الدين والدولة: دراسة في خطاب الأدبيات السياسية الإسلامية الوسيطة

عزالدين العلام

نقصد بهذا الخطاب السياسي تلك الكتابة السياسية التي تزامن ظهورها الجنيني مع ما يدعوه الجميع -عن صواب أو خطأ- بحدث "انقلاب الخلافة إلى ملك"، وكانت في جزء كبير منها نقلا واقتباسا عن التراث السياسي الفارسي، كما كانت تقوم في أساسها على مبدأ نصيحة أولى الأمر في تسيير شؤون سلطتهم، بتضمّنها نصائح أخلاقية وقواعد سلوكية تهمّ الحاكم في شخصه وتعامله مع رعيته، مرورا بكيفية اختيار حاشيته واختبارهم، وسلوكه مع أعدائه. وفي عرضها لنصائحها الهادفة إلى تقوية السلطة ودوام الملك، تتبع هذه الكتابات منهجية، أو لنقُل: تصورا عمليا براجماتيا يجعل منها في النهاية فكرا سياسيا "أداتيا"، يكاد يكون "تقنيا"؛ إذ لا يطمح إلى التنظير بقدر ما يعتمد التجربة، ولا يتوق إلى الشمولية بقدر ما يلزم حدود الواقع السياسي دونما قفز عما يتيحه من إمكانيات، وهي كلها أمور تجعل من هذه "الأدبيات" ثقافة سياسية مميّزة عما عرفته الرقعة العربية الإسلامية من ثقافات، ونقصد بالخصوص الثقافة السياسية الفلسفية، والثقافة السياسية الشرعية أو كتب الأحكام السلطانية. كما أنها اعتمدت في صياغة تصوراتها السياسية الأخلاقية على ثلاث منظومات مرجعية كبرى هي السياسة الفارسية / الساسانية والحكم اليونانية / الهلنستية، والتجربة العربية / الإسلامية، ساعيةً إلى تذويب كل تناقض أو تعارض محتمل بين المنظومات الثلاث إلى حد يحول معه اختزالها في إحدى هذه المنظومات واعتبارها بالتالي مجرد أثر فارسي أو مجرد صدى لخريف الفكر اليوناني، ناهيك عن اعتبارها فكراً إسلامياً " نقيا"(1).



متى يكون الإسلام سياسة أو تصبح السياسة إسلاماً؟ متى يحصل التطابق بين المفهومين، وهل حدث تاريخياً هذا التطابق؟ وما سر السلسلة اللامتناهية من المفارقات بين الخلافة والملك، والجهاد والحرب، والحاشية والصحابة، والشرع والاصطلاح، والدين والدولة، والقرآن والسلطان...؟



إن نعت "السلطاني" الملحق هنا بهذه الكتابات، والدولة أو الدول التي رعتها يثير وحده جوهر الإشكال موضوع هذا البحث. فهو وعلى الرغم من أنه يشكل حقيقة تاريخية واقعية وفعلية؛ نلاحظ كيف يواجه تارة بالرفض المطلق بدعوى "إسلامية" مفترضة للدولة وفقهائها، فيصبح السلطان والإسلام على طرفي نقيض لا مجال للالتقاء والتصالح بينهما، وفي أحيان أخرى يتم قبول الجمع بين المفهومين على نحو سلبي، فينظر إلى التاريخ السلطاني الفعلي على أساس أنه مفارقة وزيغ عن "روح الإسلام" بأمل أن يهدي الله ملوكه، فتشعَّ أنوار الإسلام وتنمحي المفارقات؛ ليتصالح تاريخ الوقائع النسبية مع مُثل الدين المطلقة. وتارة أخرى، يتم الإقرار بالتداخل بين حقيقتي السلطة والإسلام، ويكون الاعتراف بتبعية الواحد للآخر وافتقار هذا لذاك، فينمحي كل تناقض بين السلطان والإسلام، وتخفّ "المفارقات" إلى حد الذوبان بين "الواقع السلطاني" و"المثال الإسلامي".

في محاولة الإجابة عن هذا السؤال المركزي، المركّب والشديد التعقيد في امتداداته وتقاطعاته، لن ننشغل بتأييد هذا الجواب أو معارضة ذاك، بقدر ما ينحصر مسعانا في طرح تصورات هذا النوع من الكتابة السياسية للمجال الديني وذلك من خلال مجموعة من النقط تهم أوّلا منظوماتها المرجعية، وثانيا استبعادها لمسألة الخلافة مقابل تقربّها ل" الشرع" إلى حد يكاد يصبح معه دينا "مدنيا"، ثم ثالثا من خلال بعض تصوراتها لجهاز الدولة, وأخيرا تأكيدها على بعض مظاهر التمييز بين مجالي الدين والسياسة.

1- بنية الاستشهاد (Citation) وانحلال "المرجعيات"

ليس من الصعب تحديد المنظومات المرجعية لهذه الأدبيات السياسية. يكفي تصفح "مقدمات" هؤلاء الأدباء، وحواشي المحققين، وتعليقات الباحثين لنستنتج تواجد ثلاثة ثوابت مرجعية أساسية، تتجلى في السياسة الفارسية، والحكمة الهلنستية، والتجربة الإسلامية(2).

يلاحظ د. رضوان السيد -في تقديمه لكتاب "تهيل النظر" للماوردي- حضور المثَل الفارسي، وتداخل الفهم الأخلاقي الفارسي للتاريخ مع التجربة الإسلامية, كما يلاحظ كيف "أن شخصية تاريخية شديدة الحيوية والحياة كشخصية عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز تتبدّل في ظل الصورة الفارسية المستعارة من صورة ابرويز أو أنوشروان أو أردشير الأخلاقية إلى مثل أعلى جاف مطموس الملامح ضئيل الحظ من الحياة"(3). 

يبدو كما لو أن المفكر رضوان السيد يسبغ نوعا من التناقض الأصلي بين "الإسلام" وهذه الكتابات يستحيل معه التوفيق بينهما. ففي تقديمه لكتاب المرادي "الإشارة في تدبير الإمارة"، يبرز كيف أن تصور العلاقة بين الأخلاق والسياسة القائم على "مبدأ انتهاز الفرص" لا يتلاءم و"الفكر السياسي الإسلامي"، وأن مفهوم "العدل" الذي يربطه الأديب السلطاني بسلسلة "الدائرة الأرسطية" لا يتلاءم مع المفهوم الإسلامي للعدل كـ "قيمة كبرى(4). كما يبرز رضوان السيد في العديد من كتاباته كيف أن مبدأ "المراتبية" الاجتماعية ممثلة في نظام الطبقات الفارسي "يصطدم في كثير من الأحيان بالمضامين الإسلامية"، كما أنه "يخالف المفاهيم العربية الإسلامية القائمة على اعتبار الناس "سواسية كأسنان المشط"... ويختم كل ملاحظاته بالتساؤل فيما إذا كان هؤلاء الأدباء -ومن ضمنهم الفقيه الماوردي- على علم بالمضامين الحقيقية لما يقتبسونه من ثقافات أخرى.

وإذا كان محمد عابد الجابري قد ميّز في كتابه في "العقل الأخلاقي العربي" بين "نظم القيم" المتمثلة في الموروث الفارسي والموروث اليوناني والموروث العربي و"الموروث الإسلامي(5)، فإن التساؤل يظل قائما عن السبب أو الأسباب التي جعلت هذه "النظم الأخلاقية" على اختلاف أشكالها ومصادرها في منأى عن خلق تصورات سياسية مغايرة من شأنها أن تزعزع بناء النص السياسي السلطوي القديم. فهذا ابن الحداد في "الجوهر النفيس في سياسة الرئيس" يعتمد في تصوراته على أخلاق "المروءة العربية"، وهذا ابن أبي الربيع في "سلوك المالك في تدبير الممالك"يعتمد على "الموروث اليوناني"، وهذا ابن المقفع -بل والماوردي أيضا- يرتكزان في تصوراتهما على "الموروث الفارسي"، وهذا أبو بكر الطرطوشي في "سراج الملوك" ينطلق من "مكارم الأخلاق" الإسلامية... كلّ هؤلاء المؤلفين، ومهما اختلف النبع الأخلاقي الذي ينهلون منه يتوحّدون في فكرهم السياسي، ولا شيء يدل في كتابتهم على أي اختلاف نوعي من شأنه تكسير سلسلة الفكر السياسي الملوكي. وبعبارة أخرى لم يُحدث "نظام القيم" الذي يعتمده هذا المؤلف السلطاني أو ذاك أي تأثير على فكره السياسي، مما يدل على تعايش هذه النظم على اختلافها، وتساكنها داخل نصوص النصائح.

لا يبدو إذن -وحسب ما توصل إليه أغلب الباحثين- أن هناك تناقضاً جوهرياً بين التصورات السياسية الفارسية، ومثيلتها الهلنستية، فالباحث إحسان عباس أبرز العديد من أوجه التماثل بين المنظومتين، والجمع بينهما دونما ارتباك في الثقافة السياسية الإسلامية(6). كما أوضح الأستاذ عبد المجيد الصغير أن ما تُرجم من أدبيات سياسية هلنستية -على قلّتها مقارنة مع مثيلتها الفارسية- كرّس المفاهيم السلطوية نفسها، وأنّ "الذين قاموا يدافعون عن الثرات السياسي الهيللنستي لم يفعلوا سوى أن ترجموا مفاهيم وقيما سياسية تلتقي في العمق مع تلك التي راجت بين الكتاب والوزراء المتعاطفين غالبا مع النموذج الفارسي(7). وحتى رضوان السيد -وعلى الرغم من تأكيده على بعض الفروقات النظرية بين المنظومات الثلاث الفارسية والهللنستية والإسلامية، خاصة ما تعلق منها بـ"نظام الطبقات" و"علاقة المركز بالأطراف"- يشير إلى أنها في جوهرها "منظومات وحدوية"، كما تؤكّد ذلك محاولات الإسكندر وكسرى أنوشروان والتجربة النبوية الخليفية(8).

لا يتعلق الأمر إذن بمنظومتين مختلفتين، بل بمنظومة سلطوية واحدة، وهذا ما تؤكده العديد من النصوص السلطانية التي تجمع بينهما مستشهدة -وحول النقطة نفسها- بما قاله أرسطو (أو قوّلوه إياه!)، وما قاله أردشير، وما قام به الإسكندر العظيم أو كسرى أنوشروان.

ليس هنا مجال مناقشة العلاقة بين نظريات "السياسة الفارسية" ونظريات "السياسة الإسلامية" الحقّة أو المفترض أنها كذلك، ولكن يمكن القول: إن نزع صفة "الإسلام" عن الآداب السياسية السلطانية يبطن تصورا للإسلام مبنياً على "المثال" و"البناءات الذهبية". حينما يتحدث الأديب السلطاني عن الإسلام مستشهدا بقولة أو مستدلا بتجربة، فإنه يفعل ذلك من منطلق عملي تحكمه التجربة الفعلية ووقائع التاريخ ومقتضيات التلاؤم مع مسار الدولة أو الدول الإسلامية ¬(السلطانية)، وليس من منطلق ما ينبغي أن يكون عليه الإسلام الحق والدولة الإسلامية الحقة التي لم تتجاوز دائرة البناء الذهبي.

لقد شكلت التجربة الإسلامية الفعلية الأساس الذي انبنت عليه المرجعيتان السابقتا الذكر، حيث عمل الأديب النصائحي على تكييف مقتضياتهما لتتلاءم مع ما يبتغيه، مطوعا لكل تناقض محتمل مع منظومته "الإسلامية". ولا نبالغ إن قلنا: انه من الصعب الجزم فيما إذا كان الأديب السلطاني يطوّع المرجعيتين الفارسية والهلنستية لتتماشى مع مفهومه للإسلام، أم أنه يكيّف الإسلام نفسه ليتلاءم مع مقتضيات المرجعيتين المذكورتين(9) وفي الحالتين معا تكون النتيجة واحدة: تلاقح الثقافات والاستفادة من سياسات وتجارب الأمم السابقة. وهذا ما عبر عنه بصريح العبارة ابن المقفع الذي ينطلق في أفكاره من "مبدأ تماثل التجربة التاريخية للمجتمعات البشرية"(10). وهو ما عبّر عنه الطرطوشي في مقدمة كتابه حيث أقرّ بضرورة الاستفادة من سياسات أمتي فارس والروم وغيرهما، إذ لا وجود لمبرر "عقلي" يحول دون ذلك(11) وهو أيضا ما عبر عنه الماوردي بإشارته إلى "تشابه أحوال الأمم(12).

وحتى فيما لو حدث للمؤلف أدبيات هذه نوع من عُسْرٍ في الهضم النظري لإحدى مكوّنات المرجعيات المذكورة، فإنه -وهذا اختصاصه بامتياز- يعمل على تذويبها بمختلف الآليات والتقنيات، ويصبح ما يلجأ إليه من "محاكاة" و"تناص" و"تلخيص" و"التقاط".... تعبيراً عن "الحاجة التاريخية" الماسة لاقتباس أمة عن أخرى أكثر من كونه مجرد تمريناً أدبياً. وإذا كان منظّرو "السياسة الشرعية" يحصرون استشهاداتهم في الدائرة الإسلامية بدءاً من الآية القرآنية والحديث النبوي إلى ما أجمع عليه الفقهاء... ناهيك عن احترامهم الشديد للتسلسل القيمي لهذه الحجج المعرفية، فإن الأدباء السلطانيين يلجؤون بدورهم لهذه الاستشهادات، طارحينها جنبا إلى جنب -حسب الموضوع- مع قولة فارسية مأثورة أو حكمة يونانية هلنستية دون أدنى تفاضل مرجعي، مسوّين هكذا بين ما قال الله أو الرسول وما نطق به حكيم يوناني أو ملك فارسي، والأمثلة أكثر من أن تحصى(13).

2- استبعاد الخلافة وتقريب الشرع:

تكون الدولة إسلامية، أو تصبح كذلك إن كانت "خلافة"، ومع صيرورة التاريخ، واندحار هذه (على حد تعبير عبد الله العروي)، تساهل الكثير من المفكرين، مكتفين بشرط مراعاة الدولة لمبادئ الشرع لتدخل في دائرة الإسلام.

كان مؤلفو الأدبيات السياسية السلطانية، العارفين بالسياسية وأهوالها، والسلطان وبأسه، والمدركين للإنسان وطبيعته والدين وحدوده، والمجرّبين للبلاطات ودسائسها والرعية وفسادها، والمدركين أيضا صعوبة "المثال" وبُعد مناله والتاريخ وحقيقته... لقد كانوا -بكل بساطة، وأيضاً بكل حسّ تاريخي- يتغافلون عن موضوع الخلافة ويتجاهلونه.

فالمرادي لا يَنْبِس بكلمة حول مشكلة الخلافة، ولعلّه "أراد بإهمالها أن يكون كتابه بحثا في السياسة الموضوعية؛ فحقائق السياسة أهم من مظهر لم يعد حينئذ سوى مظهر شكلي لا قيمة عملية له"(14) أو أنه "لم يكن ممكنا أن يتحدث عن خلافة ورسوم خلافة مادام المرابطون لا ينوون الانضواء فعليا في ظل خلافة"(15).

ومن جهته يتساءل أحد المحققين: كيف أهمل الغزالي -وهو الذي يتفق في أوجه عدة مع الباقلاني والبغدادي والمارودي...- موضوع "الخلافة" في كتابه "التبر المسبوك في نصيحة الملوك"، واكتفى بذكر واجبات السلطان ووظائفه وصفاته الخلقية..(16)، ويتساءل آخر: كيف يشير ابن أبي الربيع في "سلوك المالك" إلى ذكر الملوك دون الخلفاء، "لا سيما إذا علمنا أن المؤلف كتب كتابه في ظل الدولة العباسية"(17). ويلاحظ ثالث كيف أن الموضوع لم يستحق أكثر من سطر ونصف عند القلعي الذي يكفيه وجوب نصب الإمام "دون أن ينشغل باختلافات الفقهاء في "أوصافه وشرائطه"(18).

ويقدم الباحث رضوان السيد مجمل الإنتاج الفكري السياسي للماوردي ويلاحظ تميز كتبه السياسية عن كتاب "الأحكام السلطانية"؛ إذ "يتوارى البعد القانوني أو التشريعي إلى حد ما ليفسح المجال لنزعة أخلاقية تؤكد على الدين في المبدأ؛ لكنها تسترشد بالواقع وظروف العصر بالدرجة الأولى، ويكاد الطابع الفقهي يختفي فيها تماما(19). ومع ذلك فإن كلمات "الشرع" و"الشريعة" و"الأمر الديني" عموما تظل حاضرة في أغلب النصوص السلطانية. بل يحدث أحيانا أن يتطاول الأديب السلطاني -وهو فقيه في الغالب الأعم- على موضوعات "السياسات الشرعية" ويفصل في جزئياتها، وينصب نفسه مدافعاً عنها(20).

لنترك "الخلافة" البعيدة المنال بُعْدَ السماء عن الأرض، ولنتحدث عن "الشرع" الذي طبع دنيا المسلم، والتصق بالرعايا في حياتهم المجتمعية، إن لم نقُل اليومية.

هل يصح القول بوجود تناقض بين السياستين: الشرعية والسلطانية؟ وهل وجود السلطان يعني انتفاء الشرع؟

لكي يتضح الجواب، يجدر بدءا أن ننظر في مواضيع السياستين التي لا تبدو متطابقة ومتماثلة تماما. فما يشغل بال مؤلفي "السياسة الشرعية" ليس هو ما يشغل بال مؤلفي "السياسة السلطانية". نعم قد نجد تقاطعات عدة بين ما دوّنه هذان النوعان من المؤلفين(21)؛ ولكن الفرق يظل قائما؛ فأغلب اهتمامات الأولى تهم الجانب "المدني" من حياة المسلم من حقوق وحدود(22) وأغلب مواضيع الثانية تهم الجانب السياسي للدولة من "وظائف" و"جيش" وأشكال "التدبير السياسي" وحكم "الرعايا"... ناهيك عما أسميناه أعلاه ب"انحلال الشرعيات" في السياسات السلطانية.

يصعب الإقرار بوجود انفصام بين "الشرع" و"السلطنة"؛ إذ لا يستبعد الواحد منهما الآخر ولا ينفر منه. وإلاّ كيف يحدث لفقيه متشبع بالدين وعلومه أن يدون في الصباح ما أمرت به الشريعة، أو ما تصوره كذلك، ليتحول في المساء إلى أديب يسامر السلطان محدثا إياه عن مقتضيات التدبير السياسي السلطاني؟ وكيف نفسّر أيضا أن جلّ من كتبوا عن السلطان وله هم فقهاء؟ هل كانوا يعيشون انفصاما في شخصيتهم، أم كانوا يهضمون ازدواجيتهم متساكنين مع طرفيها بشكل لا يستشعرون معه أي نشاز وبالأحرى تناقض؟ وألا يقوم الكثير من المعاصرين، وفي هذه النقطة بالذات، بعمليات إسقاط همومهم الحالية على فقهاء، تؤكد معطيات عدة أنهم لم يكونوا مرضى بهذه "السكيزوفرينيا" التي يريدون إلصاقها بهم.

وكما يجمع الكاتب نفسه بين التصورين: الشرعي والسلطاني فلا شيء كان يمنع السلطان من الجمع بين الأمر الشرعي والتدبير السلطاني. لا أحد يمكنه اليوم ادّعاء انمحاء الشرع في مختلف التواريخ الإسلامية: السلطان والشرع يتكاملان ويتساكنان، كل واحد يجد في الآخر ضالته، فكما أن إقامة الشرع يتطلب وجود السلطان؛ فإن وجود هذا الأخير واستمراره يستلزم حضور الشرع؛ بل إن تطبيقات الشرع هي أكثر من أن تُختزل في بعدها الإيديولوجي؛ إذ تحقق للسلطان انتظام الرعايا في حياتهم "المدنية" ومعاملاتهم وفض منازعاتهم واستقرارهم الاجتماعي... وكلها شروط أولية لوجود أي سلطة سياسية، "إن السلطان يخدم الشريعة ظاهرا؛ لأنها تخدمه باطنا"(23) أو كما عبّر عن ذلك أحد الشعراء:

الملك بالدين يبقى ... والدين بالملك يقوى

لقد أصبح جلباب الشرع واسعا جدا، ولكل سلطان مقاسه. أكثر من هذا، لم يفقد الشرع بُعده "الديني" ليشتد بُعده "الدنيوي"، ويصبح مجرد آلة ينتظم بها سير المجتمع، بل غدا مرادفا للسياسة حين يؤكد الفقيه السلطاني أن كل ما هو صالح سياسيا ونافع دنيويا يكون "شرعيا"... هكذا يصبح لكل سلوك سياسي سند شرعي... وإن تعذّر هذا السند فيجب خلقه وهذه مهمة الفقهاء.

ومع ذلك فإن تساكن السلطان والشرع لا يعني أبدا أي خلط بين مجالات السياسة الدنيوية ومجالات الدين التشريعية.

3- التمييز بين الدين والسياسة

في كتابه "أدب الدنيا والدين" يميز المارودي بين "أدب شريعة" و"أدب سياسة"، ويعني بالأول كل "ما أدى إلى قضاء الفرض"، وبالثاني كل "ما عمر الأرض"(24)، وفي مقدمته ل "سراج الملوك"، وبعد تأمله فيما تم وضعه من "سياسات في تدبير الدول وما التزموه من القوانين في حفظ النِّحَل"، يميز أبو بكر الطرطوشي بين "الأحكام" و"السياسات". ويعني بالأحكام كل ما تعلق ب "الحلال والحرام والبيوع والأنكحة والطلاق والإجارات ونحوها والرسوم الموضوعة لها والحدود القائمة على من خالف شيئا منها"، ويقصد ب "السياسات" كل ما يتعلق ب "التزام الأحكام... وتدبير الحروب، وأمن السبل، وحفظ الأموال، وصون الأعراض والحرم"(25). وفي مقدمة كتابه "الجوهر النفيس في سياسة الرئيس"، يرى ابن الحداد أن السياسة نوعان: "سياسة دين" و"سياسة دنيا"، تتعلق السياسة الأولى بكل "ما أدى إلى قضاء الفرض" أما سياسة الدنيا فتتعلق بكل "ما أدى إلى عمارة الأرض"(26).

أدب الشريعة شيء وأدب السياسة شيء آخر، والأحكام شيء والسياسات شيء آخر، كما أن سياسة الدين هي غير سياسة الدنيا. أكثر من ذلك، لا يتعلق الأمر هنا بنصوص واضحة تفصل بين المجالين السياسي والديني، بل نجد نوعا من الأولوية يوليها هؤلاء المؤلفون "الفقهاء" إلى المجال السياسي على أساس أنه يتعلق بالشأن العام أو بالمصلحة العامة، كما نقول اليوم. فمن خرج عن قواعد "أدب الشريعة" يلوم نفسه، ولا يتعدى الضرر الحاصل عن هذا الخروج صاحب الفعل نفسه كترك الصلاة مثلا، في حين أن خرق قواعد "أدب السياسة" تؤدي إلى تخريب عمارة الأرض وظلم الناس وحصول الضرر للعموم، وهذا أمر لا يجوز.

وإذا كانت "الأحكام" التي اتبعتها الأمم السابقة "أمرا اصطلحوا عليه بعقولهم ليس على شيء منه برهان ولا أنزل الله به من سلطان"؛ فإنّ ما اتبعوه من سياسات "لا ينافي العقول شيء منه"(27). فماذا يمنع الأمة الإسلامية من الاستفادة من التراث السياسي لهذه الأمم "الجاهلية" في أحكامها؟

لا يتعلق الأمر فقط بهؤلاء المؤلفين رغم أهميتهم داخل الفكر الإسلامي، بل يمكن القول: إن فكرة التمييز بين الدين والسياسة نجدها حاضرة في مجمل هذه الكتابات، وإن كانت تتجلى في لباس آخر.

ففي حديث العديد من المؤلفين عن "أنواع السياسات" أو أقسامها، نلاحظ تواتر المعيار نفسه الذي تنبني عليه تقسيماتهم. قد تختلف العبارات في لفظها لكنها تتوحد في معناها وبالأساس في مدلولها الفاصل بين ما هو ديني وما هو سياسي.

يميز فقيه "المرابطين" بين "سلطان عدل وأمانة" و"سلطان جور وسياسية(28)، وقبله ميّز ابن المقفع بين "ملك دين" و"ملك حزم"(29)، كما يميز الفقيه الطرطوشي بين "العدل النبوي" و"العدل الاصطلاحي"(30) ويطرح ملك تلمسان أبو حمو الزياني تمييزا بين "الملك العادل في كل شيء، والملك الجاري على العوائد المألوفة والأحوال المعروفة، من غير خرق عادة، ولا إحداث زيادة(31)، وفي حديثه عن "رعاية السياسة"، يرى الفقيه والقاضي ابن الأزرق أن النظر فيها يقتضي منهجين: "أحدهما بحسب المعتمد منها عقلا، والآخر من جهة المعتبر منها شرعا"(32)... إلخ.

إن أساس التمييز هنا واضح؛ فالأقسام الأولى تجمع بين "الدين" و"الدنيا"؛ ذلك أن "سلطان العدل والأمانة" يضمن "الأجر والبقاء"، كما أن "العدل النبوي" يقوم على تحقيق "الشرع" و"مشورة" العلماء، ويكون حكم "الملك العادل" -حسب أبي حمو الزياني- "موافقا للأحكام الشرعية"... إلخ، وليس صدفة أن يرى كل هؤلاء المؤلفين في سيرة "العُمرين"- ابن الخطاب وابن عبد العزيز- نموذجا لهذا الحكم الديني - الدنيوي.

في السياق نفسه، يمكن أن نطابق بين باقي الأقسام على أساس توجهها الدنيوي أو الاصطلاحي؛ فالسلطان يقوم ويستقر ب "الحزم"، كما يرى المرادي(33) وقبله ابن المقفع(34)، كما أن السياسة "الاصطلاحية" وإن كان أصلها على "الجور"(35)(يستعمل الطرطوشي هنا الجور في معنى منافاة الشرع)، وكانت تقوم على "قوانين مألوفة" كما يقول المرادي، و"العوائد المألوفة والأحوال المعروفة"(36)، كما يقول أبو حموالزياني، فإنها تستطيع أن تضبط "أمور الدنيا" و"قيام السلطة"، أما النموذج الأساسي الذي كان يستحضره هؤلاء المؤلفون فلم يكن شيئا آخر غير السياسة الفارسية /الساسانية التي انهدّت تحت ضربات المحاربين المسلمين.

إذا كان التمييز واضحا، فإن طرح العلاقة بين طرفي هذا التقسيم من جهة، وموقف الأديب السلطاني- الذي غالبا ما يحدث أن يعطي أحكاماً قيمة بل و"تفاضلات" بشأن هذا التقسيم من جهة أخرى- يستحق إبداء بعض الملاحظات التي توضح بعض الخيوط المتقاطعة بين "مثال" يستعصي تطبيقه و"واقع" يفرض نفسه.

أ- لم يكن بإمكان الأديب السلطاني ولا أي مفكر مسلم التصريح بتفضيل "الاصطلاح" على "الشرع" ولا أولوية الدنيا على "الدين". هذا أمر غير وارد؛ لأنه يكسّر من الأساس القاعدة الثقافية التي انبنت عليها الحضارة والدولة العربيتين الإسلاميتين.

ب- إن أفضلية الحكم المبني على الشرع بالنسبة للحكم الدنيوي الاصطلاحي هي عند الأديب السلطاني- كما عند "الفقهاء وغيرهم- أفضلية "أخلاقية" و"قيمية"، وإن أصبحت "سياسية" فبالتبعية لا غير.

ج- يعترف الفكر الواقعي السلطاني بمثالية الحكم الديني وبطوبي الخلافة، ويتشبث بالواقع السياسي السلطاني الذي ينبني على القوة، والشوكة، والعصبية.

د- أكثر من هذا، قد يصل الأديب السلطاني في عقده لمقارنات بين الحكمين -الديني والدنيوي- إلى حد التفضيل الصريح للحكم الدنيوي المحافظ على الصالح العام والمراعي لقواعد السياسة على الحكم الديني المضيّع للصالح العام والمهمل لقواعد السياسة. هكذا يتفق الطرطوشي وابن رضوان وابن الأزرق والغزالي...إلخ، على أن "السلطان الكافر الحافظ لشروط السياسة الاصطلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه، المضيّع للسياسة الشرعية(37). كما يتفقون مرة أخرى على أن الملك العادل يدوم ويستمر حتى ولو كان قائما على "الكفر(38)، كما أنه ينهار ويسقط إن قام على "الظلم". وفي السياق نفسه يدرج السلطان أبو حمو في تقسيماته مثالا لأحد الملوك الذي ضاعت الرعية لعبادته، وتضرر كل من دخل تحت إيالته نتيجة تشاغله بالعبادة، ويقابله بنوع من الملوك الذين رغم تفريطهم في الأمور الشرعية، وإقبالهم على الدنيا، استقام ملكهم ودام نتيجة ل "عدلهم"(39).

4- تصالح الجهازين الديني والدنيوي:

وحتى تكتمل هذه "الصورة"، نعمل على صياغة بعض العناصر الجوابية عن سؤال من بين مجموعة من الأسئلة يمكن طرحها(40)، ويتعلق الأمر بمجموع "الخطط الدينية" وما تطرحه علينا من استفهامات تخص العلاقة بين الدين، أو بالأحرى "الفضاء الديني"، وجهاز الدولة. 

في عرضها للوظائف التي تكوّن جهاز الدولة، تميّز هذه الكتابات السياسية بين "وظائف سلطانية دنيوية" و"وظائف خلافية دينية"، سواء تعلق الأمر بما هو "مركزي"؛ كتمييزها بين الوزارة والكتابة وخطتي القضاء والفتيا، أو تعلق الأمر بما هو "محلي" كتمييزها بين العامل وصاحب الشرطة أو حاكم المدينة مثلا؛ ووظيفتي المحتسب (أو صاحب السوق) وقاضي البلدة... ويبدو هذا التمييز أكثر وضوحا من ناحية الشكل على الأقل عند بعض المؤلفين أمثال ابن الأزرق أو ابن رضوان اللذين خصا موضوع "تولية الخطط الدينية" بفصل مستقل يوازي تخصيصهم لموضوع "ترتيب المراتب السلطانية" بحديث مستقل(41)، هكذا يجمل ابن الأزرق الحديث عن هذه الخطط بذكره لسبعة منها تشمل: "إمامة الصلاة، والفتيا، والتدريس، والقضاء، والعدالة، والحسبة، والسكة". وهي مجمل ما تبقى من خطط؛ إذ منها "ما ذهب بذهاب ما ينظر فيه كالجهاد في الأقطار التي عدوها غير كافرة، وما صار سلطانيا كالإمارة والوزارة والحرب والخراج والشرطة"(42).

ومن خلال النصوص التي بين أيدينا يمكن أن نستنتج -بشكل عام- أن هذه الكتابات قلّما كانت تعير كثير اهتمام في حديثها عن جهاز الدولة للجانب الديني مقارنة مع مثيله الدنيوي. فإما أنها تهمله كلية، وإما أنها توجز في تناوله وبالأحرى تحليله، وإما أنها تبعثر حديثها عن هذه "الخطط" مكتفية بذكر بعضها(43). وحتى ابن الأزرق الذي خصّ موضوع "تولية الخطط الدينية" بصفحات لا بأس بها، نجده يستدرك من حين لآخر، مشيرا لمن يريد أن يتعمق في الموضوع أن يعود لما هو مقرر في الفقهيات"(44)، ولربما يجد هذا الإهمال بعضا من مبرراته في كون ما يهم السياسات السلطانية هو "الوظائف" التي لها مساس مباشر بقوة الدولة واستمرارها، من "وزارة" تضبط أمور الرعية، و"كتابة" تحفظ جبايات الدولة، و"شرطة" تسهر على أمن المدينة، و"بريد" يخبر السلطان بما جد في الأقاصي والنواحي، و"عامل" يوفّر المال... إلخ.

وعلى الرغم من هذا النوع من الإهمال، يبقى تعامل الأديب السلطاني مع "الخطط الدينية" -إن هو تحدث عنها- مماثلا لما يتعامل به مع "الوظائف الدنيوية". فهو يطرح "الخطة" في علاقتها بالسلطان، تقليدا أو عزلا، ثم يسهب في ذكر الشروط والصفات الخلقية اللازمة فيمن يتولاها، وهي شروط وصفات لا تكاد تختلف في مجملها عما سبق ذكره إلا بإضافة شرط "العلم"(بمفهومه الديني طبعا). ويؤكد ضرورة تسديد أرزاق وجرايات أصحابها كما يخضعهم إلى نفس المراقبة السلطانية نفسها المفروضة على نظرائهم الدنيويين، المتمثلة في تفقد أحوال القضاة، واختبارهم بنصب الأفخاح؛ للتأكد من سلامة طويتهم واستقامة سلوكهم، و"عزل من في بقائه مفسدة(45)، أو "الاستخبار" عن أحوال "المدرسين" وما يدرسونه، سواء أكانوا في "المساجد الكبرى" التابعة مباشرة للسلطان أم لمن ينوب عنه، أو في مساجد "العامة" التي تختصّ بقوم أو محلة، وذلك حفظا للدين وحفاظا على "الجماعة"(46).

غير أنه تجب الإشارة -ونحن نقارن بين "الديني" و"الدنيوي" في هذه الوظائف- إلى اختلاف بينهما يبدو إجرائيا وبسيطا في ظاهره؛ لكنه عميق في دلالته. فمقابل التشدد الذي تبديه كُتب النصائح هذه في تولية أصحاب الوظائف الدنيوية، نلاحظ نوعا من التساهل مع أصحاب "الخطط الدينية" وتحديدا "المحلية" منها، حيث يُترك أمر تعيينهم إلى أهل المنطقة أو المحلة أنفسهم. بل إن الكاتبيْن -ابن رضوان وابن الأزرق- يذهبان إلى حد مطالبة السلطان "إلزام كل محلة أن تولي لنفسها إماما، وإن لم تستطع؛ فمن واجب السلطان إرسال إمام لهم"، وفي الحالتين معا يكون أمر إعالة "إمام المسجد" و"مؤذنه" من واجب هؤلاء القوم أنفسهن (47).

لا تختلف الوظيفتان -الدينية والدنيوية- في علاقتهما بالسلطان -وكما يتصورهما أديبه- إلا من حيث "الاختصاص"، وهو ما يدفعنا إلى الختم بالملاحظات التالية:

أ - لو سايرنا الأديب السياسي في اعتباره لوظائف "الدنيا" عماد الدولة، وتبعناه في تفضيله "الضمني" للوزير على المفتي أو العامل على إمام المسجد، كيف نبرّر قول المؤلف نفسه: إن "إمامة الصلاة" هي أرفع الخطط، وكيف تكون "الفتيا" مرتبة شريفة تحول السلطان إلى "طالب" والمفتي إلى "مطلوب"، ولماذا يجب على السلطان مراقبة "المدرّسين" وهم يحظون ب "شرف العلم". وبإيجاز لماذا يضع لكل "خطة دينية" شروطا للتعيين، وأسبابا للإقالة -وطرقا للمراقبة- ووسائل لتسديد المرتبات؟ 

يصيغ الأديب السياسي في واقع الأمر تصوراً وظيفياً لهذه الخطط يطبعها، رغم اختلاف ظاهر الأشياء، بطابع دنيوي يحكمه غايات عملية ونفعية. وهي من هذا الباب لا تختلف في شيء عن الوظائف السياسية؛ إذ كلاهما يسهم في تنظيم وتوجيه عمل الدولة وعلاقات المجتمع. فإذا كانت الخطط السياسية تعمل لقوة السلطان، ولا ترى في مجْمع الرعايا سوى موضوعا لسلطتها؛ فإن الخطط الدينية تعمل بالأساس على تنظيم شؤون الرعايا اليومية و"المدنية" - إن جاز التعبير - ولا ترى في السلطان سوى "شرطي" يضمن السير العادي لهذه الشؤون دون فتن ولا اضطرابات.

ب - هل هناك داخل الدولة السلطانية (الإسلامية)؛ وكما شاع الاعتقاد- خلط بين الدين والسياسة؟ هل يمكن أن يحدث تنازع في الاختصاص بين أصحاب السلطة السياسية ومنفذي الأوامر الشرعية؟ مَنْ يهيمن على من؟ هل يتعلق الأمر بفصل السلطتين السياسية والدينية؟ وهل يطمح السلطان -بوصفه الحافظ لشرائع- الدين إلى إضفاء طابع ديني على الوظائف السياسية -أم أنه على العكس من ذلك- يعمل على إضفاء طابع دنيوي على "الخطط الدينية"؟

لا ندعي الجواب على أسئلة من هذا الحجم، ولكن يبدو- وعلى خلاف ما يعتقده البعض- انمحاء كل تعارض بين الدين وأوامره والسياسة ومقتضياتها في هذا المجال؛ ذلك أن عمل "الموظفين" الدينيين -مَرْكزيين كانوا أم محليين- على تطبيق مقتضيات الشرع لا يلغي الحياة السياسية السلطانية، كما أن عمل "الوظائف السياسية" لم يحل دون تطبيقات الشرع ومبادئه(48)، فكيف للسلطان وأعوانه أن ينزعجوا من "إمام" يتقدم الناس للصلاة أو "مؤذن" ينادي من أعلى صومعته؟ ولماذا سينزعجون من "محتسب" يراقب الأسواق أو "قاض" يفصل في منازعات الرعايا؟... على العكس من ذلك تماما، يبدو السلطان في حاجة لهذه "الخطط" التي تغطي عن سلطته "العصيبة" ببعدها الرمزي والديني، وتقيه شرور "النظام المجتمعي". في هذا السياق يتجاوز الدين -بما يتضمنه من أوامر وشرائع- كونه أداة "أدلجة" أو وسيلة هيمنة، ليصبح بالأساس وراء انتظام الرعايا في حياتهم اليومية والمدنية. يحتاج السلطان إلى هذا "الانتظام" الذي تحققه شرائع الدين ومن يعمل على تطبيقها، وتحتاج هذه الشرائع نفسها إلى سلطان يحميها من كل بدعة تخل بركائزها، ويحقق لها حدا أدنى من الأمن والطمأنينة لتفعيلها(49).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) حول التعريف بالآداب السلطانية، انظر: عزالدين العلام "الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي" نشر عالم المعرفة، فبراير، 2006. الكويت. ولمزيد من التفاصيل انظر مقدمات تحقيق: رضوان السيد لعدد من هذه الأدبيات نذكر منها "الإشارة في أدب الإمارة" للمرادي، و"تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك" و"قوانين الوزارة وسياسة الملك" للماوردي. وانظر أيضا بهذا الشأن كمال عبد اللطيف "في تشريع أصول الاستبداد، قراءة في نظام الآداب السلطانية" دار الطليعة 1999.

2) يعبر ابن رضوان (718-782) عن ذلك بوضوح في كتابه "الشّهب اللامعة في السياسة النافعة" عندما يحدد في مقدمة كتابه مادة تأليفه في "سياسة الملوك الأقدمين، وسير الخلفاء الماضين وكلمات الحكماء الأولين"، ومن الواضح أنه يقصد بسياسة الملوك التجربة الفارسية وبسير الخلفاء التجربة الإسلامية، وبكلمات الحكماء التراث الهلنستي.

3) الماوردي "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك"، ص97، تحقيق ودراسة رضوان السيد. دار العلوم العربية، بيروت، 1987.

4) انظر مقدمة تحقيقه لكتاب المرادي. ص23 وما يليها، دار الطليعة، 1981.

5) د. محمد عابر الجابري: "العقل الأخلاقي العربي" دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية"، المركز الثقافي العربي، 2001.

6) انظر: إحسان عباس، "ملامح يونانية في الأدب العربي"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1977.

7) عبد المجيد الصغير الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، دار المنتخب العربي 1994 ص92. م-س.

8) رضوان السيد، قضايا المركزية والوحدة وعلاقة المركز بالأطراف، مجلة الفكر العربي، عدد 11/12 سبتمبر، 1979.

9) تقول إحدى نصائح "الموبذان" -وهو الرئيس الديني عند الفرس، -للملك بهرام ابن بهرام: "أيها الملك، إن الملك لن يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك...."، ويعلق عبد الله العروي على هذه القولة بما نصه: "من الواضح أن العبارة ترجمة إسلامية لواقع تاريخي، وأن المعرب وضح كلمة شريعة محل كلمة فارسية؛ لأن الشريعة الإسلامية في زمنه أصبحت مجرد قانون داخلي تنتظم به أمور الإمبراطورية العباسية المختلطة الأجناس" مفهوم الدولة، ص107، المركز الثقافي العربي، 1981.

10) كمال عبد اللطيف، م، س، ص64.

11) الطرطوشي: سراج الملوك، ص51، تحقيق د جعفر البياتي. رياض الريس لندن 1990.

12) الماوردي، نصيحة الملوك، ص85 وما يليها، تحقيق ودراسة فؤاد عبد المنعم أحمد، مؤسسة شباب الجامعة 1988.

13) سواء تعلق الأمر مثلا بمفهوم "العدل" أو "الحلم" أو أي صفة خلفية أخرى يلجأ الأديب السلطاني إلى أقوال مأثورة يتبعها بآية قرآنية وقول لحكيم ليعود إلى حديث نبوي.

14) انظر: مقدمة تحقيق سامي النشار لكتاب المرادي، ص34.

15) انظر: مقدمة تحقيق رضوان السيد لكتاب المرادي، ص22

16) الغزالي، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، ص23، دراسة وتحقيق: محمد أحمد دمج، بيروت، 1987

17) ابن أبي الربيع، "سلوك المالك في تدبير الممالك، ص27، دراسة وتحقيق: ناجي التكريتي، عويدات، بيروت، 1978.

18) القلعي، تهذيب السياسة وترتيب الرياسة، ص، 66تحقيق ابراهيم يوسف مصطفى، المنار، الأردن 1981 .

19) انظر مقدمة تحقيق رضوان السيد لكتاب الماوردي "قوانين الوزارة وسياسة الملك"، ص96.

20) انظر الباب 19 و20 من كتاب ابن رضوان، "الشهب اللامعة...." على سبيل المثال.

21) لا ننسى أن أغلب الأدباء السلطانين فقهاء، وأن منهم من نبغ في هذين النوعين من التأليف وهذا يستدعي، كما يقول عبد الله العروي التمييز بين واجهتي الشخصية.

22) يكفي تصفح فهرس، كتاب ابن تيمية في "السياسة الشرعية" أو كتاب تلميذه ابن القيم الجوزية في "الطرق الحكمية" لنستنتج ما كان يشغل بال مؤلفي السياسات الشرعية فإذا كان الفكر السياسي يهتم مبدئيا بموضوع الدولة وتوابعها، فإن "السياسة الشرعية" تهتم بالأساس بموضوع الحدود والحقوق المفروضة على المسلم لتنظيم البيوعات والإجارات والأنكحة والطلاق أو عقوبات السارق والزاني وشارب الخمر... إلخ، وقد يحتج البعض بكون الأدبيات الشرعية خصصت فصولاٍ بل وأنها غالبا ما تبدأ بموضوع "الولايات" وهو موضوع "سياسي" ولكن، لنأخذ كتاب "ابن تيمية" في السياسة السرعية-وهو الأكثر تداولاً- ولنقارن بين اللغة العامة والأخلاقية التي تطبع حديثه الموجز عن "الولايات" واللغة المدققة والمفصلة التي تطبع باقي الفصول؛ لنتأكد مما يشغل فعلا ًبال مؤلفي السياسات الشرعية.

23) عبد الله العروي، مفهوم الدولة، ص107.

24) المارودي، أدب الدنيا والدين، ص114، دار إحياء التراث العربي 1979

25) الطرطوشي، م س، ص50-51.

26) ابن الحداد، م، س، ص61-62.

27) نفس المراجع المذكورة في الهوامش رقم 24، و25، و26.

28) المرادي، ص107.

29) ابن المقفع الأعمال الكاملة، ص111، دار الكتب العلمية، بيروت.

30) الطرطوشي، سراج الملوك، الباب 11.

31) أبو حمو الزياني، واسطة السلوك في سياسة الملوك، ورقة 110 (مخطوط) الخزانة الوطنية رقم د 1298، الرباط المغرب.

32) ابن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، 1/46، تحقيق سامي النشار، منشورات وزارة الإعلام، بغداد 1977. 

33) المرادي، م-ى، ص108.

34) ابن المقفع، م، س، ص111.

35) الطرطوشي، م، س.

36) أبو حمو الزياني، م، س.

37) انظر: سراج الملوك، ص91. بدائع السلك، 1/292. تسهيل النظر، ص183-184 . واسطة السلوك، ورقة 111... إخ.

38) المارودي، و. س، ص120.

39) أبو حمو الزياني، م، س، ورقة 114.

40) طبعا يمكن طرح مجموعة من التساؤلات حول هذه " البيروقراطية السلطانية" تخص مثلا أصولها الاجتماعية وعلاقة ذلك بالتوازنات القبلية التي يقوم عليها النظام السلطاني، أو يخص تكوين هذه الفئة السلطانية وجذورها التي تعود إلى ظهور فئة الكتاب الإداريين المنحدرين أغلبهم من الفرس في بدايات الدولة الإسلامية أو دور" الأندلسيين" في تطعيم هذه الفئة بالنسبة للغرب الإسلامي فيما بعد.

41) ابن الأزرق، ص236-268، الجزء الأول، ابن رضوان، م س، ص322-346.

42) ابن الأزرق، م، س، ص268.

43) نلاحظ مثلا كيف أهمل القلعي موضوع "الخطط الدينية"، في حين اكتفى المرادي والطرطوشي بالحديث عن خطة القضاء، ولم يتحدث كل من أبي حمو الزياني ونظام الملك سوى عن خطط "القضاء" و"المظالم" و"صاحب الصلاة"، أما ابن أبي الربيع والماوردي والثعالبي، فيكتفون بإدراج خطة "القضاء" ضمن الوظائف الأخرى اللازمة لقيام الدولة السلطانية.

44) ابن الأزرق، م، س، ص238. والملاحظ أن مثل هذه الاستدراكات تذكرنا بابن خلدون وطريقة معالجته لموضوع "الخطط الدينية الخلافية" حيث ينبه -غير مرة- إلى الاستئناس بما هو مقرر في الفقهيات وخاصة كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" للماوردي: "المقدمة" ص173، دار الفكر، (ب, ت). 

45) المرادي، ص99 وأيضا:

Nizam AL-MULK. P 85. Traité du gouvernement, Trad Charles Scheffer Sindbad Paris 1984 

46) ابن الأزرق، م، س، ص247.

47) ابن الأزرق، م، س، ص238، ابن رضوان، م، س، ص322.

48) الغالب هو تساكن السلطان والشرع، ولكن هذا لا يمنع من حصول الاستثناء وحدوث بعض التناقضات التي قد تذكيها ظروف خاصة.

49) احتياج السلطان للشرع، والشرع للسلطان متبادل، ولعل أبلغ تصوير لهذه الحاجة المتبادلة تتمثل في اعتبار الآداب السلطانية للملك والدين "أخوين توأمين".

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/241

الأكثر مشاركة في الفيس بوك