اتِّجاهات الفكر البروتستاني: الإنجيليات والكالفينية واللوثرية

كريستوفر ج. ر. هوفيتز

تقديم:

الأنجليكانية والكالفينية واللوثرية، تلك فرق ثلاث من فرق الفكر البروتستانتي، وهي تشكل بنيات أيديولوجية تأسيسية بالنسبة إلى عدد مهم من الأشخاص في عالمنا. وإني لأود في هذه الورقة التالية التمييز بين هذه الفرق الثلاث داخل المسيحية، وبيان إلى أي حد تختلف كل واحدة منها عن الأخرى، وكيف تتفاعل فيما بينها. وتأسيسا عليه، آمل أن أستخلص بعض الاستنتاجات تكون لها صلة وثيقة بمجال الحوار بين الأديان (مذاهب الإيمان). 

من شأن أولئك الذين لا يمتون إلى الكنيسة المسيحية بصلة أن يتساءلوا تساؤلا مشروعا: كيف حدث أن صلى يسوع الرب من أجل الكنيسة مناشدا [الرب]: "أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي"(1)، ومع ذلك، ثمة تعبيرات كثيرة عن معنى أن يكون المرء يتبع السبيل الذي سلكه يسوع المسيح. 

الحق أنه لطالما تم التشديد على هذه الفوارق وتضخيمها، وقد حدثت بفعل دواع عدة استدعت وجود مثل هذه الفوارق: الجغرافيا، الشعائر الدينية والسنة المتبعة، اللغة، السياسية، التاريخ، الثقافة والمزاج، وبطبيعة الحال اللاهوت وتعقيداته. 

وقد جرى -على وجه الدوام- نقاش سليم حول تفاصيل طريقة اتباع سبيل يسوع اتباعا مخلصا وفيا، وحول دلالة تطبيق تعاليم الكتاب المقدس. وقد تطلبت الأرثدوكسية ـ وهي تتعلق "بالتفكير المستقيم" ـ والأرثوتطبيقية ـ ومدارها على "الفعل المستقيم" أو "السنة الصحيحة" ـ معا بذل الجهد في تطبيق كلمة الرب تطبيقا مسؤولا؛ وذلك بغاية تنظيم أفكارنا وحيواتنا. وعلى هذا النقاش وهذا العمل الدؤوب أن يتواصلا ما دام المسيحيون يسمحون لثقافتهم ولمنظورهم أن يلهمهما الكتاب المقدس وأن يشكلهما تشكيلا. ومع ذلك، فإنه أتت على تاريخ الكنيسة المسيحية ثلاث حقب مفتاحية حاسمة انتهى فيها النقاش والخلافات في التفكير والممارسة إلى إحداث انشقاق كبير. 

ففي عام 1054 م، وقع "الانشقاق بين الشرق والغرب"، وقد تسببت في هذا الانفصال السياسة، وبُعد الشقة الجغرافية، والاختلافات في أداء الشعائر والفرائض، أكثر مما تسبب فيه ما قد ينظر إليه البعض على أنه "خلاف" متعمد أو مقصود حول إحدى الجوانب الصغرى(2) الدائرة على اللاهوت التوراتي الخاص بمسألة التثليث(3). 

وفي عام 1517 م، ما نشب "الشقاق بين الكنيسة الرومانية والبروتستانتية" أن أخذ طريقه، وذلك لما أثار راهب ألماني النقاش حول بعض ممارسات الكنيسة التي تعود إلى القرون الوسطى. وقد أسفر هذا النقاش عن انشقاق كان داعيه الأساسي الخلافات اللاهوتية، ولكن ساعدت عليه التلاعبات السياسية وصراعات القوى. وتجدر الإشارة إلى أن رغبة جون ويكليف John Wyclif (1329-1384 م) في جعل التوراة متوفرة للجميع بلغته القومية، وتدخل الطباعة (توراة [طبعة] غوتنبورغ عام 1456 م)، وكتاب توماس الكمبيسي (1380-1471 م) الورعي الوعظي [كتاب "الاقتداء بالمسيح"(م)]، والتحدي الصحفي الذي قام به إراسموس Erasmus (1467-1563 م) في فضح الفساد الذي استشرى بداخل الكنيسة ـ كل هذه الأمور مجتمعة كانت عوامل أدت إلى تمهيد الطريق لهذا الانشقاق بين الكنيسة الرومانية والبروتستانتية، والذي عادة ما أشير إليه تحت مسمى "الإصلاح" [الديني]. ومع هذه القطيعة الكبرى -بالرغم من كل ذلك- فقد وجدت فرق صغرى -داخل "البروتستانتية" نفسها- أدت إلى ظهورها أخلاط متنوعة من الجغرافيا والسياسة والشعائر واللاهوت.

وفي القرنين التاسع عشر والعشرين شهدت الكنيسة البروتستانتية العديد من الانقسامات الصغرى. والحال أن الطائفية الإيمانية أو الدينية غالبا ما ارتبطت بمختلف الاستجابات لتحديات التصنيع وللهجمة اللاهوتية الليبرالية وللفلسفات الإنسية. ولقد كان بالإمكان أن تصبح الأمور مختلفة تماما لو أن الناس استمعوا إلى جوامع كلم اللاهوتي ريبرتوس ملدينيوس Rupertus Meldenius حين دعا إلى: "الوحدة في الأمور الجوهرية، والحرية في الأمور غير الجوهرية، والمعاملة بالتي هي أحسن في كل الأمور"(4). 

ومن حسن الحظ فإنه صار يبدو -في الأزمنة الأخيرة- أن ثمة حراكا دؤوبا نحو التعاون والتآزر بين الجماعة المسيحية، وقد برزت حركة توحيد الكنائس(5) لما بحث المسيحيون عن تشريف صلاة المسيح ودعائه، كما ورد في إنجيل يوحنا 17: 23 [أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي.]، وتطبيق تذكرة ملدينيوس الداعية إلى السلم. والحال أن الكفاح من أجل التوحد ليقع في الحقيقة -بطبيعة الحال- من المسألة موقع القطب من الرحى. فليس يجدي نفعا في شيء أن يتم التوحد في الباطل، وإن النقاش حول ما يوصف على أنه "الحقيقة الأساسية" لسوف يظل يرافقنا على وجه الدوام. وهكذا، فإنه إلى غاية هذه النقطة التي وصلنا إليها ههنا يحسن بنا أن نشير إلى أن الخلاف إن هو ما كان مطلوبا لذاته [أي الخلاف من أجل الخلاف]؛ فإنه ليس هو بالأمر المستكره. على أن الوحدة تبقى على وجه الديمومة الأمر الذي من أجله يكون الكفاح كفاحا مريرا. ولن تتأتى هي إلا عبر رغبة متواضعة من لدن الجميع في البحث عن مجد الرب، وأن يكون هو من يلهمها ويسدد خطاها أولا وقبل كل شيء. وفي شأن يوم الحساب هذا، فإن فهمنا سوف يبقى أبد الدهر قاصرا غير تام، ولسوف تظل دواعينا ممزوجة غير موحدة. والحال أن هبة الكنيسة التوحيدية هذه يمكن أن تكون ثمرة هوى محدود، مثلما يمكن أيضا أن تكون عائدة إلى رغبة صادقة في الوحدة. ولربما تكون الكنيسة المسيحية تبحث عن أن تؤلف بين اللطف الإلهي والحق، وذلك في سعي متواضع منها إلى تمجيد الرب عن طريق محبة إخوته وأخواته في المسيح. 

دعونا الآن نمعن النظر في ثلاث فرق داخل الجماعة المسيحية: الإنجليكانية واللوثرية والكالفينية. الحال أن هذه الفرق الثلاث من فرق الكنيسة الكاثوليكية إنما وجدت منشأها في الانشقاق الذي حدث بين الكنيسة الرومانية والبروتستانتية، والذي عرف تحت مسمى "الإصلاح". وسوف نسعى إلى النظر إلى كل واحدة من هذه التعبيرات الثلاثة عن الكنيسة عبر منظار الشخص الأكثر تعبيرا عنها. وهكذا، سوف يكون مارتن لوثر ممثلا للوثرية، وسوف نحيل إلى جون كالفن باعتباره مفكر الكالفينية، وبالنسبة إلى الأنجليكانية سوف نقف بالنظر على توماس كرانمر Thomas Cranmer.

مارتن لوثر ـ إيقاد نار الإصلاح

تجد الفرقة المسيحية التي تطلق على نفسها نعت "اللوثرية"، والتعاليم والممارسات المعروفة تحت مسمى "اللوثرية"، منبعها في تعاليم رجل واحد هو مارتن لوثر (1483-1546). ولقد كان الرجل راهبا ألمانيا سعى إلى فتح نقاش أكاديمي عام 1517 حول لاهوت بعض ممارسات الكنيسة التي كانت تعود إلى القرون الوسطى. 

ولقد حدث أن تساءل لوثر عما إذا كان من اللائق بالكنيسة أن توحي إلى الناس بإمكان أن يدفعوا بعض المال من أجل ضمان سبيلهم إلى الجنة. فكان أن هاجم ممارسات "التوبة" و"الغفران" التي كانت مرتبطة بالاعتقاد في فكرة المطهر، وبإتيانه ذلك الفعل، تحدى مارتن لوثر السلطة البابوية وسلطة التراتبية الكنسية في أن تكون هي من لها الكلمة الفصل في أمر المكان الذي سوف يوجد فيه شخص ما يوم الحساب [أإلى الجنة أم إلى النار]. وإذا ما نحن أضفنا إلى هذه المسألة مسألة مهاجمته صكوك الغفران، صرنا أمام أعم إدانة لانشغال الكنيسة بالأمور المادية كتب لها أن تتم. 

وفي خلال الأسابيع التي علَّق فيها لوثر "أطروحاته الخمس والتسعين" على باب كنيسة فيتنبورغ (تقع شرق ألمانيا)، كان أن ألهب ذلك الكنيسة بأوربا بالحديث عن حجج لوثر، ففيما وراء حجج لوثر، كانت ثمة يقظة الرجل ووعيه بالمذهب الكتابي القائل: "إنما الخلاص بالإيمان وليس بالأعمال". وبتذكيره بذلك، كان لوثر يشدد على اللطف الإلهي غير المستحق في إنقاذ أولئك الذين يؤمنون بالمسيح باعتباره مخلص البشرية الوحيد. وهذا يناقض -حسب ما رآه- مناقضة شديدة تعاليم الكنيسة في تلك الحقبة، والقائلة بأن شخصا ما يمكنه أن يفوز بالنجاة عبر الأعمال الصالحات أو التعبد بأية طريقة. وإن الهوة بين طبيعة الإنسان المذنبة الخطاءة وقداسة الرب وكماله ليمكن فقط تجسيرها بالصليب حين تمت إقامة العدالة وفي الوقت نفسه تم وهْب اللطف الإلهي إلى الجميع. وقد اعتقد لوثر أن الرب ليس يكلم أحدا اللهم إلا من خلال كلمته (الكتابات المقدسة)، والتي كان تركيزها يوجد بالأساس في بؤرة يسوع المسيح. وإذن، فقد آمن لوثر أن الوحي الرباني إنما الشأن فيه أن يؤدي إلى القناعة الشخصية، والتي تفيض -بطبيعة الحال- لكي تغمر الآخرين عن طريق الدعوة. ولهذا السبب -مثلما أنت واجد لوثر في تعاليمه المتعلقة بأداء الشعائر العمومية- إنما يركز أولا وقبل كل شيء على دعوة الكتابات المقدسة، ويقوم بمزاوجة الدعوة بإقامة الشعائر الجماعية على نحو ما تدعو إلى ذلك هذه الكتابات(6)، ويعمل على إقامة التسابيح والأغاني الدينية الجماعية (كما تأمر الكتابات المقدسة أيضا بذلك)(7). 

وفي عام 1521م تلقى لوثر أمرا بالاجتماع بالسلطات الكنسية في مدينة فورمس(8)، وهناك تمت مجادلته في شأن كتاباته. ومن أجوبته المأثورة عنه قول: "إنما أنا متقيد بالكتابات المقدسة التي أستشهد بها، وضميري مأسور بكلمة الرب، ولست تراني أقدر على أن أنكر أي شيء، لا ولا أنت تراني أرغب في ذلك... بهذا الأمر ألتزم، وعند هذا الحد أقف، ولست أستطيع فعل أي شيء آخر [اللهم إلا ما فعلت]. فليعني الرب. آمين". وإذ قال لوثر ما قاله، فإنه كان قد أعلن بذلك عن "مبدأ الحرية البروتستانتي". والحال أنه يمكن النظر إلى رفض سلطة الكنيسة، عندما تسير ضد الضمير وشهادة الكتابات المقدسة، على أنه هو ما كان من شأنه أن قاد إلى الاستقلال والحرية اللذيْن ميزا الدول القومية الغربية إلى حد اليوم. ومما ينبغي أن يحظى بأهمية خاصة بهذا الشأن، أن هذا التعبير عن الاستقلال في الأزمنة الحديثة أمسى يقف اليوم في تعارض مباشر مع تعاليم لوثر. لقد علمنا الرجل بأننا نكون عادلين عند الرب (مبررين عنده) بفضل إيماننا وحده فحسب، وليس بفضل أعمالنا. ولقد كان البشر -في أعين لوثر- قد ماتوا ميتة روحية، وهم يحتاجون إلى فعل سيادة الرب فيهم حتى يزرع الإيمان في قلوبهم من جديد، فيحيهم حياةً. هذا، بينما أمسى الفكر الغربي اليوم -وقد صار أكثر حداثة- يؤكد على حرية الإرادة البشرية في اتخاذ القرار. إذ بالنسبة إلى العديد من الإصلاحيين(9) كان يُنظر إلى هذا "الفكر الحديث" على أنه إنما يدفع بمقام التبرير [أمام الرب] إلى خارج مملكة الإيمان وهبة الرب [لطفه]؛ أي إلى مجال الإنجاز البشري [وليس الرباني] وإلى مجال العمل. 

وفي عام 1529 م، انتهت محاولة لإسكات لوثر وحركته إلى أن عمد العديد من الأمراء الألمان إلى الوقوف باسم لوثر ضد المعارضة التي كان يجابهها، وإلى "الاحتجاج" عليها ـ وهكذا نشأت الكنيسة "البروتستانتية [الاحتجاجية]"(10). 

والحق أن لوثر ما كان يرغب في إنشاء كنيسة جديدة؛ وإنما كان قد ارتأى فحسب ضرورة إصلاح البنى الموجودة مما أصابها من مبالغات وتشويهات حدثت مع انصرام الزمان، وكان يدعو إلى العودة إلى ما كانت التوراة قد أمرت به. وباعتباره ما سعى إلا إلى ذلك (كما سعى إليه أتباعه اللوثريون)، فإنه حافظ على العديد من الأمور التي سعى غيره من المصلحين إلى التخلي عنها، وذلك شأن تركيز الكنيسة الرومانية على سر القربان المقدس وسائر الشعائر المختلفة. وإن الخلاف الأعظم مع الكنيسة ما قبل الإصلاحية في ذاك الزمان ليتمثل -بطبيعة الحال- في التركيز على "الخمس وحدها" five Solae(11) والتي تشبث بها المصلحون (بالكتابات المقدسة وحدها، وبالإيمان وحده، وباللطف الرباني وحده، وعبر المسيح وحده، ولمجد الرب وحده). والحال أن هذه الأركان الخمسة هي التي زعزعت ادعاءات روما بأنه يمكن للأداء إلى السلطات الكنسية (البابا والأعمال) أن يأتي للفرد بالخلاص. 

والحال أن اللوثريين هم أولئك الذين واصلوا الحفاظ على تعاليم لوثر، وهم يعدون اليوم حوالي 75 مليون منتم. وقد انتشرت اللوثرية عبر ألمانيا وإسكندنافيا ودول البلطيق. ومعاقلها التقليدية جعلت اللوثرية تهاجر أيضا إلى أجزاء من أمريكا الشمالية، حيث تمثل هذه الجهات تمثيلا حسنا في الساكنة المهاجرة.

والوثيقة التي تصف وصفا مستفيضا الموقف اللوثري هي "كتاب الوفاق". وهو كتاب عبارة عن جماع ثلاث عقائد إيمانية كنسية مبكرة(12)(يصدِّق بها جُلُّ المسيحيين)، وثلاث مقالات خطتها ريشة لوثر، وثلاث مقالات كتبها زميله (فليب ميلانشتون Philip Melanchton)، فضلا عن مقال كتب بعد وفاة لوثر كان قد حسم النقاش داخل الكنيسة اللوثرية، والذي دار على مادة عنصريْ عشاء القربان المقدس [الخبز والخمر]. 

ويعطي كتاب الوفاق هذا الأولوية -أولا- إلى الترابط الموجود بين الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة الماضي التاريخية. وهكذا بدا أن ثمة رغبة أكيدة في إظهار أن هذا الأمر ما كان بالأمر الجديد؛ وإنما هو بالأحرى أَوْبَةٌ إلى الكتاب المقدس وإلى الصيغ المبكرة الأولى لتعاليم الكتاب المقدس. وتحدد -ثانيا- مضامينُ المقالات التي دبجها لوثر الدرجةَ العليا لأهمية ممارسة التعميد والقربان المقدس وما الذي تعنيانه. وثالثا، توجه المقالات لتربية الأفراد على معتقداتهم وممارساتهم في حياتهم(13). وهذا الطابع التلمذي إنما ينحدر هو عن التركيز الذي تم من لدن لوثر على القناعة الشخصية التي تتأتى عن تبليغ كلمة الرب. 

توماس كرانمر ـ ولادة كنيسة في حاشية هنري الثامن:

تنحدر الفرقة من الكنيسة البروتستانتية المعروفة بتوصيف "الفرقة الأنجليكانية"، كما ينحدر اللاهوت والممارسة المعروفين تحت مسمى "النزعة الأنجليكانية" من اللفظة اللاتينية الخاصة بدلالة "الإنجليزي"، وتحيل هي على "الكنيسة الإنجليزية" الرسمية وعلى تعبيراتها خارج إنجلترا فيما وراء البحار. وبالرغم من وجود تنويعات عديدة للكنيسة بإنجلترا، فإن ثمة فرقة من الكنائس معترف بها على أنها "كنيسة إنجلترا". هذا ولقد تم ربط "كنيسة إنجلترا" هذه بالدولة منذ أن كان الإصلاح، وهي التعبير الرئيس عن البروتستانتية بإنجلترا. 

كان تومس كرانمر (1489-1556م) الرجل الذي ساعد -أكثر من غيره- على تشكيل الكنيسة الأنجليكانية، وكان هو الذي نصح [أفتى] الملك هنري الثامن في أمر رغبة هذا في الطلاق. والحال أن أمرا كهذا [الطلاق] ما كان بالأمر المقبول في الكنيسة الرومانية. وهكذا، حدث أن استعمل هنري الثامن "الإصلاح" ذريعة ووسيلة للزواج من آن بولين Anne Boleyn. على أن البعض يذهب مذهب الرأي القائل: بل الأمر كان على العكس؛ أي أن بعض المصلحين استعملوا رغبة هنري الثامن في الطلاق ذريعة بغاية تحقيق مآربهم في إنشاء كنيسة تكون أكثر بروتستانتية. وهكذا، كسب الإصلاح بإنجلترا دافعا عظيما بفعل مسألة فقهية [الطلاق]، وهذا الأمر شكل -بمعنى من المعاني- الكنيسة الأنجليكانية، حيث يكون لرئيس الدولة السلطة الشرعية على الكنيسة بالبدل من أن تبقى تابعة لروما. 

لقد أمسى توماس كرانمر -وكان الرجل عالم لاهوت لوثري- زعيم الكنيسة الأنجليكانية عام 1532 م. وكان أن قاد كنيسة إنجلترا عبر مسيرة الإصلاح، مفضلا [اللجوء إلى] فن الإقناع على إعمال القوة. وكان أن نقل التوراة إلى اللسان الإنجليزي عام 1538 م، وأنشأ كتب صلاة جماعية عامي 1549 و1552، كان أن أَرسَتْ مضمون إقامة الشعائر بكنيسة إنجلترا وشكل هذه الشعائر. كما وفرّ أيضا كتاب العظات الأول ـ وهو عبارة عن مجموع من اثنتي عشرة عظة ـ لكي يتلى بالكنائس عبر بلاد إنجلترا. وهذه السلسلة من العظات إنما كانت تبلغ التعليم الرباني وتشكل الحصن الحصين الواقي من زلل الكنائس. وقد أهَّلت لاهوت الإصلاح بأن يتجذر على مستوى الخورنية في زمن ما كان يمكن التعويل فيه على خوريي الخورنية لنشر المذهب الإصلاحي. 

لقد كان كرانمر يرغب في أن تعود الكنيسة الإصلاحية -في فكرها- إلى جذورها في الكتاب المقدس الحق، وبهذه الرغبة، سعى الرجل إلى الوحدة [بين الكنائس] تحت يافطة الحقيقة. فكان أن مد يده إلى اللوثريين وإلى الكالفينيين بأوربا حتى يسعوا إلى تحقيق وحدة كنسية. غير أن مشروعا وحدويا هذا شأنه أثبت أنه كان متعذر المنال في ذاك الزمان. 

وقبل أن ننكب انكبابا على بسط القول، كل القول، في "النزعة الأنجليكانية"، دعنا نلتفت الآن صوب جون كالفن أصغر مصلحينا الثلاثة سنا (والذين تناولناهم ههنا -بالترتيب- حسب سني ميلادهم). وإذ ننظر في أمره، فإن علينا -بطبيعة الحال- أن نستقصي أمر تفكير وممارسة أولئك الذين اتخذوه قدوة، والمعروفين بـ"الكالفينيين". 

جون كالفن ـ جنيف أو "مدينة الرب":

كان الفرنسي جون كالفن (1509-1564 م) الرجل الثاني الأكثر تأثيرا بعد لوثر في زمن الإصلاح. وكان إسهام لاهوته النسقي -لا سيما في كتابه "مبادئ الديانة المسيحية"(الذي نشر لأول مرة عام 1536)- إسهاماً عظيما. 

وإذ سعى كالفن إلى تطبيق الروح النسقية الصارمة على اللاهوت المسيحي، فإنه كان يرغب -في الوقت ذاته- في رؤية مجمل حياة الإنسان وقد تم ترتيبها بوفق [تعاليم] الإنجيل. ولقد سعى كالفن إلى تطبيق أفكاره بمدينة جنيف، بسويسرا، محاولا بناء "مدينة الرب" ["مدينة الله"]. وحدث أن أقام العديد من المصلحين من بريطانيا، ومن العديد من الأقطار الأوربية، بمدين جنيف، فكان أن عادوا يحملون معهم أفكاره إلى بلدانهم. وكذلك فعل الطهرانيون الذين غادروا إنجلترا إلى "العالم الجديد" في أمريكا الشمالية(14). 

ولقد كان كالفن يدعم فكرة تعاون الكنائس الموحدة، ويساند جهود كرانمر المومأ إليها سابقا، وحاول هو بنفسه أن يوحد بين فرق من كنائس البروتستانتية فيما يخص أمر لاهوت قداس القربان المقدس، وذلك من خلال وثيقته المدعوة Consensus Tigurinus أو "وفاق زيوريخ"(1551 م). ولسوف نتطرق إليها تطرقا أوسع في القسم الخاص بمقارنة أشكال الطوائف الدينية المسيحية (وفي القسم الفرعي الدائر على القربان المقدس). 

وعادة ما يطلق على مجمل اللاهوت الإصلاحي اسم "الكالفينية"، وذلك بفعل التأثير الغامر الذي مارسه كالفن على تفكير الكنيسة البروتستانتية. على أن هذا تمثل خاطئ لطائفة متنوعة من التعبيرات المختلفة عن البروتستانتية. ليس هذا فحسب؛ وإنما يرى بعضهم أن الأجزاء من الكالفينية المتأخرة ما ظلت أبدا وفية لروح كالفن. ووجه النقد، أن التفسير التوراتي الثري الذي قام به كالفن إنما تم تجاوزه [تجاوزا عسفيا] من لدن النسق الكالفيني الصارم [الذي أنشأه التلامذة]. إذ لربما دفع الكالفينيون المتأخرون [الغلاة في النزعة الصورية المنطقية الصارمة] دفعا مشتطا بالصرامة النسقية الكالفينية إلى الحد الأقصى، فكان أن تجسدت هذه الصرامة وتيبست قبل أن يعيشوا التفاعل [الحي] مع النصوص التوراتية. 

ثمة حوالي 80 مليون مؤمن كالفيني في الوقت الحاضر، ومن بينهم غالبية تحمل اسم "الإصلاحية"، وبعضهم يحمل اسم "الكنيسة البرسبيتريانية" Presbyterian Church. وتُظهر التسمية الأولى من هاتين التسميتين كيف أن كالفن هيمن كل الهيمنة على المشهد الإصلاحي [حتى احتكر التسمية]. على أن التسميات الثلاث الواردة في هذه الورقة ـ البروتستانتية والكالفينية والأنجليكانية -تُعَدُّ كلها- بوفق المعنى التاريخي ـ "إصلاحية"، لكن وحدهم الكالفينيون يعرّفون أنفسهم بهذا التحديد. وإن اصطلاح "Presbyterian " لينحدر عن فهم كالفن لإيالة وتدبير الكنيسة التوراتية. وأولئك الذين يصنفون أنفسهم ضمن هذه الطريقة إنما هم فريق فرعي صغير ضمن الفريق "الإصلاحي" الكبير. 

ويمكن النظر إلى ثمار المقاربة النسقية التي قارب بها كالفن اللاهوت في ضوء انشغال الكافينية بأمور: أ- التفكير الشامل في شأن متى نشأ هذا اللاهوت. ب- الصرامة اللاهوتية في استغلال مناجم الحقائق العميقة لبشارة يسوع المسيح ورجعته. ج- مركزية الرب في كل شيء. 

الأنجليكانية ـ "الطريق الأوسط":

بعودتنا إلى كرانمر وإلى الكنيسة الأنجليكانية، نجد أن الرجل كان مسؤولا عن قيادة هذه الكنيسة طوال الطريق الأوسط الذي اختطه بين اللوثرية والكنيسة الكالفينية. وبعدما توفي الرجل استمرت الكنيسة على نهج الإصلاح اللاهوتي. وفي عام 1563 م نشرت لأول مرة الوثيقة المعروفة باسم "البنود التسعة والثلاثون"، واستندت في أساسها إلى الكتابات المقدسة المسيحية، وإلى التعبير عن الكتابات داخل العقائد (المنظومات العقدية) التاريخية للكنيسة المبكرة. ولقد كان تأثير كرانمر على توجيه الوثيقة تأثيرا غامرا. وسعت البنود إلى وضع جملة منظمة ومكثفة لتعاليم الكتاب المقدس، وذلك بغاية توضيح ما الذي يعتقد فيه الأنجليكانيون. 

ويُعَدُّ من غاية الوقوع في النزعة التبسيطية المخلة أن نعزو إلى كرانمر وحده دون سواه أمر تشكيل الأنجليكانية، على أنه حقا -لا مساغ للشك في ذلك بأي وجه- المسهم الأكبر في هذا التشكيل. وبسبب قلاقل السياسة التي كانت قد عرفتها أوربا في ذاك الزمان، وجد العديد من رواد الفكر البروتستانتي موئلهم في إنجلترا. ذلك أن علماء لاهوت -شأن بوسر Bucer وفرميلي Vermigli ولاسكو Lasco أَلْفَوْا- أنفسهم منخرطين في الحوار اللاهوتي الذي ساعد على تشكيل الكنيسة الأنجليكانية. كما أن ريتشارد هوكر Richard Hooker (1554-1600 م) وماثيو باركر Matthew Parker (1504-1575 م) كانا وجهين معروفين في تأسيس النزعة الأنجليكانية وفي تشكيلها. 

منذ إسهام كرانمر في إرساء دعائم الكنيسة الأنجليكانية أثناء ميلادها، ما بقيت هذه الكنيسة جامدة على لاهوتها؛ إذ من عام 1833 م إلى عام 1841 سعى فريق يعرف تحت اسم "حركة أوكسفورد" إلى التركيز على الجوانب المشتركة بين الكنيسة الأنجليكانية والكنيسة الرومانية. وكان الأثر المرغوب فيه يتمثل في رد قسم شاسع من [تعاليم] الكنيسة الأنجليكانية إلى رؤية أشد كاثوليكية. وحدث أن صار سر القربان المقدس والزي الكنسي وممارسات [كنسية] رومانية أخرى غيرها أكثر توحدا [مركزية] وأكثر انتشارا. 

وفي عام 1888 م تبنت الكنيسة الأنجليكانية أربعة قرارات معروفة تحت اسم "رباعي الأضلاع شيكاغو-لامبيث" Chicago-Lambeth Quadrilateral. وقد تم النظر إلى هذه النقاط الأربع بوسمها تعبيرا موجزا عن حقيقة الأنجليكانية، وبكونها توفر في الوقت ذاته أساس النقاش الوحدوي الكنسي مع باقي طوائف المسيحية الإيمانية الأخرى. تأسيسا عليه، توحد الأنجليكانيون في تأكيدهم على الأمور التالية: 

1- العهدان القديم والحديث يتضمنان الأمور الضرورية لتحقيق الخلاص، وهما ما يشكل "قاعدة الإيمان وضابطه [معياره] النهائي"(15). 

2 - القضيتان العقديتان(16) المذهبيتان اللتان كانت قد تبنتهما الكنيسة المبكرة.

3 - قداس التعميد وسر القربان المقدس.

4 - دور القساوسة في إقامة نظام الكنيسة وتحقيق الوحدة [الكنسية]. 

ويفوق عدد الأنجليكان اليوم 85 مليون، وباعتبارهم كذلك فإنهم يشكلون الفرقة الثالثة الأوسع من بين فرق الكنيسة المسيحية، وذلك بعد الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنائس الأرثدوكسية الشرقية. وتعكس الأنجليكانية في القرن 21 م الحدثين الذين كانا قد حددا تاريخها تحديدا. ذلك أن فرقة واحدة من اتحاد المؤمنين الأنجليكان تعدّ نفسها تسير على هدي خطى كرانمر و"طريقه الأوسط" الذي كان قد اجترحه بين اللوثرية والكالفينية، هذا بينما تضع الفرقة الثانية الكبرى من فرقتي الكنيسة الأنجليكانية نفسها إلى جانب "حركة أوكسفورد" في صلة وثيقة بممارسات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. والحال أن ما يحدد الأنجليكانية إنما هي أمور ثلاثة: الصورة المكثفة المختزلة من "رباعي الأضلاع شيكاغو - لامبث"، مع الشكل المفصل الموسع "للبنود التسعة والثلاثين"، يضاف إليهما المزيد من الشعائر العملية وتعاليم "كتاب الصلاة الجماعية". والحق أن هذه الوثائق الثلاث تؤكد على مركزية الكتاب المقدس بالنسبة إلى الجانب الأرثدوكسي [الاعتقادي] وإلى الجانب الأرثدوتطبيقي [العبادي]، وداخل هذا الإطار، شهادة الكتاب الموحد لشخص وعمل يسوع المسيح. 

مقارنة بين الطوائف الدينية الثلاث:

أود في هذه الفقرة أن أنظر في كيف تتعلق كل من اللوثرية والأنجليكانية والكالفينية الواحدة بالأخرى، وذلك بالنظر إلى بعض الجوانب من قضاياها الإيمانية الجوهرية. ينظر اللوثريون إلى "عقيدة أوغسبورغ الإيمانية" بوصفها جزءا من "كتاب الوفاق" الذي يأخذون به في مساعدتهم على تحديد معتقداتهم بطريقة منظمة ومختصرة، ويعتدّ الأنجليكانيون ب"البنود التسعة والثلاثين"، أما الكالفينيون فيأخذون بـ "عقيدة ويستمنستر الإيمانية" أو "كتاب تعاليم هايدلبرغ"(وهي جزء من "أشكال الوحدة الثلاثة"). 

والحال أن الجانبين من هذه العقائد الإيمانية الذين أود النظر فيهما لذوي صلة بـ: أ- مذهب التبرير الرباني والنعمة الإلهية. وـ ب- إقامة قداس سر القربان المقدس / عشاء الرب. 

أ- مذهب التبرير الرباني: 

تنص عقيدة أوغسبورغ الإيمانية على أن: "بني البشر ليس بمكنتهم أن يبرروا أنفسهم [يُقبلوا] أمام الرب بالنظر إلى قوتهم وإلى استحقاقاتهم أو إلى أعمالهم التي قدموها؛ وإنما بالضد من ذلك ما يبررهم أمام الرب ويغفر لهم وينعمهم إنما هو سعي المسيح عبر الإيمان... وعبر موته، فالمسيح كَفَّر -بالتضحية بنفسه- عن ذنوبنا"(17). 

وبالمثل، يجعل البند الحادي عشر من "البنود التسعة والثلاثين" المعتمدة من قبل الكنيسة الأنجليكانية هذا الإطار واضحا: "لسنا نُعَدُّ عادلين أمام الرب اللهم إلا باعتبار استحقاق ربنا ومخلصنا يسوع المسيح عن طريق الإيمان، وليس بفضل أعمالنا الحسنة أو أفعالنا الطيبة". 

وتوجز القول في ذلك عقيدة هايدلبرغ الإيمانية إيجازا: "لست أكون مقبولا [مُسَامحًا] عند الرب بفضل قيمة إيماني؛ وإنما فقط بفضل رضى وعدل وقداسة المسيح يكون عدلي مقبولا أمام الرب".

وتذهب عقيدة ويستمنستر الإيمانية إلى بسط القول أكثر في هذا الأمر: "أولئك الذين دعاهم ربهم بالفعل، قد سامحهم مجانا [بنعمته بالفداء الذي بيسوع]؛ وما كان ذلك لأنه زرع فيهم العدل؛ وإنما غفرت لهم ذنوبهم وتم قبولهم بحسبانهم عادلين؛ وليس بفعل شيء أُقيم فيهم أو صُنع لهم أو قاموا به؛ وإنما بفضل المسيح وحده؛ وليس بفعل إيمانهم ولا بفعل اعتقادهم، ولا بأي طاعة إنجيلية تم نسب العدل إليهم؛ وإنما لأنه تم عزو طاعة المسيح ورضاه إليهم، فبالإيمان تلقوا المسيح وعدله الذي أسلموا أمرهم إليه، وهذا الإيمان ما وجدوه في أنفسهم، وإنما كان هبة من لدن الرب"(18). 

من خلال هذه الاقتباسات الأربعة سرعان ما يتبدى واضحا أن التجمعات البروتستانتية الثلاثة ـ عنيت اللوثريين والكالفينيين والإنجليكانيين ـ يتفقون اتفاقا تاما على هذا المذهب. وما كان هذا الأمر مستغربا من لَدُنَّا، ما دام أن مذهب التبرير أمام الرب يوجد في قلب الخلاف مع روما. وهكذا، تتحد هذه الكنائس الثلاث في رفض أي دخل لبني البشر في قبولهم وقيمتهم وتبريرهم أمام الرب، وفي تأكيدها على أن عمل المسيح وحده هو ما يجعل الشخص مقبولا لدى الرب ومبررا بوصفه من العادلين. 

وتوحي مركزية مذهب التبرير، والاتفاق الواضح بين الأنجليكان والكالفينيين واللوثريين بهذا الشأن، بأن كل شراكة تتشكل بين هذه الكنائس -جمعا أو مثنى- إنما تقوم على أساس واقعي. وبالنظر إلى توحد الكنيسة توحدا موسعا، فإنه من الأفيد الإشارة -في هذا المستوى- إلى أن على الصلات الوحدوية بين إحدى هذه الطوائف البروتستانتية والكنيسة الرومانية أن تعترف باختلافاتها فيما يتعلق بهذا المعتقد الأساسي. وأود أن أشير هنا إلى أن هذا الأمر ينطبق أيضا على المسألة الأوسع المتعلقة بالحوار بين الأديان [أشكال الإيمان]. فهذا الأمر لا يؤهل أي أحد للإعلان بأن كل الأديان متفقة سواء، بل إنه لمن باب النزاهة ومن روح الواقعية القبول بالاختلافات ومناقشتها. وفي حديثي مع المسلمين، وجدت دوما أنه من المثمر أكثر أن ننظر سوية إلى اختلافاتنا. ولطالما اختلفنا، وغالبا ما تحمس كل واحد منا لرأيه بشغف شديد؛ ولكننا مع ذلك كنا قادرين على أن نظل أصدقاء وأن يحترم بعضنا بعضا. 

ب- إقامة قداس سر القربان المقدس (أكل الفصح) / عشاء الرب: 

عندما يدور الحديث عن اللاهوت الكامن وراء قداس عشاء الرب، نجد أن ثمة توحدا في الرأي أقل بين موقف اللوثريين والإنجليكانيين والكالفينيين؛ إذ لما أقام المسيح مأدبة أكل الفصح مع أتباعه مديدة يسيرة قبل أن يتم صلبه، كان قد اختار اختيارا واضحا بأن يمنح لهذا القداس الجنيني دلالة متحولة. من ذي قبل كان أَكْلُ الفصح إحياء لذكرى تخليص الرب لبني إسرائيل من العبودية التي كانوا عليها بمصر عبر مياه البحر الأحمر. كما كان للعشاء أيضا عنصر دلالة آخر متعلق بإنجاز وعد الرب في تخليص شعبه مرة أخرى. وقد أشار المسيح نفسه بكونه هو من سوف ينقذ -أعظم إنقاذ- شعبه من عبودية الذنب عبر مياه الموت [الصلب]، ومن سيقود شعبه نحو مستقبل عظيم، والذي وحده بعمله هذا يمكن أن يحقق هذا الأمر [المعجز]. وقد سوى المسيح بين نفسه وبين داعي التخليص والتضحية هذا لما هو قال: "26- "خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي". 27 ـ وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: "اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، 28 ـ لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا"(19).

كان مدار جزء من شكوى البروتستانتية من الكنيسة الرومانية- أيام زمن الإصلاح- يتعلق بأن إلحاح الكنيسة على أن جسد ودم المسيح كانا حاضرين جسديا وماديا [وليس معنويا وروحيا فقط] في كل إقامة لقداس هذا العشاء، يبدو وكأنها -بمعنى ما من المعاني- تعيد صلب المسيح أكثر من مرة. ولقد أراد البروتستانتيون أن يتفادوا بأي حال أن يثيروا الشك في أن يظهروا بمظهر من يعيد إقامة قداس التضحية، كما لو أن كل ما قام به المسيح ما كان ليكفي. ومن ثمة ثار السؤال: ما الذي قصده يسوع لما هو قال: "هذا هو جسدي... هذا هو دمي"؟

وفي توافق مع رغبة لوثر في الانشقاق عن روما، ظلت تعاليمه وتعاليم اللوثرية لصيقة بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية (حيثما يقال: إن الخبز والخمر يتحولان بالفعل إلى جسد المسيح ودمه في كل مرة يقام فيها قداس سر القربان). وقد تحدث اللوثريون عن "وحدة قُدّاسية". وكان كالفن نفسه يعتقد أن هذا الأمر أقرب ما يكون إلى أفكار الكنيسة الكاثوليكية؛ ولكنه في الوقت نفسه أراد أن يتفادى الدلالة الرمزية التبسيطية التي دعا إليها هولدريش زوينغلي(20) Huldrych Zwingli (1484-1531 م). ولذلك، قال كالفن بفكرة "الحضور الروحي" ليسوع في قداس سر القربان. كما تبعت النزعة الأنجليكانية -على المستوى النظري- كالفن في نظرته، ولكن بفعل تأثير حركة أوكسفورد -المشار إليها أعلاه- وجد العديد ممن تشبثوا بفهم شديد الكاثوليكية للقداس.

وتزكي عقيدة أوغسبورغ الإيمانية -لربما على نحو أبسط مما هو مطلوب- موقف لوثر القائل: "إن جسم ودم المسيح يكونان حاضرين حضورا فعليا، وقد تطورا بصورة خبز ودم، ويقدمان إلى أولئك الذين أكلوا عشاء الرب". والسؤال الذي يمكن أن يطرحه المرء هو: ما الذي يعنيه حقيقة القول: "يحضر حضورا فعليا وقد تطور بصورة..."، وكيف يختلف هذا التأكيد عن النظرة الكاثوليكية القائلة بأن الخبز والخمر يستحيلان إلى مادة جسم ودم المسيح الفعلية. 

وتزكي عقيدة هايدلبرغ الإيمانية الموقف الكالفيني القائل بأن الأمر لا يتعلق فحسب برمز بسيط؛ وإنما هو غذاء روحي حقيقي: "هل استحال الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه حقا؟ الجواب: أبدا... لئن سُمِّيَ الأمر -بحسب طبيعة القداس وطريقة تأديته- جسد المسيح يسوع... فإنه بهذه الأمارات البادية والبراهين الساطعة، قد أريد طمأنتنا بأننا أمسينا نُسْهم في جسده وفي دمه، عن طريق عملية الروح القدس، وأننا نتلقى بأفواهنا هذه الأمارات المقدسة، تخليدا لذكراه، وأن عذابه وطاعته هما عذابنا نحن أيضا وطاعتنا بكل تأكيد، وإننا إن نحن قاسينا عذابات ذنوبنا في أنفسنا، فإننا قد أرضينا ربنا من أجلها"(21). وقد انتهى ما أسهم به كالفن في وثائق "وفاق تيغورينوس" -على الرغم من أنه كان بمعنىً ما من المعاني مشروعا لتوحيد الكنائس- إلى إحداث مزيد من الاختلافات التمايزية بين كالفن ولوثر. ولقد كان كالفن واضحا في قوله بأنهما ما كانا الأمارتين (الخبز والخمر)؛ وإنما الوعود المتعلقة بهما (بأيد من الروح القدس) هما ما من شأنهما أن يقودا الشخص إلى [ملاقاة] المسيح. فبلا شخص المسيح تبقى الأمارات فارغة من المحتوى. وهي أمور ما كان لها ـ لوحدها ـ أن تكسب لطفا ربانيا بالمرة. وحده الرب من يتولى ذلك الأمر. وإن علينا أخذ كلمات المسيح على وجه المجاز، وبهذا أوضح كالفن أفكاره القائلة بأن موقف لوثر من جسد المسيح تحت الخبز إنما هي فكرة لا تقل إحالة وعدم معقولية عن الموقف الكاثوليكي الروماني. 

وتفصِّل عقيدة ويستمنستر الإيمانية القول تفصيلا في لاهوت هذا القداس، معارضة في ذلك الموقف الكاثوليكي وحتى الموقف اللوثري، لا سيما في العبارات التالية: "أولئك الذين يتلقون بتواضع هذا القداس، عندما يأخذون العنصرين المرئيين [الخبز والخمر] إنما يتلقون المسيح المصلوب في قلوبهم بالإيمان؛ لكن إذ يتلقونه فإنهم يتلقونه تلقيا واقعيا، وليس تلقيا حسيا جسديا، يتلقوه تلقيا معنويا روحيا؛ وهم يقتاتون منه [اقتياتا روحيا] ويتلقون منه [تلقيا معنويا] كل محاسن موته، وبهذا يصير جسد المسيح ودمه -إذن- بصيرورة لا على نحو جسماني أو حسي، في ومع وتحت الخبز والخمر، ولكنهما يصيران حاضرين حضورا حقيقيا وروحيا من أجل إيمان أولئك الذين يؤمنون بهذا القداس، وذلك بالقدر نفسه الذي يكون به هذان العنصران حاضرين متمثلين لحواسهم الخارجية"(22). والحال أن التنصيص على العبارة "ليس حسيا وجسديا" إنما ينهض ضد التعاليم الكاثوليكية، أما التنصيص على العبارة "ليس على نحو جسماني أو حسي، في ومع وتحت الخبز والخمر" إنما هو إشارة ضد الموقف اللوثري. 

وتقول "البنود التسعة والثلاثون" الإنجليكانية (البند 28) "إن جسد المسيح معطى ومأخوذ ومأكول في العشاء الرباني؛ لكن بطريقة سماوية وروحية فحسب. والوسيلة التي بوفقها نتلقى جسد المسيح في العشاء الرباني إنما هي الإيمان". والحال أن هذه العبارات تسير على خطى اللاهوت الكالفيني وتتوافق معه؛ لكن ممارسة العديد من الكنائس الأنجليكانية إنما تعكس فعليا على نحو أكثر اللاهوت "الروماني". 

والآن، فإن المقصد من هذه الدراسة بيان أن ثمة فوارق مشروعة في فهم ما الذي يقع في حال مثل هذا التعبير المركزي عن هوية الكنيسة المسيحية. والحال أن هذه الاختلافات المشروعة بادية تمام العيان لدى مختلف الطوائف الدينية. وبطبيعة الحال، فإن الواقع قد تطور اليوم عن المواقف التي عبرت عنها هذه الطوائف الإيمانية التاريخية. وقسم من هذا التطور يعود إلى غياب الصرامة اللاهوتية من لدن المسيحيين العاديين الذين ينظرون إلى هذه الفوارق كما لو كانت غير ذات بال. وجزء منه يعود -ونأمل أن يكون ذلك كذلك- إلى اعتراف لطيف بأننا في هذه الحياة "لسنا نعرف إلا بعض المعرفة"(23)، وبعضها سوف يبقى لغزا لنا إلى يوم الدين. 

كان لعالم اللاهوت توم ورايت(24) شيء لكي يقوله لنا في هذا الأمر: "أنا أؤمن بأنه يمكننا أن نخلص من هذه النقاشات العقيمة، وذلك بوضع نقاشنا عن العبادة في إطار صورتنا الموسعة عن السماء والأرض، وعن مستقبل الرب وحاضرنا، وعن الطريقة التي اجتمع بها هذان الزوجان في يسوع وفي الروح". 

"من غير ما أن يكون أحد قد التفت إلى ذلك، كان ثمة خلاف كبير بين مختلف الكنائس المسيحية عبر العقود الأخيرة القليلة حول ما الذي يعتقدون أنه يحدث في هذه الشعيرة [القداس] الأساسية، وما الذي تعنيه، وكيف لنا أن نتملكها على أحسن وجه.. نتقاسم في الخبز والخمر، ونحن نحكي قصة يسوع وموته؛ وذلك لأن يسوع قال لنا هكذا بأن نحكي عن ذلك... ولأن هذه الجملة من الأفعال تفسر معنى موته أكثر من أن يقتدر على فعل ذلك أي شيء آخر... وثانيا ليس هذا الأمر قطعة من السحر اللطيف... إذ هذا الفعل... يصير إحدى النقط التي تلتقي فيها السماء والأرض. ولقد قال بولس: "فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء"(رسالة بولس الرسول إلى أهل كورنثوس 11: 26). وما قصد أنها كانت فرصة سانحة لإلقاء عظة. كما لو كانت مصافحة بالأيدي أو قبلة، لا ولا كانت هي، ثالثا، تكسير الخبز وتقاسمه فرصة لتذكر شيء حدث منذ زمان بعيد... إنما عندما نكسر الخبز ونشرب الخمر، نجد أنفسنا نلتحق بالتلامذة [تلامذة المسيح] في الغرفة العليا... ونحن نتوحد مع يسوع نفسه في الجسمانية، وكما مثل هو بين يدي كيافاس وبيلاط. ونحن نتوحد به توحداً إذ يسمر على الصليب ويقوم من القبر. وبهذا يلتقي الماضي بالحاضر، والأحداث التي حدثت منذ أمد تختلط بالفصح الذي نتقاسمه هنا والآن.. [و] تماما شأن أبناء إسرائيل وهم لا زالوا في التيه، يتذوقون الطعام الذي حمله معهم الجواسيس من رحلتهم السرية إلى الأرض الموعودة، فإننا إذ نتقاسم كسر الخبز نتذوق خلق الرب الجديد، الخلق الجديد الذي طرازه وأنموذجه وأصله هو يسوع نفسه"(25). 

عادة ما تتبدى الاختلافات لما نسعى إلى أن نعبر في كلمات عما نؤمن به. على أنه يمكن أن يكون ثمة متسع فضاء للكالفينيين واللوثريين والإنجليكانيين حتى يتقاسموا في هذا القداس الأساسي ومع ضرب من التحديد في تفسير القداس من شأنه أن يسمح بتعدد في فهم ما يحدث بالفعل وما الذي تعنيه كلمات يسوع. 

مقارنة حكامة الشأن الكنسي:

بالنظر إلى قداس سر القربان، كان التمايز التاريخي في المواقف واضحا بين اللوثريين والكالفينيين، مع احتلال الأنجليكانيين في الأغلب (لكن ليس دائما) المنزلة الوسطى. لكن عندما نأتي إلى مقارنة كيف تدار هذه الطوائف الإيمانية وكيف تتم إيالتها وكيف تساس، فإن التقسيم يصير مختلفا تماما، بحيث يختلف الأنجليكانيون اختلافا واضحا عن الكالفينيين؛ بينما يظهر اللوثريون على كل ضفة من ضفتي الانقسام.

يتبع الأنجليكانيون البنية ما قبل الإصلاحية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنائس الشرقية، وذلك باعتماد نظام سياسي أسقفي أنجليكاني. وهو أساسا نظام تراتبي البنية حيث يشرف قس على الرعية (وهم الرعايا العاديون [من غير رجال الدين الذين يتولون الإشراف عليهم])، والقساوسة أنفسهم الذين ينتمون إلى منطقة معينة يشرف عليهم أسقف. وكما سبق أن قلنا، فإن تشكيل الكنيسة الأنجليكانية يضرب بجذوره لا فحسب إلى عهد الإصلاح، وإنما إلى رغبة الملك هنري السابع في عدم التبعية للسلطة البابوية. وهكذا، فإن الذي يرأس القداسات الدينية التي تقام في تراتبية المناطق الواقعة في إقليم بريطانيا العظمى إنما هي الجزر البريطانية. وهذا لا يقود في الواقع إلى مزيد من التدخل في سياسة الحياة الكنسية من لدن رئيس الدولة، وتتوقف التراتبية في الأقاليم الأخرى من الكنيسة الأنجليكانية عند حدود الأسقفية المحلية. 

على أن كالفن أتى -في إطار ترتيبه لأمر الحياة في صلة بالرب- بنظام سياسي كنسي مختلف اختلافا جذريا عما نعهد. وبالبدل من تراتبية السلطة من الأعلى إلى الأدنى التي كان الإصلاحيون قد وجدوها في النظام الكاثوليكي الروماني ورفضوها، سعى كالفن إلى إقامة بنية سلطة صارت معروفة تحت مسمى التنظيم الأسقفي أو البريسبيتاري(26). ويشكل هذا التنظيم السياسي طريقا أوسط بين الجمعيات الأبرشية المتمتعة بالسلطة والتراتبية الصرفة. إذ ما من كنيسة محلية إلا وتنتخب فريقا من "القدماء" [الشيوخ] لكي يديروا شؤونها ويحكموها. وإن عمل "الشيوخ" ليكون إلى جانب إدارة الأبرشية المحلية، فهما معا من يشرف على الجمعية المحلية وهما معا من يدير أمورها. وعلى مستوى الجهة، ثمة جمعيات عليا مكونة من "الشيوخ" من مختلف الكنائس ترعى أمور الكنيسة الكالفينية وتدير شؤونها إدارة موسعة. 

أحيانا تعبر اللوثرية عن نفسها -عبر العالم- بإعمال اصطلاحات التنظيم السياسي الأسقفي، وأحيانا التنظيم السياسي البرسبيتاري، وحتى طورا بإعمال اصطلاحات أبرشانية [جمعية أبرشية] (27) تقريبا. وبمعنى ما من المعاني، فإن بمقدرة اللوثريين أن يكونوا أكثر مرونة من الأنجليكانيين والكالفينيين في هذا الشأن. إذ يتحدد الأنجليكانيون تحددا واضحا من خلال تنظيمهم السياسي الأبرشي كما يتبدى في عبارة واحدة من عبارات رباعي الأضلاع شيكاغو- لامبث الأربع. أما الكالفينيون فقد تحددوا تحديدا شديد الوضوح من خلال لاهوت الحياة العميق الذي أنشأه آباؤهم المؤسسون والذي يتضمن نظام الكنيسة وحكامتها أو إيالتها. هذا ولقد قاد الإصلاح اللاهوتي الذي قام به لوثر -مع نفوره من الانشقاق عن روما- طبيعيا إلى تعددية الممارسات الإشرافية والتدبيرية داخل الأسرة الكنسية اللوثرية الواسعة. 

نظرية التعاون:

اقتصرت هذه الدراسة على المقارنة بين اللوثرية والأنجليكانية والكالفينية فيما يتعلق بالمذهب في بساطته، وبجانب من لاهوت الشعائر والعبادات، وبوجه من بنية الكنيسة. وبالرغم من محدودية المنظار الذي اتخذته هذه الدراسة؛ فإنه يمكننا أن نلفي أن ثمة مجالات كثيرة للائتلاف وبلا شك ما يكفي من مناسبات للاختلاف. ففي مجال النظرية، ثمة مجالات للائتلاف حول المسائل الأساسية المتعلقة بالتبرير وما يذهب مذهبه، كما أن المذاهب الثلاثة تتفق على سلطان الكتاب المقدس، وعلى التعبير الكتابي المقدس في العقائد الإيمانية التاريخية الثلاث، فضلا عن أمور أخرى كثيرة. وفي إقامة قداس الكنيسة الأساس، اتضح بما لا يدع مجالا لشك شاكٍّ أن ثمة تباينات في الأفكار تتعلق بما الذي يجري في إقامة قداس سر القربان. ولقد قادت هذه التباينات إلى أن تركز كل طائفة إيمانية على جانب معين، وإلى أن تعمل كلمات تفسير متباينة، وإلى أن تتبنى ممارسات مختلفة(28). وعندما يتعلق الأمر بتقاسم أبدى وأبين لحكامة وإيالة حياة الكنيسة اليومية ونظامها، يصير من الواضح أن الأمور يمكن أن تمسي إلى حدٍ ما أكثر تعقيدا. من جهة أولى، ثمة قيمة تكتسب من خلال الإشراف الروحي لأولئك الذين دعاهم الرب وأقرانهم معا واصطفاهم وأهليهم وبعث بهم على خدمة لا الكنيسة المحلية فحسب، وإنما الجماعة المسيحية الجهوية الواسعة، وذلك بوسمهم قادتها وزعماءها. ومن جهة أخرى، فإن نقطة انطلاق الإصلاح إنما كانت هي الأوبة بكل الأمور إلى الكتاب المقدس وإلى إقناع كل فرد بالرب. ومن هنا، فإنه يمكن للزعامة من الأعلى إلى الأسفل أن تبدو مناقضة لهذا الوجه الأساسي من أوجه الإصلاح. 

من الناحية النظرية -وبفضل أوجه ائتلافهم- يمكن للوثريين والأنجليكانيين والكالفينيين أن يتعاونوا بوفق مختلف الطرق. وعمليا، تبقى أنحاء التعاون هذه مقتصرة على المستوى العميق من حكامة الكنيسة، لا سيما -اليوم قبل أي وقت مضى- وأنه تم وضع العناصر الباعثة على القسمة والانشقاق في لاهوت كل كنيسة المتعلقة بقداس سر القربان جانبا، وتم التركيز -بالبدل من ذلك- على ما من شأنه أن يوحد بيننا في إقامة هذا القداس.

بعض الأمثلة الحديثة عن التعاون:

كتبتُ هذه المقالة من وجهة نظر شخص ممن يوجدون في قلب مثال من أمثلة هذا التعاون. وبوصفي قسيسا بسلطنة عمان، فإنني أشتغل داخل منظمة تسمى "الكنيسة البروتستانتية بعمان"(PCO) والتي هي شريك ل" كنيسة أمريكا الإصلاحية الأنجليكانية". وبعبارة أخرى، تعد "الكنيسة البروتستانتية بعمان" مثالا للتعاون الأنجليكاني الكالفيني. ذلك أنه يوجد بالسلطنة العديد من المهاجرين المسيحيين الهنود، لا سيما من المنحدرين من جنوب الهند. ومن ثمة، فإن لكنيسة جنوب الهند (CSI) تمثيل قوي في البلاد. وقد أسست كنيسة جنوب الهند نفسها عام 1947 عن طريق اتحاد الكنيسة الأنجليكانية والكنائس الكالفينية وغيرها من الكنائس البروتستانتية بجنوب الهند. وفي عمان، فإن كل الكنائس البروتستانتية الممثلة في السلطنة ذات صلة بالحكومة عن طريق الكنيسة الأنجليكانية وكنيسة أمريكا الإصلاحية (RCA)، ومن ثمَّ فإن برزت مشكلة كبيرة لتواجه جمعية كنسية معينة، فإن السلطات المحلية الأنجليكانية والكنسية الأمريكية الإصلاحية (الأسقف الأنجليكاني والمشرف على الكنيسة الأمريكية الإصلاحية معا) يمكن أن يتدخلا للتعاون مع الحكومة للعمل على حل المشكلة. تأسيسا عليه، فإن هذه الخطوة تعني أن ثمة تعاونا على المستوى الجهوي وعلى المستوى المحلي هنا بالسلطنة. 

وعلى مستوى أوسع، عقدت الكنيسة الأنجليكانية اتفاقا شكليا وشراكة مع الكنيسة اللوثرية ضمن ما يعرف تحت مسمى " the Porvoo Communion "(بأوربا) و"الدعوة إلى القيام بمهمة مشتركة"(في أمريكا الشمالية). وفي الحالتين معا، ثمة اتفاق بداية للعمل المشترك مع حفاظ كل طائفة دينية على هويتها المخصوصة. 

من منظور التفاعل بين الطوائف الإيمانية:

يتمثل أحد عناصر هذه الورقة في توفير نظرة عامة وخلفية لثلاث فرق واسعة من فرق الجماعة المسيحية. وإذا ما نحن تبنينا منظور التفاعل بين الطوائف الإيمانية المختلفة، فإن هذا الأمر يفيد في التشجيع على فهم "الغير". أولا؛ ثمة على وجه الدوام مسيس حاجة إلى تصحيح بعض أنحاء سوء الفهم المتعلقة بتاريخ الكنيسة المسيحية، ولربما أيضا مساءلة الآراء المسبقة عنها، وذلك بتبني صورة أكثر تدقيقا من شأنها أن تصحح تلك الصورة المختزلة التبسيطية السائدة عن الطوائف المسيحية الثلاث. ثانيا؛ بغاية فهم النزعة الأنجليكانية واللوثرية والكالفينية، وتفاعلاتها فَهْمًا أكبر؛ أتمنى من أولئك الذين يوجدون خارج الجماعة المسيحية أن يبصروا وأن يسمعوا قلب الرسالة المسيحية على نحو أوضح، وبمعزل عن ضجيج أنحاء الضعف التي عادة ما تعتري بني البشر. 

ثمة عنصر آخر في هذه الورقة يتمثل في أمل التشجيع على مزيد من التفكير في الذات؛ ذلك أن من شأن الاطلاع على تاريخ آخر وعلى المشاكل التي توحد أو تفرق ألا تكون له من فائدة أكيدة محققة، اللهم إلا إن دفعنا دفعا إلى التبصر في وضعنا نحن. ولربما سوف يدفع كل واحد منا إلى تجديد الاعتبار في معتقداته، وفي علائقه، لا سيما داخل جماعات إيمانه، ولكن من الممكن أيضا المضي إلى ما هو أبعد. إن مشاكل المذهب- التي هي أساسية بالنسبة إلى من نكون ـ والممارسات من متعلقات المذهب- والتي هي هامة ـ والبنيات التي تؤهل إلى تنظيم حياتنا الجماعية الروحية؛ كل هذه الأمور لا تخص النزعة الأنجليكانية لوحدها أو المسيحية بمفردها.

*************************

1) التوراة: إنجيل يوحنا 17: 23.

2) مسألة طبيعة يسوع هل هي نفس طبيعة الرب أم طبيعة البشر في عقيدة المجمع المسكوني الأولى بنيقية. والحال أنه كان على هذا النقاش الإجمالي أن ينتظر إلى أجل لاحق حتى يتعمق أكثر. 

3) على الرغم من أن لفظة "التثليث" لا توجد في التوراة [الإنجيل]، فإن المسيحيين، ومنذ عهد مبكر، رأوا أن مذهب التثليت هو وحده من يعطي معنى للشهادة التوراتية. انظر، مثلا، إنجيل متى 28: 18-20، وإنجيل مرقس: 1: 10ة 11، وإنجيل لوقا 24: 45-53، وإنجيل يوحنا 10: 30 و26-31 من بين عديد من المصادر الأخرى. 

4) المحبة والسخاء بدل الصدقة والزكاة. 

5) يحيل مفهوم "توحيد الكنائس" إلى جهود المسيحيين المبذولة لتجاوز السياجات التي وضعت داخل الكنيسة بسبب من فعل التاريخ واللاهوت والممارسة. 

6) رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 11: 23-26.

7) رسالة بولس إلى أهل كولوسي 3: 16-17. [يشير المؤلف هنا إلى الآيات التالية: لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانٍ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ.17 وَكُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْل أَوْ فِعْل، فَاعْمَلُوا الْكُلَّ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ، شَاكِرِينَ اللهَ وَالآبَ بِهِ.(المترجم)].

8) تقع هذه المدينة بالجنوب الغربي من ألمانيا الحديثة. 

9) من أولئك الذين انخرطوا في إصلاح القرن 16 الميلادي. 

10) تنبغي الإشارة إلى أن "الكنيسة اللوثرية" أمست اليوم فرعا من "الكنيسة البروتستانتية". ورغم أن لوثر كان هو الذي دشن الحِجَاج/النقاش حول حالة ومنزلة الكنيسة، فإن سير النقاش أسفر عن تعابير مختلفة حول ما الذي يعنيه أن يكون المرء "بروتستانتيا". 

11) تعني Sola باللسان اللاتيني الوحيدة/وحدها، أما Solae فهي صيغة الجمع. 

12) عقيدة نيقية وعقيدة الحواريين وعقيدة أتناسيا. 

13) أنا مدين بهذه الإضاءة إلى كتاب كارل ترومان Carl Trueman الموسم باسم Creed imperative (Crossway, 2012).

14) حدث هذا حوالي 1630-1640م. 

15) انظر القرار رقم 11 الصادر عن مؤتمر لامبث لعام 1888.

16) عقيدة نيقية وعقيدة الحواريين. 

17) البند الرابع من عقيدة أوغسبورغ الإيمانية.

18) الفصل الحادي عشر من عقيدة ويستمنستر الإيمانية. 

19) إنجيل متى 26: 26-28.

20) إصلاحي سويسري شهير. 

21) الجوابان عن السؤالين 78 و79 من عقيدة هايدلبرغ الإيمانية. 

22) عقيدة إيمان ويستمنستر، الفصل 29، المقطع 7.

23) رسالة الرسول بولس إلى كورنتوس الأولى، 13: 12.

24) ولد عام 1948، كان سابقا أسقف دورهام، مؤلف العديد من الكتب اللاهوتية، أشهرها "يسوع وانتصار الرب"، "متفاجئون بلأمل" وسلسلة "لكل واحد". 

25) توم ورايت: "مسيحي ببساطة" [بالإنجليزية]، منشورات SPCK، لندن 2006. ص. 132-4 (م).

26) الأصل الاشتقاقي لاصطلاح "بريسبيتاري" هو "بريسبيتر" التي تعني "الشيخ العجوز" (مشتق من اليونانية).

27) يتحقق نظام "الأبرشانية" متى كانت الأبرشية المحلية مستقلة عن كل سلطة أخرى، ومتى ما كانت تقرر كل الأمور التي تخصها من غير أن تكون تصرفها تحت مراقبة هيئة موسعة جهوية.

28) بعضها سعت إلى الإعلاء من شأن الخبز والخمر، وبعضها رأت فيه حرمة.hg

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/244

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك