك دون اتخاذه إجراءات صارمة؛ حيث أدان "روح القوانين" لمونتسكيو (1751)، ما عمّق الهوة بين الكنيسة والقوى الصاعدة في المجتمع(26). وأما البابا كليمنص الثالث عشر (1758-1769) فقد أدان بشدّة حركة التنوير -بصفة شاملة ودون فرز بين مختلف مكوناتها- باعتبارها نتاجا لفساد أخلاقي، داعيا إلى توحّد العرش والمذبح لمواجهة هذه الفتنة المستشرية داخل الكنيسة وفي الأوساط الاجتماعية. في حين اتخذ البابا اللاحق كليمنص الرابع عشر (1769-1774) موقفا مغايرا، فيه شيء من اللين والكياسة؛ لكن هذا التشدد في هرم الكنيسة تواصل لاحقا، فمع ارتقاء البابا بيوس السادس (1775-1799) سدة البابوية لاح انغلاق نحو المجتمع الحديث، معتبرا التنوير ثمرة ذات حمولة شيطانية، تهدف إلى إشاعة الإلحاد، وزعزعة أسس الحياة الجماعية. وإن كانت مضامين فلسفة التنوير على ما ذهب إليه إيمانويل كانط حينها -في رسالته "ما هو التنوير؟" (1784)- أنه "استعمال لملكة الإدراك الذاتي دون توجيه من الآخرين". ففي ظل تلك الأجواء كان البابا بيوس السادس -وبيقين لا يخامره شك- يقدّر أن السلطات السياسية المطلقة سوف تنحاز إلى صفّه.
لقد شكلت نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر فاصلا مهما في الغرب المسيحي بين ثقافتين ورؤيتين، بدا التطلع على إثر ذلك التاريخ إلى مجتمع حرّ وعادل. بدأ بمناهضة جلية للإكليروس، وانفتح على حركة نقد ومراجعة لنصّ الكتاب المقدس، تعرض رؤى مستجدة في عيش الدين وفي موالاة أهله(27). وما إن تفجرت الثورة في فرنسا حتى احتدم صراع الانفصال والاتصال بين الكنيسة والدولة، ففيما بين عام 1789 و1801 حصلت تطورات فعلية في فرنسا اختزلت قرونا من السعي نحو الفصل. وبإصدار المجلس التأسيسي الذي أفرزته الثورة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" سنة 1789 (أسرع البابا بيوس السادس إلى إدانته)، فرّطت الكنيسة فيما كانت تحوزه من حظوة على الأرض الفرنسية؛ فقد أقر الفصل العاشر من الإعلان مبدأ الحرية الدينية "أنه لا يمكن تتبّع المرء على أفكاره ومعتقداته الدينية، ما لم يمس ذلك من النظام العام". وهكذا توقفت الكاثوليكية عن احتكار الفضاء الاجتماعي بصفتها الدين الوحيد الشرعي، ولم تمض سنة حتى باشر البرلمان الفرنسي المصادقة على "الدستور المدني للإكليروس"، وهو إجراء قانوني انسحبت الدولة بمقتضاه من تمويل أي نشاط ذي طابع شعائري، كما يملي انتخاب كافة المعنيين بالشأن الكنسي من قبل المؤمنين، بما فيهم الأساقفة ورؤساء الخورنيات، فضلا عن إقرار أداء قسم الولاء للدولة، ما جعل الكنيسة تصطفّ، أو تصنَّف، ضمن القوى المضادة للثورة؛ لكن كنيسة روما لم تقبل بالواقع الجديد وانحازت علنا للقوى المناهضة للثورة.
كانت الأوضاع في أوروبا تسير نحو نموذج مجتمعي مدني مغاير، تراجعت منه وبشكل متسارع سلطة البابا. وقد برز ذلك منذ إلغاء الدولة البابوية، وإيقاف البابا بيوس السادس (1798)، الذي توفي رهن الاعتقال في السنة اللاحقة؛ لكن البابا بيوس السابع الذي خلفه أبدى ليونة، معربا عن توجهات مسيحية ديمقراطية، وقَبِل بالمصادقة على الكونكرداتو (الوفاق) سنة 1801 الذي تم توقيعه مع نابوليون؛ لكن انحياز الكنيسة إلى القوى المناهضة للحداثة زاد من عزلتها، وعمق الهوة بينها وبين التحولات الاجتماعية الجديدة؛ ففي عام 1846 أدان المرسوم البابوي "Qui Pluribus" لبيوس التاسع الليبرالية والاشتراكية والشيوعية؛ ثم تجددت تلك الإدانة مع مرسوم "Quanta Cura" -1864- الذي ضم قائمة بالآثام عرفت باسم سيلابو "Sillabo". تواصل عبرها الدفاع عن الأطروحات الكاثوليكية المتشددة المناهضة للحداثة، على اعتبار أن كافة الآثام الحديثة ناتجة عن الإصلاح البروتستانتي وعن فلسفة الأنوار وعن الثورات، ومن بين هذه الأخطاء القراءة الذاتية للكتاب المقدس، وحياد الدولة بشأن المسألة الدينية، والتأكيد على العلوم.
لقد أجج هذا الرفض الأعمى للمبادئ الحديثة موجةَ العداء للإكليروس ووضَعَ الكاثوليكية في مواجهة الليبرالية السياسية، بما صوّر المسيحية بمثابة الدين المجافي للديمقراطية؛ لكن ذلك لم يمنع عددا من المفكرين المسيحيين من الانسلاخ عن هذا الخطّ الصدامي ومؤازرة الحداثة السياسية؛ فالمفكر بنجامان كونستان (1767-1830)-المتجذر في الميراث الديني، وذو المنزع الكالفيني- ساند الحرية المطلقة للتديّن مدافعا عن الحرية الشخصية؛ كذلك اللاهوتي روبار دي لامني (1782-1854) سار في الاتجاه نفسه في صحيفته "أفينير"، معتبرا "الله حرية"، ومنتقدا السلطات الدينية والسياسية، مما كلفه إدانة من البابا غريغوريوس السادس عشر في المرسوم البابوي "Singulari Nos" (1834) الذي شمل الكاثوليكية الليبرالية أيضا، وأطروحات فصل الكنيسة عن الدولة، وحرية الضمير، وحرية الصحافة.
ولئن مثّل مرسوم "Rerum Novarum" (القضايا المستجدة)-1891- مرحلة مهمة في انفتاح الكاثوليكية على المسألة الاجتماعية؛ فإن مقترح البابا ليون الثالث عشر يبقى معبرا عن أطروحة الكاثوليكية المتشددة الرافضة للديمقراطية الليبرالية. فحين حثّ ليون الثالث عشر سنة 1892 الفرنسيين، الكاثوليك على التصالح مع الجمهورية، كان الأمر يتعلق باغتنام فرصة سياسية، ولم يعبر عن تحول مبدئي. لكن هذه المواقف الدغمائية في هرم الكنيسة لم تمنع عموم الكاثوليك من الانخراط بكثافة في النظام الديمقراطي الليبرالي، بتشكيل تنظيمات سياسية -ليس غرضها فقط الدفاع عن مصالحهم؛ بل بقصد خوض غمار تجارب اجتماعية باتت الأكثر واقعية: في بلجيكا وألمانيا وفرنسا ولاسيما في إيطاليا، التي شهدت عقب التوحيد نوعا من التحرر من البراديغم السياسي الديني العتيق، ليشهد المجتمع -وعلى غرار غيره من المجتمعات الأوروبية- تحولا نحو نموذج "الديمقراطية المسيحية" باعتباره السبيل الأسلم للفعل السياسي الصائب والواقعي(28).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) راجع مؤلف "حين غدت أوروبا مسيحية 312-394م" للمؤرخ بول فاين.
Paul Veyne, Quando l'Europa è diventata cristiana (312-394), Garzanti, Italia 2008.
2) Beau De Loménie, La chiesa e lo stato, Edizioni Paoline, Catania 1959, pp. 26-27.
3) Sant’Agostino, La città di Dio, Rusconi, Milano 1984, pp. 691-92.
4) Giuseppe Leziroli, Lineamenti di storia dei sistemi di relazione fra stato e chiesa, Editrice Universitaria, Ferrara 1976, p. 23.
5) جون كيفين كويل، مفهوم الهوية الشخصية لإفريقيا الشمالية في عهد أوغسطين، ضمن أعمال الملتقى الدولي الأول: الفيلسوف الجزائري القديس أوغسطين إفريقيته وعالميته، الجزائر - عنابة من 1 إلى 7 إبريل 2001، الجزء الأول، ص: 84.
6) Guy Bedoulle, “Il Medioevo dal 1054 alla riforma”, in La religione, La storia Cristianesimo e Islam, V. II. UTET, Torino 2001, p. 269.
7) Grado giovanni Merlo, “Il cristianesimo medievale in occidente”, in Storia delle religioni, 2. Ebraismo e Cristianesimo, Editori Laterza, Roma-Bari 1995, p. 272.
8) Guy Bedoulle, “Il Medioevo dal 1054 alla riforma”, in La religione, La storia Cristianesimo e Islam, V. II, p. 266.
9) Ernst Cantorowicz, “The King's Two Bodies, a Study”, in Mediaeval Political Theology, Princeton, NJ; Princeton University Press 1957, p. 212.
10) Grado giovanni Merlo, “Il cristianesimo medievale in occidente”, in Storia delle religioni, 2. Ebraismo e Cristianesimo, p. 319-320.
11) Ivana Vecchio Cairone, Introduzione alla storia e sistemi dei rapporti tra stato e chiesa, Aracne editrice, Roma 2009, p. 62. 
12) Beau De Lemoine, La chiesa e lo stato, p. 67.
13) Ivana Vecchio Cairone, Introduzione alla storia e sistemi dei rapporti tra stato e chiesa, p. 61. 
14) Grado giovanni Merlo, “Il cristianesimo medievale in occidente”, in Storia delle religioni, 2. Ebraismo e Cristianesimo, p. 275-276.
15) Giuseppe Leziroli, Lineamenti di storia dei sistemi di relazione fra stato e chiesa, p. 34-35.
16) Francesco Gligora-Biagia Catanzaro-Edmondo Coccia, I papi della chiesa. Da San Pietro a Francesco, Armando Editore, Roma 2013, pp. 96-104.
17) G. Duby, Le temps des Cathédrales: l’art et la société, 980-1420, Gallimard, Paris 1976. 
18) Giuseppe Leziroli, Relazioni fra Chiesa cattolica e potere politico, G. Giappichelli Editore, Torino 1992, p. 45 e s.
19) Beau De Lemoine, La chiesa e lo stato, p. 109.
20) Ibidem, p. 112.
21) Luise Shorn-Schütte, La riforma protestane, Il Mulino, Bologna 1998, p. 87. Heribert Smolinsky, La riforma protestante, in La religione, La storia Cristianesimo e Islam, V. II. UTET, Torino 2001, p. 289 e s.
22) Paolo Ricca, La riforma protestante (1517-1580), in Storia delle religioni, 2. Ebraismo e Cristianesimo, Editori Laterza, Roma-Bari 1995, p. 370.
23) Ibidem, p. 371.
24) Sidney Z. Ehler, Breve storia dei rapporti tra chiesa e stato, Società editrice vita e pensiero, Milano 1961, p. 77.
25) Ibidem, p. 79-80.
26) Daniele Menozzi, Il Cattolicesimo dal concilio di Trento al Vaticano II, in Storia delle religioni, 2. Ebraismo e Cristianesimo, Editori Laterza, Roma-Bari 1995, p. 451.
27) William G. Naphy, La rivoluzione protestante, Rafaello Cortina Editore, Milano 2010, p. 189 e s.
28) Jean-Paul Willaime, Il Contributo del cristianesimo alla modernità politica, in La religione, V, UTET, Torino 2001, pp. 560-562.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/217

الأكثر مشاركة في الفيس بوك