المسألة السياسية في الإسلام في القديم والحديث

فضل الله محمد إسماعيل

موضوعٌ طال فيه الأخذ والعطاء، خلال حقب تاريخية مضت، يطفو على السطح حيناً، ويختفي أحياناً، تبعاً للمعتنقين والمعارضين، خلاصته: كيف يمكن فهم العلاقة بين الإسلام والسياسة؟ أو كيف يمكن الخروج من مسألة تسييس الدين في مجالنا الثقافي؟ 



ومن المعروف أن الجانب السياسي في الإسلام يرتبط بالدرجة الأولى بالأخلاق؛ لأنه لم ترد آيةٌ واحدةٌ في القرآن الكريم تتحدث عن شكل محدد للدولة ينبغي على المسلمين الأخْذُ به. 



وهذا الموقف من القرآن الكريم هو الذي تقتضيه طبائع الأشياء، فالمولى عز وجل هو الذي يعلم بحكمته ما يجوز القول فيه بتفصيل، وما يجوز القول فيه بإيجاز، وهو الذي يعلم ما يجب أن يترك للأمة الإسلامية لتتناوله بالقدر الذي تسمح به أحوالها وظروفها. 



وكم كانت السماء رفيقة بالإنسان حين حددت له مبادئ عامة -لاسيما في السياسة- دون تفاصيل دقيقة، فأصول الحكم وقواعده محددة في الدستور الإسلامي، لا يحق لأحد أن ينال منها بالتعديل أو التبديل؛ ولكن إذا كان المبدأ قد قرر، فإن الشكل وطريقة وضعه موضع التنفيذ التزم الإسلام بشأنها المرونة الكاملة، بشكل يسمح بصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان.



فإذا كان الإسلام قد أقر الشورى كمبدأ سياسي عام يأخذ به المجتمع، فقد ترك طريقتها لاجتهاد كل عصر، وذلك يعكس الرغبة الكامنة في الأخذ بالروح قبل النص، ومراعاة الواقع قبل المناداة بما ينبغي أن يكون. 



من هنا يمكن القول: إن الدعوة إلى إقامة نظم الحكم في الدول الإسلامية على أساس من الإسلام يجب أن تقوم على استصحاب هذه المعاني، كما يجب أن تكون قاصرة على القواعد الكلية دون أن يخوض أصحابها في التفاصيل التي تجلب الخلاف الذي يشتت شمل الأمة، فلئن آثر الإسلام ترك صورة الحكم سهلة لا تعقيد فيها، فإنما أراد بذلك أن يتنافس المسلمون في بناء مجتمعهم تبعاً لما يصيبون من أسباب الحضارة والعمران. 



من هذا المنطلق جاءت هذه الدراسة عرضاً لكيفية الخروج من القول بتسييس الإسلام. 



التشريعات العامة والتشريعات الوقتية:



إن الإسلام -الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية- وضع الله فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معاً، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ومكان(1). 



فهناك تشريعات خالدة لا تتبدل بتبدل الأوضاع، وتشريعات وقتية -سواء بآجال طويلة أم قصيرة - تنتهي بانتهاء وقتها، وتأتي الشريعة بما هو أوفق للأوضاع الناشئة أو الطارئة(2). 



ويحدد الدكتور يوسف القرضاوي مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام، فيقول: إن الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب. الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات. الثبات على القيم، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية(*). 



فأحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين أساسيين: قسم يمثل الثبات والخلود، وقسم يمثل المرونة والتطور، فالثبات والخلود يتمثل في أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وفي أُمّات الفضائل، وفي المحرمات، وفي شؤون الزواج والطلاق والميراث والحدود والقصاص. أما القسم الآخر الذي تتمثل فيه المرونة، فهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية، وخصوصاً في مجال السياسة الشرعية(3). 



ويؤكد الدكتور عبدالحميد متولي ذلك بقوله: "إنه يعد تشريعاً عاماً ثابتاً أو خالداً ما صدر عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- من أقوال وأفعال بصفته رسولاً وكان مقصوداً به التشريع، مثل تحليل شيء أو تحريمه، والأمر بفعل شيء أو النهي عنه، وكبيان العبادات. أما التشريعات الوقتية أو الزمنية فتشمل ما صدر عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- باعتبار ما له من الإمامة والرياسة العامة لجماعة المسلمين، مثل بعث الجيوش وتولية القضاة والولاة وعقد المعاهدات وتدبير الشؤون المالية للدولة، وما صدر عنه بصفته قاضياً"(4). 



وتعود أهمية التفرقة بين ما يعد تشريعاً عاماً وما يعد تشريعاً وقتياً كما يقول الدكتور متولي لسببين: 



الأول: أننا حينما نريد وضع تشريع معين في هذا العصر مستمد من أحكام الشريعة الإسلامية فإننا لا نلزم شرعاً بأن نأخذ من الأحكام إلا ما يعد منها تشريعاً عاماً، ومن البدهي أن الأحكام في الشؤون الدستورية - أي المتصلة بنظام الحكم - لا يعد تشريعاً عاماً في المسائل الجزئية أو المتعلقة بالأساليب، كطريقة الشورى والأحوال التي كان يرجع فيها الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى أصحابه. 



الثاني: أن النصوص التشريعية ليست عقبة في سبيل التطور التشريعي(5). 



ولقد ازدانت مباحث الكثير من علماء الأصول وأئمة الحديث في تراثنا بالآثار الفكرية التي عنيت بهذا المبحث المهم. 



فالإمام القرافي(*) يجعل هذه القضية محور كتابه المهم: (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام)، وفيه يقسم السنة النبوية الشريفة إلى أقسام أربعة(6): 



أولها: تصرفات الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالرسالة: أي بحكم كونه رسولاً يبلغ رسالة ربه ويبشر وينذر بوحي السماء. 



وثانيها: تصرفات الرسول بالفتيا: أي المتعلقة بالفتاوى التي تفسر بها غامض الوحي ويفصل بواسطتها مجمله. 



وثالثها: تصرفات الرسول بالحكم: أي القضاء، وهي التي تتعلق بقضائه بين الناس في المنازعات. 



ورابعها: تصرفاته بالإمامة؛ أي السياسة: وتشمل كل أقواله وأفعاله وقراراته الخاصة بالدولة في مختلف الميادين والمجالات. 



وبعد هذا التقسيم، يحدد الإمام القرافي أن القسمين: الأول والثاني من السنة - أي التصرفات بالرسالة والفتيا في الدين - هما تبليغ وشرع، يدخلان في باب الدين. 



أما القسم الثالث - أي تصرفاته -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالقضاء فليست ديناً؛ إذ هي مغايرة لتصرفاته -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالرسالة، وبالفتيا؛ ومن ثم يجب الوقوف بها عند محل ورودها؛ لأن أحكامه فيها مترتبة على ما ظهر له من البينات التي حكم وقضى بناءً عليها ووفقاً لها. 



وكذلك الحال - في القسم الرابع - في تصرفاته وسنته -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الإمامة، التي هي رئاسته للدولة وسياسته لشؤونها العامة والمتنوعة وفق المصلحة فيما هو مفوض إليه. 



وفي هذا القسم تدخل الآثار والسنن والمأثورات التي تتحدث عن: قسمة الغنائم، والتصرفات المالية المتعلقة بالأرض والزراعة والتجارة والحرف والصناعات، وتجييش الجيوش وتجهيزها وقتالها، وكذلك عقد المعاهدات، والأمور الإدارية المتعلقة بتعيين القادة والأمراء والولاة والقضاة والعمال.. إلخ. 



ففي هذين القسمين -الثالث والرابع- من أقسام السنة النبوية يتحقق التأسي والاقتداء بالرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسنته بالتزامنا بالمبادئ والمعايير الكلية والمقاصد والغايات التي حكمت تصرفاته -صلَّى الله عليه وسلَّم-، في كل من القضاء والسياسة. 



فليس الحكم والقضاء، وليست السياسة، وشؤون المجتمع السياسية ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيه الالتزام بما في السنة النبوية من وقائع وأوامر وتطبيقات؛ لأنها أمور تتقرر بناءً على بينات قد يتبين لنا غيرها، وتعالج مصالح متطورة ومتغيرة، وذلك على عكس ما هو دين وبلاغ، من هذه السنة النبوية المطهرة. 



وبعد الإمام القرافي يأتي الفقيه المجدد، والأصولي المجتهد، والإمام المحدث، ولي الدين الدهلوي (**)، ليقرر الحقيقة نفسها والمبادئ عينها في كتابه: "حجة الله البالغة " الذي قسم فيه السنة النبوية إلى قسمين: 



أولهما: ما سبيله تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(7)، ويدخل في هذا القسم علوم الآخرة وشرائع ضبط العبادات، وبعض هذه العلوم وحي، وبعضها اجتهاد جاء بناءً على ما علّمه الله من مقاصد الشرع، فهو بمنزلة الوحي. 



وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " وقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في قصة تأبير النخل: «فإني إنما ظننت ظناً، ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لا أكذب على الله»(8). 



وفي هذا القسم تدخل علوم الدنيا: الطب، والزراعة، والصنائع والحرف، وكل ما كان سنده ومصدره التجربة، والأمور المتعلقة بالسياسة، من كل ما يأمر به الخليفة في الحرب والسلم... إلخ وكذلك أمور القضاء(9). 



فكل ما خرج عن القسم الخاص بتبليغ الرسالة الدينية -من السنة النبوية الشريفة- فليس من ثوابت الدين؛ وإنما هو من متغيرات الدنيا والسياسة، التي على العقل المسلم أن يتناول موضوعاتها ابتداءً بالنظر والاجتهاد، على أن يكون نظره فيها واجتهاده محكوماً بالإطار الديني والمتمثل في روح الشريعة ومقاصدها، وفي تحقيق المصلحة لمجموع الأمة ودفع الضرر والضرار عن جمهور المسلمين. 



والمدقق في السنة يرى أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد نهى أصحابه عن انتحال الصفة الدينية الإلهية، وطلب من قادة الجيوش وأمراء السرايا أن تكون معاهداتهم مع من يحاربون ويصالحون معاهدات واتفاقات موضوعة في الإطار البشري والسياسي دون أن يزعم لها نسبة تخرجها من دائرة الرأي والاجتهاد، وتضفي عليها قداسة حكم الله. 



فلقد روى عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا»(10). 



فهو هنا يدعو إلى التمييز بين حكم الله وقضائه (المأخوذ من النصوص القطعية الدلالة والثبوت وحدها) وبين حكم الناس وسياستهم وحربهم وقضائهم، وينهى عن أن يضفي البشر على أحكامهم الاجتهادية صبغة إلهية تمنحها قداسة أحكام الله. 



ولو لم يكن في سنته -صلَّى الله عليه وسلَّم- غير هذا الحديث الشريف لكفى في رفض الإسلام للسلطة الدينية الكهنوتية، ولقام دليلاً على خطل الرأي الذي زعم أصحابه أن حكومة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وسياسته للدولة إنما كانت هي حكومة الله وحاكميته التي تجعل في الدولة والسياسة ديناً خالصاً، فتنزع من الأمة الحق في أن تكون مصدراً للسلطة والسلطان فيما لم يسبق فيه حكم الله(11).



الإسلام وعدم التسييس:



إن المتتبع لآيات القرآن الكريم يستطيع أن يلمس أنه سكت تماماً عن الدولة والطريقة المتبعة في إقامتها، ولم يتعرض لشيء من هذا من قريب أو بعيد، أضف إلى ذلك أن رياسة الدولة، ولمن تكون، والشروط التي يلزم توافرها فيمن يتولى الخلافة وأساليب ممارسة السلطة، كل هذه الأمور لم ينظمها القرآن الكريم(12).



هذا فضلاً عن أن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-لم يضع بشأنها أحكاماً عامة؛ وإنما كان يفصل أحياناً في مسائل عرضية ليست بطبيعتها مما يعد تشريعاً عاماً ملزماً للأجيال التالية، وما كان يصدر عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مثل هذه الأمور إنما كان يقوم على المصالح المرسلة؛ أي أن أساسه هو المصلحة القائمة في عصره(13). 



ويؤكد الفقه الإسلامي هذه النظرة، فالشريعة الإسلامية التزمت في أحكامها بمبدأ رعاية الناس في الدنيا وفي الآخرة، ومصالح الناس تتجدد وتتطور، فإذا لم يتجدد التشريع ولم يتطور تبعاً لها أصيبت الشريعة بالجمود، وأصيبت المصالح بالتعطل والركود، وذلك يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية (14). لذلك يرى بعض علماء الشريعة في هذا العصر أنه لا يعد مخالفة لنصوص الشرع إذا عملنا بروح الشريعة؛ أي طبقاً لحكمتها، ولم نقف عند حرفيتها إذا قضت المصلحة بذلك، طالما لم يكن في عملنا مخالفة لأصل من أصول الإسلام، فمبدأ " الضرورات تبيح المحظورات " قاعدة متفق عليها لدى جميع العلماء بلا استثناء، وفيها ما فيها من عدم الوقوف عند حرفية النص، بل الأخذ بروحه إلى حد إباحة أكل وشرب المحرم إذا اضطر إليه الإنسان(15). 



ويؤكد فقهاء الشريعة الإسلامية أن الأحكام في جملتها وتفصيلها جاءت لتحقيق مصالح الناس، وأن المصالح ترجع إلى المحافظة على أحد الأمور الخمسة: "النفس، والعقل، والعرض، والمال، والدين"(16). 



ويجدر هنا أن نشير إلى أصلين أساسيين في هذا الموضوع:



أولهما: أن القواعد الإسلامية التشريعية قد عنيت - في الغالب - بتقرير الأحكام الكلية التي تندرج تحت كل منها ما لا يحصى من الحالات الجزئية(17). 



وثانيهما: إنه يجوز لولاة الأمور من المسلمين أن يتخذوا من القوانين والقرارات، ويضعوا من النظم ما يحقق مصالح الناس والعدل بينهم، ويدخل ذلك تحت ما أسماه الفقهاء "السياسة الشرعية"(18).



وأساس إقرار هذه السلطة للحكام فيما يعبر عنه ابن القيم هو: "أن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل بأي طريق كان "فثم شرع الله ودينه"(19).



ومن هنا جاز لولاة الأمور أن يقتبسوا ما هو صالح ونافع من أي مكان، وأن يأخذوا بأفضل الوسائل والسبل التي تؤدي إلى تحقيق مصالح المسلمين، سواء في ذلك أكانت تلك الوسائل التي يأخذ بها حكام المسلمين من ابتكارهم لمواجهة ضرورات تطور المجتمع وحاجاته، أم كان قد سبق إليها غير المسلمين... من الأمم والشعوب الأخرى وتبين ملاءمتها كذلك لتحقيق مصالح المسلمين أو حل مشكلات حياتهم(****). 



إن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- يؤكد على أن كل ما يتصل بتبليغ الوحي، أو يتعلق بكليات الدين، وقيمه، وأسسه العقائدية والأخلاقية لا مجال فيه للتهاون أو التنازل (*****)، وفي مقابل ذلك ثمة مرونة واسعة في مواقف السياسة ومواجهة الأعداء، بما يتطلبه الموقف المعين، من حركة ووعي وتقدير لكل الجوانب والملابسات، دون تزمت أو تشنج أو جمود(20). 



والأمثلة على ذلك كثيرة نسوق منها: قبول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- شروط صلح الحديبية مع قريش رغم ما فيه من قسوة(21)، وأخذه برأي أصحابه في الخروج يوم بدر، وفي المنزل الذي ينزله عندها، وأخذه برأي سلمان الفارسي في حفر خندق حول المدينة، وباستخدام المنجنيق في غزوة الطائف، وفي مصالحة بعض القبائل في غزوة الأحزاب على ثلث ثمار المدينة(22). 



وإذا كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد أنكر على من اشترط شرطاً مخالفاً لحكم الشرع في عقد، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، فأيما شرط كان، ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط(23)، إلا أنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أقر كل شرط يتفق عليه المتعاقدان أو المتعاقدون مادام لم يخالف نصاً وقاعدة شرعية... وبعبارة أخرى ما لم يحل حراماً أو يحرم حلالاَّ، وفي هذا جاء الحديث: «المسلمون على شروطهم»(24). وفي هذا يدخل كل عقد يستحدثه المسلمون إذا لم تكن فيه مخالفة للشريعة.



وإذا كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-قد رفض القضاء إذا كان على جهل وإن أصاب صاحبه الحق اعتباطاً؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، وإنما هي رمية من غير رام؛ فإنه أقر -صلَّى الله عليه وسلَّم- اجتهاد معاذ بن جبل في القضاء حين بعثه إلى اليمن، وسأله: بم تقضي إذا عرض لك قضاء، فأجاب معاذ: "أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فإن لم أجد أجتهد رأيي " فكان تعقيب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- على ذلك: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي الله ورسوله"(25).



لقد بين رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هنا أن القرآن والسنة هما المصدران الأساسيان للتشريع، وهما القانون الأساس للمسلمين، ومرجع كل مجتهد إسلامي في أي زمن، يأخذ بأحكامها، ويجتهد في ضوئها، ويهتدي بروحهما، وذلك إذا كان النص قطعي الدلالة أما إذا لم يكن في الكتاب والسنة نص قطعي(******)، وعندما يختلف الشأن في تقدير الرواية بالنسبة للحديث، فإن الأمر يقتضي الاجتهاد من فقهاء المسلمين لتحديد المقصود(26). 



وفي قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» يقرر مبدأ "الاجتهاد" لاستنباط الحكم الشرعي لكل واقعة تحدث، إما من نص أو من قياس عليه. 



من هنا يمكن القول: إن الإسلام حين قرر خلود المبادئ وثباتها كان يهدف من ذلك ضمان صلاح أمور الحياة واستقامة حركة المجتمع، ولكن بما أن الحركة تتطلب التكيف والمواءمة فقد جاءت التفصيلات مرنة دون إحداث تغيير في الجوهر. 



فالأمة الإسلامية تحتاج إلى اجتهاد الفقهاء والحكام معاً وإلى حكمتهم ليضعوا الضوابط والقواعد الكلية المستمدة من روح الشريعة ومضمونها العام لتطبق على الوقائع التي لا يوجد نص صريح يحكمها، وهي وقائع كثيرة متجددة ومتغيرة بتغير ظروف الزمان والمكان (27). 



***************************



الهوامش:



*) أستاذ فلسفة السياسة وعميد كلية الآداب جامعة دمنهور.



1) يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، القاهرة: مكتبة وهبة، 2003، ص200. 



2) عبدالرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990، ص210.



(*) يؤكد الدكتور القرضاوي أن الشرائع السماوية قبل الإسلام كانت مرحلية، لزمن موقوت، ولقوم مخصوصين، فلم تكن في حاجة إلى المرونة، التي تؤهلها للعموم والخلود، بخلاف الإسلام، الذي بُعث رسوله إلى الناس كافة. يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، مرجع سابق، ص201. 



3) يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، مرجع سابق، ص205. 



4) عبدالحميد متولي، أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث (مظاهرها – أسبابها – علاجها)، ط3، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985، ص75. 



5) عبدالحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، الإسكندرية: منشأة المعارف، 1978، ص42. 



(**) أبو العباس أحمد بن إدريس 684هـ/1285م. 



6) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، تحقيق الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، طبعة حلب، 1967، ص86 وما بعدها. 



(***) أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي، 1110 – 1176هـ / 1699 – 1762م. 



7) سورة الحشر، الآية 7. 



8) رواه مسلم وابن حنبل. 



9) ولي الدين الدهلولي، حجة الله البالغة، القاهرة، 1353هـ، 1/128. ونقلاً عن: محمد عمارة، الدين والدولة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص63. 



10) رواه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حنبل، وذكره محمد عمارة في كتابه، الدين والدولة، مرجع سابق، ص57. 



11) محمد عمارة، الدين والدولة، مرجع سابق، ص581.



12) ثروت بدوي، أصول الفكر السياسي والنظريات والمذاهب السياسية الكبرى، القاهرة، دار النهضة العربية، 1970، ص115. 



13) المرجع نفسه، نفس الموضع. 



14) عبد الحميد متولي، الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للدستور، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1975، ص133. 



15) نفس المرجع، ص151. 



16) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج1-2، تحقيق: الشيخ عبدالله دراز، القاهرة، بدون، ص10، 38. 



17) محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة، من دون، 1964، ص510. 



18) محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، القاهرة، المكتب المصري الحديث، 1983، ص151. 



19) ابن القيم الجوزيه، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد جميل غازي، القاهرة، مطبعة الحلبي، 1977، ص14. 



(****) ينبغي أن ننبه إلى الفرق بين الأخذ بحل عملي لمشكلة معينة، وبين الأخذ بالأسس الفكرية أو العقائدية التي قد يكون الحل مبنياً عليها، فإذا كان الأول جائزاً، فإن الثاني غير جائز – وبعبارة أخرى فإننا لا نخالف الأحكام الشرعية الإسلامية مادام أخذنا من غير المسلمين مقتصراً على الحل دون العقيدة، ومادام الحل لا يعارض نصاً صريحاً في الشريعة الإسلامية. - محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، مرجع سابق، ص152. 



(*****) مع أن المفكر الإسلامي الكبير الشيخ عبد الوهاب خلاف يرى أن رسول الله  كان ينهى عن الشيء لمصلحة تقتضي تحريمه، ثم يبيحه بعد ذلك إذا تبدلت الحال، وصارت المصلحة في إباحته. - عبدالوهاب خلاف، السياسة الشرعية، القاهرة، دار الأنصار، 1977. 



20) يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، مرجع سابق، ص209.



21) صابر طعيمة، الإسلام والثورة الاجتماعية، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديث، 1970، ص303. 



22) عبدالحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، مرجع سابق، ص24. 



23) رواه البخاري في كتاب العتق. 



24) رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة. 



25) عمر شريف، نظام الحكم والإدارة في الدولة الإسلامية، القاهرة، دار الاتحاد العربي للطباعة، 1985، ص73. 



(******) مثل: تحديد عقوبة شارب الخمر مثلاً. 



26) عمر شريف، نظام الحكم والإدارة، المرجع السابق، ص76. 



27) محمد يوسف موسى، تاريخ الفقه الإسلامي، القاهرة، دار الفكر العربي، 1961، ص27.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/12/238

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك