الشريعة والسلطان الدولة الأوروبية الحديثة نموذجاً لمصر محمد علي

أسامة عرابي

تهدف هذه الدراسة تبيان أثر الحداثة الأوروبية على مفهوم الشريعة ودورها في مصر محمد علي، الذي يعدّ بحق مؤسس الدولة المصرية الحديثة وحاكم مصر في الفترة 1805-1848؛ أي نصف القرن السابق على ولادة الشيخ الإمام محمد عبده (1849-1905).

وقد تتاح لنا دراسة لاحقة في فكر الإمام وتقعيده علم الكلام وأصول الفقه بما يتلاءم مع الحداثة، لكننا آثرنا في هذه السطور أن نظهر الخلفية السياسية القانونية التي سبقت عمل الشيخ الإمام ووضعت لجهده النظري ونشاطه العملي في القضاء أطراً قانونية وجزائية محددة، أبرز ما فيها منشؤها الأوروبي، وارتباطها برغبة السلطان -أي محمد علي- في اللحاق بركب الدولة الأوروبية الحديثة. وقد تجلت هذه الصلة الوثيقة بين ما هو قانوني وما هو سياسي في المفهوم العثماني الأصلي لكلمة "قانون"، وهو اللفظ الذي أطلقته النخب العثمانية منذ القرن السادس عشر على تشريعات السلطان خارج إطار الشريعة في مجاليْ العقوبات والجنايات على وجه الخصوص. ولما كانت بنية الدولة المركزية الأوروبية الحديثة تشكل قطيعة معرفية وعملية مع البنى السياسية الإقطاعية في القرون الوسطى والتي كانت السلطنة العثمانية إحدى تجسيداتها؛ وجب معرفة معنى الحداثة في المجال القانوني ذاته، أي التغييرات التي أدخلتها السلطة الأوروبية الحديثة على معنى التشريع والقانون وعلاقتهما بالمواطن، منذ ذلك الحدث الجلل الذي قضى على الدولة الإقطاعية في فرنسا، وحمل رايات الحداثة إلى أوروبا قاطبة عـلى بحر من الدماء، عنينا الثورة الفرنسية العظمى والفتوحات النابوليونية (1789-1815).

 

المشهد الأوروبي: عقلنة العقوبة وترشيد الهيمنة

تختزل الحداثة الأوروبية في نمط المواطن النموذج -الخاضع لقوانين الدولة والقابل لسلطتها- علاقات قهرية/معرفية شائكة بين السلطة والمواطن قد لا تبدو على السطح. ولعل أبلغ تعبير عن تلك العلاقة الشعار الذي وضعته لجنة الحقوقيين المكلفة من قبل نابليون، حاكم فرنسا المطلق الذي وضع قوانين دولة فرنسا الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر: القانون المدني أو شرعة نابليون في الملكية والعقود والأحوال الشخصية: 1804م، قانون أصول المحاكمات المدنية: 1806م، القانون التجاري: 1807م، قانون أصول المحاكمات الجزائية: 1808م، القانون الجزائي: 1810م، هذا الشعار ينص على "لا يحق لأي مواطن التذرع بعدم معرفة القانون" وقد ارتأى قانونيو نابليون تثبيت هذا الشعار والمبدأ على رأس لوائحهم القانونية. وهذا مبدأ أساسي يحكم النظم القانونية الحديثة، وضعته فرنسا بعد الثورة وأخذت به الدول كافة. وهو يحمل مضمونين يتعلقان بالمعرفة وشوكة السلطة موجهين،إلى المواطن العادي من ناحية، وإلى أجهزة السلطة الأمنية والقضائية من ناحية أخرى. يحث المبدأ النابوليوني المواطن الحديث على الإلمام بالقوانين الحاكمة لعلاقاته مع المواطنين الآخرين ومع الدولة، محذراً إياه أنه في حال الإخلال بأي منها، لا يمكن له الاختباء خلف أي ادعاء بالجهل بها. من ناحية أخرى، يمكّن هذا المبدأ أجهزة الشرطة والقضاء من العمل بسلاسة لضبط وإحضار أي فرد مخالف القانون لكونه مسؤولاً عن تصرفاته حكماً بغض النظر عن معرفته الذاتية بحُكم وقانونية ما ارتكبه. بالطبع فإن الطابع الموضوعي لشوكة القانون ليس حكراً على الحداثة وهو سمة مشتركة للمنظومات العقابية منذ بزوغ الحضارة في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين, مروراً بأثينا الديمقراطية، والقانون الروماني والعثماني في القرون الوسطى. لكن المبدأ النابوليوني يكتسب أهمية خاصة كونه يطبّق في بيئة تستحضر مكتسبات الثورة الصناعية والعلمية الحديثة، حيث التقنيات الجزائية والقانونية من بحث وتقصٍّ وضبط وإحضار أكثر نجاعة وفاعلية -بما لا يقاس- من مثيلاتها في المجتمعات السابقة على الحداثة.

ما هي السمات المميزة للمنظومة العقابية الأوروبية بعيد الثورة الفرنسية والثورة العلمية في القرن الثامن عشر؟ وهل نشأت منظومات مماثلة في الشرق العربي والإسلامي خارج منظومته القانونية القائمة على تقسيم العمل بين القانون العثماني القديم والشرع الإسلامي؟ تلك هي التساؤلات التي سنحاول الإجابة عليها فيما يلي.

ربما كان المؤرخ الفرنسي الشهير ميشيل فوكو صاحب كتاب "التأديب والعقاب: نشأة السجن"(1)من أهم الباحثين في الطابع القسري المميّز لشوكة القانونفي الدولة الأوروبية الحديثة.1 إذ يرى سمتين أساسيتين لهذا التميّز: أولاً: امتداد الفعل القهري لسلطة المركز على كافة النواحي الجغرافية داخل أرض الدولة الوطنية وتسلطها على كل القاطنين فيها، بحيث لا يتخيل أحد أنه خارج عن هيمنتها. ثانياً: اعتماد تقنيات معرفية غير مسبوقة في القسر والتحكم والمراقبة، عبر الأساليب العقلانية النابعة من المعرفة العلمية الجديدة. يظهر إذن حلف تاريخي وثيق في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر بين المعرفة العلمية الجديدة والهيمنة المركزية في حيز القانون الجزائي (قانون العقوبات). إن ما يطلق فوكو عليه اسم "الشبكة المعرفية-القهرية" لا يقتصر فعلها على الحيز القانوني؛ بل هي بالجوهر ملازمة للنسيج المجتمعي الأوروبي الجديد إثر انحلال المجتمع الإقطاعي وهيمنة الأكليروس وطبقة النبلاء، ونشوء اقتصاد السوق الرأسمالي. فكان لا بد من تربية روحية جديدة للفرد متناغمة مع متطلبات المرحلة الصناعية-الرأسمالية الجديدة في سائر مجالات الفعل الاجتماعي: في الأسرة والمدرسة والمصنع والجيش والقضاء والشرطة السجن، إن "الأمير الجديد" أو الشبكة المعرفية-القهرية سعت إلى فرض بنية نفسية وروحية مختلفة عن النفسية الدينية المهيمنة في المجتمع الإقطاعي. فكانت روح الفرد الأوروبي حلبة الصراع بامتياز بين قوتين تاريخيتين، إحداهما آفلة والأخرى صاعدة؛ لكنها لم تكن معركة متكافئة، حيث سيطرت الطبقات الصاعدة من كبار الرأسماليين والصناعيين والتجار على كل مفاصل الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية والثقافية، واضعة المعارف والتقنيات العلمية الجديدة في خدمة مشروعها التاريخي. فكانت الروح الجديدة ؛ روح المواطن الصالح الخاضع لقوانين دولته، المطيع لأوامر ممثليها، كانت خارج الوجدان المسيحي للفرد، ذلك الوجدان القائم على التعبد والعقيدة، وسعيه الدؤوب للخلاص من الخطيئة والعقاب الإلهي،" تلك هي الحقيقة التاريخية لهذه الروح الجديدة، على عكس روح اللاهوت المسيحي المولودة بالخطيئة. الروح الجديدة تنبثق من أساليب العقاب والتأديب واللجم"؛ ذلك أن روح المواطن الصالح هي نتاج عمل قهري عميق للأمير الجديد، للسلطة السياسية المعرفية الجديدة التي تنتج " روحاً تسكن المواطن، لا بل تبعثه إلى الوجود، جاعلة من جسده أداة لتسلطها. هذه الروح نتاج وأداة لبنية سياسية... إنها تعبير عن الكيفية التي أصبح فيها الجسد خاضعاً لعلاقات التسلط الجديدة. الروح هي سجن الجسد"(2).

برى فوكو أن ولادة السجون والعقوبة بالحبس قد شكلت ثورة في علاقة جماهير العامة بالسلطة، حيث كان التعذيب الجسدي للجاني أمام جمهور المتفرجين الشكل الغالب للعقوبة في أوروبا. هذا التعذيب كان أسلوب التحقيق والاقتصاص في الوقت عينه، لدرجة أنه في حال عدم اعتراف المتهم تحت التعذيب يعدّ بريئاً ويطلق سراحة. ليس السجن الحديث في أوائل القرن التاسع عشر مجرد تسجيل للنزعة الإنسانية التنويرية إلى اعتبار السجين مواطناً ذا حقوق أساسية كانت تعصف بها أنظمة التعذيب القروسطية. السجن مظهر من مظاهر شبكة التسلط والتحكم العقلاني بأعداد غفيرة من الأجساد, عبر التأديب والمراقبة المستمرة. فمع الثورة الصناعية والمعارف الطبية الحديثة، شهدت المدن الأوروبية مئات ألاف النازحين من الريف -أفراداً وأسراً- للعمل في المصانع الناشئة.وكان همّ السلطة السياسية ضمان السلم المجتمعي بواسطة شبكة مراقبة وتأديب لهذه الأعداد الكبيرة من الأجساد في مجالات فعلها الاجتماعي اليومي، وذلك ضمن ممارسة تأديبية عقلانية تهدف إلى التحكم بحركة الأفراد، رغم تمايزها باختلاف مجالات فعلها: السجن نموذج للثكنة، وللمدرسة، وللمصنع، وللمؤسسة الحكومية، والمستشفى حيث التأديب والمراقبة، والتأديب عبر المراقبة الدائمة غالباً ما يحقق الأهداف المرجوة دون اللجوء إلى العنف الجسدي(3).

هذا وقد لحظت الفلسفة الغربية الحديثة بجناحيها المثالي والبراغماتي تلك العلاقة الحميمة بين الروح والقانون، التي وصفها فوكو بتقنية للتحكم بأجساد المواطنين من قبل السلطة أو السلطات القهرية المعاصرة من دولة وشرطة وجيش ومدرسة ومؤسسة وسجن. وها هو ذا الفيلسوف الألماني كانط في أواسط القرن الثامن عشر يعرّف الحرية الذاتية للفرد بأنها: الخضوع العقلاني لقوانين الجماعة السياسية. بالطبع لا يبرز كانط الجانب القسري لهذا الخضوع، جاعلاً إياه إرادة عقلانية حرة؛ أي ينبع من رغبة المواطن الذاتية التي يسيّرها العقل؛ ذلك العقل الذي يعمل بالإقناع، وليس بالقهر. الحرية المعاصرة -حسب كانط- هي خيار أو اختيار بين أمرين: إطاعة القانون، وهذا واجب على كل ذي عقل(4)، أو عدم إطاعة القوانين؛ أي العقوبة شبه المؤكدة في روح الفرد ووجدانه، وهو الخيار الذي لا يشير إليه كانط في تعريفه لتلك الحرية. أما بنتام -الفيلسوف البريطاني والأب الروحي للمذهب البرغماتي في القرن الثامن عشر- فلا يضيره أن يكشف الدول المباشر للسلطة في تعريف الواجب القانوني للمواطن الحديث: "إن واجبي هو كل أمر يفرض القانون علّ إطاعته، فإذ لم أفعل يعاقبني القانون... إن الواجب السياسي القانوني تخلقه العقوبة، أو على الأقل تخلقه إرادة الأشخاص الذين تملك أياديهم سلطة العقوبة"(5). فتكون البراغماتية البريطانية الجواب الشافي لغياهب الحرية الذاتية في الميتافيزيقا الكانطية.

وقد يقول قائل: إن كانط على حق في تصوره لمسألة الحرية الذاتية أمام الواجب القانوني، فقلما يفكر أحدنا بهذه الطريقة الفجة المباشرة: أما أن أطيع القانون أو أقع تحت طائلة العقوبة، تلك هي حريتي ! وهذا صحيح على الأقل بالنسبة لجمهور المواطنين في الغرب الأوروبي, وقد يفيدنا هنا تحليل إلياس -أحد أكبر منظري علم الاجتماعي الفرنسي، وصاحب مؤلف "ديناميكية الغرب"- عندما يكشف الغطاء عن الجانب اللاواعي في علاقة المواطن بالمجالات الاجتماعية القسرية كالمصانع مثلاً: "حيث تخضع تصرفات أعداد كبيرة من الأشخاص للتنسيق والمراقبة، وحيث يعتمد فعل كل شخص على دقة وتمام فعل الشخص الآخر وهكذا دواليك. عندها لا مناص للفرد من التحكم بكل حركة من حركاته بشكل دقيق وصارم. إن هذا التحكم لا يجري فقط في نطاق الوعي. ما يميز البنية النفسية للفرد في الحضارة المعاصرة هو تلك التربية منذ الطفولة على التصرف النمطي الذي يمكن التنبؤ به. إنه ذلك التكييف للفرد منذ نعومة أظافره، والذي يفضي إلى نوع من الأتوماتون، يمارس المراقبة الذاتية داخل اللاوعي، حيث إن الفرد لا يستطيع الفكاك من هذا الرقيب حتى لو أراد". وأخيراً يرى إلياس أن تعزيز هذه البنى النفسية اللاواعية ما كان ليتم لولا هيمنة المركز السياسي؛ أي السلطة المركزية الحديثة على كافة النشاطات الحيوية في الدولة القومية المعاصرة: "إن نجاعة آليات المراقبة الذاتية المحددة للتصرفات النمطية السائدة عند الفرد المتحضر؛ مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باحتكار سلطة استعمال العنف وتعاظمها لدى الهيئات السياسية المركزية"(6).

 

مصر محمد علي: النموذج الجنائي الأوروبي وأثره على قانون العقوبات الجديد والمحاكم الشرعية

 

تواترات الدراسات مؤخراً حول النظام القانوني وبالتحديد النظام الجزائي الذي أقامه محمد علي باشا إبان حكمه الممتد لمصر في الفترة 1805 -1848م. وكما في أوروبا، كذلك في مصر كانت تلك التغييرات الجوهرية في بنية العدالة الجنائية وقانون العقوبات مرتبطة بتحولات في بنية السلطة السياسية. في فترة لا تتعدى النصف قرن نجح حاكم مصر الألباني الأصل في نقل بنى عسكرية وصناعية وقانونية وقضائية من أوروبا المعاصرة إلى أرض الكنانة. وثمة عدة مؤلفات وثقت لهذا الإنجاز التاريخي ظروفاً وحيثيات وتفاصيل يمكن للقارئ العودة إليها. ما يعنينا في هذا السياق أمران: أولاً تغيّر البنية القانونية الجنائية سواء من ناحية المحاكم المخولة الحكم في الجنايات، أم من ناحية طبيعة العقوبة ومضمونها. وثانياً: أثر هذا التحول في قانون العقوبات على المحاكم الشرعية ودورها في النظام القانوني العام.

قام التحول في القانون الجنائي في مصر محمد علي على خطين متلازمين: النصوص القانونية، والمحاكم, فكان القانون الجنائي الجديد لعام 1829 أول عهدة مصر بالتشريع الأوروبي. وعلى خط مواز تم إنشاء محاكم نظامية سميت مجالس, يديرها موظفون منتدبون من الدولة لتطبيق هذه النصوص الوافدة، جنباً إلى جنب مع المحاكم الشرعية التي تنظر في قضايا الملكية والعقود والنكاح والإرث. ولم يجر تهميش كامل للمحاكم الشرعية في قضايا الجنايات، بل أصبحت نوعاً من المحكمة الابتدائية، إذا صح التشبيه؛ قضايا القتل والزنا والتعدي والقذف بقيت جزئياً من اختصاص قاضي الشرع، الذي دخل على عمله سلطة قضائية جديدة (المجالس النظامية) ذات صلاحيات أوسع للحكم في هذه القضايا. إذ كانت أحكام الشرع الجنائية تتوقف على وجود شاهد أو شهود للفعل الجرمي، الأمر الذي لم يكن متوفراً في معظم الحالات, فلا يكون قاضي الشرع عندها مخولاً إصدار أي حكم عندها تحال القضية إلى المحكمة النظامية لإعادة النظر فيها وفق مقاييس مغايرة للإثبات والبرهان (انظر لاحقاً).

 

كانت هذه البنية الجنائية الجديدة محكومة بثلاثة اعتبارات:

أ‌-          تحكّم الأجهزة المركزية بحركة الأشخاص ونشاطاتهم بمختلف أشكال هذا التحكم، من مراقبة وكشف وجلب ومحاكمة.

ب‌-     تحديث وعقلنة العقوبة، بحيث يكون الهدف منها إصلاح سلوك الجاني وتأهيله لحياة سوية بدلاً من العقاب الجسدي.

ج- اعتماد مفاهيم ومقاييس جديدة في الدليل والإثبات الجرمي، وفي الإجراءات القانونية في الاعتقال والمحاكمة. يقول رودلف بيترز في دراسة له حول "ظهور القضاء المدني في مصر 1842-1871": إن نشوء القضاء المدني ارتبط" ببناء أدارة مركزية قوية وفاعلة وبالحاجة إلى التخصص المهني في إدارة الدولة. بدءاً من عام 1830 غلبت على النخبة الحاكمة الفكرة بأن النظام العام يجب أن يبنى على قواعد مثبّتة في نصوص قانونية رسمية. وكان الهدف من ذلك تطويع السلطة اللامحدودة والغاشمة لحكام الأقاليم بالمقام الأول، وجعل الجمهور المصري أكثر قبولاً لأحكام القانون الجنائي الجديد بالمقام الثاني"(7).

تميّز القانون الجزائي لعام 1829 الذي أقره محمد علي باشا عن القانون العثماني الساري المفعول حتى ذلك التاريخ بتغييرات أساسية في طبيعة العقوبة، كماً ونوعاً. الجنايات موضوع العقوبة كانت القتل والسرقة والابتزاز واختلاس الأموال العامة. بادئ ذي بدء حددت بنود القانون الجديد بشكل واضح ومباشر العقوبة المترتبة على كل جرم، بينما كانت البنود العثمانية الجزائية تكتفي بتحديد طبيعة الجناية أو الجرم، وتذكر أنها تستحق العقوبة، تاركة للسلطات التنفيذية مجالاً كبيراً للاجتهاد في نوعيتها وكميتها. كذلك حصر القانون الجزائي الجديد العقوبات الجسدية بنوعين فقط: الإعدام والجلد، وذلك خلافاً للقانون العثماني التقليدي الذي يلحظ طيفاً واسعاً من العقوبات الجسدية من بتر الأعضاء (الأنف والأذنين واليدين والعضو الذكري) والوشم بالحديد المحمّى والخازوق(8). أما الشريعة الإسلامية فتعاقب السارق بقطع اليد اليمنى، والزاني بالرجم حتى الموت أو الجلد، والقذف بالجلد، وشارب الخمر بالجلد. وكما ذكرنا آنفاً لم يقر قانون محمد علي إلا نوعين من هذه الصورة المتعددة من العقوبات الجسدية, وهما الإعدام والجلد, وقد ألغيت عقوبة الجلد عام 1861. بالإضافة إلى الاعتبارات الإنسانية والحضارية، يلاحظ بيترز نمطاً عقلانياً في التحديد الكمي للعقوبة: "أضحت العقوبات متجانسة وخاضعة للقياس الكمي، وأصبحت جنسين فقط: السّجن (الحبس) أو الجلد، وأبلغ مثال على ذلك في السرقات، حيث جعل القانون الجديد مدة الحبس -طولاً أو قصراً- مرتبطة بقيمة المال المسروق. "والقصد من وراء ترشيد العقوبة هذا هو التأديب وتربية الجاني، لا الانتقام منه كما في القانون العثماني القديم. النصوص الجزائية الجديدة تخاطب عقول الجناة أكثر من مخاطبة أجسادهم، والهدف منها قبول الجاني العقوبة بوصفها عادلة؛ أي متناسبة مع طبيعة الجرم الذي ارتكبه نوعاً وكماً. بالطبع كانت العدالة الأوروبية هي المصدر والملهم لهذه التغيّرات في مصر، كما يشير بيترز: "إن التحول إلى مزيد من المركزية والعقلانية في النظام العدلي، وتركيز الاهتمام على تأديب الجاني أكثر من ردعه وجعله عبرة للجمهور , هذا التحول يتماشى مع تغييرات مماثلة حصلت في أوروبا الغربية مع أفول القرن التاسع عشر"(9).

في عام 1842 أصدر محمد علي فرماناً بإنشاء "الجمعية الحقّانية"، أول محكمة نظامية في الشرق العربي للفصل في الجرائم الخطيرة من قتل عمد وسرقات كبيرة. أما الجرائم المستحقة لعقوبة الإعدام، فكانت " الجمعية الحقّانية" تنظر فيها بوصفها المحكمة الأصلية المخولّة لذلك. وأما الجنايات الأقل خطورة فكانت من اختصاص السلطات التنفيذية: الضبطية(الشرطة) في القاهرة والسلطات المحلية في الأقاليم، تقوم بعدها "الجمعية الحقّانية" بمراجعة هذه الأحكام إما لإقرارها أو لتعديلها. ما يلفت الباحث أن النصوص الجزائية الجديدة والبنى القضائية المبتكرة التي قامت في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر ميلادي؛ إنما صدرت عن وعي ورغبة صريحين لدى النخبة الشركسية بعقلنة وترشيد علاقة الأفراد بالسلطة. لقد أصبح لهذه النخبة قناعة بأن فهم المواطن - الفرد لتلك العلاقة أمر بالغ الأهمية، وخاصة في المجال القهري والعقابي، حيث أضحت عقلانية العقوبة عنصراً محفزاً للولاء للدولة عند الأفراد، ولتعزيز قبولهم لقوانين دولتهم وإجراءاتها. وها هو ذا محمد علي بشخصه يقول -معلقاً على أهمية العقلانية الأوروبية في إنتاج أنماط جديدة من خضوع الفرد للسلطة، قائمة على العقل والقبول المنطقي لحيثيات ومبرارات قوانينها-: "إذا صدر حكم على الجاني بالعقوبات المنصوص عليها بالقانون دون أي انحياز، وبعدالة ونزاهة، فإن هذا الشخص لن يعترض بعد ذلك. من الواضح أن تأثير العقوبات المحددة قانوناً هو تأثير هائل، وهذا الأمر حدا بأوروبا إلى بذل الجهد والاهتمام الكبيرين بهذه المسألة. وعندما يقوم الأوروبيين بوضع العقوبات فأنهم يمحّصون ويوضحون طبيعة الجرم المرتكب والعقوبة المستحقة، بحيث إن الجاني لا يعترض بعد ذلك، ويقبل بها طوعاً"(10). وهكذا تتبدى رغبة نخبة السلطة في استتباب الأمور لها عن طريق مفهوم عقلاني للعقوبة والقضاء، شهدت له حواضر أوروبا. وكان القانون الجزائي لعام 1829 والجمعية الحقانية عام 1842 بواكير الفتوحات القانونية التي استمرت مع أبناء وأحفاد محمد علي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

ومع إقرار القانون العثماني الجديد للعقوبات في مصر عام 1853، أنشئت "مجالس الأقاليم"، وهي أول محاكم نظامية لا تخضع للشرع الإسلامي, وأصبح لها سلطة الاختصاص الأصلي في الجرائم والانتهاكات الإدارية في المحافظات على غرار الجمعية الحقانية في العاصمة. وأصبح لهذه الأخيرة -بعد تغيير أسمها إلى "مجلس الأحكام" عام 1849- سلطة المراجعة لأحكام مجالس الأقاليم في القضايا الجنائية. وكان لا بد من إعادة صياغة الوعي التاريخي للجماعة المصرية التي درجت على اعتبار قاضي الشرع والشريعة الإسلامية عدالة إلهية منزهة عن السقوط في أهواء الآدميين من المتخاصمين أمامها، خاصة وأن المجالس القضائية تحكمها قوانين جديدة غريبة عن القضاء الشرعي والموروث الفقهي الإسلامي. هذا الواقع يفسر ما ورد في فرمان تشكيل تلك المجالس من تطمين للجمهور، عبر تحذير القضاة النظاميين من المحاباة والانحياز لمصالح السلطة ضد مصالح الأفراد المحتكمين لديهم: "على قضاة المجالس أن يتجنبوا الانحياز للمصالح الميرية، وعليهم أن يأخذوا بمصالح الرعيّة بالإضافة إلى مصلحة الدولة، وأن يعاملوا الرعية بالعدل. إن جهد القضاة يجب أن ينصب دائماً على أن يأخذ كل ذي حق حقه"(11).

كان من الطبيعي لهذه التحولات الجذرية في القانون الجزائي نصاً وروحاً -خاصة فيما يتعلق بطبيعة الجرم والعقوبة، بالإضافة إلى نشوء بنى قضائية جديدة- أن تؤثر على العمل اليومي لجهاز الشرطة في مصر. يقول الباحث المصري خالد فهمي في بحث له حول تلك العلاقة: "لقد حدثت تغييرات جذرية في عمل مؤسسة الشرطة في القرن التاسع عشر جعلتها تختلف نوعياً عن سابقاتها. لقد أصبح لدى أجهزة الشرطة لوائح قانونية جديدة تحدد طبيعة الجرائم بدقة والعقوبة المستحقة لكل منها، وبالتالي لزم عليها تقديم نتائج تحقيقاتها إلى المجالس القضائية من ضمن هذه الأطر القانونية الجديدة. كذلك استعانت الضبطية بالتقنيات الحديثة في الطب الشرعي وأسباب الوفاة،وعملت على وضع سجلات جنائية للمضبوطين والمطلوبين، الأمر الذي عزز قدرتها على الحفاظ على النظام العام"(12).

 

صعود القانون وانحسار الشرع: النظام العدلي الحديث في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

رأينا سابقاً أن تشكيل وعي الأفراد في الحقبة الحديثة، أو ما يطلق عليه فوكو اسم "الروح الجديدة" ترافق مع تراجع الرموز والولاءات الدينية للسواد، كما كانت الحال في أوروبا في القرون الوسطى، وانحسارها في الوعي الجماعي لصالح شبكة الهيمنة الحديثة المكونة من الدولة المركزية ونظمها القانونية-القضائية المبتكرة بعد الثورة الفرنسية، تعززها التقنيات العلمية والمعرفية المواكبة لعمل أجهزة السلطة القسرية من شرطة وأمن وجيش.وبالرغم من صعوبة المقارنة بين مجالين حضاريين وتاريخيين مختلفين - المسيحي الأوروبي، والإسلامي الشرق أوسطي - فقد رصدنا صعوداً مماثلاً للبنى القسرية والمعرفية الجديدة في مصر محمد علي بفارق بضعة عقود فقط عن أوروبا. ولا شك بأن الوعي الجماعي الإسلامي يتميّز عن الوعي المسيحي بصفة عامة بسبب اقتصار هذا الأخير على الجانب العقدي والإيماني فقط؛ بينما كان الإسلام منذ نشأته نظاماً فقهياً وقضائيا بالإضافة إلى العقيدة والإيمان. وكان القاضي في الوعي الإسلامي التاريخي رمزاً دينياً بالمقام الأول، والخضوع لحكم الشرع جزءاً جوهرياً من العبادة والعقيدة عند المسلمين. وإذا كانت الاعتبارات العملية والسياسية قد أملت على الدولة العثمانية -منذ القرن السادس عشر- إنشاء جهازها القانوني الخاص بالتوازي مع المحاكم الشرعية، فإن العناصر الرمزية الأساسية في الوعي الجماعي جعلت الشريعة الإسلامية وممثليها في الصدارة وقبل السياسة والقانون. فكان قاضي الشرع هو صاحب الاختصاص الوحيد للنظر في القضايا المدنية والجزائية، بما فيها القتل، والسرقة، والاغتصاب، والاعتداء، والخطف، والزنا، والقذف، ما عدا الحالات النادرة التي كانت من اختصاص الوالي: "كان لقاضي الشرع سلطة الاختصاص في كل القضايا الجنائية في مصر في القرن السابع عشر، سواء أكان المتخاصمون مدنيين أم عسكريين, حيث كان الوالي وحكام الأقاليم والشوباشي والأفراد يلجأون إليه للفصل في المسائل الجنائية.أما في حالات الجرائم العسكرية وتلك التي لا يمكن مقاضاتها أو الفصل فيها بحسب أحكام الشريعة؛ نظراً لغياب الدليل القائم على الشهود، فكان الوالي الشخص الوحيد المخول النظر فيها بوصفه الممثل الأعلى للسلطان. في كل القضايا الأخرى لم يكن يسمح لأي من ممثلي السلطة التدخل فيها, وكان القاضي هو الوحيد المخول النظر فيها وإصدار الأحكام والعقوبات(13).

لتقريب صورة النظام العدلي الجديد، نعرض فيما يلي لقضيتين جنائيتين يظهر من خلالها تقسيم العمل الجديد بين المحاكم الشرعية، والمجالس القضائية النظامية، كما وردتا في سجل الوثائق القومية المصرية. في القضية الأولى التي وردت في سجلات عام 1860 مجلس محافظة الإسكندرية، أقامت أم مكلومة بوفاة ابنتها دعوى قتل ضد المتهم لدى قاضي الشرع، وذلك بناء على نتائج فحص ما بعد الوفاة في المستشفى، الذي أكد أن الوفاة ناتجة عن استعمال للقوة. فقام القاضي بإبطال الدعوى نظراً لاقتصار الشهود على صديقتين قصّر للفتاة المقتولة، وعدم وجود شاهد بالغ في مسرح الجريمة، ثم نظر المجلس النظامي في القضية، وحكم بحبس المتهم ثلاث سنوات في ليمان الإسكندرية بناءً على شهادة الفتاتين ودليل التقرير الطب جلي هنا الدور الحاسم للمجلس النظامي كطرف قضائي مستقل عن الشرع, يستمد أحكامه من قوانين أوروبية المنشأ أقرتها الدولة الخديوية. أما القضية الثانية فهي تدافع بين زوجتين لرجل واحد، أدى إلى فقدان إحداهن جنينها بعد أن دفعتها الأخرى عقب خلاف بينهن, وشهدت طبيبة المستشفى بحصول إجهاض. عندما اشتكى الزوج والزوجة لدى المحكمة الشرعية لم يتوفر إلا شاهد وحيد؛ لكنه لم يجزم بأن وقوع المرأة الحامل أرضاً كان نتيجة دفع الزوجة الثانية، وبالتالي لم يستطع القاضي أن يدين الزوجة المتهمة وأسقط المدعيان الدعوى. ثم جرت المقاضاة أمام المجلس النظامي الذي رأى أن تخلي الزوجين عن الإدعاء، وإن كان يسقط الاتهام حسب الشريعة الإسلامية؛ فإنه لا يسقط الحق العام , " كون الإجهاض من القضايا الجدية، ولأن الشهود أقروا بحصول عراك، ولأن تقرير المستشفى أفاد بوقوع الإجهاض نتيجة السقوط على جسم صلب"(15). وصدر حكم من المجلس النظامي بحبس الزوجة المتهمة مدة شهرين بناءً على الحقائق الآنفة الذكر.

يمكن فهم تلك التغيّرات في العلاقة بين الشريعة والسياسة من منظارين مختلفين: منظار مطلق شديد التجريد، ومنظار تاريخي عملي. المنظار المطلق ينطلق من أهداف الشريعة العامة - مقاصدها الكليّة الخمسة في الزود عن الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والملك لمجموع المسلمين، وبالتالي فإن دخول البنى القضائية والمعرفية الأوروبية على المجال العدلي الإسلامي لا يتعارض مع هذه الأهداف بل يخدمها. وهذا هو موقف فهمي الذي يرى أن العلاقة بين الشرع والقانون العثماني في القرون السابقة تشكل أنموذجاً لفهم تحولات النظام العدلي في القرن التاسع عشر: "إن الموقع المحوري للطّب الحديث في النظام العدلي المصري قد أصبح واضحاً، فهذا الموقع لا يؤدي إلى انكفاء للشريعة، حيث إن استعمال هذه التقنيات الجديدة في كشف الدليل القانوني يفضي إلى تعزيز الشرع. كل هذه الوسائل الجديدة -تشريح ما بعد الوفاة، الفحوصات المخبرية، شهادات الوفاة- لا تعدّ مخالفة للشريعة؛ بل وهي على غرار تشريعات القانون للسلاطين العثمانيين، كان استعمال الطب الحديث وسيلة لتكملة الشريعة في القضايا التي كانت شروط الفقه القاسية في إثبات الدليل تحول دون إصدار أحكام جزائية بحق المتهمين"(16). أما المنظار الثاني -وإن كان يرى حصافة في المنظار السابق- فيرى أن ثمة تغييراً في علاقات القوة والهيمنة بين المؤسسة الدينية -ممثلة بالمحاكم الشرعية- من جهة، والسلطة السياسية -ممثلة بالمجالس القضائية الجديدة- من جهة أخرى. فكانت تلك المجالس النظامية صاحبة الاختصاص الجنائي الواسع والتي يديرها موظفون مدنيون تعينهم الدولة -هي المحور الفعلي للأحكام الجنائية حتى مع استمرار قضاة الشرع في القيام بمهامهم حسب الفقه الحنفي. هذا الانتقال التاريخي في مصر من نظام جزائي كان محوره قضاة الشرع منذ القرن السابع عشر إلى نظام تغلب عليه المحاكم النظامية التي تصدر أحكامها وفق قوانين أوروبية المنشأ- في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- كان إشارة إلى تحول في ميزان القوى الاجتماعي لصالح السلطة المركزية على حساب المؤسسة الدينية، وهو تحول لم يكن مقتصراً على مصر، بل موازياً للتحولات في الدولة العثمانية لصالح المركز، كما بيّنا في مقال سابق على صفحات هذه المجلة الموقرة(17).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)     Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, translated by Alan Sheridan, in Paul Rabinow, ed. The Foucault Reader (New York: Pantheon Books, 1984) pp. 170-171.
2)     Foucault, p. 177.
3)     Foucault, p. 176-177.
4)     Emmanuel Kant, Grounding for the Metaphysics of Morals, (1785) trans. J. Ellington (Hackett Publishers, `1981) pp. 19-62.

 

5)     Jeremy Bentham, A Fragment of Government, (1776), cited in J. Finnis, Natural Law and Natural Rights (Oxford, 1996) pp. 348.

 

6)     Norbert Elias, La dynamique de l’Occident (Paris: Calmann-Levy, 1975) pp. 185-188.

 

7)     Rudolph Peters, “Administrators and Magistrates: The Development of a Secular Judiciary in Egypt, 1842-1871,” Die Welt des Islams 39(1999), pp. 392.
8)     Rudolph Peters, “For his Correction and as a Deterrent Example to Others: Mehmed Ali’s First Criminal Legislation (1829-1830),” pp. 167-168.
9)     Peters, “For his Correction”, p. 174.
10) Peters, “Administrators and Magistrates”, pp. 381-382.
11) Peters, “Administrators and Magistrates,” p. 393.
12) Khaled Fahmy, “The Police and People in 19th Century Egypt,” Die Welt des Islams 39: 3(1999) pp. 376.
13) Galal El-Nahal, The Judicial Administration of Ottoman Egypt in the Seventeenth Century (Chicago: Bibliotheca Islamica, 1979) p. 35.
14) Rudolph Peters, “Islamic and Secular Criminal law in Nineteenth Century Egypt: The Role and Function of the Qadi,” Islamic law and Society 4: 1(1997), p. 79.
15) Kaled Fahmy, “The Anatomy of Justice: Forensic Medicine and Criminal Law in Nineteenth Century Egypt”, Islamic law and Society, 6: 2(1999), pp. 262-263.
16) Fahmy, “The Anatomy of Justice,” p. 266.
17)  Oussama Arabi, السلطنة العثمانية: من دولة الخلافة إلى الدولة المركزية، Al-Tafahum, 35(2012), pp. 391-401

الأكثر مشاركة في الفيس بوك