السلطة وتوظيف الدين .. بين الأمس واليوم

معتصم علي

في هذه المقالة سنتبيّنُ فكرة قريبة بعيدة: قريبةً إلى واقع الناس، بعيدةً عن تفكير معظمهم.

هذه الفكرة تتمثل في استخدام الدين من قبل السلطة خلال الزمان واختلاف المكان.

فما المقصود بهذه الفكرة؟ وما مصداقها على أرض الواقع؟ وهل هناك أمثلة دقيقة عليها خلال الزمان واختلاف المكان؟

هذا ما سنحاول معالجته في هذه العجالة، على أن الأمر يحتاج إلى بعد نظر، وبحث وتحقيق، ومتانة في ضرب الأمثلة، مع مراعاة اختلاف المشارب والعقول.

يقول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (127).

ويقول الله تعالى في سورة القصص: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (38(.

ويقول الله تعالى في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (26).

في هذه الآيات نرى أن فرعون كان واضحاً جداً في إظهار العاطفة الدينية -وإن كانت مشوّهة- واستخدامِها كدعاية وغطاء في مواجهته مع موسى عليه السلام ودعوته، بكل الأساليب المتاحة.

وليس بعيداً عن ذلك ما واجه به الملأُ من قريش دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما اتهموه بمحاولة تبديل دين الآباء.

يقول الله تعالى في سورة النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (35).

ويقول الله تعالى في سورة الزخرف: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ* وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (22 / 23).

إذن.. هو التسويغ الديني لكل موقف؛ ذلك أن الناس بشكل عام يميلون بطبيعتهم إلى تقديس كل ما يتصل بالدين، لذا كان أصحاب السلطة يستخدمون الدين على طريقتهم لاستمالة قلوب الناس وتأييدهم.

بناءً على ما تقدم نحاول الإجابة عن الأسئلة المطروحة:

فالمقصود بهذه الفكرة: هو محاولة السلطة إقناع الناس بتصرفاتها عن طريق استخدام الأدلة الدينية التي تطوّعها هي، أو يطوّعها علماءُ الدين المقربون من هذه السلطة.

ومصداق ذلك أننا نرى السياسيين في معظم بلاد العالم -على اختلاف توجهاتهم الدينية- يحرصون على إظهار أنفسهم من المتدينين، ويستعينون بعلماء الدين أو (رجال الدين) ليكونوا إلى جانبهم بشكل رسمي.

ونستطيع أن نثبت ذلك بالوقوف قليلاً مع التاريخ لنعرف مصداقه في الحاضر.

من المعلوم أن السلطة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم انتقلت دون أي نص ديني إلى الخلفاء من بعده، ولو كان هناك نص ديني على اسم معين، أو كان الإسلام يدعم هذه النظرية في انتقال السلطة لما رأينا أي اختلاف بين الصحابة في اختيار الخليفة، لكنّ الصحابة كانوا يجتهدون ويتعاملون مع معطيات الواقع في كل مرة يختارون فيه من يحكمهم.

بل إن أبا بكر وعمر كانا يصرّفان شؤون السلطة بالاجتهاد والشورى دون الخروج على المبادئ العامة للشريعة، ودون تطويع هذه المبادئ لدعم وجودهما في السلطة.

فقد قال أبو بكر الصديق عند استخلافه: (إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني)، وكان عمر بن الخطاب يقول: (ما أنا إلا رجل منكم) وكان يقول أيضاً: (المال مال الله والبلاد بلاد الله).

ومن المعلوم أيضاً أن بداية إدخال النص الديني لدعم وجهة النظر السياسية عند السلطة بدأ مع بداية عهد الانحدار في نهاية خلافة عثمان بن عفان، لكن اللحظة التاريخية الحاسمة التي تحول فيها الخلاف السياسي إلى خلاف ديني عقدي تمثلت في خروج الخوارج على علي بن أبي طالب بعد حادثة التحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، فأصبح الخلاف السياسي مسوِّغاً للتكفير عندهم.

وبعد ذلك أصبحت النصوص الدينية لعبة يتقاذفها أصحاب السلطة بدرجات متفاوتة، إلى أن قال أبو جعفر المنصور المؤسسُ الفعلي للدولة العباسية: (أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنُه على ماله: أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قُفلاً، فإن شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقَسْم أرزاقكم فتحني، وإن شاء أن يقفلني قفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهبكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب) (البداية والنهاية).

ويظهر هنا واضحاً جلياً أن أبا جعفر المنصور كان يبث فكرة محددة تنص على أن الخليفة والخلافة جزءٌ من قدر الله ومن ناموس الكون، فلا مجال أمام الناس إلا بالتسليم والخضوع والانقياد.

أما في عهد المأمون والمعتصم والواثق في بداية القرن الثالث الهجري، فقد تبنت السلطة رأياً دينياً محدداً، بطشت على أساسه بالمعارضين، وقُتل وحُبس وطورد خلق كثير من العلماء والمفكرين، حتى أصبح الكيان الاجتماعي مهدداً بالانفجار لولا أن الله قدر انتهاء المحنة في عهد المتوكل.

وليس بعيداً عن ذلك ما نراه اليوم من إصرار كثير من المستبدين على إظهار وجه ديني لتسويغ استبدادهم، واللعب بعقول البسطاء من الناس بإثارة العاطفة الدينية عندهم.

ولا حل لهذه الأزمة التاريخية الاجتماعية إلا بعودة الناس إلى ممارسة حقهم في الاختيار وتقرير المصير، وهذا بالتحديد ما شُرع الدين من أجله.

قال تعالى في سورة آل عمران: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159).

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D9%88...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك