اللطف الإلهي والتشريع الذاتي للعقل : علائق الفضيلة الأخلاقية والعبادات الصورية

محمد عثمان الخشت

يتراوح موقف فلاسفة الأديان من ماهية العبادات ووظيفتها في الأديان بين القبول والرفض وإعادة التأويل العقلي، تبعا لرؤيتهم لطبيعة العالم، ولحقيقة الألوهية، ولطبيعة العلاقة بين الإنسان والله، وبين الطبيعة وما بعد الطبيعة، وتبعا لتجربتهم الشخصية، وظروف العصر، والمقاصد الكلية التي تتطلع إليها أنساقهم الفلسفية.

الخلط بين العبادة الحقيقية والعبادة المزيفة:

من الناقدين للعبادات الفيلسوف هيوم؛ إذ يظن أن التصور المضخم للإله يؤدي إلى تضاؤل الإنسان أمام نفسه، ومن ثم تضاؤله أمام الإله، الأمر الذي ينتج عنه تحديد العلاقة بين الإنسان والإله في شكل علاقة خوف وخضوع؛ أي علاقة عبد بسيد, وقد تبلورت هذه العلاقة وتم التعبير عنها من خلال الطقوس والشعائر، وليس من خلال الالتزام الخلقي، حيث يكون سبيل الخلاص في الالتزام الصوري المظهري بالعبادات، وليس في ممارسة الأخلاق والفضيلة.

وفي الحقيقة يخلط هيوم هنا بين العبادة الحق في الدين -والتي تقيم علاقة فعالة بين الإنسان والله فتمده بدافع أخلاقي لممارسة الفضيلة- وبين العبادة المزيفة التي يمارسها المراءون، أو التي يمارسها الذين يخدعون أنفسهم, ويظنون أنهم يسترضون الله تعالى بأداء بعض الطقوس, ثم يعيثون في الأرض فسادا؛ فيغشون وينهبون ويكتمون الشهادة ويظلمون الأبرياء! ومشكلة هيوم أنه يظن أن العبادات كلها من النوع الثاني!ربما لأنه لم يستشعر تجربة وخبرة النوع الأول، أو لأن بيئته المحيطة كان يسيطر عليها النوع الثاني؛ ولذا يرى أن العبادات الدينية ينتج عنها برودة وخمول للقلب، وشيوع عادة النفاق والرياء, وسيادة مبدأ الغدر والزيف(2).

ويوجه هيوم نقدا عنيفا للطقوس والشعائر فيقول:

�يعتقد بشكل عام أن الثناء على الإله لا يعدو أن يكون طقوسا عديمة الشأن, أو دروشة, أو تصديقا غيبيا شديدا، ولسنا بحاجة للرجوع إلى العصور الغابرة أو للذهاب إلى مناطق بعيدة؛ لكي نتعرف على نماذج لهذا الانتكاس�(3).

بل يعتقد هيوم أن العبادات التي تنطوي على ثناء على الذات الإلهية تنزل بقيمة الألوهية؛ لأن تصور الإله على أنه يشتاق للحمد والثناء يعني أنه ذو عاطفة بشرية، وأية عاطفة؟ إنها عاطفة من أدنى العواطف البشرية، عاطفة الرغبة في ثناء الآخرين واستحسانهم. ويستند هيوم هنا إلى رأى سنيكا الذي يذهب فيه إلى أن العبادة الحقيقية لله هي أن نعرف الله، وأية عبادة أخرى تهبط بالله إلى حالة بشرية متدنية، حيث يستمتع البشر ويسعدون بالتملق والهدايا والاسترحام والتوسلات.

وليس ما يقوله هيوم أو سنيكا بصحيح؛ لأن حمد الله والثناء عليه تفيد الإنسان نفسه، ولا تفيد الله في شيء؛ لأنه غني عن العالمين, ووجه إفادتها للإنسان أنها تجعله يستشعر النعمة والفضل الإلهي؛ مما يجعله يشعر بحالة من الرضا النفسي والسكينة الروحية. ثم إن الثناء على أفعال معينة لله مثل القوة والرحمة والعدل والعلم تجعل الإنسان يعي قيمة هذه الأفعال الخيرة، مما يزيد من أهميتها في لاشعوره الأخلاقي؛ فتمثل له مثلا أعلى يسعى لاحتذائه.

ويرى هيوم –وهو محق هذه المرة- وجوب إدانة تلك العبادات الأسطورية التي تهبط بالله إلى الأحوال البشرية أحيانا وتتخيله -أحيانا أخرى- في وضع لا يخرج عن وضع شيطان متقلب الأهواء, ويمارس قوته بلا حكمة ودون شفقة(4)..تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومما يساعد على التقليل من قيمة هذا النوع من العبادة أو يلغيها تماما -فضلا عما سلف- أن �الشر سيصبح قرينا لنذور معظم الخرافات الشعبية�(5)، بمعنى أنه لو صح تصور الإله بمثل تلك العواطف البشرية التي تتوق إلى الهدايا والتملق، فإنه يمكن أن يستجيب هذا الإله لطلبات البشر الشريرة المصحوبة بتقديم بعض النذور له!

الالتزام الأخلاقي باعتباره العبادة الحقيقة:

يقوم كانط باستبعاد الطقوس والشعائر من دين العقل؛ لأنه ما دام الدين العقلي المحض مؤسسا على الأخلاق، ومنتهيا إليها، فإن كانط لا يرضى بالطقوس والشعائر والعبادات الموجودة في الأديان التاريخية بديلا عن الالتزام الخلقي، ويجعل العبادة الحقيقية كامنة في السلوك الأخلاقي القويم النابع من الإرادة الحرة والتشريع الذاتي للعقل العملي المحض.

والدين العقلي عند كانط لا يشتمل ـ مثل الدين التاريخي ـ على حركات تعبدية عملية تهدف إلى إنتاج القداسة بداخلنا والتأثير على الإرادة الإلهية؛ لأننا لا نستطيع ـ في رأي كانط ـ أن نقول بأن عالم الطبيعة يؤثر في عالم ما بعد الطبيعة.

وليس معنى أن العبادة الحقيقية عند كانط تكمن في السلوك الأخلاقي أن الله في حاجة إلى العبادة، أو أن لديه رغبة في ذلك, فالله جدير بأن يكون موضوعا للعبادة من خلال الالتزام الخلقي دون أن ننسب إليه شيئا من ذلك القبيل.

يقول كانط: �إذا كانت السعادة (ولنتكلم بلغة بشرية) تجعل الله جديرا بالمحبة فإن طاعة أوامره تجعله موضوعا للعبادة�(6)، وذلك بشرط ألا نفهم أن الله -كما قلت سابقا- لديه رغبة أو ميل في أن يتم تمجيده وتشريفه مقابل خلقه العالم، حيث إنه فعل ذلك لأسباب موضوعية وليست ذاتية، فعل الله ذلك من منطلق كرمه وفضله ونعمته، وليس لأنه يريد تكريمه(7)، و�أولئك الذين جعلوا الغاية من الخلق هي تمجيد الله (بشرط ألا نفهم هذا بطريقة تشبيهية كأن لديه رغبة في تمجيده) قد وجدوا لربما أنه أفضل تعبير أو أحسن مصطلح؛ لأنه لا يوجد شيء يمجد الله أكثر من طاعة أوامر الله والالتزام بالواجب المقدس -الذي هو أجدر شيء بالاعتبار في العالم- والذي تفرضه شريعته علينا�(8).

وعلى هذا فإن العبادة الحقة تكمن في الالتزام بالقانون الأخلاقي للعقل العملي المحض، وليس من خلال ممارسة طقوس وحركات شكلية.

وإذا كانت الأخلاق عند كانط تقودنا -من خلال مفهوم الخير الأقصى بوصفه موضوع العقل العملي المحض وغايته النهائية- إلى الدين -أي إلى الاعتراف بجميع الواجبات بوصفها أوامر إلهية(9)- فهذا لا يعني أنها فرائض تعسفية لإرادة خارجية، ولا أنها فرائض عارضة في ذاتها، وإنما هي قوانين جوهرية لكل إرادة حرة في ذاتها، هذه القوانين يجب أن نعتبرها -مع ذلك- كأوامر لكائن أسمى؛ وذلك لأنها فقط صادرة من إرادة كاملة أخلاقيا، وكاملة القدرة في الوقت ذاته(10). ولا ينبغي أن تفهم تلك القوانين أو الواجبات على أنها واجبات نحو الله أو تجاه الله، وإنما هي واجبات نراعي فيها الله؛ لأن الله هو غاية الغايات، ومن كان كذلك فليس من المعقول أنه ينتظر منا شيئا، وبالتعبير القرآني يقصد كانط أن يقول: (إن الله غني عن العالمين)، كما أن الواجب لا يكون واجبا إلا نحو إنسان؛ أي واجب على الإنسان تجاه إنسان بوصفه ممثلا للإنسانية العاقلة التي هي غاية في ذاتها، أما الله فهو منتهى الغايات والهدف الأقصى، ومن ثم فإنه غني بذاته.

وهكذا فإن السلوك الأخلاقي هو واجب نراعي فيه حق الله, وليس واجبا نؤديه لله، وهو -في الوقت نفسه- مقدم على ممارسة الطقوس والشعائر والمناسك؛ حيث إنه هو المتضمن للمعنى الأمثل للعبادة الحق، في مقابل العبادة الزائفة التي تحول فيها الطقوس والشعائر موضوع العبادة إلى صنم، ومن ثم يصبح الدين وثنيا، ولا يقصد كانط هنا الوثنية بمعنى عبادة الأصنام الحجرية أو ما إلى ذلك، وإنما يقصد أن إرضاء الله بالطقوس والشعائر والقرابين دون الالتزام الخلقي يجعل الله يبدو وكأنه صنم(11).

قدر كل دين:

يتوغل كانط في الإيمان بالدين العقلي المحض إلى درجة تجعله يأمل في إتيان زمن يتخلص فيه هذا الدين من كل أحكام ومبادئ الدين النابعة من ظروف تاريخية، تلك الأحكام والمبادئ التي كان لها وقتا ما دورُ القيام بعملية جمع الناس بغية تحقيق الخير بواسطة الإيمان ذي الطابع الكنائسي.

وهنا لا مفر من وقفة نقدية لرأي كانط؛ إذ يبدو أن كانط وغيره -من المؤكدين على الطابع التاريخي للأديان- يركزون على رؤية الجزئي والسلبي والمؤقت فيما يدخل الدين نتيجة الظروف التاريخية، ويتجاهل حقيقة أن التاريخ لا يقدم للدين على الدوام ما هو جزئي ومؤقت، وإنما يقدم كذلك ما هو ذو طابع كلي وايجابي ودائم. ولكن هذا لا يعني أن كانط لم يكن محقا في نقده للدين المسيحي عندما تحول إلى سلطة ومؤسسة وكنيسة, وأصبح تاريخيا وضعيا (بالمعنى الهيجلي), يركز على الطقوس والشعائر أكثر مما يركز على نقاء الضمير والفضيلة, واتساق الظاهر والباطن، ويركز على الشكلي والسلطوي والقهري أكثر مما يركز على الجوهري والعقلي والذاتي.

ويبدو من وجهة نظرنا أن هذا قدر كل دين، عندما ينسى أتباعه -في عصور الانحلال والتراجع- الطبيعة الأصلية والمقصد الحقيقي له؛ ولهذا نجد بعض الأنبياء كانوا يدركون خطر تحول الدين عن أصله إلى شكليات، ويخشون من البدع التي تفقد الدين جوهره, وتحول فيه الوسائل إلى غايات, والنوافل إلى فروض, والشكليات إلى ماهويات.

ويتجلى هذا بوضوح مع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، شريطة أن نفهم أن تحذيره كان من البدع في مجال العبادات، وليس من الإبداع في مجال الحياة, ولذا فإنه في الوقت الذي حذر فيه من الأولى دعا إلى تجديد الدين في جانبه المتعلق بالحياة؛ بغية تخليص الدين من العنصر التاريخي ذي الطابع المؤقت الجزئي والعرضي، مع الأخذ في الاعتبار بما هو دائم وكلي وجوهري على ما يتجلى من مفهوم �العبرة� أو�السنة التاريخية� المطروح بوضوح في القرآن.

وإذا كان نقد كانط لتاريخية الدين المسيحي تنطبق على أي دين عندما يغيب مقصده الكلي, ويفقد مضمونه نتيجة خيانة أتباعه وتغليبهم للمصلحة الذاتية, فيحولون الدين إلى سلطة ومؤسسة وكهانة تحت ضغط الصراع الاجتماعي أو السياسي, أو حتى صراع الإيديولوجيات - فإن هذا -من وجهة نظري- لا يسحب البساط من تحت أقدام الدين الأصلي ولا يلغي مشروعيته، ولا يقضي على ما هو دائم وكلي ونبيل فيه، على عكس ما يرى أولئك الذين يغالطون عندما يركزون على كون التاريخي دائما ذا طابع خاص وعرضي، ويعتبرون أن الأديان غير متمايزة، مركزين فقط على التشابه، ومتجاهلين لعناصر الاختلاف، ولا شك أن ثمة تشابها؛ لكن الخطأ يكمن في الاعتقاد بأنه تشابه في كل شيء، ومن ثم تهمل عناصر الاختلاف. ورغم إيمانهم بأن التاريخي ذو طابع خاص وعرضي فإنهم يقيسون الحاضر على الماضي، والأنا على الآخر، ويصرون على رؤية العلاقة بـين العالم الإسـلامي اليوم والإسلام على نفس المستوى الذي يرون فيه علاقة الغرب بالمسيحية في العصور الوسطى الأوربية وما يليها، أي أنهم يقيسون الأنا على الآخر، والحاضر على الماضي، مع أنهم ينقدون آلية القياس في الفكر الإسلامي. إنهم يمارسون آلية القياس -دون أن يشعروا- فيما ليس متشابها: �الغرب والمسيحية�، �العالم الإسلامي والإسلام�، ثم ينقدون آلية القياس باعتبارها آلية فقهية!

وعندي أن التمايز بين الإسلام والمسيحية جلي سواء على مستوى رؤية العالم أو على مستوى التعامل معه، رغم تضمن الإسلام لعنصر مسيحي يقر به علنا ولا ينكره، لكن التضمن الجزئي لا يعنى بأي حال إلغاء التمايز المتعدد على مستويات متنوعة، ومن غير الصواب قياس تجربة الإسلام في الشرق على تجربة المسيحية في الغرب.

إن الاستطراد السابق ضروري من أجل بيان, إنه إذا كان من الجائز تعميم بعض تحليلات كانط للمسيحية التاريخية على الأديان الأخرى فيما يتعلق بالجوانب المتشابهة بين المسيحية وبينها، ولاسيما إذا كان تحليل كانط في محله من الصواب، فليس من الجائز تعميم كل نتائج كانط؛ لأنه إذا كانت بعض التحليلات المنسحبة على المسيحية تنسحب على غيرها، فهذا ينبغي النظر إليه في حجمه الطبيعي دون �توسيع� الاستدلال, والقفز من دين إلى آخر دون برهان أو ضرورة عقلية أو تاريخية تقتضي هذا، حيث إن التشابه الجزئي لا يستلزم التشابه الكلي، ولاسيما إذا كانت عناصر التباين أكثر من عناصر التلاقي.

فضلا عن أن صدق التحليل الكنطي على عنصر مسيحي معين يوجد بدوره في ديانة أخرى - لا يستلزم بالضرورة صدقا فيما يتعلق بالعنصر ذاته داخل تلك الديانة الأخرى؛ لأنه ربما يكتسب معنى مغايرا إذا وضع في الاعتبار سائر العناصر الأخرى في تلك الديانة, ودور وطبيعة هذا العنصر بعد تفاعله مع العناصر الأخرى في النسق العام. فالخاص لا يمكن فهمه إلا في إطار العام، ومن الممكن أن تتغير دلالته من نسق إلى آخر.

 

انعكاس الأولويات ونقد المؤسسات الدينية:

 

في ضوء تلك الحدود المنهجية ينبغي النظر إلى محاولة كانط تحرير الدين من المضامين التاريخية الوضعية، تلك المضامين هي نفسها التي من أجلها ينتقد المؤسسة الدينية، فهذه الأخيرة تبعد عن الدين العقلي المحض عندما تجعل الأولوية للعبادات والفروض والطقوس والشعائر والمناسك على الفضيلة الأخلاقية النابعة من التشريع الذاتي للعقل المحض, وبهذا الانعكاس للأولويات تقيد الحرية الإنسانية وتكبلها بأغلال، مع أن الحرية الإنسانية ضرورية للدين للصحيح بوصفه دينا مؤسسا على الأخلاق.

ويؤدى انعكاس الأولويات هذا إلى ما يسميه كانط بالعبادة الزائفة التي تسعى لنوال اللطف الإلهي بطرق لا علاقة لها بالفضيلة الأخلاقية؛ لأنها تقوم على الالتزام الشكلي الصوري والمظهري، وعلى الطقوس والشعائر التي لا تتجاوز دائرة الحركة الجسمية.

وتتسع الشقة بين الدين العقلي المحض والمؤسسة الدينية التاريخية إلى أقصى حد فيما يتعلق بالنظر إلى الطقوس والشعائر، عندما يحكم كانط على المؤسسة الدينية التاريخية بأنها مؤسسة �تسودها عبادة خرافية نجدها دائماً هناك حيث لا توجد مبادئ للأخلاقية، وإنما توجد أوامر تنظيمية، وقواعد إيمانية وفروض هي الأساس لها والجوهر, وتوجد أشكال عديدة من مؤسسات العبادة (حرفياً: الكنائس) فيها النزعة الوثنية أو الصنمية (Fetichisme) متنوعة وآلية إلى درجة أنها تبدو أنها تكاد تستبق كل أخلاقية، وبالتالي تستبق كل دين وتحل محله، وبهذا تقترب كل القرب من الوثنية؛ لكن الكثرة أو العلة في هذا الأمر لا تهم إلا قليلا من حيث المكانة أو تعتمد على طبيعة المبدأ الأعلى للالتزام. فإذا كان هذا المبدأ يفرض خضوعاً مستسلماً لعقيدة -أعني لعبادة مستعبدة، لا ذلك الإجلال الحر الذي ينبغي الشعور به نحو القانون الأخلاقي في المقام الأول- فلا يهم أن يكون عدد الفروض المفروضة قليلاً، ما دامت تعدّ ضرورية؛ لأن ما يحكم الجمهور هو هذه العقيدة, ويسلبه حريته الأخلاقية بأن يفرض عليه الطاعة لكنيسة (لا لدين). وسواء أكان دستور هذه المؤسسة الدينية (حرفيا: الكنيسة) ملكيا، أو أرستقراطيا، أو ديمقراطياً، فهذا أمر لا يهم إلا التنظيم؛ فأيا كان شكله فإنه سيكون وسيظل دائماً استبدادياً. وحين تصير لوائح الإيمان جزءاً من القانون الدستور فإن الكهنوت يحكم ويسيطر، ويظن أنه يقدر على الاستغناء عن العقل، وأخيرا عن علم الكتاب؛ لأنه وقد صار المحافظ والمفسر المعتمد لإرادة المشرع الذي لا يرى، فستصبح له السلطة على أن يقرر وحده معنى الإيمان، ولما كان قد تزود بهذه السلطة فليس عليه أن يقنع؛ بل فقط أن يأمر. ولما كان كل ما هو خارج هذا الكهنوت من العامة (دون استثناء حتى رئيس التنظيم السياسي في الدولة) فإن المؤسسة الدينية ستحكم الدولة في نهاية الأمر، لا عن طريق القوة؛ وإنما عن طريق تأثيرها في النفوس، وأيضاً بالتلويح بالفائدة التي تحصل عليها الدولة من الطاعة المطلقة التي يقوم التنظيم الروحي بتعويد عقلية الشعب عليها؛ لكن عادة النفاق تقوض –على نحو غير محسوس– استقامة الرعايا وأخلاقهم، وتربيهم على المراءاة في الواجبات المدنية، وتنتج –شأنها شأن المبادئ الباطلة التي يتخذها المرء– العكس تماماً مما هدفت إليه�(12).

ويرى كانط أن مِمَّا يدخل في دائرة الوهم والخرافة الاعتقاد بأن وسيلة خلاص الإنسان وتبرئته لذاته تكمن في الطقوس والشعائر، والإيمان ببعض المعتقدات وطاعة الكنيسة.

والسبب الذي يستند إليه كانط في اعتبار أن مثل هذه الوسيلة وهمية وخرافية هو كونها غير أخلاقية؛ أي أن الخلاص يتم فيها بالاعتماد على ما هو مغاير للالتزام الخلقي.

كما يعتقد كانط أن وهميتها ترجع أيضا إلى الإيمان بأن الإنسان يملك قدرة الاتصال بعالم ما وراء الطبيعة والتأثير فيه, وهذا غير جائز عند كانط؛ لأن الإنسان -من وجهة نظره- لا يحوز مَلَكة تمكنه من معاينة هذا العالم والتأثير فيه(13).

ويؤكد كانط أنه مخلص في هذا الحكم لنتائج الفلسفة النقدية التي تنكر أية معرفة نظرية بعالم ما بعد الطبيعة، وتجعل معارفنا قاصرة على هذا العالم المحسوس عالم التجربة, الأمر الذي يؤكد تأسيسه لفكر ديني جديد, فهو يرفض العبادة التي هي في الأديان التاريخية عبارة عن نوع من الاتصال بين العالم المحسوس وعالم الأشياء في ذاتها, على أساس استحالة الوصول إلى غاية فوق حسية؛ لأن الإنسان لا يملك أية حاسة تجعله مستعدا لمعرفة من ذلك النوع لعالم الأشياء في ذاتها.

العبادات في المسيحية من منظور مختلف:

ينظر هيجل للعبادات في المسيحية من منظور مختلف عن علماء اللاهوت، ويتضح هذا من موقف هيجل من العبادة والطقوس الكنسية؛ حيث يؤكد -بشكل واضح- على ما جاء في �أعمال الرسل� من أن الروح القدس قد تدفقت -بعد رفع المسيح- على جماعة الرسل المشكلين لأول كنيسة؛ إتماما لوعد المسيح بإرسال المعين الذي ينوب عنه... قال المسيح مخاطبا الرسل: �إن يوحنا عمد الناس بالماء، أما أنتم فستتعمدون بعد أيام قليلة بالروح القدس،... وحينما يحل الروح القدس عليكم تنالون القوة، وتكونون لي شهودا في أورشليم واليهودية كلها، وفى السامرة، وإلى أقاصي الأرض�(14).

ويعني انتقال الروح القدس إلى الجماعة عند هيجل أن حقيقة المسيح قد صارت كامنة في الجماعة نفسها، ومن ثم غدت الجماعة هي الحاملة للروح القدس، الروح القدس يوجد بالفعل في كنيسة الله!

ولقد انتهجت هذه الكنيسة الأساليب والطقوس التي تعينها على بقاء هذه الروح باستمرار، وهنا تتجلى العبادة في المسيحية -عند هيجل- بوصفها حركة صاعدة من المتناهي إلى اللامتناهي، من الإنسان إلى الله، بوصفها فعلا حرا يحيى الروح، على عكس العبادات في الديانات القديمة التي كانت أفعالا غير حرة، غير قادرة على العلو بالنفس خارج نطاق الطبيعة، نحو اللامتناهي؛ لأن الروح كانت إما خواء وعدما، وإما غارقة في الطبيعة.

 

اللطف الإلهي: هل يمكن استدعاؤه بالعبادة والدعاء؟

لا يقر كانط بإمكانية استدعاء اللطف الإلهي بواسطة العبادة والدعاء, فعلى الأساس الذي أنكر بناءً عليه تأثير �عالم الأشياء في ذاتها� في �عالم الظواهر�(15) يعود من جديد لينكر إمكانية تأثير عالم الظواهر في عالم الأشياء في ذاتها(16)، فينكر مشروعية الدعاء، وربما لا يستلزم موقفه من الدعاء تفصيلا كبيرا؛ لأن الدعاء جوهر أو مخ العبادة، وقد سبق له رفض مشروعية العبادات (الطقوس والشعائر) بعامة، ومن ثم فإن موقفه منها ينسحب بالضرورة على الدعاء.

غير أنه يضيف أدلة جديدة ينبغي الإشارة إليها، منها:

1- يرى أن الداعي يفترض أن الله ذو وجود مشخص؛ بينما لا يوجد دليل على ذلك من وجهة نظره.

2- إعلان الداعي عن رغباته أمام الله يكشف عن تناقض؛ إذ أنه يعلن عنها أمام كائن يفترض فيه أنه لا يحتاج إلى إعلان عن المشاعر الباطنة بحكم علمه بكل شيء.

لكن الجدير بالإشارة أن كانط يحاول أن يلتمس مشروعية ما للدعاء، لا تتمثل في التأثير في الله، ولا في الإقرار بأن الدعاء من الواجبات الأخلاقية نحو الله، ولا أنها تحقق رضاه؛ وإنما تتمثل فحسب في إحياء الشعور الأخلاقي؛ أي أن الإنسان عندما يدعو لا يؤثر إلا على نفسه بإعطائها دفعة شعورية نحو الالتزام الخلقي عن طريق استدعاء فكرة الله، غير أن كانط يرفض في كل الأحوال استخدام الألفاظ والنطق بها، ويكتفي بالتأكيد على النية الباطنة(17).

هكذا يرفض كانط رأي القائلين باللطف الإلهي ومشروعية الدعاء؛ لأنهم يعتقدون وجود علاقة تأثير وتأثر بين عالم الإنسان وعالم ما بعد الطبيعة؛ فالدين العقلي المحض عند كانط دين خال من الدعاء والطقوس أو الشعائر والمناسك؛ لأنه في جوهره عمل بالقانون الأخلاقي؛ إذ أن السلوك الأخلاقي النابع من أداء الواجب الذي شرعه العقل لذاته بذاته هو العبادة الحقيقية؛ بينما الخضوع لطقوس وشعائر ولوائح كنسية يقضي على حرية الإنسان؛ لأنها غير متضمنة لقيمة أخلاقية(18).

ويشير إميل بوترو إلى أن كانط في الطبعة الثانية من كتابه �الدين في حدود العقل فقط� يقول بأنه ليس المقصود هدم العقيدة الكنسية هدما تاما؛ فهذه العقيدة يمكن دائما أن تكون نافعة من حيث هي أداة لعقيدة عقلية, وبهذا الاعتبار نستطيع الحفاظ عليها, ولكن مع العناية بتطهيرها من كل ما يمكن أن يكون مضادا لهذا الدور، وعرضها على أن لها قيمة بنفسها(19).

الدعاء لا يزال ممكنا

إن موقف المنكرين للعبادات عامة والدعاء خاصة ليس موقفا علميا، فلا شك أن الرأي الكنطي غير صائب، وغير متفق مع الاستنباط المنهجي؛ لأن كانط يصدر أحكاما سلبية بالنفي عن طبيعة العلاقة بين عالم ما وراء الطبيعة (عالم الألوهية) وعالم الطبيعة الذي ينتمي إليه الإنسان، مع أن هذا ليس موقفا علميا نقديا بمقياس العقل النظري المحض؛ لأن كانط لم يعاين عالم الألوهية حتى يعرف طبيعة العلاقة بينه وبين عالم الظواهر، وإذا ما كان هناك تأثير متبادل بينهما أم لا, ومادام لا يوجد مثل هذا العيان أو المعرفة؛ فإن هذه العلاقة تبقى موضوعا للإيمان, وليس موضوعا للعقل النظري المحض أو العلم الطبيعي.

ولذا فإنه كان ينبغي على كانط أن يدع هذه المسألة للإيمان، أو على الأقل يتوقف فيها دون إنكار أو إثبات؛ لأن الإنكار الذي ذهب إليه يتضمن حكما في مسألة تجاوز قدرات العقل النظري المحض, والمعرفة العلمية الطبيعية، وإصدار مثل هذا الحكم يتعارض مع هذا العقل النظري المحض حسب كانط نفسه، كما يتعارض مع طبيعة المعرفة العلمية بمعناها الطبيعي الرياضي؛ لأن العلم لم يعاين عالم ما فوق الطبيعة حتى يعرف حدود تأثيره في عالم الطبيعة، وما إذا كان ذلك العالم وَهْما أو حقيقة، فضلا عن أنه لم يعاين الطبيعة بأكملها حتى يمكنه إصدار حكم على جوهرها؛ وإنما عاين جزءا منها فقط لا يخرج عن نطاق الكرة الأرضية وشيء مما حولها، وحتى هذا الجزء الذي عاينه لم يكوّن عنه معرفة شاملة بعد.

ومن هنا فإن موقف المنكرين ليس موقفا علميا -وإن كان يدعي أصحابه عكس هذا- لأنه يصدر أحكاما على الكون بأكمله؛ بينما لم يدرك إلا جزءا منه فحسب؛ بينما يظل موقف المثبتين موقفا إيمانيا مستندا إلى يقين قلبي، ولاشك أن للقلب أحكامه, كما أن موقفهم مستند إلى نوع من الخبرة التي عايشوها في علاقتهم مع الله, ومن ثم فموقفهم مشروع تماما؛ لكن من ناحية أخرى فإن موقف كانط صائب من جهة تأكيده على أن الدين في جوهره هو عمل بالقانون الأخلاقي، والسلوك الأخلاقي هو أرقى درجات العبادة للحق.

 

هل العبادات في الإسلام تهدف إلى التأثير على الله تعالى؟

 

خلافا للفيلسوف كانط، نجد أن العبادات في الإسلام لا تهدف إلى التأثير في عالم ما فوق الطبيعة؛ وإنما هي ذات هدف أخلاقي في المقام الأول؛ يقول القرآن: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(العنكبوت: من الآية 45). ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا�(20).

وقد هاجم الإسلام الذين يحولون العبادات عن جوهرها الأخلاقي، وشدد على مفهوم النية الباطنة كأساس جوهري لكون العبادة حقيقية أم مزيفة؛ فليست العبادات مجرد طقوس وشعائر جسيمة مظهرية؛ بل هي في الأساس عمل روحي يهدف لإعادة بناء الروح في علاقتها بالعالم عبر ضبط علاقة الروح الإنساني مع الألوهية كمنبع للأخلاق والضمير، وكمقياس للمثل العليا: الحق، والعدل، والعلم، الرحمة، والقوة…إلخ، التي هي أسماء لله. ومن هنا ينبغي أن نفهم الحديث النبوي: �تخلقوا بأخلاق الله�؛ أي �التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية�(21).

 

عبادة الله الواحد بوصفها غاية الإسلام النهائية:

 

عبادة الله الواحد هي غاية الإسلام النهائية، والنقطة التي يلتقي عندها كل شيء في الكون(22)، ولذلك فإن النظام العبادي ليس مقصورًا على الصلاة والزكاة والصيام والحج فحسب؛ بل إنه نظام يعتبر كل حركة، وكل شعور، وكل فكرة، يمكن أن تتحول إلى عبادة إذا كانت مستهدفة لوجه الله. فهو نظام عبادي يتسع لحركة الحياة بأسرها؛ حيث إن التفكير عبادة؛ قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾(الروم: 8), والبحث عن قوانين الخلق وكيفية بدئه عبادة؛ قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾(العنكبوت:20), والعلم –سواء كان دنيويا أو دينيا- عبادة، بل هو أفضل العبادات؛ قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾(طه: 114). ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة�(23), ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة�(24), والعمل عبادة ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾(التوبة: 105). ولقد عدّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ �العامل لرزق أهله كالمجاهد في سبيل الله�, ولقد جاء قوم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيهم رجل عابد زاهد، فقال النبي: �من هذا؟� فقالوا: رجل انصرف للعبادة، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �ومن يكفيه؟� فقالوا: كلنا، فقال النبي: �كلكم خير منه�, وجاءه عابد آخر، فقال ـ عليه السلام ـ: �ومن يؤكله؟� فقالوا: أخوه. فقال ـ عليه السلام ـ: �أخوه أعبد منه�(25). حتى في إتيان الإنسان لشهوته عبادة مادام هذا الإتيان كان في الإطار الشرعي؛ فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: �إن في بضع أحدكم لصدقة�, قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: �أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر�(26). وأشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن الرجل يُؤجر ويثاب حينما يرفع اللقمة إلى فم زوجته؛ فقد روى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: �ما أنفقه الرجل على أهله فهو صدقة، وإن الرجل ليؤجر في اللقمة يرفعها إلى فم امرأته�... �إن في اللقمة ترفعها الزوجة إلى فمها لأجرا لزوجها الذي سعى في سبيلها�.

 

والعبادة في الإسلام ليست مقصورة على الإنسان فحسب؛ بل هي تشمل الكون وكائناته؛ ذلك أن الإسلام يقرر أن الكون في حالة عبادة كونية لله رب العالمين؛ ولكن ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات هو أنه يعبد الله عن طواعية واختيار مع ملاحظة أن الإنسان -من إحدى الزوايا- يعبد الله عبادة أخرى دون طوع واختيار, وذلك في إطار العبادة الكونية, يقول تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِوَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(آل عمران: 83), وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍكُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾(النور: 41). إذًا فالقرآن يقرر أن الإنسان -من إحدى الزوايا- يعبد الله في إطار العبادة الكونية الشاملة التي تبعد عن الطوع والاختيار؛ ولكن الإنسان من زاوية أخرى يعبد الله إن شاء عن طوعه المحض وإرادته البحتة, وهذا ما يجعله متميزا عن سائر المخلوقات, والقرآن يقرر تلك الزاوية الاختيارية عند الإنسان عندما يقول: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءفَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف: 29). والإنسان إن أعرض عن العبادة من هذه الزاوية فقد شذ عن الإطار الكوني التعبدي, وهو لذلك مطالب بالعودة والرجوع حتى يقضي على هذا الشذوذ والاختلال, وحتى يعود الانسجام بينه وبين الكون الذي يعيش فيه.

 

ونظرا لأن الإسلام يعد عبادة الواحد هي المقصد النهائي؛ فإن هيجل يرتب على ذلك الحكم بأن الإسلام سالب للذاتية الإنسانية، مثل ديانات الشرق عامة؛ لكنه يسارع ببيان أن هذا السلب ليس إلى درجة الفناء المطلق مثل الهندوسية أو الرهبانية؛ لأن الذات وإن كانت مسلوبة فهي لا تزال حية نشطة تجاهد في العالم بهدف إخضاع الدنيوي لعبادة الإله الأحد(27).

 

وفي الواقع إن الإسلام –على عكس ما يرى هيجل- ليس سالبا -بأي معنى- للذات الإنسانية؛ لأنه يؤكد على أن الإنسان شخصية مستقلة, وتحمل المسئولية التكليفية كاملة، وعبادته للواحد لا تسعى للاندماج فيه، ثم إن الإسلام يقول بتعالي الله، ويفصم بين الذات الإلهية والذات الإنسانية؛ فكيف مع هذا الفصل بين الذاتين يكون سالبا للذاتية الإنسانية؟!

 

وعندما يتناول هيجل العبادات الإسلامية فإنه لا يذكر منها إلا الصيام والزكاة، وينظر إلى الصيام نظرة صائبة, فيعدّه جهدا إنسانيا يهدف إلى التحرر من خصوصية الجسد؛ بغية تلاشي المسافة الفاصلة بين الجسد الفردي المتناهي وبين الله المجرد اللامتناهي، كما أن الزكاة محاولة للتحرر من أنانية الملكية الفردية(28).

 

ولا يرتقي الروح الإسلامي فوق خصوصية الجسد والملكية الفردية فحسب؛ بل إنه يرتقي كذلك فوق خصوصية العرق والمولد(29).

 

ولذلك فإن الإسلام ثورة سعت إلى التحرر من المحدودية والجزئية والخصوصية، ونظرت بانتباه وتفان مطلق إلى المجرد، واستهدفت غاية واحدة فقط هي معرفة الله الواحد، وجعلت من اللامتناهي شرطا للوجود المتناهي(30).

 

************************

 

الحواشي:

*) أكاديمي من مصر.

�(2 Hume, Dialogues Concerning Natural Religion, London, The Fontana Library, 1971, p198.

3) Ibid, p196-8.

قارن: الترجمة العربية محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1956، ص151.

4) Ibid, P203.

5) Kant, Kritik der Praktischen Vernunft, Werke, Pru., AK., 5:131.

6) Kant, Kritik der Praktischen Vernunft, Werke, Pru., AK., 5:131.

7) Kant, Werke, 18:469.

8) Kant, Kritik der Praktischen Vernunft, Werke, Pru., AK., 5:131.

9) Kant, Religion within the Limits of Reason Alone, p142.

10) Kant, Kritik der Praktischen Vernunft, Werke, Pru., AK., 5:129.

11) Kant, Religion within the Limits of Reason Alone, p173.

12) Ibid, p167-8.

وعبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، ص55.

13) Ibid, p162-3.

14) أعمال الرسل 1: 5- 8.

15) أي ينكر تأثير عالم ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة.

16) أي ينكر تأثير عالم الطبيعة في عالم ما وراء الطبيعة.

17) Kant, Religion within the Limits of Reason Alone, p182 ff.

18) لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى: العقل وما بعد الطبيعة - تأويل جديد لفلسفتي هيوم وكانط، محمد عثمان الخشت، القاهرة، مكتبة ابن سينا،1990.

19) بوترو، فلسفة كانط، ص380.

20) رواه الطبراني في المعجم الكبير، ج11, ص55, والقضاعي في مسند الشهاب، ج1, ص306.

21) الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 7, ص60.

22) Hegel, Lectures on the Philosophy of History, New York, Dover Publication, p356.

23) رواه ابن ماجه، وقد نقل العراقي تصحيحه عن بعض العلماء. والحديث -وإن قال أحمد بضعفه- فإن له بمعناه شواهد تزيل ضعفه.

24) رواه مسلم.

25) انظر مزيدًا من التفاصيل عن وجهة النظر الإسلامية حول العمل مدعمة بشواهد من القرآن والسنة عند الإمام محمد أبي زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، القاهرة، دار الفكر العربي، 1976, خاصة ص187 وما بعدها.

26) رواه مسلم.

27 ( Hegel, Lectures on the Philosophy of History, p357.

28 (Ibid, p356.

29( Idem.

30 (Idem.

المصدر: http://tasamoh.om/index.php/nums/view/34/756

الأكثر مشاركة في الفيس بوك