حاجة الإنسانية إلى العقيدة الصحيحة

أحمد عبده عوض 

إن الإنسان آية الله في خلقه ، طبعه ربه على هذا النحو العجيب وفطره على هذه الصبغة الفذة مقترنة بعديد من الغرائز والميول ، وحينما تشده الأولى إلى زكاة النفس ، واستواء الفطرة ، وقصد السبيل ، فان الثانية تشده إلى النقيض تماما بتمام ، وبين هذا وذاك يتطلع الإنسان ويرنو إلى ما يحفظ عليه نقاء معدنه ، وصفاء جوهرة ، وزكاة نفسه ، وطهارة قلبه ، واعتدال خلقه ، وقصد سلوكه ، ويجعله على طول الخط سوى المنهج ، قوى السبيل ، زكى الباعث ، نبيل المقصد ، متعلقاً بمعالي الأمور ، نائيا عن سفاسفها ، يتطلع إلى ذلك ويهفو إليه ، فلا يجده إلا فى رحاب الإيمان بالله ، وأحضان الطاعة له ، وظلال القرب منه .

        والإنسان بفطرته لا يملك إن يستقر في هذا الكون الهائل ، فلابد له من رباط معين بهذا الكون ، يضمن له الاستقرار فيه ، ومعرفة مكانه في هذا الكون ، الذي يستقر فيه ، فلابد له إذن من عقيدة تفسر له ما حوله ، وتفسر له مكانه فيما حوله ، فهي ضرورة فطرية ، شعورية ، تقوم بالتأصيل لجوهر الفطرة ومتابعة بعثها لضمان استمرار حركتها وعملها وانطلاقها .

        ومن هنا : كانت حاجة الإنسان إلى العقيدة حاجة فطرية مركوزة في فطرته ، ومغروسة في شعوره ، ومخلوطة بدمه وعصبه ، ولكنه قد يضل عن إدراك هذه الحقيقة ، فيشقى ويحار ، ويفقد الاستقرار .

        هذه الحاجة الفطرية في الإنسان إلى الدين ، هي التي يتحقق بها إدراك الإنسان لحقيقة مقامة في هذه الحياة ، ورسالته وعملة ودورة

        وقد أودع الله – سبحانه وتعالى – في الإنسان ما يستطيع به إدراك الحقائق الكبرى في الوجود وندبه الله – سبحانه وتعالى – للقيام بمهمة التعرف على هذه الحقائق التي يراها الحس والعقل والوجدان ، في الآفاق وفى النفس ، وفى كل شيء ففي الأرض آيات للمؤمنين ، وفى السماء مثلها وأعظم فالفطرة الإنسانية السليمة هي التي تتوجه إلى الكون بروح متفتحة تكشف ما فيه من قصد وتصميم وإبداع وتنتهي إلى إدراك مكانها من هذا الوجود وتحديد كيفية سلوكها فيه ، ومن خلال هذا التصور تتحدد علاقة الإنسان بربه – عز وجل - .

        فالإنسان لا غنى له عن الدين ، لأنه يحسه فى نفسه ، شعوراً ووجداناً ويشير إلى هذا الشعور ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله علية وسلم قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة "

        وقول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ{172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ{173}) (الأعراف : 172 ، 173)

        ففي هذه الآية : بين الله – تعالى – انه اخرج من صلب ادم وبنية ذريتهم نسلا بعد نسل ، على هيئة الذر ، وذلك قبل خلقهم فى الدنيا وأشهدهم على أنفسهم قائلا لهم : ( الست بربكم) فأجابوا : (بلى شهدنا) بذلك ، فالله – سبحانه وتعالى – أشهدهم على ربوبيته ، حتى لا يقـولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين ، أو غير عالمين(1) .

        فالإيمان بالله فطرة فطر الناس عليها ، وإنما يضلون عنها بعض الوقت او كل الوقت ، ثم يعودون اليها ولو عند فراق الحياة ، او عند نزول الكوارث والإحداث ، فقد كان فرعون يدعى الألوهية ، ويقول لقومه (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى{24}) (النازعات : 24) ، وسام بنى إسرائيل سوء العذاب ، وكفر بموسى ، واله موسى ، ولكنة عندما أدركه الغرق ، قال : (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90}) (يونس : 90)

والمشركون بالله ، والكافرون به ، فى كل الأجيال ، كانوا يعبدون الأصنام ويستقسمون بالازلام فإذا مسهم الضر فى البر أو البحر ، لجأوا إلى الله يدعونه ويسألونه النجاة (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{12}) (يونس : 12)

ومن هذا يتبين : انه يوجد فى طبيعة تكوين الإنسان استعداد فطرى لمعرفة الله وتوحيده ، فالاعتراف بربوبيته متأصل فى فطرة الإنسان ، موجود فى أعماق روحه ، فقد أنشأهم الله على الاعتراف بالربوبيه له وحده ، فالاعتراف بربوبية الله وحده ، فطرة فى الكيان البشرى ، فطرة أودعها الله الخالق فى هذه الكينونة ، وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته ، وحكم ما تستشعره فى أعماقها من هذه الحقيقة، فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر، وخالق البشر، منذ كينونتهم الأولى (1) .

     والوجود كله عابد بطبيعته، منصاع لوظيفته، لا يسعه إلا أن يطيع ربه فى ولاء لا يشوبه استكشاف، ولا يطاوله كائن، بل إنه جميعا من أعلاه إلى أسفله يهتف فى البداية بلغة المقهور أمام عظمة القاهر، وخاف العابد تجاه قدسية المعبود بما سجله الحق في قوله تعالى :" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11} "( فصلت 11 ) 0

     والإنسان وإن كان يساوى الكون في العبادة بفطرته ، فإنه ينبغي عليه أن يفوقه منزله، وأن يعلوه فيها درجات، تتناسب وتركيبه، وتكوينه المتميز بالعقل والإرادة، والاختيار، والميول والنزعات، والرغائب، بيد أن الإنسان من طبعة أن ينسى أحيانا، وأن يغفل أحيانا، وأن يجحد أحياناً، وأن يكفر، لأن امتزاج الروح بالجسد، وانشغال الإنسان بمطالب جسده ، وبمطالبة المختلفة ، التي تستلزمها حياته في الدنيا ، وعمارة الأرض ، قد جعلت من معرفة الإنسان بربوبية الله ، واستعداده الفطري للتوحيد ، عرضة لان تطمره الغفلة ، ويغمره النسيان ، ويطويه اللاشعور في أعماقه ، ويصبح الإنسان في حاجة إلي ما يوقظ هذا الاستعداد الفطري ويبعد عنه النسيان ، و يبعثه من أعماق اللاشعور ، فيظهر جليا واضحا في الإدراك ، والشعور ، ويتم ذلك عن طريق تفاعل الإنسان مع الكون وتلك فطرة فطر الله الناس عليها ، وصبغة صبغهم بها ، لا فكاك لهم منها ، ولا شذوذ لهم عنها .

فعاطفة التدين أو الاعتقاد بدين من الأديان أمر غريزي ، ومشترك بين الناس ، عامة في كل عصر ومكان ، فانه لم تخل جماعة من الناس في أي زمان من عقيدة دينية على نحو ما – " وقد اثبت التاريخ انه قد وجد في الماضي السحيق جماعات إنسانية من غير فلسفات وعلوم وفنون ، ولكن لم توجد قط جماعة إنسانية من غير دين إذ لابد في حياة الناس من نظم تلم شتاتها ، وترفه حياتها ، وتضمن لها أسباب النهوض والتقدم ، ويعيش الناس في ظل هذه النظم على قواعد الحق والعدل ، في أمن وسلام ، وقد كرم الله الإنسان بالعقل لكنه أودع فيه نفسا إمارة بالسوء ، وهو يعيش في صراع بين عقله الهادي إلى الصلاح ، ونفسه الأمارة بالسوء ، فكان من تمام نعمته عليه إن وضع له النظم التى توصله إلى التغلب على النفس ، وسد منافذ الشيطان إليها ، فحملة أمانة التكليف ، واخذ عليه العهد بان يعبده ولا يشرك به شيئا ، وأمده بهداية الرسل – عليهم الصلاة والسلام –

        إذن " لكي تتحقق الحكمة الإلهية في خلق الإنسان ، ويتبين المصدق الحق لقوله تعالى أرشادا للملأ الأعلى : (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{30}) (البقرة : 30) لابد لقوة الخير في الإنسان من مدد يعينها ويغريها على سد منافذ الشر والطغيان"

        ومن هذا يتبين : إن الدين للإنسان من الشئون الضرورية التي لا حياة له إلا بها والله – سبحانه وتعالى – قد خلق الناس ، ولم يتركهم وشأنهم بل اختار لهم نظماً وأحكاما تسعدهم في الدنيا والآخرة ، وذلك لان الإنسان عاجز عن إدراك المغيبات ، ويتأثر تفكيره بمؤثرات من الزمان والمكان والمجتمع وهو عاجز عن حمل غيرة على طاعته ، لعدم قدرته على القهر الذي يرغم الناس على كمال الطاعة ، ولهذا جعل الله – سبحانه وتعالى – في كل أنة رسولاً منها ، وأيده بالمعجزات ، وأمده بتعاليم السماء ، لينشر الخير ويعالج الشر (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً{165}) (النساء : 165) وقد شرع الله – تعالى – لخلقه ما يناسب حالهم ، ويتلاءم مع ظروف حياتهم ، وقوة إدراك عقولهم ، وقوة احتمالهم .

        وإذا كان الدين والتدين أمرا غريزيا وفطريا في الإنسان ، في كل زمان – كما عرضنا – فان الدين الإسلامي هو : الدين الحق الذي رضي الله – تعالى – للناس جميعا والآية الكريمة التي عدت الدين عند الله الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران: 19) تعنى : مجموعة المبادىء الإسلامية وتعاليم الإسلام فالإسلام مر بمراحل كبيرة عبر أنبياء الله ورسله إلى إن انتهى إلى المرحلة المتكاملة في رسالة محمد صلى الله علية وسلم التي جاءت إلى الإنسانية كلها إذن رسالة الإسلام هي الإسلام الشامل للإنسان في وحدة إيمانها بالله ، قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة : 3) ولهذا كان الإسلام يشتمل على امتداد زماني في الفكر الديني ، يعرض لقضية البشرية من نشأتها إلى غايتها ، ويشتمل على شمول موضوعي يغطى مجالات الحياة جميعاً ، ويشتمل على شمول يضم الأديان كلها ويدعوها إلى تصحيح معتقداتها" .

        فالديانات وان تعددت في الفروع والتكاليف والأعمال ، فقد اتحدت في المصدر الذي صدرت عنه ، وهو الله – تعالى – واتحدت – أيضا – في الأصل الذي دعت إليه وهو التوحيد ، فالقدر المشترك بين الرسالات جميعا هو : تصحيح العقيدة أولا ، ثم معالجة الإمراض الخلقية والاجتماعية الموجودة في تلك البيئات ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (النحل : 36) وقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء :25) وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13) .

        ولقد جاء الإسلام في جانبه الإيماني ، يؤكد هذه الأسس ، التي أكدها كل نبي ، ولكنه في الجانب الذي يستتبع الشريعة ، جانب الالتزام والعمل كان الإسلام الفصل الأخير في تكامل التشريعات .

        وهذا الطابع الشمولي الملتقى في أسس العقيدة ، والمتكامل في التشريع هو الذي جعل من الإسلام الصيغة الوحيدة الباقية المستمرة ابد الدهر ، ولعل هذا هو السر الذي جعل من الإسلام كلمة تختص بالدين الذي جاء به رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم .

        ووحدة الأيمان حقيقة تفرضها وحدة المصدر بصورة قاطعة ، لا تقبل الجدل ، أو التشكك ، ولا يغير من واقعها وجود فواصل البعد الزمني بين الأنبياء ، الذين أرسلهم الله إلى عباده .

        فالأيمان بالله – سبحانه وتعالى – ليس غريزة فطرية ، بل هو ضرورة ، فالدين عنصر ضروري ، والإنسانية بحاجة إليه ، للكمال النفسي والروحي ، فالإنسان جسم وروح ، والجسم يتغذى بالطعام والشراب ، بينما تتغذى الروح بالإيمان والعقيدة ، وعلى ذلك فالإسلام منهج شامل لأمور الدنيا والآخرة ، محقق لمصالح الفرد والجماعة ، قوامة الشريعة والعقيدة والأخلاق ، فليس دينا فقط ، ولكنه دين ونظام وحياة ، لا تنفصل فيه العلاقة بين الله والإنسان ، عن الصلة بين الإنسان والإنسان ، وهو ينظمها جميعا .

        فالعقيدة الإسلامية ضرورة للإنسان ، وذلك لرفع مستواه والمحافظة عليه من الانحراف المادي والإلحادي .

        ومن القواعد المقررة إن الإنسان مدني بطبعة ، ومعنى ذلك إن الإنسان بفطرته يميل إلى التعارف والتعايش مع غيرة ، ولذلك جعل الحق – سبحانه وتعالى – التعارف بين الناس من أهم أسباب خلقه لهم ، إذ قال سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{13}) (الحجرات :13) هذا التعارف ليس مقصودا لذاته ، وإنما جعل أولا غذاء لطبيعة الإنسان ، وثانياً : وسيلة للتعارف على كل ما فيه إسعاد البشرية ، وتحقيق حياة أفضل لأفرادها فى جانبها المادي والفكري ، وبين ذلك المفكر محمد عبد الله دراز ، فيقول : " انه لا قيام للحياة في الجماعة ، إلا بالتعاون بين أعضائها ، وهذا التعاون إنما يتم بقانون ينظم علاقاته ، ويحدد حقوقه وواجباته ، وهذا القانون لا غنى له عن سلطان نازع ووازع يكفل مهابته في النفوس ، ويمنع انتهاك حرمته .

        وعلى ذلك نستطيع إن نقرر – دون إن نجانب الصواب -: انه ليس على وجه الأرض قوة تكافىء قوة التدين ، أو تدانيها في كفالة احترام شرع الله وضمان تماسك المجتمع ، واستقرار نظامه ، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة والسر في ذلك ان الإنسان يمتاز عن سائر الحيوانات الحية بأن أفعاله وإعماله الاختيارية يتولى قيادتها شيء لا يقع عليه سمعه ولا بصره ولا يوضع في يده ولا في عنقه ولا يجرى في دمه ، ولا يسرى في عضلاته وأعصابه ، وإنما هو معنى إنساني روحاني اسمه الفكر والعقيدة ، وقد ضل قوم قلبوا هذا الوضع ، وحسبوا إن الفكر والضمير لا يؤثران في الحياة المادية والاقتصادية ، بل يتأثران بها" .

        وليست قوانين الجماعات ، ولا سلطان الحكومات بكافيين وحدهما لإقامة مدينة فاضلة تحترم فيها الحقوق ، وتؤدى الواجبات على وجهها الكامل فان الذى يؤدى واجبة رهبة من السقوط أو السجن ، أو العقوبة المالية لا يلبث إن يهمله متى اطمأن إلى انه سيفلت من طائلة القانون .

        والقانون إما ألهى أو وضعي : لان كل حضارة شطران : شطر روحي ، وشطر مادي ، فالشطر المادي الذى يعتمد على الحس والعقل وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بالشطر الروحاني أو النظري ، والشطر النظري : العقيدة والأخلاق ، والتشريع ، ونظام المجتمع . ولذلك جاءت العقيدة السلامية كاملة هادية للعقل في الجانب النظري ، فشملت التشريع ، والأخلاق ، ونظام المجتمع ، ومن خصائص الوحي فيما يتعلق بالتشريع : انه هاد للعقل ، وكما إن الدين هاد للعقل ، كان لابد في استخدام العلم من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية ، وعمارة الأرض ، لا إلى نشر الشر والفساد ، ذلكم الرقيب هو : العقيدة والأيمان .

        ولا يخفى على أهل العلم : إن من الخطأ المبين إن يظن بعض الناس إن في نشر العلم والثقافات وحدها ضمانا للسلام ، والرخاء ، وعوضاً عن التربية والتهذيب الديني والخلقي . ذلك إن العلم سلاح ذو حدين ، يصلح للهدم والتدمير ، كما يصلح للبناء والتعمير فكما يستعمل للخير ، يستعمل كذلك للشر ، فلابد للعلم من تربية عالية ، وتوجيه سديد ، وإيمان راسخ يوجه المجتمع ، وذلك إن وظيفة العلم محصورة في الجانب الحسي المحض فهو يقف عند حدود لا يتجاوزها ، بينما وظيفة الدين بالحياة ذات مجال رحب فالإسلام بما حواه من هداية إلهية وتشريعات سماوية يكفل للمجتمع الإنساني كل عوامل السعادة والأمن والاستقرار ، ولا يكون ذلك عن تشريع وضعي ، ولا يضعه فرد ، أو جماعه معينه ، ذلك لان الإنسان مهما سما فكره ونضج عقله ، لا يمكن إن يحيط بكل ما يوفر للإنسانية أمنها واستقرارها .

        والحق ، إن الدين الإسلامي فيه صلاح للناس جميعا حتى الذين لم يرزقوا حظا وافراً من التفكير العقلي السليم ، ولذلك كان الوحي الإلهي رحمة عامة لجميع الناس ، ولهذا ترى الدين ضرورة اجتماعية كما هو فطرة إنسانية ، ونراه كفيلاً بصدور صاحبة في أقواله وإعماله عن عقيدته ، وضميره ونفسه ، وعن مراقبته لله في السر والعلن ، لا خوفاً من الناس ، أو عقاب القانون الوضعي ، هذا العقاب الذى يفلت منه الكثير من الناس .

والله الذي خلق الإنسان ، وركب فيه طبائعه ونوازعه ، هو الخبير بكل علله ، وأدوائه ، والعليم بوسائل شفائه ، هو وحده الذي يقدر إن يضع للجماعات الإنسانية من الشرائع والنظم ما يحقق لها أسباب السعادة ، وجميع وسائل الآمن والاستقرار ، وذلك بالدين الذي يدعوه إليه ، فهو السلطان المهيمن على نفوس المؤمنين به ، ويحمله على الأخذ بتعاليمه ويدفعهم إلى القيام بما سنه لهم من تشريع وتنظيم ويدفعهم إلى التحلي بالفضائل ، ويحول بينهم وبين ارتكاب الرذائل ، وليس هناك وراء الدين شيء يهيمن على النفوس ، غير نظام خالق النفوس .

        فالإسلام نظام رباني ، يقوم على مبادىء أساسية ، رضيها الله لعباده دستوراً يقودهم في دنياهم إلى حياة كريمة ويعدهم في أخراهم لميراث جنة عرضها السماوات والأرض .

        فالإسلام هو الرابطة التي جمعت البشرية على الأيمان بالله واليوم الآخر ذلك إن القصد من الدين ليس إلا تزكية النفس ، وتطهير القلب وظهور روح الامتثال والطاعة ، واستشعار عظمة الله ، وإقرار الخير والصلاح في الأرض ، على أساس قوى متين ، من رباط العبد بخالقه .

        فهو إذن مطلب إنساني ، رفيع يغذى جانب الروح ، ولا ينسى حاجة العقل ، وبعبارة أخرى : هو مطمع العقل ، وغاية الروح ، وبجانب ما للدين من وظائف نفسية تجعل منه غذاء ضرورياً لقوى النفس ، وعصارة مقومة لحيويتها توجد له وظائف اجتماعية ، لا يكون موضوعها الفرد ، وإنما يكون موضوعها المجتمع ككل .

وهكذا يتبين للباحثين والدارسين : إن العقيدة الإسلامية تعبر عن حاجات النفس الإنسانية ، في ملكاتها ومظاهرها ، ومن هنا تنبع حاجة البشر إلى الدين من طبيعة الإنسان نفسه ، فقد خلقه الله – تعالى – ومنحه طبيعة الكائن المتكيف ، وعلى ذلك فحاجة الإنسانية إلى الدين نزعة فطرية وأصيلة ركبت فيه ، وفطر عليها ، ولذلك يكون الدين هو الرقيب الذاتي داخل النفس ، يدفع الإنسان إلى مراقبة الله ، الذي يعلم السر وما تخفى الصدور فيكون دافع الدين والاعتقاد شاملا لجميع القوى المختلفة : الجسمية ، والروحية ، والنفسية ، والخلقية ، والاجتماعية .

وبعد هذا العرض ، يمكن للإنسان إن يستوضح وظائف الدين وحاجة البشرية إليه .

        فالدين يزكى النفس ، ويطهرها ، ويقيم فى حواسها الوازع القوى الذي يحول دائما بين الإنسان ، وبين الوازع السوء والضلال فيه ، وذلك انه يشعر دائما بمراقبة الله له في كل شيء ، ومن هنا تزكو نفسه بفعل الخير وعمله ، والبعد عن البشر ، وهذا مبلغ ما ينبغي إن تسعى الإنسانية إليه .

        فالإنسانية لحاجة إلى الدين ، لأنه جزء من فطرة الإنسان وطبيعته ولا يمكن لإنسان عاقل إن يستغنى عن جزء من فطرته وكيانه ، فهو الوسيلة الوحيدة التي نأمن مخاطرها ، ونضمن نتائجها ، لتحقيق الحياة الإنسانية ، فالدين يقيم نظاما يدعو إلى الفضيلة واعتناقها ، كما يقيم دستورا حكيما يحفظ للإنسان إنسانيته كما يحفظ له نفسه وماله .

        وكما إن حاجة الإنسانية إلى الدين لحفظ لأنفس ، والمال ، والعرض ، كذلك فان الإنسانية في حاجة إلى الدين لتربية الذي كرمه الله – تعالى – فقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{4}) (التين :4) وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{70}) (الإسراء :70).

        وعلى ذلك فان احتياج الإنسانية عقيدة وسلوكا نزعه فطرية ، وأصيلة ركبت فيه ، وفطر عليها . ومن هذا المنطلق يصف القرآن الكريم الدين بأنه الحياة وبأنه النور الذي يضيء للسالك الطريق ، وقال تعالى : (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{122}) (الأنعام : 122) .

فالعقيدة تقوم من المجتمع مقام الروح من الجسد ، ولسعادة المجتمع لابد له من العقيدة الصحيحة ، التي تنير الطريق ، وتحدد أسلوب معاملة الفرد للجماعة ، والجماعة للفرد

        ولقد كان لهذه العقائد والأصول والمبادئ الإنسانية ، التي قام الإسلام عليها ، ولما قام عليها هذا الدين من المساواة والعدالة والإحسان ، كان لذلك اثر بالغ في سرعة انتشاره ، وحسن تقبل الناس له في أقطار العالم المختلفة ، كما كان ذلك من العوامل الحاسمة ، والأساليب القوية ، فيما أدركه الإسلام من عز ، ومجد وسلطان ، سعد به العالم الذي عاش تحت لوائه .

        فمن طبيعة المنهج الذي يرسمة هذا الدين ، ومن حاجة البشرية لهذا المنهج نستمد يقيننا الذي لا يتزعزع في إن المستقبل لهذا الدين المتعطشة إليه البشرية جمعاء .

        فالعقيدة هي أساس قيام المجتمع ، وأساس صلاحه أو فساده ، بل هي أساس بقائه واستمراره ، فهذا الدين فى حقيقته النقية المصفاة ، له إثره المبارك في تهذيب النفس وإسعاد الإنسان ، وتوجيه الحياة وجهة الحق والخير .

        وان الباحث : إذا تأمل أحوال الإنسانية في هذا العصر ، فسوف يجد إنها في أمس الحاجة إلى الإسلام .

        فالحضارة الغربية وصلت إلى أعلى مستوى من الرقى العمراني ، والتقدم العلمي الهائل ، ولكن قصة البشرية – برغم التقدم الحضاري – فيها مساوىء كثيرة زلت فيها أقدام البشر ، وصاغت عقولهم ، فقد أطلقت الحضارة الغربية حرية الإنسان ، وحررت غرائزه المكبوتة ، وتحولت الحريات إلى انحراف في الغريزة ، والى شذوذ في الطبيعة والى عدوان على حريات الآخرين ، ونتيجة لهذه الحرية لم يعد هناك ضابط أو متصرف .

        ومن تعاسة الحضارة المادية ، أنها عكست كرائم النعم ، والملكات التي انعم الله بها على الإنسان عكسا اسقط الإنسان في وديان الهلاك والدمار وسقط بالإنسانية دون عالم الحيوان ، فراجت خسائس العادات ، وذمائم الصفات من الاختلاط الفاضح ، والشذوذ في السلوك ، وظواهر الخنفسة والهيبز ، و الارتخاص ، والابتذال ، والخلاعة.

        لقد تقدمت العلوم بلا ريب ، ولكن هذه الحضارة التى علمت الناس كيف يسبحون في الماء بالغواصات الجبارة ، وطيف يطيرون في الفضاء ، وفى الهواء ، وفوق السحاب ، عجزت حتى اليوم عن تعليم ناسها وشعوبها كيف يسيرون على الأرض في طريق الخير بغير عوج والتواء .

        إن الغرب اليوم في حيرة بالغة ، وقلق واضطراب شاملين ، وكل ذلك يأخذ عليهم عقولهم و قلوبهم ، وأصبح الضمير هناك لا يطمئن إلي عقيدة أو مبدأ أو نظام فلم يعد يجد اليقين الذي يفيء إلى ظله ، في جو من الهدوء و الراحة والاستقرار .

        والبشرية اليوم في مفترق الطريق ، فهناك اضطرابات في الأفكار وحيرة فى الاتجاهات ، وزعزعه في النظم ، وخواء من العقيدة ، أصبح يجرفها دولة بعد دولة وشعبا بعد شعب ، إلى هاوية المادية وعلى كل فقد وقع المحظور ، وانصرف اتجاه الغرب الى المادية بكل معانيها وبكل ما تتضمنه هذه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر ، ونفسية ، وعقلية ، وأخلاق ، واجتماع ، وعلم ، وأدب ، وسياسة ، وحكم ، وكان ذلك تدريجيا ، وكان أولا ببطء وعلى مهل ، ولكن بقوة وعزيمة فقام علماء الفلسفة والعلوم الطبيعية ينظرون فى الكون نظرا مؤسسا على انه لا خالق ولا مدبر ، ولا أمر ، وليس هناك قوة وراء الطبيعة ، والمادة تتصرف في هذا العالم ، وتحكم عليه ، وتدبر شئونه ، وصاروا يفسرون هذا العالم الطبيعي ، ويعللون ظواهره وإثارة بطريق ميكانيكي بحت ، وسموا هذا نظريا علما مجرداً .

        لقد أفلست الحضارة الغربية ، برغم التقدم العلمي الهائل الذي وصلت إليه ، وبدأ الإنسان الأوربي يهرب من حضارته ، لأنه لم يحس في ظلها بالسعادة ، ولم يحس في مجتمعه بالآمن والآمان والاطمئنان ، فقد انتشرت عصابات القتل ، والخطف ، والتخريب ، والإرهاب ، وتفاقم خطر الجريمة ، وازداد عدد المجرمين ، وامتلأت البلاد بجماعات العربدة والفجور وأقيمت نوادي العراة وأبيح في غير استحياء الشذوذ الجنسي ، إلى غير ذلك .

        وهكذا تعجز النظم البشرية ، والقوانين الوضعية ، عن تقديم أي عون للإنسان، أو الأخذ به إلى الطريق السليم ، مما يؤكد ضرورة الإسلام للمجتمعات الإنسانية ، لان الإسلام قد انطوى على طاقة روحية جعلت منه – عند التطبيق – قوة فعاله ومؤثرة ، بل إن فاعلية الإسلام شملت حياة الأفراد ، وحياة الجماعات لجميع الجوانب.

 

المرجع :-

كتاب عقيدة المسلم.

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/82356

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك