هكذا بنى رسول الله جيشه الذي لا يقهر

علي البغدادي

لم يأذن الله للمسلمين بالجهاد في مكة وكان لذلك أسبابه الواقعية من ضعف المسلمين وقلة عددهم في ذلك الوقت، كما أن الحماية القبلية قد وفرت للرسول غطاء يحميه لم يكن ليتوفر لو أنه بدأ بالقتال، أما في المدينة فالوضع مختلف تماما فقد تأسست دولة ولها أعداء متربصون كثيرون في الداخل والخارج، ولا بد لها من أن تؤسس جيشا له قوة ومهابة حتى تتمكن من حماية نفسها وتبليغ الدعوة، لذلك نزل الإذن بالجهاد بقوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[1] ثم نزل قوله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)[2] فبدأ الرسول بتأسيس جيشه.

وكان هذا التأسيس على ثلاثة محاور، معنويا وتدريبيا وتسليحيا:

1)    الإعداد المعنوي

إن ما يميز قوة المسلمين عن غيرهم منذ عهد الرسول إلى يوم القيامة هو قوة إيمانهم وشجاعتهم وإقدامهم وحبهم للشهادة، ولم يكن المسلمون في كل معاركهم الفاصلة أفضل تسليحا ولا أكثر عددا من أعدائهم، بل إنهم ينتصرون دائما كلما ازدادوا ارتباطا بالله وتمسكا بدينهم.

وكان القتال في البيئة العربية يدور حول المغنم والمرعى والعصبيات المقيتة، وكان للإقدام والشجاعة مكانة كبيرة للفخر والزهو بين الناس.

فجاء الإسلام فسما بأهداف القتال ورفعه من حضيض الدنيا إلى درجات الجنة، فأصبح القتال لإعلاء راية لا إله إلا الله بدلا من حطام الدنيا، وأصبح الأجر هو الجنة بدلا من الفخر والخيلاء.

وكان المسلمون يقاتلون عن عقيدة يؤمنون بها ويحبونها.. ورسول الله يحرضهم ويشجعهم..

عن أبي سعيد الخدري قال أتى رجل رسول الله فقال: أي الناس أفضل؟ قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله..

وعن معاذ بن عفراء قال: يا رسول الله: ما يضحك الرب من عبده قال: غمسه نفسه في العدو حاسرا، فألقى درعا كانت عليه وقاتل حتى قتل.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق بكلماته، أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة)[3]

والأمثلة أكثر من أن تحصى في شجاعة الصحابة وإقدامهم.

2)    الإعداد التدريبي

كان المسلمون يعيشون في بيئة العرب الجاهلية التي كان القوي يأكل فيها الضعيف لذلك كان لهم دراية بفنون القتال، غير أن ثلاثة عشر عاما من الدعوة المكية السلمية قد أثرت على جاهزيتهم، كما أن معظم المسلمين كانوا من الشباب الذين نشأوا في ظل المواجهة الفكرية والإيمانية في مكة ولم يتمرنوا على فنون القتال، هذا كان حال المهاجرين.

أما الأنصار فقد كانوا أفضل من المهاجرين تدريبا وذلك لأنهم خاضوا حربا ضروسا فيما بينهم قبل الإسلام غير أن هذه الحرب قد قضت على كثير من أهل الخبرة في شؤون القتال.

لذلك فقد اعتنى الرسول بتدريب المسلمين على فنون القتال المعروفة في ذلك العصر، وتقوية أجسامهم، وإلا فكيف لنا أن نتصور أن الصحابة الذين أسلموا في مكة وكانوا ما يزالون فتية ولم يشتركوا في أي معركة قط لعدم الإذن بالقتال.. إذا بهم يتحولون إلى مقاتلين أشداء في فترة بسيطة، كيف لنا أن نتصور هذا دون أن يكونوا قد مروا بدورات تدريبية عسكرية أهلتهم لهذا الأمر، فكيف درب رسول الله جيشه؟

كانت الأولوية في التدريب هي للرماية ويتضح ذلك من حديث الرسول فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول -وهو على المنبر- “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”. [4].

وقال ناس من الأنصار: كنا نصلي مع رسول الله المغرب ثم نرجع فنترامى حتى نأتي ديارنا فما يخفي علينا مواقع سهامنا.[5]

ومر النبي عليه السلام على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي: ارموا وأنا معكم كلكم”.[6]

وشاهد رجل عقبة بن عامر يحمل السلاح ويمارس التهديف راكضا من مكان إلى مكان فسأله: تختلف بين هذين الموضعين وأنت شيخ كبير؟ فقال: لأمر سمعته من رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا.[7]

كما حث على تعلم ركوب الخيل والإبل وإتقانه، وكان يضمَر الخيل ويقيم مضامير السباق فعن ابن عمر قال: سابق رسول الله بين الخيل، فأرسلت التي أضمرت منها، وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني رزيق وحدد المسافة للخيل التي أضمرت بستة أميال أو سبعة، والتي لم تضمر نحو ميل تقريبا، وكان ابن عمر ممن سابق فيها.[8]

وكان يحث أصحابه على العدو والسباق فيه، فعن سلمة بن الأكوع قال: بينما نحن نسير قال رجل من الأنصار وكان لا يسبق شدا[9]، قال: فجعل يقول ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلت: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله، قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت اذهب إليه وثنيت رجلي فطفرت فعدوت، قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين، ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه، قال: فسبقته إلى المدينة.[10]

كما كان يشهد المصارعة بين الصحابة الذين كانوا يتصارعون بين يديه.

وكان رسول الله وهو الأسوة يهتم بصحته وقوته الجسمية، وقد صارع ركانة في الجاهلية فصرعه.

وعن أبي هريرة قال: “ما رأيت أحدا أسرع من رسول الله في مشيه، كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث”.

3)    الإعداد التسليحي

وامتد اهتمام النبي إلى إمداد جيشه بكل ما يحتاجه من السلاح والعتاد إما تصنيعا محليا، أو استيرادا من الخارج.

فقال: “إن الله عز وجل ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة.. صانعه يحتسبه في عمل الخير والرامي به ومنبله” [11].

وبعث رسول الله عمرو بن مسعود الثقفي وغيلان بن سلمة إلى جرش وكانت تحت حكم الروم لتعلم صناعة المنجنيقات والدبابات والعرادات، فتعلموا ذلك وصنعها المسلمون واستخدموها في حصار الطائف.

وأما التروس فكانت تصنع في المدينة وكانوا ينقشون عليها الآيات والحكم والأشعار، وكان المسلمون يستوردون الدروع من بلاد الفرس والروم.

وسبى رسول الله لما فتح خيبر ثلاثين قينا[12] فقال النبي: (اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعتهم ويتقوون بها على جهاد عدوهم) فتركوا.[13]

واهتم الرسول بتربية الخيل واحتباسها للجهاد فقال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة. [14]

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا به وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)[15].

أساليب القتال

كما أنه كان يحث على الإبداع والابتكار فقد ابتكر رسول الله نظام القتال بالصفوف الذي لم يكن معروفا عند العرب، كما استخدم الخندق في حربه، ورمى بالمنجنيق واستعمل الدبابة، وكان يستخدم الحرب النفسية ضد أعدائه عن طريق (المخذلين).

وكان يبعث الجواسيس يخبرونه بتحركات أعدائه، بل ويتخذ في بلد العدو عيونا يراسلونه بالأخبار.

وكان يقسم الجيش إلى مشاة ورماة وفرسان ويجعل سهم الفارس ضعف سهم الراجل.

وكان يختار قواده بعناية على أساس التخصص والخبرة والتجربة، وإن كانوا حديثي عهد بالإسلام أو كانوا أقل فقها بالدين من مرؤوسيهم، وكان يرشدهم ويعلمهم مبادئ القتال في الإسلام وأخلاقه.

هكذا بنى رسول الله جيشه الذي لا يقهر، فرباهم على حب الموت في سبيل الله، والثبات عند اللقاء، والاندفاع نحو العدو حتى إن أحدهم ليغمس نفسه في جيش العدو وحده، كما دربهم أفضل تدريب رماية وركوبا للخيل وقوة للجسم، واعتنى بالصفوف الخلفية التي تمد الجيش بما يحتاجه من السلاح والعتاد، وكان يحث المسلمين جميعا على الإنفاق في سبيل الله والمسارعة في ذلك، واعتبر أن من جهز غازيا كمن غزا، وكانت الأمة كلها تقف خلف الجيش.. الأطفال والنساء والشيوخ، وهكذا كان رسول الله هو أول من نجح في تحويل الأمة إلى جيش.

————————–

[1]  سورة الحج، آية 39
[2]  سورة البقرة، أية 193
[3] البخاري
[4] رواه مسلم
[5]  اي المواضع التي تصل اليها سهامهم اذا رموا بها. والحديث رواه أحمد في مسنده.
[6] البخاري (6/91)
[7] مسلم
[8] البخاري (6/71)
[9]  ركضا
[10] مسلم (12/183)
[11] أبو داود
[12] حدادا
[13] عبد الحي الكتاني، التراتيب الإدارية، دار الكتاب العربي، بيروت،  (2/74)
[14] مسلم
[15] البخاري

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D8%A8%D9%86%D9%89...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك