الشريعة والسلطان: الدولة الأوروبية الحديثة نموذجاً لمصر محمد علي

أسامة عرابي

تهدف هذه الدراسة تبيان أثر الحداثة الأوروبية على مفهوم الشريعة ودورها في مصر محمد علي، الذي يعدّ بحق مؤسس الدولة المصرية الحديثة وحاكم مصر في الفترة 1805-1848؛ أي نصف القرن السابق على ولادة الشيخ الإمام محمد عبده (1849-1905).

 

وقد تتاح لنا دراسة لاحقة في فكر الإمام وتقعيده علم الكلام وأصول الفقه بما يتلاءم مع الحداثة، لكننا آثرنا في هذه السطور أن نظهر الخلفية السياسية القانونية التي سبقت عمل الشيخ الإمام ووضعت لجهده النظري ونشاطه العملي في القضاء أطراً قانونية وجزائية محددة، أبرز ما فيها منشؤها الأوروبي، وارتباطها برغبة السلطان -أي محمد علي- في اللحاق بركب الدولة الأوروبية الحديثة. وقد تجلت هذه الصلة الوثيقة بين ما هو قانوني وما هو سياسي في المفهوم العثماني الأصلي لكلمة "قانون"، وهو اللفظ الذي أطلقته النخب العثمانية منذ القرن السادس عشر على تشريعات السلطان خارج إطار الشريعة في مجاليْ العقوبات والجنايات على وجه الخصوص. ولما كانت بنية الدولة المركزية الأوروبية الحديثة تشكل قطيعة معرفية وعملية مع البنى السياسية الإقطاعية في القرون الوسطى والتي كانت السلطنة العثمانية إحدى تجسيداتها؛ وجب معرفة معنى الحداثة في المجال القانوني ذاته، أي التغييرات التي أدخلتها السلطة الأوروبية الحديثة على معنى التشريع والقانون وعلاقتهما بالمواطن، منذ ذلك الحدث الجلل الذي قضى على الدولة الإقطاعية في فرنسا، وحمل رايات الحداثة إلى أوروبا قاطبة عـلى بحر من الدماء، عنينا الثورة الفرنسية العظمى والفتوحات النابوليونية (1789-1815).

 

المشهد الأوروبي: عقلنة العقوبة وترشيد الهيمنة

تختزل الحداثة الأوروبية في نمط المواطن النموذج -الخاضع لقوانين الدولة والقابل لسلطتها- علاقات قهرية/معرفية شائكة بين السلطة والمواطن قد لا تبدو على السطح. ولعل أبلغ تعبير عن تلك العلاقة الشعار الذي وضعته لجنة الحقوقيين المكلفة من قبل نابليون، حاكم فرنسا المطلق الذي وضع قوانين دولة فرنسا الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر: القانون المدني أو شرعة نابليون في الملكية والعقود والأحوال الشخصية: 1804م، قانون أصول المحاكمات المدنية: 1806م، القانون التجاري: 1807م، قانون أصول المحاكمات الجزائية: 1808م، القانون الجزائي: 1810م، هذا الشعار ينص على "لا يحق لأي مواطن التذرع بعدم معرفة القانون" وقد ارتأى قانونيو نابليون تثبيت هذا الشعار والمبدأ على رأس لوائحهم القانونية. وهذا مبدأ أساسي يحكم النظم القانونية الحديثة، وضعته فرنسا بعد الثورة وأخذت به الدول كافة. وهو يحمل مضمونين يتعلقان بالمعرفة وشوكة السلطة موجهين،إلى المواطن العادي من ناحية، وإلى أجهزة السلطة

الأكثر مشاركة في الفيس بوك