بناء الأخوة بين المسلمين في المدينة

محمد راتب النابلسي

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

أيها الإخوة الكرام ، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية ، ومع موضوع بدأت فيه منذ أسبوعين تقريباً ، ألا وهو الطريقة التي بنا بها النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المسلمين الأول في المدينة ، ونحن في أمسّ الحاجة إلى أن نتأسى بهذا النبي الكريم في بناء مجتمع المسلمين .

 

المؤاخاة أكبر أساس مجتمع المسلمين :

الشيء الأكبر من أسس هذا المجتمع المؤاخاة ، لأن الله عز وجل يقول :

( سورة الحجرات الآية : 10 ) .

وما لم يكن انتماءك إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً .

(( المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ )) .

[ رواه الترمذي عن أبي هريرة ]

 المسلم في أي مكان ، وفي أي زمان أخو المسلم .

والإسلام أيها الإخوة خاصة ، والدين عامة حاجة الإنسان إليه كحاجته للهواء ، والهواء لا يستطيع أحد أن يحتكره ، الماء يحتكر ، الأرض تحتكر ، المحل يحتكر ، أما الهواء فلا يحتكر ، لذلك حاجة الإنسان إلى الدين كحاجته إلى الهواء ، والهواء لا يحتكر ، لا يمكن أن يحتكره قوم ، ولا بلد ، ولا إقليم ، ولا مصر ، ولا طائفة ، ولا مذهب ، الدين كالهواء .

فلذلك كل من يتوهم أن وحده على حق ، وما سواه على باطل من دون دليل ، من استقصاء فهو واهم ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام بدأ ببناء المجتمع الإسلامي عن طريق المؤاخاة ، فما لم تشعر بأخوتك لهذا المؤمن ، وما لم تشعر أن هذا المؤمن أقرب الناس إليك ، وأحب الناس إليك ، ما لم يكن انتماءك للمؤمنين فلست كامل الإيمان .

أما حينما نرى أن المؤمنين بعضهم يتهم بعضاً ، بعضهم ينتقص من بعض  ، بعضهم يشتم بعضاً ، بعضهم يقاتل بعضاً ، هذه وصمة عار بحق المسلمين ، ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ? .

مؤاخاة النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار :

فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك ، وكانوا تسعين رجلاً ، نِصفهم من المهاجرين ، ونِصفهم الآخر من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة ، يتوارثون بعد الموت ، دون ذوي الأرحام ، إلى حين غزوة بدر ، في رمضان من السنة الثانية للهجرة ، فلما أنزل الله عز وجل قوله :( سورة الأحزاب الآية : 6 ) .

رُد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوّة ، ففي بداية الإسلام كان هناك أسر بعض الأبناء فيها مسلم ، وبعض الأبناء مشرك ، لذلك شاءت حكمة الله أن يكون التوارث بين الإخوة المؤمنين ، ولكن بعد حين : ? وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ? ، رُد التوارث إلى الرحم دون عقد الإخوة .

وكانت المؤاخاة في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة ، أي بعد الهجرة بخمسة أشهر .

 

إسقاط مبد المؤاخاة على مجتمع المسلمين اليوم :

ولكن : ألسنا نحن بحاجة إلى هذه المؤاخاة ؟ لست وحدك في الحياة ، أنت للكل ، والكل لك ، لست وحدك في الحياة ، الحياة بالأخوة الإيمانية لا تبدو قاسية ، والحياة مع الأخوة الإيمانية تبدو مسعدة ، وما من إنسان أغلى على المؤمن من أخ له في الله ، تنصحه وينصحك ، تعينه ويعينك ، تتفقده ويتفقدك ، تعاونه في معضلات حياته ويعاونك .

الصورة الأولى للمؤاخاة اليوم :

إذاً : لو أنّ كل واحد منا اتخذ أحد الإخوة أخاً له ، وصافحه ، وقال : أنا فلان ، وأنت أخي في الله ، هذا هاتفي ، وهذا عنواني ، وهنا بيتي ، وأنشدك الله إن كنت مضطراً لشيء فأنا في خدمتك ، وأعاهدك أنني إذا اضطررت إلى مساعدة سوف أطلب منك ، فهذا جيد جداً ، وإذا آخى اثنين ، أو آخى ثلاثة فهو أفضل ، وإذا آخى خمسة وتفقدهم ، ما الذي يحصل أيها الإخوة ؟

يأتي أخ إلى المسجد يُسرّ بالدرس ، تزل قدمه ، يخجل من ربه فلا يأتي ، ولا أحد يسأله : لمَ لم تأتِ ، لا أحد يتفقده ، يمضي أسبوع وأسبوع  فينقطع كلياً عن المسجد ، لو أن واحداً اتصل به ، وسأله : كيف حالك ؟ إن شاء الله المانع خير ؟ لسُرّ ، وانتعش فؤاده ، وعاد إلى المسجد .

لذلك لو أن واحد منا آخى أخاً ، وتعاهدا على أن يتناصحا ، تعاهدا على أن يتفقد كل منهما الآخر ، والأخ الثاني أفضل ، والثالث أفضل ، والرابع أفضل ، لو أنك آخيت خمسة أشخاص لكانت الحياة الجنة .

الصورة الثانية للمؤاخاة اليوم :

المشروع الثاني : ما الذي يمنع إذا كنتم خمسة في حي واحد ، أو في حرفة واحدة ، أو في قاسم مشترك واحد ، أو في قرابة واحدة ، أحياناً القرابة تجمع ، أحياناً السكن يجمع ، أحياناً الحرفة تجمع ، إما قرابة ، أو زمالة ، أو صداقة ، أو جواراً ، ما الذي يمنع أن نجلس كل أسبوعين ، أو كل أسبوع ، أو كل ثلاثة أسابيع ، أو كل أربعة أسابيع ، نجلس ساعة من الزمن  نتحاور ، نتداول ، واحد منا استقى موعظة تأثر بها ، فذكرها لإخوته ، واحد منا حضر خطبة ، تفاعل معها ، فذكر مضمونها لإخوانه ، قرأنا صفحة من كتاب الله ، تدارسنا هذا الكتاب .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :

(( لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ )) .

 [ رواه مسلم ]

(( مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعالى فِيهِ إِلاَّ قامُوا عَنْ مثْلِ جِيفَةِ حِمارٍ وكانَ لَهُمْ حَسْرَةً )) .

[ رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة ] .

الحديث في الدنيا متعب ، بينما الحديث عن الله مسعد .

لذلك أيها الإخوة ، لو أردنا أن نترجم إلى سلوك عملي أن كل واحد يؤاخي أخاً في الله ، طبعاً لا بد من تبادل العناوين  تبادل الهواتف ، تبادل فكرة سريعة عن الأخ ، ماذا يعمل ؟ ويفضل أن يكون أقرب الناس إليه سكنا ، أو إلى عملك ، أو إلى قرابتك ، هذا تنفيذ لمؤاخاة النبي عليه الصلاة والسلام ، واحفظ هذه الكلمة : الكل لواحد ، والواحد للكل ، ولست وحدك في الحياة .

(( إن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يسلمه )) .

[ رواه الترمذي عن أبي هريرة ]

 (( كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ عرْضُهُ ومَالُهُ وَدَمُهُ )) .

[ رواه الترمذي عن أبي هريرة ]

 

من أغراض المؤاخاة :

1- ذهاب وحشة الغربة :

إذاً : ورد في بعض كتب السيرة أن الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة الغربة  وصدقوا أيها الإخوة ، أننا في غربة .

(( إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَيَرْجِعُ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي )) .

[ الترمذي عن عمرو بن عوف بن زيد ]

ما لم تشعر بالغربة ففي إيمانك خلل .

(( المسلم في آخر الزمان غريب ، القابض على دينه كالقابض على الجمر أجرهم كأجر سبعين ، قالوا : منا أن منهم ؟ قالوا : بل منكم ، لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون )) .

[ ورد في الأثر ]

فما لم تشعر بالغربة ففي الإيمان خلل .

إذاً : الغرض من المؤاخاة ذاهب وحشة الغربة ، ولا سيما بعد مفارقة الأهل والعشيرة .

2 - شد أزر المؤمنين بعضهم ببعض :

ومن أغراض المؤاخاة شد أزر المؤمنين بعضهم ببعض ، فلما أعز الله الإسلام ، وجمع الشمل ، وذهبت الوحشة ، بطل التوارث ، ورجع كل إنسان إلى نسبه ولذي رحمه .

في أيام الضيق ، في أيام الشدة ، في أيام الفتن ، في أيام الطرقات مليئة بالنساء الكاسيات العاريات ، في زمن الفضائيات ، في زمن الانترنيت ، في زمن الإباحية ، ما من إنسان تألفه ، وتأنس به ، ويأنس بك ، كالأخ في الله ، لذلك ورد في بعض الآثار القدسية:

(( حقت محبتي للمتحابين فيّ ، وحقت محبتي للمتواصلين فيّ ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ ، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ ، المتحابون فيّ ، على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء )) .

[ رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت ] .

وقد علمنا عليه الصلاة والسلام أنك إذا أحببت أخاً في الله أعلمه أنك تحبه ، قل له : إني أحبك في الله ، ينبغي أن يقول لك : أحبك الله كما أحببتني ، والحب أحد أركان الحياة النفسية ، الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، فإذا أحببت أخاً في الله كان هذا الأخ لك معيناً ، ورفيقاً ، وناصحاً ، ومحباً .

3 - حاجة الأنصار إلى التفقه في الدين :

الآن للمؤاخاة أهداف أبعد ، وأشمل من مجرد التوارث للأسباب التالية : حاجة الأنصار إلى التفقه في الدين .

أحياناً أنت آخيت أخًا  حديث عهد بالمسجد ، وأنت لك في المسجد سنوات طويلة ، تلقيت علماً غزيراً ، عندك فضل علم ، فإذا آخيت إنسانا مبتدئا ، أعطيته من علمك ، تدارست معه القرآن ، تحاورت معه في الفقه ، علمته ما في بعض السيرة ، بينت له أجمل ما سمعت فه>ا من أهداف المؤاخاة .

إذاً المؤاخاة لها هدف آخر ، لذلك قال الله تعالى :

( سورة سبأ الآية : 46 ) .

إذا جلست مع أخيك فتحاور حول هذا الدين ، حول هذا النبي الكريم ، حول سنته حول عظمة الإسلام .

إذاً أحد أسباب المؤاخاة ، وهذا من بناء الرسول عليه الصلاة والسلام حاجة الأنصار إلى التفقه في الدين .

4 - القدوة الصالحة :

شيء آخر ، الدين يؤخذ بالقدوة الصالحة ، القدوة الصالحة حقيقة مع البرهان عليها ، والإسلام لا يعيش إلا بالمثل ، الإسلام لا ينمو وهو في الكتب ، ينمو بمسلم تراه عينك  ، لذلك كما أن الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي ، ونحن الآن في أمسِّ الحاجة إلى مسلم يمشي على قدمين ، ينبغي أن ترى أمانته   ، وأن ترى صدقه ، وأن ترى عفافه ، وأن ترى محبته ، وأن ترى إنصافه ، وأن ترى غناه عما سوى الله .

إذاً الحاجة إلى التفقه في الدين ، والدين يؤخذ بالقدوة الصالحة ، وقد مضى العهد المكي ، وما فيه من قرآن منزل وجهاد دعوي ، وصبر على الأذى ، وهجرة وصحبة  ، وتربية نبوية ، لا يحمله يوم الهجرة إلى هؤلاء المهاجرين إلا إخوانهم الأنصار ، وليس من الممكن أن يعاود رسول الله صلى الله عليه وسلم لينقل إليهم أفراد وجماعات تلك العلوم التي عاشوها .

مرة حضر أمام النبي عليه الصلاة والسلام رجل تكلم فألحن ؛ أخطأ ، فقال : أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل ، النبي عليه الصلاة والسلام علم أصحابه سنوات طويلة ، الآن جاء إلى المدينة والأنصار لا يعلمون شيئاً ، يحبون النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن علمهم قليل ، بهذه المؤاخاة جعل السابقين بالعلم يمنحون إخوانهم الأنصار العلم الذي تعلموه من رسول الله .

أيها الإخوة ، لكن من الضروري أن يتم توزيع المهاجرين على عشائر الأنصار يعيشون معهم حياتهم بكل تفاصيلها ، ليتمكنوا من صناعة القدوة الحسنة ، والوحدة التربوية النبوية بين الجميع ، ولا يمكن تحقيق ذلك بغير العيش المشترك الذي يتجاوز المصاعب التي تفرضها مشكلات السكن والعمل والصحبة ، فبالمؤاخاة أصبح المهاجر أخاً لا يبعده عن أخيه الأنصاري العادات والتقاليد الاجتماعية ، والدراسية وغيرها .

إذاً كما أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه المهاجرين بالأنصار أصحابه الجدد ، ينبغي أن القوي يؤاخي الضعيف ، والغني يؤاخي الفقير .

 

ملمح جديد من ملامح المؤاخاة اليوم :

الآن هناك ملمح جديد : إنسان ميسور إذا آخى طالب علم فأعانه ، اقتراح أن أصحاب الفعاليات الاقتصادية وظفوا عندهم طالب علم بنصف دوام ، وبنصف أجرة ، تحل المشكلة ، طالب العلم أحياناً يحتاج إلى دخل محدود جداً ، يقيم أوده ، فإذا تفضلت ، وعينت طالب علم عندك بنصف دوام أتيح له أن يدرس ، وبهذا الدخل القليل أتيح له أن يعيش ، فإذا كبر هذا الطالب ، وصار داعية كل عمله بصحيفة من كفله .

الآن دخلنا في موضوع جديد الغني يؤاخي الفقير ، والقوي يؤاخي الضعيف ، والذي عنده حرفة يؤاخي من لا يتقن هذه الحرفة .

والله أعرف رجلاً عنده محل حلويات ، دخل إليه إنسان من محافظة نائية في الشمال الشرقي ، وهو غير مسلم ، قال له : هل تعلمني صنع الحلويات ؟ قال له : حاضر ، أدخله إلى المعمل ، وصنع أمامه طبخة ، وكتب التفاصيل ، فلما انتهى قال : اصنع طبخة أنت أمامي ، يقسم بالله العظيم مضى على هذا العمل ثلاثون عاماً ، ما من عامل إلا ويأتيه من آخر الدنيا ومعه هدية ثمينة يقول له : لحم كتفي من خيرك .

ما الذي يمنع إن كنت صاحب حرفة أن تؤاخي إنساناً لا يتقن هذه الحرفة .

 

الغرب علّمنا الجشع والشح :

إخواننا الكرام ، الغرب علمنا الجشع ، علمنا حبس المعلومات ، علمنا أنك إذا أردت أن تفك محرك تقول للصانع : اخرج لئلا يتعلم ، لئلا ينافسك ، ما الذي يمنع هذا الصانع الذي يعمل بلا أجر من أجل أن يتعلم ، ما الذي يمنع أن تعلمه هذه الحرفة ؟ .

( سورة الحشر ) .

غير مؤمن شحيح ، يضن بمعلوماته ، إذاً المؤاخاة تأخذ بعداً شديداً ، غني وفقير قوي وضعيف ، صاحب حرفة .

إنسان من بلد بعيد يقم هنا للدراسة ، إذا آخيت أخاً مقيماً ، وأنت مغترب ، يعاونه  هو من البلد ، يعرف البئر وغطائها .

لذلك إذا كان هناك تباعد بالصفات فالأخوة أجدى .

 

لا عصبية ولا قبلية ولا طائفية في الإسلام :

لإسلام أيها الإخوة بحد ذاته لا يقوم على الأسس والقواعد العصبية ، والقبلية ، والعشائرية ، والعرقية ، اسمعوا مني هذا الكلام :

لا يضاف على كلمة مسلم ولا كلمة ، أية إضافة على كلمة مسلم هذا يتجه نحو التعصب .

(( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية )) .

[ أخرجه أبو داود عن جبير بن مطعم ] .

بعد كلمة مسلم لا يضاف ولا كلمة ، لذلك الإسلام لا يقوم على أسس عصبية   ولا قبلية ، ولا عشائرية ، ولا عرقية ، لما كنا مسلمين في شتى بقاع الأرض كنا أمة واحدة ، فلما قلنا : نحن عرب ، قال الأتراك : ونحن أتراك ، وقال الأكراد : ونحن أكراد ، نطالب حكماً خاصاً ، الإسلام أممي ، كل من آمن بما نؤمن ، وطبق ما نطبق ، هو منا ، ونحن منه  ، له ما لنا ، وعليه ما علينا .

وقد تستغربون إن ألقيت على مسامعكم أسماء علماء كبار جداً ليسوا عرباً ، الإمام البخاري ليس عربياً ، صلاح الدين الأيوبي ليس عربياً ، ألا نفتخر به ؟ الشيء الصحيح أن يكون الإسلام أممياً ، لا يمنع أن تكون أنت عربيا ، لا يمنع أنك منتسب لهذه الأمة ، لكن من دون تعصب ، من دون أن تزدري الآخرين ، أو من دون أن يزدرك أحد ، لذلك لا بد من وضع أسس المجتمع الجديد بعيداً عن المؤثرات والمورثات الجاهلية ، وليكون هذا المجتمع الجديد مثالاً صالحاً يحتذيه المسلمون على مر العصور .

صور من الأخوة الصادقة بين الصحابة :

1ـ بين بلال الحبشي وأبي بكر الصديق :

أضع بين أيديكم أمثلة يصعب تصديقها ، لكنها واقع : بلال الحبشي من الطبقة الدنيا ، في مجتمع الجاهلية ، ليس عربياً ، وليس قرشياً ، وليس من أرومة قريش ، عبد أسود مملوك ، يعذبه سيده لأنه آمن بمحمد ، يأتيه الصديق ليشتريه بالثمن الذي طلبه ، يقول سيد بلال : والله لو دفعت به درهماً لبعتكه ، يقول الصديق : والله لو طلبت مئة ألف درهم لدفعتها لك ، وأخذ بلالاً ، ووضع يده تحت إبطه إشعاراً لسيده أنه أخوه في الإسلام ، بلال إذا قدم المدينة يخرج عمر عملاق الإسلام لاستقباله ؟! هذا هو الإسلام ، الصحابة الكرام إذا ذكروا أبا بكر ، يقولون : هو سيدنا وأعتق سيدنا ، يعني بلالاً .

(( فلا فضل لعربي على أعجمي ، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى )) .

رواه الطبراني عن ابي سعيد ] .

(( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .

[ أخرجه العقيلي ، والطبراني ، عن أم أيمن ] .

 

ميزان الترجيح في الإسلام : الإيمان والعمل الصالح :

هذا المجتمع يتقدم ، الله عز وجل لم يعتمد في الترجيح بين خلقه إلا قيمتين ، قيمة العلم ، وقيمة العمل ، أما قيمة العلم :

( سورة الزمر الآية : 9 ) .

( سورة المجادلة الآية : 11 ) .

وأما قيمة العمل :

( سورة الأنعام الآية : 123 ) .

وما لم تعتمد الأمة هذين المرجحين فلن تقف على قدميها ، لذلك هناك قيمة المال  ، قيمة النسب ، قيمة الحسب ، قيمة الجمال ، قيمة الذكاء ، قيمة الأرومة ، هذه قيم لم يعتمدها الإيمان إطلاقاً ، بل اعتمد قيمة العلم ، واعتمد قيمة العمل .

5 - : تحقيق التكامل ، والتكافل ، والتعاون الاجتماعي :

الهدف الخامس من هذه المؤاخاة : تحقيق التكامل ، والتكافل ، والتعاون الاجتماعي في جميع الأحوال والمجالات ، فالفرائض الإسلامية من صلاة ، وزكاة ، وصوم ، وحج  نقوم بها جميعاً ، والذي يشكل بمجموعه غاية المؤاخاة ، الصلاة واحدة ، والملك والخفير يصليان جنياً إلى جنب في المسجد ، في الحج الخفير يطوف ، والملك يطوف ، والخفير يسعى ، والملك يسعى ، في مناسب الحج لا فرق بين أمير وخفير ، ولا بين قوي ولا ضعيف ، ولا بين غني وفقير .

لذلك العبادات كالصلاة ، والصوم ، والحج ، مطبق على الجميع ، من دون استثناء ، ليس هناك مسعى خاص للكبراء ، بالسلك الدبلوماسي ، ولا طواف خاص لعلية القوم ، مناسك الحج والعمرة ، والصيام ، والصلاة واحدة لدى الجميع .

لذلك .... أن يكون كل واحد من المؤمنين عوناً وسنداً للآخر ، فمن للمهاجرين غير الأنصار ، يسكنون إليهم ، ويشاركونهم حياتهم ، ومأكلهم ، ومشربهم ، وآلامهم وأفراحهم ، وجهادهم ، والذود عن حياضهم ، ومن للأنصار غير المهاجرين يعلمونه الدين ، ويفقهونهم فيه ، ويقرئونهم القرآن ؟ أرأيت إلى هذه المصالح المتكاملة ، أروع التكامل المضاربة .

لو فرضنا إنسانا معه مال ، وهو متقدم في السن ، ولا يحسن استثماره ، لو أن شاباً مهندساً زراعياً مثلاً ، طاقة كبيرة جداً ، طاقة كبيرة ومثقفة ، لكن ما معه مال ، فعملوا مشروعاً ، الأرباح مناصفة ، هذا بماله ، وهذا بجهده ، المؤاخاة لها معنى واسع جداً ، حتى شركات التجارة مؤاخاة ، واحد بماله وواحد بجهده .

لذلك أيها الإخوة ، من حكم المؤاخاة تكامل الأنصار والمهاجرين ، أما صور هذه المؤاخاة فتبين السمو الذي بلغه الأنصار والسمو الذي بلغه المهاجرون ، نذكر منها :

 

صور من الأخوة الصادقة بين الصحابة :

2ـ بين سعد بن الريع وعبد الرحمن بن عوف :

تميل النفس الإنسانية المهذبة المزكاة إلى المحبة الصادقة ، والتضحية والإيثار ، فكيف وقد عظم الإسلام مكانة المتحابين بالله ، وعلى هذا الشعور الديني تقدم الأنصاري سعد بن الربيع إلى أخيه في الله عبد الرحمن بن عوف ، فقال ، الآن عندنا أنصاري ، اسمه سعد بن الربيع ، ومهاجر اسمه عبد الرحمن بن عوف ، قال : إني أكثر الأنصار مالاً ، أقسم لك مالي نصفين ، عندي بستانان خذ أحدهما ، عندي بيتان خذ أحدهما ، عندي دكانان خذ أحدهما ، قال عبد الرحمن بن عوف ، والله لا أنساها هذه الكلمة : بارك الله لك في أهلك ومال ، ولكن دلني على السوق ، ما هؤلاء الأصحاب الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام ؟ الأنصار أسخياء ، والمهاجرون أعفّة .

الآن الغني الغنى الفاحش إذا استطاع أن يعالج في مستشفى مجاناً من حق الفقير لا يقصر ، الأنصاري بذل نصف ماله ، والمهاجر تعفف عن المال ، بارك الله لك في مالك ولكني دلني على السوق .

دلوه على سوق بني قينقاع ، فما انقلب إلا ومعه فضل أقط وسمن ، ثم تابع الغدو  الأقط لبن مجفف ، وسمن ، أرباحه كانت غذاء ، تابع الغدو إلى السوق ، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة طيب لونه أصفر ، جاء يوماً وبه أثر صفرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما الأمر ؟ قال له : يا رسول الله تزوجت ، دخل للسوق ، وباع واشترى ، وجمع مالا ، وتزوج .

إخواننا الكرام ، ما فتح أحد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر .

(( مَنْ دَخَلَ عَلَى غَنِيٍّ فَتَضَعْضَعَ لَهُ ذَهَبَ ثُلْثَا دِيِنِه )) .

[رواه الطبراني ، ورواه أبو الشيخ عن أبي الدرداء ] .

الشيء الذي يلفت النظر أنه كما أن الأنصاري سخي المهاجر عفيف ، ما قبل أن يأخذ شيئاً ، عرض عليه بيتاً ، ودكاناً ، وبستاناً ، قال له : بارك الله لك بمالك دلني على السوق ، تاجر وربح الإقط والسمن ، ثم تاجر فتزوج ، فلما رآه النبي عليه أثر صفرة قال    له : ما الأمر ؟ قال : تزوجت يا رسول الله ، قال : كم سقت إليها ؟ ما المهر ؟ قال : نواة من ذهب ، يعني بحجم نواة ذهباً ، أو وزن نواة من الذهب ، قال : أَوْ لِم ولو بشاة ، لذلك من السنة أن يكون في حفل عقد القران وليمة وطعام .

3 ـ مشاركة الأنصار مع المهاجرين في أشجار النخيل :

الأنصار مثل آخر من أمثلة المؤاخاة : قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبينهم النخل ، الأنصار اقترحوا أن يكون نخل المدينة مشاركة مع إخوانهم المهاجرين ، قالوا : لا ، قال : تكفوننا المئونة ، وتشاركوننا في التمر ، الأنصاري عرض أن يتملك المهاجر نصف أشجار النخيل ، قال : لا ، نحن نعتني بهذه الأشجار بجهدنا ، أعطونا بعض الثمار ، ولتبق الأشجار لكم ، أرأيتم إلى هذه العفة ؟! هذه مضاربة ، وهذه أفضل شركة في الإسلام ، والنبي عليه الصلاة والسلام أول مضارب في الإسلام ، هو بجهده  والسيدة خديجة بمالها ، ولعل أمانته ، وعفته كانت سبب زواجه منها .

قالوا : تكفوننا المئونة ، أي تعتنون بهذه الأشجار ، وتشاركوننا في التمر ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، وهذا يشبه شركات المضاربة اليوم ، العامل بعمله ، والمالك بماله ، وكان حمزة بن عبد المطلب ، وزيد بن حارثة أخوين ، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال ، نزل أبو بكر الصديق في المدينة على خارجة بن يزيد ، ابن أبي زهير ، وتزوج ابنته حبيبة ، ولم يزل في بني حارث ابن الخزرج بالصلح حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين .

أنا أتمنى أن تترجم هذه الحقائق إلى سلوك عندكم ، إلى مؤاخاة ، تعلمنا شيئا  جديدا ، الذي معه مال ، ولم يحسن استثماره ليؤاخ إنساناً خبيراً ليس معه مال ، الغني يؤاخي الفقير ، والقوي يؤاخي الضعيف ، وصاحب الحرفة يؤاخي إنسانا لا يتقن هذه الحرفة ، وبهذا تتكامل حياة المسلمين .

 

شكر المهاجرين واعترافهم بفضل الأنصار عليهم :

قال المهاجرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ما رأينا مثل قومك ، قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلاً في كثير ، كفونا الموءنة  وأشركونا في المهنة ، أي في الخدمة ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، هم تكفلوا بالعناية بالشجر ، وأعطونا نصف الثمر ، قال : حتى خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال : لا ما أثنيتم عليهم ، ودعوتم له ، أي إن ثناءكم عليهم ، ودعاءكم لهم حصل منك به نوع من المكافأة .

لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( من أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه )) .

[ أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر ] .

الأصل أن إنساناً قدم لك خدمة ، الكمال يقتضي أن ترد عليه بخدمة مثلها ، قدم لك هدية ، الكمال يقتضي أن ترد عليه بهدية مثلها ، لكن إذا كان هو غنياً ، وأنت فقير  ، وأكرمك إكراماً كبيراً ، ولا تملك أن تكافئه قل له : جزاك الله خيراً .

ثناء الله على المهاجرين والأنصار وروابطه الوثيقة :

لقد أثنى الله جل جلاله على المهاجرين والأنصار على هذه الروابط الطيبة التي بينهم ، وبيّن فضل بعضهم على بعض ومكانتهم عند الله فقال :

( سورة الحشر ) .

لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( الأَنْصَارِ : لاَ يُحِبّهُمْ إِلاّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إلاّ مُنَافِقٌ . مَنْ أَحَبّهُمْ فَأَحَبّهُ اللّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمُ فَأَبْغَضَهُ اللّهُ )) .

[ متفق عليه ] .

والحمد لله رب العالمين

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/84458

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك