الدين والمجتمع في الزمن التاريخي

عبد الرحمن السالمي

عندما يتحدث علماء الدين والاجتماع عن الدين بالمعنى الاصطلاحي فهم يقصدون به ثلاثة أمورٍ رئيسة:



- الاعتقاد أو الإيمان بالإله الواحد الأحد. وهو عزّ وجلّ ذاتٌ متفردةٌ، وليس حصيلة جمع عدة أربابٍ، ولا رمزاً لكلٍّ جامع؛ فهو الخالق المبدعُ القادر، صانعُ السُنَن الطبيعية والإنسانية، والتي يدينُ له بها كلّ ما عداه إيماناً وخضوعا واستسلاما.



- السوادُ في الاجتماع الإنساني في القيم والعادات والأخلاق وأعرافُ التعامُل بين الناس. وبهذا المعنى فهو سُلطةٌ سائدةٌ؛ إنما الفريق بين هذه السلطة والسلطات الأُخرى أنّ أساسَها الإيمان الفردي. وبذلك فإنها سلطةٌ داخليةٌ تَهَبُ ذاك السوادَ طابَعَهُ الطَّوعي والعامّ من دون إرغامٍ في المبدأ.



- الحركيةُ التواصُلية التي تتوقُ إلى المُشاركة داخل الجماعة، ومع الجماعات الأُخرى. والتشارُكُ هذا هو دعوةٌ مفتوحةٌ بشتّى الاتجاهات. وأساسُها التواصُلي والمنفتح الاشتراك في القيم الإنسانية الأساسية، وإمكان التلاقي والتوافُق في المصالح الأساسية أيضاً. وهذا التشارُكُ هو الذي سمّاه الفقهاء: الضرورات الخمس، وهي حفظ النفس، والعقل، والدين، والعِرض أو الكرامة، والمِلْك. وبذلك يكون الدينُ في بُعده التواصلي دعوةً للصَون الجامع والمشترك لهذه المصالح الخمس الكبرى، ومنْع تجاوُزها أو الاعتداء عليها.



إنّ الواضح من آية "اشتراع الدين" -والتي تتكرر عشرات المرات بصيغٍ مختلفةٍ ومتقاربةٍ في القرآن الكريم والسنة النبوية- أنّ مسألة الدين هي أمرٌ إلهيٌّ المقصودُ به الوصول إلى نتيجتين: الرؤية الإيمانية الصحيحة إلى أصل الوجود والكَون- والنتيجة الأُخرى: ما يترتّب على ذلك من تناغُمٍ وانتظامٍ بين الفردي والجماعي أو الاجتماعي. أمّا النزعةُ التواصُليةُ والتَوق إلى المشاركة فتصبح تحصيل حاصل من اجتماع الإيمان والسواد الفردي والاجتماعي أو الجماعي. وهذه القضايا كُلُّها ظاهرةٌ في الآية: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا...﴾ الخ. فالشَرْع أو الاشتراعُ هو الأمر الإلهي بعد الإيمان بالالتزام، ثم يأتي الأمر الآخَرُ بِعَدَم التفرق: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾. والواوُ هنا ليست أداة مُغايرةٍ كالعادة؛ بل هي بمثابة إلغاء للترتُّب والترتيب أو ترتيب النتيجة على المقدمة. فإقامةُ الدين تعني المُضيّ في الإيمان ومقتضياته. والإيمانُ تصديقٌ لا يتعدد ولا يتنوع؛ وإنما الذي يتنوعُ ما هو مُترتّبٌ عليه من التزام. ولذلك تُنبِّهُ الآتيةُ إلى أنّ الالتزام ينبغي أن يُضاهي في قوته ووحدته الإيمانَ ذاتَه.



وهكذا فإنّ التفرُّقَ الأول الذي حصل في الزمن التاريخي يعودُ لعدة أسباب:



- عدم قَبول الدعوة إلى الإيمان. وفي القرآن الكريم ذكرٌ كثيرٌ للمصاعب التي واجهها الأنبياءُ من جانب بني قومهم في دعوتهم، والجهد الذي بذلوه للإقناع بأصل الفكرة والالتزامات المترتبة عليها في صَون إنسانية الإنسان ووحدة مجتمعاته. والواقع أنّ عدم قَبول دعوة الحقّ هو الذي أدّى إلى الافتراق بالداخل نتيجة الانقسام حول الدعوة.



- والثاني الاختلاف حول مقتضيات الإيمان ومقتضيات الالتزام. إذ هناك مَنْ زعم أنّ الإيمان بالله ينبغي أن يظلَّ أمراً فردياً، ولا تترتب عليه التزاماتٌ اجتماعيةٌ داخليةٌ أو عالمية. وإذا كان عدمُ قبول الدعوة اقتضى النضال الداخليّ أو الهجرة. فإنّ "الانكفاء" أو التنكُّر للمسؤوليات الاجتماعية والعامة المترتبة على دعوة الخير، كلُّ ذلك يتطلب الاستحثاث والإقناع. وقد حاول علماء الدين التفرقة بين الدعوة التي تظلُّ فرديةً، والأُخرى التي تقتضي واجباتٍ اجتماعية أخلاقية ودينية، بالتفرقة بين النبي والرسول. وأنّ النبي ملتزمٌ فردياً؛ بينما يملك الرسول واجباتٍ احتماعيةً وعامة. وهذه تفرقةٌ غير مبرَّرةٍ وتستند إلى ظواهر الآيات التي لا تذكر غير عددٍ محدودٍ من "الرسل" أو الأنبياء المُرسَلين؛ ذلك أنّ الإيمان بحدّ ذاته يحمل مسؤولياتٍ عامةً، سواء أكان المؤمن هو الداعيةُ الأول المُوحى إليه أم المؤمن الذي تلقّى الدعوة.



- والثالث الاختلاف أو الافتراقُ في الدين الناجمُ عن تعدُّد الأُمَم والشعوب؛ فبحسب القرآن إنّ الناس كانوا أمةً واحدةً فافترقوا؛ بيد أنّ الافتراق بسبب النزاعات الإثنية أو الاقتصادية، أو السياسية، لا يبرِّر الافتراق حول الدين؛ لأنّ الدعوة الدينية من نوعٍ آخر يتعلق -بعد الإيمان- بالقيم العامة والمشتركة والتي ينبغي أن يلتقي من حولها البشر لا أن يختلفوا عليها.



- والرابع هو الاختلاف الناجمُ عن أسبابٍ أعمق تتعلق بتعدد الرسل أو تعدد الدعوات. والله سبحانه يوجّه نظرنا في آية "اشتراع الدين" والآيات المشابهة إلى أنّ التعدد في الداعين لا يعني تعدداً في الدعوة؛ فالدين واحدٌ، وهذا هو الأمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه الأنبياءُ قبل غيرهم. ولذلك يقول القرآن مراراً وتكراراً: ﴿مصدِّقاً لِما بين يديه﴾؛ أي أنّ كلَّ نبيٍ يقول: إنه مُتابِعٌ لدعوة مَنْ أُرسل قبله، وإنّ سبب بعثته هو تبليغُ مَنْ لم تبلُغْهُ الدعوة، أو تصحيح ما جرى تحريفه.



وهكذا يظهر لدينا أمران: أنه رغم التأكيد الإلهي على وحدة الدين، فقد تعددت الديانات، وأنه ولكي لا يصبح الدينُ الذي تعدّد ذريعةً للافتراق والتنازُع فإنه ينبغي الانطلاقُ من مشتركات الدعوة، من الكلمة السواء، للالتقاء حول الالتزامات والآثار: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾. وهذا يعني التنافُس في المنحى الإيجابي فيحصُلُ الالتقاء ويحصُلُ التضامُن والتعاون. لكنْ ما هي أذرُعُ وملتقيات "الخيرات" التي يذكرها القرآن، مثلما يذكر المفرد الآخر: "المعروف". فهناك معروفٌ يجبُ دينياً وأخلاقياً الالتقاء حوله، وهناك خيراتٌ يكونُ علينا العمل جميعاً على تحصيلها أو إنجازها في هذا العالم. وفي كلّ دينٍ - والحقّ يقال- دعوةٌ للخير؛ لكننا نحن المسلمين مُلْزَمون بالأَوَّليّة؛ لأنّ الدعوةَ هنا قرآنية. فما المعروف؟ وما الخيرات؟ إنّ الذي يتبادر للذهن من المنطق القرآني والخطاب القرآني: الضرورات الخمس التي استقرأها الفقهاء من نصوص الوحي الإلهي، والتي تتضمن صَون النفس البشرية، وصونَ العقل التدبيري، وصَون قيم الدين الجامعة، وصَون الكرامة الإنسانية، وصَون المِلْك الذي يحصّله الأفرادُ بالوسائل المشروعة.



وإذا كانت الضرورات الخمس هي المتبادر من "الخيرات" التي يطالبنا بها القرآن؛ فإنّ المتبادرَ أيضاً أننا نحن المسلمين مقصِّرون بحسب أمر القرآن ودعوته، وبحسب التجربة التاريخية للأمة، وبحسب أو بالمقارنة مع مسيرة الأُمَم الأُخرى في العالم الحديث.



إنّ المسار المطلوب واضحٌ وإن يكن السير فيه تكتنفه صعوباتٌ جمة؛ فالضرورات التي ينبغي صَونُها، علينا أن نوجد السُبُلَ من أجل القيام على حمايتها في مجالنا الحضاري والثقافي والسياسي. وهذه هي الطريقةُ الوحيدةُ للسير بالتناظُر مع ذلك في دروب التشارُك مع العالم. فعندما تريد مشاركة أحدٍ يكون عليك أن تملك بعضَ ما تستطيع التشارُكَ فيه؛ لأنّ أحداً لا يتصدقُ على أحدٍ في المجال العالمي الذي تكتنفُهُ الصراعات والتجاذُباتُ ووجوه التنافُس المشروعة وغير المشروعة. 



قبل الشراكة إذن أو التفكير فيها ولنصبح جزءًا معتبراً في حياة العالم المُعاصر، ينبغي أن يسود لدينا المعروف، وتسود الخيرات في حياتنا مجتمعاتٍ ودولاً، وأفراداً وجماعاتٍ وعلاقات. ولدينا ميزاتٌ كبرى اليوم، ونواجه عقباتٍ وعوائق وتحديات. وتتمثل الميزات في قُرب أمتنا من القرآن وعنايتها بدينها وبالانتظام في عباداته وأخلاقه. أمّا الميزةُ الأُخرى فالذي أَنعم الله سبحانه وتعالى علينا به من ثرواتٍ يمكن بالإحسان في إدارتها وتوزيعها واستغلالها إعادة صياغة أُطروحة التقدم والعمل الصالح في شتى مجالات الحياة. أمّا العقبات والعوائق والتحديات فتظهر في الافتقار إلى الإرادة القوية والجامعة والضابطة والهادفة، وإصرار الدول والأُمم المجاورة وغير المجاورة على التدخل في شؤوننا باتجاه اصطناع التفرقة والانقسام، وإنتاج مناطق النفوذ- وأخيراً الاضطراب الحاصل والناجم عن التغوُّلات في المجال الديني، وفي المجالات الأُخرى، بحيث صار الدين، وصارت الأوضاع العربية، مشكلاتٍ عالمية. 



إنها الإرادة القوية التي تستهدي الأمر القرآني بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، وهي التي تبقى المخرج والمنقذ من حالات الاستنزاف والاختراق.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/215

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك