دراسة في الفلسفة اليونانية والإسلامية

الدكتور صالح الرقب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله مـن شـرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهـده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..

وبعد ...

      فلقد درس بعض المسلمين كتب الفلاسفة اليونان بعد أن نقلت إلى العربية زمـن الخليفة العباسي المأمون .وقد اندفع نفر منهم إلى الخوض في طريق الفلسفة، فتأثّر هؤلاء بنظريات اليونانية في الإلهيات والنبوات التي تتعارض تمامـاً مـع أصـول عقيـدتهم الإسلامية، بل اعتنقوها، وأخذوا يدللون عليها بالظنون والأوهام التي زعموا أنّهـا نتـائج المعقولات، واشتغلوا في محاولة الجمع والتوفيق بين آراء أسلافهم الفلاسفة اليونان مـن جهة وبين العقيدة الإسلامية من جهة أخرى، وجاءت جهودهم الفكريـة تظهـر قبـولهم للفلسفة اليونانية، واعتقادهم بكثير من قضاياها.

لقد كانت الفلسفة اليونانية وفلسفة تلامذتها من المنتسبين للإسـلام مجـرد تـر ف عقلي، إذ هي نتاج الأخيلة والأذهان، لقد تأثّر الفلاسفة الإسلاميون بالفلسفة اليونانية إلـى حد بعيد، حيث أصبح الفلاسفة اليونان- خاصة أرسطو وأفلاطون- أساتذة لهم، وانـدفعوا بغير هدى للتوفيق بين الفلسفة اليونانية وبين العقيدة الإسلامية.

إنّ الفلسفة الإسلامية لم تستفد منها البشرية، ولم تقدمها خطوة واحدة إلى الأمام، ولم تفد أهلها المشتغلين بها اليقين والثبات، بل قد أفضت بهم إلـى الشـكوك والحيـرة والضلال وأوقعت الكثيرين منهم في الكفر والإلحاد.وأيضاً فإنَ الدارس لها يجد مقدماتها طويلة وكثيرة، وفيها من تكلّف العبارة ووعورة الطريق، ولذا لم يستفد دارسـوها منهـا سوى تضيع الجهد والوقت، وإتعاب الذهن، لأنّها مجرد نظريـات لا تتجـاوز الأخيلـة والأذهان، دون أن يكون لها تفاعل مع قلوب الناس ومشاعرهم، ولم تلمس شيئاً ممّا هـو مغروس في فطرهم. ولقد استفادت الفلسفة التي تسمى بـ "الإسلامية "من الفلسفة اليونانية إلي حد بعيد، بل كان الفلاسفة اليونان أساتذة للفلاسفة الإسلاميين، خاصة الفارابي وتلميذه ابن سـينا، كما أنّ الفلسفة الأوروبية المعاصرة قامت على أصول فلسفية يونانية خاصة في جانبهـا المادي.

          والكتاب الذي أقدمه لطلبة العلم يكشف حقيقة مـذهب الفلاسـفة اليونـان فـي الإلهيات، ويكشف فساد وضلالات عقيدة الفلاسفة المنتسبة للإسلام وخاصـة الفـارابي وتلميذه ابن سينا.

يتكون هذا الكتاب من تمهيد وبابين اثنين على النحو التالي -:

التمهيد:يشمل أربعة مطالب هي:-

-1 أصل الفلسفة.

2-نشأة التفكير الفلسفي.

-3 العلاقة بين الفلسفة والعلم.

-4 موضوعات الفلسفة الرئيسة والفرعية.

وأما الباب الأول:الفلسفة اليونانية: فقد جعلته لدراسة الفلسفة اليونانيـة مـن خـلال

مراحلها المختلفة، وأدوار كل مرحلة، وبيان أهم مد ارسها، وأشهر فلاسفتها.وآراءهم في

أصل الكون والإلهيات.ويتضمن أربعة فصول هي -:

الفصل الأول:الفلسفة اليونانية قبل سقراط.

الفصل الثاني:فلسفة السفسطائيون وسقراط.

الفصل الثالث :فلسفة أفلاطون وأرسطو .

الفصل الرابع :فلسفة مدرسة الإسكندرية، ويمثلها أفلوطين .

وأما الباب الثاني :الفلسفة الإسلامية :فقد تضمن تمهيداً وستة فصول :-

فالتمهيد تضمن خمسة مباحث، هي:-

-1 الاختلاف بين الفلسفة والعقيدة الإسلامية .

-2 الفائدة من دراسة الفلسفة الإسلامية .

-3 التوفيق بين الفلسفة والدين عند بعض الفلاسفة الإسلاميين .

-4 موقف علماء أهل السنة من الفلسفة .

-5 أسباب رفض علماء المسلمين الفلسفة اليونانية .

وأما فصول هذا القسم فهي ستة -:

الفصل الأول :منهج الفلاسفة في إثبات وجود الله عز وجل .

الفصل الثاني :قدم العالم عند الفلاسفة .

الفصل الثالث :منهج الفلاسفة في إثبات وحدانية الله .

الفصل الرابع :مسلك الفلاسفة في إثبات التوحيد .

الفصل الخامس:موقف الفلاسفة من النبوة والأنبياء.

الفصل السادس:عقيدة البعث عند الفلاسفة.

وقد اعتمدت في كتابي هذا المنهج الموضوعي العلمي: عرضاً وتحليلاً، وحرصت على الوضوح في عرض المادة العلمية، راجياً من الله تعالى أن تكون مباحثه في متناول طلبة العلم بكل يسر وسهولة.اللهمّ علمنا علماً نافعاً، وانفعنا بما علمتنا.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...وصلّىِ الله وسلم وبارك علـى نبينـا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.

 

الفصل التمهيدي

المبحث الأول:أصل الفلسفة ومعناها

أصل كلمة الفلسفة:

  يذكر المؤرخون أنّ أقدم سفر يوناني جاءت فيه كلمة "فلسفة "بمعنى الرغبـة في المعرفة هو كتاب " هيرودوت "المـؤرخ حيـث يـروي أنّ "كريتس "قال لسولون -أحد الحكماء السبعة -:"إنّي سمعت أنك جبت ً كثيرا مـن الأقطـار متفلسفاً "أي راغباً في المعرفة.كما يروي مؤرخو الفلسفة أنّ هذه الكلمة قد جرت على لسان بعـض الفلاسـفة حيث نسب هؤلاء المؤرخون إلى فيثاغورث أنّه قال: لا حكيم إلا الله، وإنّمـا الإنسـان.فيلسوف، كما عزوا إلى سقراط أ نّه أطلق على منهجه كلمة "فلسفة "وإلى بـريكليس أنّـه قال:نحن نتفلسف بدون هوادة.([1])

معناها لغة:

لفظة الفلسفة يونانية قديمة، مركبة من مقطعين هما " فيلو "بمعنى حب أو محبة، و"سوفيا "بمعنى حكمة .وهي فيلاسوفيا وتفسيرها: محبة الحكمـة فلمـا ع رّبـت قيـل:فيلسوف، ثمّ اشتقت الفلسفة منه.ومعنى الفلسفة: علم حقائق الأشياء، والعمل بمـا هـو أصلح.([2] (

وكلمـة فيلسـوف مكونـه من مقطعيـن همــا": فيلـوس" بمعنـى محـب، و"سوفوس" بمعنى حكمة، فالفيلسوف هو محب للحكمة. وقـد أطلـق على الفيلسوف اسم الحكيم "ولكن سقراط لم ترق هذه التسمية، فقال:أنا لست ً حكيما ولك نّني محب الحكمة فحسب.وقيل إنّ فيثاغورس كان يقول:لا حكيم إلا الله وحده، وإنّما الإنسان فيلسوف فحسب " أي محب للحكمة. ([3])

وحكي إن فيثاغورس من أهل شاميا وهو أول ما سمى الفلسفة.والمقصود بالحكمة: المعرفة العقلية الراقية، والإدراك الكلي لحقائق الوجود وقد أطلق على الشخص المتأمل عقلياً لحقائق الوجود وقضاياه الكبرى اسم الفيلسوف ً تمييـزا له عن غيره من عامة الناس.

إذاً يطلق الفعل "تفلسف "على الإنسان الذي يـرى ظـواهر الأشـياء المختلفـة فيتصورها ثم يُكَّون له فيها رأياً، ثم يجتهد في تعرف علل الظواهر الكونيـة، وعلاقـة الكون بظواهره.فالذي يتفلسف هو الذي يفكـر في شـيء خاص ذاتاً كان أو معنى.([4])وبعبارة أخرى معنى يتفلسف:الإنسـان الذي يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض .ولمّا كان الإنسان من طبيعته أن يفكر ويبحث على هذا النحو، فإنّ كلمة فيلسوف لم تطلق على كل إنسان، بل أطلقت على المرء الذي من أهم أهدافه في حياتـه دراسـة طبائع الأشياء وتعقلها، وكانت لديه قدرة إدراك الأشياء بسـرعة ً معتمـدا علـى فكـره الخاص، وزاول هذا العمل، وأصبح وكأنه مهنة أو صنعة له سـيطرت عليـه معظـم حياته.([5])

ولقد كان اليونانيون قبل ذلك يطلقون كلمة "سوفوس "على كل من كمل في شيء عقلياً كان أو مادياً، حيث أطلقوها على النجار والبحار والطاهي وغيرهم مـن أربـاب الحرف، ثم قصرت في الإطلاق على :من منح عقلاً راقياً وتفكيراً سامياً.([6] )

وبعد انتقال الفلسفة إلى المسلمين، ودخول مصطلحي الفلسفة والفيلسوف في اللغة العربية، صاغ العرب من ذلك الفعل بأنواعه، فقالوا: تفلسف، يتفلسف، ثـمّ قـالوا:هـو متفلسف، وهم متفلسفة، كما جعلوا الحكمة مرادفة للفلسفة فقالوا:حكماء الإسلام، بمعنـى فلاسفة الإسلام. وصفا لأولئك الراغبين في معرفة الحقائق الكلية.([7] )

معنى الفلسفة ً اصطلاحا:

اختلفت أقوال الفلاسفة القدامى والمحدثين في تحديد معنى للفلسفة، فمعناها عنـد فيلسوف يختلف عن معناها عند فيلسـوف آخـر، ومعناهـا في عصر ما يختلف عـن معناها في عصر آخر .وسبب ذلك:-

-1 أن الفلسفة مرَّت بعدة أدوار، اختلفت فيها موضوعاتها إلى حد بعيد .

-2 اختلاف مناهج الفلاسفة وطرائقهم في التفكير.

-3 اختـلاف بيئة وعصـر ومجتمع كل فيلسوف عن الآخر، ولأنّ الفلسـفة تصـطبغ

بالتجارب الشخصية للفيلسوف وعاداته الفردية.([8])

ونذكر هنا طائفة من تعريفات الفلسفة حسب العصور التي مرّت بها:

أولاً:تعريف الفلسفة عند فلاسفة اليونان القدماء:

استعمل اليونان كلمة الفلسفة منذ القرن السادس قبل الميلاد، ولم يكـن معناهـا محدداً ولا مضبوطاً في أول الأمر، فكانوا يطلقون كلمة فلسفة على المعارف الإنسـانية المعروفة في زمانهم، فشملت الطب والفلك والهندسة والكيمياء والطبيعة والتنجـيم ثـم قصرت في الإطلاق على من تأمل في الوجود تأملاً عقليا. ومع ذلك فإنّ معناها كان يختلف من عصر إلى آخر ومن فيلسوف إلـى آخـر على النحو التالي:

-1 عصر ما قبل سقراط: إنّ موضوع الفلسفة في هذا العصر يتناول الكون الطبيعـي، ولذا فمحاولاتهم هي: معرفة الأصل الذي نشأ عنه هذا العالم الطبيعي المحسوس .فتعريف الفلسفـة إذاً في هذا العصر:هو "البحث فـي الوجـود الطبيعـي، وغايتــه ومصيره وعلل ظواهر الأشياء".

-2 عصر السوفسطائيين وسقراط: إنّ موضوع الفلسفة في هذا العصر قاصـر علـى الإنسان ومعرفة الحقيقة، والحق والعدل والخير، ودراسة هذه القيم مبنية على التصـور العقلي وحده ولا علاقة للحواس بها . أي أن الفلسفة عند سقراط قد اشتملت علـى بيـان وتوضيح معاني الحق الخير والعدل.فتعريف الفلسفة إذاً عند سقراط:"البحث عن الحقائق بحثاً نظريـاً، وخاصـة الحقـائق والمبادئ الخلقية من خير وعدل وفضيلة ".

-3 عصر أفلاطون وتلميذه أرسطو: 

أ -موضوع الفلسفة عند أفلاطون : جواهر الأشياء وحقائقها الثابتة التي لا تتغير . ويطلق عليها أفلاطون "عالم المثل " فتعريف الفلسفة عند أفلاطون هي:" البحث عن الأمور الأزلية، أو معرفة حقائق الأشياء، ومعرفة الخير للإنسان.

ب –موضوع الفلسفة عند أرسطو : يشمل كل المعرفة الإنسـانية، أو بعبـارة أخـرى أصبحت الفلسفة مرادفة لمعنى العلـم، فتحـت الفلسـفة تنـدرج جميـع العلـوم مـن المنطق،والرياضة، والطبيعة، والأخلاق والسياسة .وتعرف الفلسفة عند أرسطو:"العلم بالمبادئ الأولى التي تفسر بها طبيعة الأشيـاء ".أو هي البحث عن علل الأشياء وأصولها الأولى .أي العلّة الأولى التي هي علة العلل .

-4 عصر ما بعد أرسطو : في هذا العصر جمد موضوع الفلسفة، ولم يبتكر الفلاسفة شيئاً بل كانوا مقلدين حاكين، وظهرت فيه مدرستا الأبيقوريين والرواقيين .

-5 موضوع الفلسفة عند الأبيقوريين والرواقيين : صـارت المباحـث عنـد هـاتين المدرستين الفلسفية قاصرة على بعض جوانب الإنسان من ناحية أخلاقه وسعادته وسلوكه في هذه الحياة، وقيمته فيها، وإن اختلفت المدرستان في تحديد الغاية التي تريد كل منهما الوصول إليها.

أ -فالأبيقوريون مثلاً :كانوا يطلبون السعادة ويرونها في الحصول على اللّذة . وتعريف الفلسفة عندهم:هي القدرة على السعادة بواسطة العقل والفطنة.

ب -أما الرواقيين:فكانوا يطلبون الواجب لذاته مهما كلفهم عمل الواجب من تضـحيات في المال أو النفس أو غيرهما، وقد توصلوا لذلك بعمل الفضيلة..وتعريف الفلسفة عندهم:السعي وراء الفضيلة، وما يجب أن يسـير عليهـا الإنسان فـي حياته ([9]).

ثانيا :تعريف الفلسفة عند الفلاسفة الإسلاميين :

-1 عرفها أبو يوسف يعقوب الكندي بقوله: الفلسفة علم الأشـياء بحقائقهـا".([10]  (إن فلسـفة هي العلم الكامل بحقيقة الأشياء وكنهها، وحقائق الأشياء كلية لا جزئية .

-2 وعرفهـا أبو نصـر الفارابي بقوله:"العلم بالموجودات بما هي عليه موجودة ".([11] (

-3 وعرفها أبو علي بن سينا فقال:"هي صناع ة نظرية يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله مما ينبغي أن يكتسب فعله لتشـرف بذلك نفسه وتستكمل، وتصير عالماً معقولاً مضاهيا الوجود، وتستعد للسـعادة القصـوى بالآخرة وذلك بحسب الطاقة الإنسانية ".

 ثالثا:تعريف الفلسفة في العصر الحديث:

موضوع الفلسفة في هذا العصر: لقد تحرّرت الفلسفة في هـذا العصـر مـن الـدين، وصارت تبحث في موضوعاتها حرة مستقلة، مستندة في بحثها إلـى العقـل الإنسـاني الطليق من قيود الدين .ومع ذلك فقد اختلفت تعاريف الفلسفة في هذا العصـر لاخـتلاف موضوع البحث الذي تناوله الفلاسفة. لذا عرّفها الفلاسفة المعاصرون بقولهم:هي علـم الأشيـاء اليقينيـة التـي لا تقع تحت الحس، والتي يعرفها الإنسان بطريق النظر العقلي.

       من خلال ما سبق يمكن حصر معاني الفلسفة في هذه التعريفات الثلاثة هي:-

الأول:- "هي علم المعرفة الكلية المطلوبة لذاتها"، والمراد بالمعرفة الكلية: المعرفـة التي تتنـاول الحقائق الكلية للموجودات عامة، أي لا تتناول الفلسفة الحقائق الجزئية للوجـود.إنها تتناول طبيعة الوجود وماهية الإنسان والمشكلات العامة ذات الطابع العقلي الكلـي مثل مشكلة الحرية، ظاهرة الموت والحياة، مشكلة المعرفة.

إنّ الفيلسوف عندما يدرس الحقائق الكلية المتفرقة للوجود فإنّـه يجمعهـا مـع بعضها، ويجردها من طبيعتها المادية المتغيرة ثم يربطها في تسلسل منطقي له ترتيـب معين ليكِّون منها في نهاية الأمر مذهباً فلسفياً خاصاً به.([12])

 الثاني:علم المبادئ الأولى لكل ظواهر الوجود. 

إنّ الفيلسوف لا يهتم بدراسة المبادئ أو العلل القريبة المباشـرة فـي تفسـيره لمختلف ظواهر الوجود لأن المبادئ القريبة و العلل المباشرة تحتاج في دراسـتها إلـى الحواس وتعتمد المنهج التجريبي، إنه يعتمد على التأمل العقلي في إدراك المبادئ الأولى والعلل البعيدة، التي هي بطبيعتها عقلية مجردة، ويمكن أن يقوم الفيلسوف بتفسير الحقائق الجزئية، ولكن بردِّها إلى أصولها العقلية الأولى وعللها الحقيقية البعيدة. فمثلاً:يهتم العلم التجريبي بمعرفة أسباب نمو النبات وهي توفر الماء والهـواء والغذاء المناسب والشمس، بينما يهتم الفيلسوف بما هو أرقى من ذلك، إنه يريد أن يدرك العلل العقلية البعيدة والمبادئ الأولى العامة لنمو النبات والحيوان والإنسان وكل الكائنات الحية الأخرى، وهكذا بقية ظواهر الوجود.( [13])

الثالث:هي وجهة نظر عقلية فردية خاصة تجاه ظاهرة معينة في الوجود أو في حيـاة الإنسان:ووجهات النظر العقلية عند الفلاسفة لابد أن تكون مختلفة إذ أن لكل فيلسـوف خبرته الشخصية وظروف بيئته ومجتمعه الخاص به، وله عاداته التي تؤثر في وجهـة نظره ومذهبه الفلسفي.فمثلاً:نجد وجهات نظر متعددة مختلفة ومتعددة في تعليل وتحليل ظاهرة الشر أو الخير.([14])

المبحث الثاني :نشأة التفكير الفلسفي :

         اختلف الباحثون حول نشأة وبداية التفكير الفلسفي إلى فريقين اثنين:-

-1 الرأي الأول: ذهب فريق من الفلاسفة والعلماء الباحثين والمستشرقين إلى أنّ التفكير الفلسفي في بلاد الشرق أقدم ظهوراً من بلاد اليونان إلى أن التفكير الفلسفي بدأ أولاً فـي بـلاد الشرق قبل القرن السادس ق. م، حيث شهدت بلاد الشرق القديم مجموعـة مـن أنمـاط التفكير الفلسفي مثل :الفلسفة المصرية والفلسـفة الفارسية،والفلسـفة البابليـة، والفلسـفة الهندية،والصينية .وعلى رأس هؤلاء المؤرخ الإغريقي" دبوجين لا إرس" الذي قال فـي كتابه "حياة الفلاسفة ":" إن الفلسفة الإغريقية ليست إلا تراثاً ً شرقيا ً متغلغلا في القـدم ([15]) . واستدلّوا على ذلك بوجود كثير من النصوص والأساطير البابلية والمصرية التـي جـاء فيها حديث عن أصل العالم.فمثلاً قيل إنّ طاليس قال:بأنّ أصل العالم هو الماء، ولقـد جاء في الأساطير والنصوص القديمة أنّ العالم في البدء كان ماءً وهذا يـدلّل علـى أنّ طاليس قد استفاد قوله من تلك الأساطير.([16])

ويؤكّد هذا الرأي أ نّه في مجال العلوم الكونية والرياضية وجدت بعـض هـذه العلوم عند القبائل الناشئة في بلاد الصين القديم على نحو ما هو موجود في بلاد اليونان.فمثلاً :الصينيون أسبق إلى معرفة المثلث القائم الزاوية وخصائص وتره .

الرأي الثاني: ذهب فريق آخر إلى أن اليونان هم أوّل من ظهر فيهم التفلسـف، فأرسـطو يـرى أنّ طاليس اليوناني هو أول فيلسوف حاول أنّ يفسر الكون تفسيراً عقلياً.والخيال والبداهـة، ولم يكن مسلكهم في التفكير خاضعاً لمنهج علمي أو أسلوب فلسفي معين . لكنّ اليونان هم أوّل من قدّم المنهج والمصطلح الذي سارت عليه الفلسفة حتى اليوم، والتفكير الفلسـفي عند اليونان كان تفكيراً منظماً يعتمد على الاستدلال العقلي والتأمـل الفلسـفي والنظـر المنطقي.([17])

التوفيق:وخروجاً من هذا الخلاف يمكن القول: بأنّ التفكيـر الفلسـفي نشـأ أولاً فـي حضارات الشرق القديم، ولكنه كان مجموعة من الأساطير أو الملاحظات التجريبية التي دفعتهم إليها حاجتهم إلى الشراب والطعام والمسكن، واعتمدوا فيها على الأوهام، ورغم اختلاف الباحثين في نشأة الفلسفة إلاّ أ نّهم أجمعوا على أنّ الفلسفة اليونانية كانت أعمق الفلسفات بحثاً، وأوسعها موضوعاً، وأحسنها تنظيماً وترتيباً.([18])

المبحث الثالث:بين الفلسفة والعلم

لقد اختلط مفهوم الفلسفة بمفهوم العلم في أذهان القدماء إذ لم يكن ثمّـة فـروق بينهما، لقد كانت الفلسفة لدى القدماء عل ماً، حيث كان العلم والفلسفة يدلان على مفهـوم واحد، ولم يكونوا يفرقون بين العلوم الفلسفية التي تقوم على التأمل العقلي المجـرد، وبين العلوم التي تعتمد على الملاحظة والتجربة والمشاهدة.فالفلسفة شملت في القـديم ألـوان المعرفة البشرية كلها، فأوّل الفلاسفة طاليس كان عالماً رياضياً وطبيعيـاُ، وفيثـاغورس كان فيلسوفاُ ورياضياُ ومهندساُ، وجعل أفلاطون الهندسة ُ أساسا لمذهبه الفلسفي، وكتـب على باب مدرسته: من لم يكن مهندساً فلا يدخل علينا " وكانت فلسـفة أرسـطو تضـمّ مجموعة من العلوم، وهكذا الأمر بالنسبة للفلاسـفة الإسلاميين فالفارابي كان فيلسـوفاً وموسيقياً، وابن سينا كان فيلسوفاً وطبيبا.([19]) هذا بالنسبة للعلوم الطبيعية، أ مّا العلوم الإنسانية:كالسياسة والاقتصاد والأخلاق وعلم النفس فقد كانت من أقسام الفلسفة وفروعها العامة إلى فترة قريبة، فلمـا انفصـلت العلوم الطبيعية عن الفلسفة في العصور الحديثة، بدأت العلـوم الإنسـانية تسـير نفـس المنوال، ولكن ظهرت معارضة من بعض المفكرين خصوم النـزعة الطبيعيـة، إذ رأوا أنّ العلوم الإنسانية لا تناسبها المناهج التجريبية. واستمرّت هذه العلوم ضمن مباحث الفلسفة إلى أن استقل علم النفس عن الفلسفة وأصبح علماً مستقلاً بذاته وخاصة منذ زمن فونت1875 م الذي استطاع أن يوجـد معملا تجريبياً يضم آلات ومقاييس تستخدم في دراسة الحالـة النفسـية، واسـتقل علـم الاجتماع على يد "أوجست كونت" عام1857 م حيث اتخذ صـورة العلـم التجريبـي الوضعي.

أولاً:العلاقة بين الفلسفة والعلم:

إذا كانت الفلسفة مرادفة للعلم قديماً فلقد أصبحت اليوم شيئاً آخر غير العلم لاستقلال كثير من المعارف والعلوم عنها، ويمكننا أن نبين أوجه العلاقة بين الفلسفة والعلم على النحو الآتي-:

 -1 إنّ ميلاد الفكر الفلسفي كان يعني ميلاد العلم بمنهجه الدقيق ومفاهيمـه البسـيطة الواضحة ومنهجه العقلاني لطبائع الموجودات، وكان القصد من الفلسـفة محاولـة الإنسان مجاوزة التفسيرات الأسطورية والخرافية للظواهر الطبيعية الكونية، إلـى تفسير يعتمد على الحدس العقلي والفرض العلمي والملاحظة الاستقرائية ومن ثـم وجد قديماً تطابق بين مفهومي العلم والفلسفة.

لقد نشأت الفلسفة في أحضان العلـم وكانـت الـدور الراقي من أدواره، ذلك أن العلوم لم تكد تنشأ وتستقر إلا وبدأ التفكير الفلسفي ينشأ على أعقابها ولذا فإن العلاقة وثيقة بين الفلسفة والعلم على الرغم من اسـتقلال الكثيـر مـن العلوم عنها.

 -2 إنّ الفلسفة تكشف للعلم عن طبيعة العقل الذي هو أداة من أدواته التي يستعين بهـا على ضبط المشاهدات والتجارب .فالعلماء يلتمسون المعرفة بالعقـل وقيمه، ومقياسـيه وأحكامه المستمدة من الفلسفة .إنّ كل علم من العلوم الخاصة يعتمد على المعاني الأولية التي تكشف الفلسفة عـن حقيقتها، فمثلاً العلوم الإنسانية بحاجة إلى معرفة جوهر الإنسان وأصله ومصيره، وهذه أسئلة تجيب عنها الفلسفة.

3- يعتمد العلم على البرهان، والفلسفة هي التي تكشف للعلماء عـن مقـدمات البرهـان والأمور التي يقوم عليها وقوانينه، إنما هي التي تعـرفهم كيـف يحـددون المعـاني وينظمون الأدّلة.

4- إنّ الفلسفة تقدم لكل علم ما يناسبه وما يصلح له من المناهج والطرائق التي تتناسب مع موضوعه.فمثلاً:العلوم الطبيعية ) الماديـة (تقدم لها الفلسفة المنهج الذي يقوم علـى الملاحظة والتجربة والاستقراء. فعلم الرياضيات مثلاً تقدم له الفلسفة المنهج الذي يتركب من الضروريات، والبديهيات، ومبادئ الاستنباط.([20])

ثانيا:الفرق بين الفلسفة والعلم:

-الفرق بينهما من حيث الموضوع:

إنّ موضوع العلم هو الأحداث والقضايا المادية الجزئية والقوانين المعينة التـي تنطبق على قسم معين من أقسام الكون وأجزائه، فعلي سـبيل المثـال :نجـد أنّ علـم الجيولوجيا يختص بالمسائل المتعلقة بطبقات الأرض، وعلم الجغرافيا يخـتص بـأحوال العالم الطبيعية من مناخ و حرارة و تضاريس، وعلم الطبيعة يدرس الظـواهر الماديـة المحدودة كالصوت والضوء والحركة والجاذبية ونحوها من الظواهر الجزئيـة، وعلـم النحو يتعلق بالكلام وأقسامه وأحواله من حيث الإعراب والبناء … فـالعلم موضـوعاته جزئية معينة. بينما موضوع الفلسفة كليٌ مطلق، يتناول الحقيقة الكلية العقلية المجـردة عـن المادة وعلائق المادة، والحقيقة المطلقة، إنها تتنـاول جميـع الأهداف، وتسـتوعب كـل الظواهر الطبيعية ولكنها تفسرها تفسيراً كلياً دون النظر إلى قسم معين من أقسام العالم أو جزء من جزئياته.

كما أن موضوع العلم يكمن في الظواهر الطبيعية من سنن وقـوانين.بينمـا موضـوع الفلسفة يجيب عن أسئلة تتعلق بهذه السنن والقوانين.مثل:هل هذه القوانين يقينية أم ظنية؟ دقيقة أو غير دقيقة؟ وما هي النتائج المترتبة على هذه القوانين؟([21]

 -2 الفرق بينهما من حيث الغاية والهدف:

إذا كان موضوع الفلسفة ما هو كلي عقلي، فإنّ الهـدف الـذي يسـعى إليـه الفيلسوف:الوصول إلى العلل والأسباب البعيدة لمختلف الموجودات وهي علـل عقليـة مجردة. إنّ الفيلسوف يهدف من تأمله العقلي أن يجيب عن أسئلة منها ما هو أصل الكون؟ ومـا هـو مصيره الذي ينتهي إليه؟ وما هو أصل الإنسان؟ وما هو مصـيره؟ ومـا علاقـة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه .

بينما العلم يهدف إلى اكتشاف الأسباب المباشرة والعلل القريبة التي أدت إلـى حدوث الظاهرة. إذاً فغاية العلم :وصف الأحداث الطبيعية والظواهر الكونية بما فيهـا الإنسـان بصرف النظـر عمـا يكون بين هذه الأحداث والظواهر وبين الإنسان مـن رابطـة أو علاقة .فمثلاً:إن سقوط التفاحة من الشجرة إلى الأرض فسره العـالم إسـحاق نيـوتن بالجاذبية الأرضية، وهو سبب قريب مباشر. بينما الفيلسوف لا يقنع بذلك، إ نّه يَهتم بمعرفة السبب البعيد الـذي مـن أجلـه وجدت الجاذبية في الأرض.([22])   

-3 الفرق بينهما من حيث المنهج :

إنّ المنهج الذي يسلكه الفيلسوف في معرفة العلل والأسباب البعيدة هو المـنهج العقلي الذي يعتمد على التأمل النظري والتحليل العقلي، إنّه يعتمد على العقل في تجريـد المدركات من ماديتها واستخلاص ماهياتها الكلية الثابتة، ويعتمد على التحليل العقلي لأنّه ينفذ إلى الجذور الأصلية ويبحث عن العلل البعيدة الكامنة خلـف الظـاهرة موضـوع الدراسة والتأمل، ويعتمد المنهج الفلسفي أيضاً على الضمير والشعور والوجدان كطـرق لمعرفة وإدراك الخير والجمال. وأمّا العلم فإنّه يعتمد على المنهج الاستقرائي التجريبي وعلى المشاهد الخارجيـة التـي تدرك بالحواس.وهذا المنهج يقوم على خمس خطوات. وهي :-

-1  الشعور بالمشكلة وتحديدها .

-2  جمع المعلومات والبيانات الخاصة بالظاهرة أو المشكلة موضوع البحث .

-3  فرض الفروض المبدئية لتفسير الظاهرة .

-4 اختبار صحة الفروض تجريبياً .

-5 التوصل إلى قانون عام يفسر الظاهرة.([23])

الفرق بينهما من حيث الذاتية:

والمقصود بالذاتية:ما يرجع إلى ذات الإنسان الفـرد وحده، وتدخل فيها مشاعر الإنسان وأحاسيسه وميوله الشخصية وظروف حياته الخاصة.ويقابل الذاتية الحقائق الموضوعية وهي كل حقائق الوجود خارج الذات البشرية، أي في الواقع الخارجي الطبيعي، والحقائق ثابتة لا تتغير، بعكس الذاتية التي تختلف من شخص لآخر.إنّ الفلسفة في جوهرها عبارة عن آراء ذاتية ومذاهب شخصية تع بّر عن وجهة نظر خاصة بالفيلسوف نفسه، وبالتالي فإنّ الحقائق التي يتوصل إليها فيلسوف ما تختلف عن الحقائق التي يتوصل إليها فيلسوف آخر؛ لأنّ كل فيلسـوف لـه ميولـه الخاصـة ومشاعره وأحاسيسه الخاصة.

بينما العلم الذي يتناول بالبحث الحقائق الموضوعية الثابتة فإنّه لا يتأثر بـآراء العلماء وميولهم وذاتيتهم، فالحقيقة العلمية محل إجماع العلماء وإذا اختلف العلماء فيمـا بينهم دل ذلك على أنّ ما توصلوا إليه لم يصل إلى رتبة الحقيقة العلمية، إنّما هو ظنون أو فرضيات.([24])

المبحث الرابع:موضوعات الفلسفة:

من خلال دراستنا للمعاني المختلفة للفلسفة يتبين لنا أنها لا تبحث في موضـوع واحد بعينه، بل تبحث موضوعات متعددة، ومن هنا فإن موضوعها كـان يشـمل كـل المعارف الإنسانية وموضوعات الوجود والحياة، كانت تضم موضوعات إلهية وإنسـانية إلى جانب المنطق وعلم النفس والأخلاق …إنها تبحث في كل شيء يمكن للعقل أن يبحث فيه .فهي تبحث في أصل العالم ومن أين جاء، وما هو مصيره ونهايته، كما تبحث فـي موجد العالم وخالقه ) الله (، وما يجب له من صفات، وتبحث في الكون كله بحثـاً شـاملاً يتناول كل جوانبه، و تعنى بالإنسان وسلوكه، ومبدئـه ومصـيره .فموضـوعها إذاً:الله والكون والإنسان.([25])

وقد درس الفلاسفة هذه المعارف وبحثوا في هذه الموضوعات بواسطة الأسلوب الفلسفي ومن خلال منهج التأمل العقلي .والسبب أن المنهج التجريبي لم يكن ً معروفا في تلك العصور الزمنية.([26]) ومع بداية عصر النهضة الأوروبية الحديثة واكتشاف المنهج التجريبـي بـدأت مجموعة من العلوم تنفصل ً تدريجيا لعدم ملائمة منهج الفلسفة مع تلك العلوم، فانفصـلت العلوم الطبيعية واستخدمت المنهج التجريبي، واستقلت الرياضـيات مسـتخدمة المـنهج التحليلي الرياضي، وكذلك استقلت علوم أخرى كالفلك والموسيقى والاجتماع.واقتصرت الفلسفة في الحديث على موضوعات رئيسية ثلاث، بالإضـافة إلـى مباحث فرعية كلها تتوافق مع المنهج العقلي التأملي.([27])

أولاً :الموضوعات الرئيسية :-

-1 مبحث الوجود ومشكلاته: وهو يدرس الوجود عامـة وفـي صـورته الكليـة،وفي خصائصه الأساسية العامة فيحاول الفيلسوف كشف القوانين الكونية التي تفسر حقيقة الوجود وجوهره وأصله.

-2 مبحث المعرفة ومشكلاتها: وهو يدور حـول مـدى إمكانيــة معرفـة الوجـود ووسائل إدراكه والعلم به، ويدرس المعرفة الإنسانية وما يتعلق بهـا مـن وسـائل ومشكلات، فيدرس مثلاً وسائل المعرفة من الحس والعقل والحدس والموازنة بينها .

-3  مبحث القيم ومشكلاتها : يتعرض لدراسة المُثل والقيم العليا، والكشف عن ماهيـات القيم التي يسعى الجميع إلى تحقيق ها في حياتهم . وأهم القيم التي تـدرس فـي هـذا المبحث وهي -:

أ -قيمة الحق ويدرسها علم المنطق.

ب -قيمة الخير، ويدرسها علم الأخلاق.

ج -قيمة الجمال، ويدرسها علم الجمال.

 ثانيا :الموضوعات الفرعية -:

-1 فلسفة الدين: وهدفها تدعيم العقائد الدينية بالأدلة والحجج العقلية المنطقية.

-2 فلسفة التاريخ: وتبحث في القوانين العامة والمبادئ الأساسـية التـي تحكـم سـير الأحـداث التاريخية عامـة ولا يهتم الفيلسوف بدراسة الوقائع والأحداث الجزئية.

-3  فلسفة القانون : وتهتم بدراسة الأسس العامة التي يقوم عليها القانون، وبيـان علاقـة

القانون بمبادئ الأخلاق والعدالة، وارتباطه بفكرة الإلزام والحرية.([28])

 

الباب الأول

الفلسفة اليونانية

المقدمة :

سبق أن بينّا أنّ مؤرخي الفلسفة اختلفوا في تحديد الموطن الأول لنشأة للفلسـفة، حيث رأي فريق منهم أنّ الفلسفة اليونانية لم تستفد من غيرها من الفلسفات، بـل كانـت يونانية خالصة الأصل، بينما رأي الفريق الآخر أن هذه الفلسفة قد استفادت ً كثيـرا مـن الفلسفات الشرقية التي سبقتها، ورغم هذا الاختلاف إلا أنهم اتفقـوا علـى أن الفلسـفة اليونانية كانت أعمق الفلسفات بحثاً، وأوسعها موضوعاً، وأحسنها تنظيماً وترتيباً .ولمـا كانت الفلسفة الإسلامية قد تأثرت بالفلسفة اليونانية إلى حد بعيد وأنّ الفلاسـفة اليونـان كانوا أساتذة للفلاسفة الإسلاميين وخاصة الفارابي وابن سينا، فإنّه يجدر أن أخص الفلسفة اليونانية بدراسة موجزة نتعرف من خلالها على مراحل هذه الفلسفة، وأهـم مدارسـها وأشهر مفكريها وفلاسفتها، ونتعرف أيضاً على آرائها في الكون والحياة، ونر كّز علـى الجانب الإلهي في تفكير أشهر فلاسفة اليونان خاصة سقراط وأفلاطـون، ثـمّ نخـصّ بالدراسة الفيلسوف أفلوطين المصري مولدا،ً واليوناني تفكيراً وتفلسفاً .

مراحل التفكير الفلسفي عند اليونانية:

بدأ التفكير الفلسفي عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، وقد مـرّت الفلسـفة اليونانية بعدة مراحل، تتميز كل مرحلة عن غيرها بسمات خاصة ومختلفـة، من حيـث الموضوعات التي تناولها الفلاسفة في كل مرحلة، ونتناول كل مرحلة بالحديث في فصل خاص.

 

الفصل الأول

المرحلة الأولى:الفلسفة اليونانية قبل سقراط

موضوعها:وموضوع هذه المرحلة الكون الطبيعي لمعرفة الأصل الذي نشأ عنه . وقـد مرّت الفلسفة في هذه المرحلة بعدة أدوار، تميّز كل دور بمميزات خاصة تميزه كليـاً أو جزئيا عن الدور الآخر، وهذه الأدوار هي:-

الأول:الذي تمثله المدرسة الأيونية على يد الفلاسفة الطبيعيين وعلى رأسهم طاليس.

الثاني:الذي تمثله المدرسة الفيثاغورية على يد الفيلسوف فيثاغورث.

الثالث :الذي يمثله الفلاسفة الإيليون ومن أشهرهم بارمنيدس.

 الرابع: الذي يمثله الطبيعيون المتأخرون ومن أشهرهم ديمقريط.([29])

     ونبيّن في كل دور الطابع العام للتفكير الفلسفي فيه، ومميزاته، وأشهر فلاسفته.

المبحث الأول:الدور الأول :المدرسة اليونية) الطبيعيون الأُول)

تعدّ مدرسة الطبيعيين الأول أول مدرسة ظهر فيها التفكير الفلسفي المنظم فـي بلاد اليونان، وقد قامت هذه المدرسة في مقاطعة أيونيا بآسيا الصغرى على ساحل البحـر الأبيض المتوسط، وزعماؤها أربعة هم :طاليس، وأنكسمندر ، وأنكسمنس ، وهيراقليطس .نشأ الفلاسفة الثلاثة الأول في مدينة ملطية، والرابع في مدينة أفسـوس، بحـث هـؤلاء الفلاسفة في الأصل الذي نشأ عنه العالم، واتفقوا أن هذا الأصـل مـادة موجـودة فـي الطبيعة، ولكنهم اختلفوا في تعيين هذه الماد.([30])

أولاً:طاليس:

فيلسوف مالطي، من أَوّل وأشهر فلاسفة اليونان، عاش مـا بـين 550 -624ق.م، وهو أحد الحكماء السبعة(([31] ، درس العلوم دراسة عميقة، عمل مهندسـاً بحريـاَ، واستطاع أن يضع تقويماً بحرياً للملاحين يحتوي على إرشادات وقواعد فلكية كانت لهـا آثارها القيمة في تاريخ الملاحة البحري([32])

 

مذهبه الفلسفي:

ذهب طاليس إلى أنّ الماء هو أصل الأشياء و مبدأ الموجودات منه بـدأ وإليـه ينحل، وهو الجوهر الأساس الذي تولدت عنه كل الموجودات، وأنّ المـاء قابـل لكـل صورة، ومنه أبدعت الجواهر كلها-السماء والأرض وما بينهما-وهو علّة كل مبـدع، وأنه حين جمد الماء تكونت الأرض، وحين انحل تكون الهواء، ومـن صـفوة الهـواء تكونت النّار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتغال الحاصل مـن الأثيـر تكونت الكواكب.([33])     

وإنّما أراد بقوله الماء هـو المبـدع الأول، أي هـو مبـدأ التركيبـات الجسمانية لا المبدأ الأول في الموجودات العلويـة، لكنـه لمـا أعتقـد أنّ العنصر الأول هو قابـل كل صورة ، أي منبع الصور كلها ، فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها ، ولم يجد عنصراً على هذا النهج، مثل الماء فجعله المبدع الأول في المركبات، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية.([34])

واستدلّ على ذلك بما يلي:

 -1 وجد جميع الحيوان من الجوهر الرطب الذي هو المنى، فأوجب أن يكون مبدأ جميع الأشياء من الرطوبة، وأنه ومتى ما عدمت الرطوبة جفت وبطلت، وأنّ النبات والحيوان والإنسان يتغذى بالرطوبة، ولا يستطيع الحياة بدونها، وإذا كانت الرطوبة تنشأ عن الماء كان من الطبيعي أن يكون الماء الأصل الذي تكون منه الإنسان والحيوان والنبات.

-2 أن النبات والحيوان يولدان من الجراثيم الحية، وهذه الأشياء رطبة، والرطوبـة مـن الماء.

-3أن التراب يتكون من الماء والماء يتحول شيئاً ً فشيئا إلى التراب، كما هو مشاهد فـي كثير من الأنهار، كما في نهر بدينة ودلتا نهر النيل في مصر.([35])

ويمكن أن يقال إنّ فكرة طاليس الساذجة عن الكون ترجع إلى الخرافـات والأسـاطير البابلية والمصرية، وهي ذات نزعة وثنية مادية.([36])  

 ثانيا:أنكسمندر )أنكسماندريس (

عاش هـذا الفيلسوف المالطي ما بين547 -611 ق .م وقد جاء بعد طاليس، فهـو ثاني فلاسفة المدرسة "اليونية ".

مذهبه الفلسفي: ذهب أنكسمندر إلى رفض رأي طاليس أنّ الماء هو أصل الكون، وذلك لسببين:-

-1 أنّ الماء هو استحالة اليابس بالحرارة إلى المائع، فالجامد سابق على المـاء، فلـيس الماء إذاً أصل الكون.

-2 أنّ الماء معين ومحدود، ويستحيل أن يكون المبدأ الأول معينـاً محـدود ا ً، وإلاّ لمـا تولّدت منه الأشياء المتميزة المحدودة.

أصل الأشياء عنده : إنّ أنكسمندر يرى أنّ أصل الأشياء جسم موضوع الكل لا نهاية له، ولم يبين ماهيته، هل هو من العناصر، أم خارج عنها.( ([37]وبيان ذلك :أصل الكون المادة اللامتناهية أو )اللامحدود (،لا متناهية من جهة الكـم ولا متناهية من جهة الكيف، بل هي مزيج من المتضـادات مـن الطويـل والقصـير، والصغير والكبير، والحار والبار د،والحلو والمر،والحركة والسكون…وأن هـذه الأشـياء كانت في البدء شيئاً واحداً وجدت فيه هذه المعاني متعادلـة متكافئـة، وبفعـل التطـور والحركة حدثت انفصالات واجتماعات بين بعضها والبعض الآخر بنسب معينة وبمقادير متفاوتة فتكونت عنها الأشياء الطبيعية.( [38]) والمادة اللامتناهية عنده ثابتة غير حادثة، إنها أبدية، والحركة الدائمة هي التـي تعمل على تغيير الأشياء التي من صفاتها التحول والتغير.والتغيير يحصل بشـكل آلـي مجرد وبمحض الصدفة، فليس هناك علّة فاعلة، وليس هناك غاية من وراء الفعل.([39])

ثالثا:أنكسيمانس أو أنكزمينس 588-528) ق.م (

مذهبه الفلسفي:

قال إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر، هو مبدأ الأشياء، ولا بدء له، هو المدرك من خلقه، أ نّه هو فقط، وأنه لا هوية تشبهه، وكـل هوية فمبدعة منه، هو الواحد ليس كواحد الأعداد، لأنّ واحد الأعداد يتكثر وهو لا يتكثر، وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع، فقد كانت صورته في علمه الأول. وذهب إلى أنّ أصل الكون هو الهواء وهو المبدأ الأول للوجود، ومنـه تكـون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية.وتتولد منه الأشياء عن طريـق التخلل والتكاثف، فإذا تخلخل الهواء صار ناراً، ومن النّار تولدت كل الأشـياء النّاريـة كالكواكب والنجوم مثلاً، وإذا تكاثف الهواء نشأت عنه الرياح والعواصف والسحب ثـم الأمطار، ثم تتكاثف الأمطار فينتج عنها الأتربة والرمال والصخور.([40]) وكان يقول:ما كوّن من صفو الهواء المحض لطيف روحاني، لا يـدثر ولا يدخل عليه الفساد،ولا يقبل الدنس والخبث، وما كوّن من كدر الهواء كثيف جسماني، يدثر ،ويدخله الفساد،ويقبل الدنس والخبث، فما فوق الهواء من العوالم فهو من صـفوه، ومـا دون الهواء من العوالم فهو من كدره.([41])

رابعاً:هيراقليطس475 -540)  ق .م (

مذهبه الفلسفي:

            .ذهب إلى أن أصل الكون هو النّار، وهي المبدأ الأول للوجود، ولكنه لا يقصد النّار المحسوسة الحارقة، إنما هي نار إلهية لطيفة جداً، نسمة حارة عاقلة أزلية أبدية تملأ العالم.([42]) وعن كيفية صدور الموجودات عنها يقول :"إنّ مبدأ الموجودات هو النّار ، فمـا تكاثف منها وتحجر فهو الأرض، وما تخلخل من الأرض بالنّار صار ماء، وما تخلخـل من الماء بالنّار صار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النّار صـار نـار، فالنّـار مبدأ،وبعدها الأرض، ثم الماء ثم الهواء، وبعدها النّار.([43]) أو يقال إنّ النّـار تتخلخـل فتصير ناراً محسوسة، ثمّ تتكاثف فتصير هواءً، ثم يتكاثف الهواء فيصير ماءً، ثمّ يتكاثف الماء فيصير أرضاً، ثم يرتفع من الماء والأرض أبخرة تتراكم سحباً فتلتهـب وتنقـدح فتعود ناراً ثم يتخلخل اليابس إلى ماء، والماء إلى هواء، والهواء إلى نار ويعود الـدور، وهكذا دواليك، فالتغير يجري في طريقين :طريق إلى أسفل، وطريق إلى أعلـى، ومـن تقابل هذين التيارين تتكون الموجودات من الحيوان والنبات،([44]) وأهم ما يميز مذهبه :قوله بالتّغير الدائم في الكون.([45]).

المبحث الثاني:الدور الثاني:المدرسة الفيثاغورية:

     الفيثاغورثيون هم أتباع الفيلسوف الرياضي فيثاغورث بن منسارخس، ولد سـنة572 ق.م في جزيرة ساموس من بلاد اليونان، سافر فيما بعد إلى مصر ثم استقر فـي جنوب إيطاليا وهناك أسس مدرسته.([46]) وذهب الشهرستاني إلى أنّـه عاصـر نبـي الله سليمان بن داود عليهما السلام.([47])

مذهبهم الفلسفي:-

يرون أنّ أصل الكون هو: العدد، لأنّه أشبه بعالم الأعداد منه بعـالم المـاء أو النّار أو الهواء، فالعدد أوّل مبدع أبدعه الباري تعالى، وأوّل العدد الواحد، وأن مبـادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، لأنّ الموجودات أعداد، والعالم على هذا مر كّب من عدد ونغم، والموجودات ليست إلا محاكية لنماذجها الأولى اللازمة لها وهي الأعـداد، ومـا يتصور من مفارقة بينها فإنما هي في الذهن فقط لا في الحقيقـة والواقـع ، ولا يمكـن للأشياء عندهم أن يتمايز بعضها عن بعض إلا بالعدد .فمثلاً الأطول يتميز عن الأقصـر والأكبر عن الأصغر بزيادة وحدات وعدد فقط، لا بزيادة شيء خارج عن العدد، وكـذا الّنغم الذي تتكون منه الفواصل الموسيقية، لا يتميز عن غيره إلا بتناسب بـين وحداتـه المختلفة تجعل من مجموعها صوتاً ونغما يألفه السمع.([48])

 ثمّ إنّ لفيثاغورس رأياً في العدد والمعدود قد خالف فيه جميـع الحكمـاء قبلـه وخالفه فيه من بعده وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة وتصوره موجودا محققا وجرد الصورة وتحققها وقال مبدأ الموجودات هو العدد، وهو أول مبـدع أبدعه الباري تعالى. فأول العدد هو الواحد، وميله الأكثر إلى أنه لا يـدخل فـي العـدد فيبتدىء العدد من اثنين، ويقول هو منقسم إلى زوج وفرد، فالعدد البسـيط الأول اثنـان والزوج البسيط الأول أربعة.([49]) وقالوا في بيان نظريتهم:العدد أصل لجميع الكائنات، فالواحد هو النقطة، والاثنين هما الخط، والثلاثة السطح، والأربعة الجسم، والخمسة هي الصفات المادية، والستة هـي الحياة، والسبعة العقل..الخ.([50])

المبحث الثالث:الدور الثالث:المدرسة الإيلية أو الإيليائية

نشأت هذه المدرسة التي في مدينة إيلياء على الشاطئ الجنوبي الغربـي مـن إيطاليا وزعيمها هو " أكزينوفان "الذي أعلن أن الله واحد لا شريك لـه، وأنّـ ه يتصـف بصفات الكمال ولا يتصف بشيء من الحوادث، وأن العالم في قبضـته وأنّـ ه المحـرك له، ولقد كان طابع هذه المدرسة عقلياً، وقد اهتمت في البحث عن أصل العالم الروحـي، ولم تهتم إلا قليلاً بأصله المادي.([51]) ويعتبر بارمنيدس الذي عاش ما بين القرن السادس والنصف الأول من الخامس من أشهر فلاسفة هذه المدرسة.

مذهبه الفلسفي:

يرى أنّ أصل الوجود هو الوجود نفسه، فليس في الكون كلـه إلا هـذه الحقيقة، ألا وهي حقيقة الوجود.وإذا أردنا وصف هذا الوجود بشيء فلا نستطيع وصفه إلاّ بأنّه موجود. وعن هذا الأصل  (الوجود (تنشأ وجودات الأشياء، ويتميز بعضها عـن البعض بمقدار ما فيها من هذه الحقيقة الأولى.([52])

المبحث الرابع:الدور الرابع:الفلاسفة الطبيعيون المتأخرون:

وهم الفلاسفة الثواني أو الذريون، وأشهر فلاسفتهم ثلاثة، نشأ هؤلاء متعاصرين في القرن الخامس قبل الميلاد، وهم:ديمقريطس، وأنبادقليس، أنكسجوراس.

مذهبهم الفلسفي:-

         ينحصر مذهبهم في القول بأنّ أصل العالم هو الذرة .ويفسرون الكون والفسـاد (الوجود، والعدم) في هذا العالم على هذا الأساس ، وتتكون الأشياء نتيجة تجميع عدد مـن الذرات، وفساد هذه الأشياء نتيجة افتراق هذه المجموعة أو تلك من الذرات، وهكذا كـل ما يجري في هذا الكون من تغيرات.([53])

ولقد أطلق على القائلين بهذا المذهب بالطبيعيين لأنّه كان في البدء مذهباً ماديـاً صرفا أي طبيعي بحت، ولكي يتميزوا عن الطبيعيـين الأول " فلاسـفة أيونيـا " سُـموا بالطبيعيين الثواني.ولمّا وجدت صعوبات في فهم حركات الذرات التي تتجه إلى تكـوين الأشياء أو انعدامها، فإنّ بعض أتباع هذا المذهب ذهب إلى أنّ الحركة تلقائية وذاتية في الذرة قائمة على قانون الجذب والمغناطيسية الذي يربط بعضها ببعض، وبالتالي يكـون اجتماع الذرات وافتراقها على أساس هذا القانون وبمحض الصدفة.وقال آخرون: إنـه لابد بجانب كل ذرة من هذه الذرات ذرة أخرى روحية أو عقلية تأخذ خصائص المدبر والمحرك .

وذهب أحد الفلاسفة الذريين "أنكسجوراس) 428 -500 ق. م (إلى رفـض مـا ذهب إليه ديمقريطس من إرجاع أصل الكون إلى الذرات، قال إنّ مبدأ الموجودات هـو:جسم أول متشابه الأجزاء، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس، ولا ينالها العقل منهـا:كون الكون كله العلوي منه والسفلي، لأنّ المركبات مسبوقة بالبسائط، والمختلفات أيضا مسبوقة بالمشابهات والمركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر، وهـي بسـائط متشابهة الأجزاء، والحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يغتذي من أجزاء متشـابهة أو غير متشابهة، فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة، ثم تجري فـي العـروق والشـرايين فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم واللحم والعظم. وحكى عنه أيضا ً أنّ ه وافق سـائر الحكمـاء فـي المبـدأ الأول إنّـّه العقل الفعال، غير أنّ ه خالفهم فـي قولـه إنّ الأول الحـق تعـالى سـاكن غير متحرك.وحكى فورفوريوس عنـه أنّـّه قـال إنّ أصـل الأشـياء جسـم واحد، موضوع الكـل لا نهايـة لـه، ولـم يبـين مـا ذلـك الجسـم أهـو مـن العناصر أم خـارج عـن ذلـك، قـال:ومنـه تخـرج جميـع الأجسـام والقـوة الجسمانية والأنواع والأصناف.([54]) ورأى أنّ أصل الكون عناصر أساسية وأنواع أولية لم ينشأ أحدها عن الآخـر، إنّما تتكون العناصر والأصول الأولى مما فيه من مواد، ومادة الكـون ذرات لانهائيـة العدد، وهذه الذرات اللانهائية لا يمكن أن تتجمع في كتلة واحدة هي أصل كل شيء.([55]) وذهب إلى وجود قوة عاقلة ذكية تدبر الكون وتحكمه، وتسير به إلى غاية وهدف.([56])

 

الفصل الثاني

المرحلة الثانية:السوفسطائيون وسقراط(من سنة 480 إلى 299 ق.م (

            لقد تغير موضوع الفلسفة في هذه المرحلة، إذ أصبح هذا الموضوع هو الإنسان بدلاً من الكون الطبيعي المحسوس، وذلك أنّ السفسطائيين قد حوّلوا البحث الفلسفي من الطبيعة إلى الإنسان بعد أن رأَوا عدم جدوى البحث في العالم الطبيعي.

المبحث الأول:السوفسطائيون:

السوفسطائي:هو المتحكم الذي يـذكر وجـوه المغالطـات، وكيفيـة التحـرز منهـا، والسوفسطائيون هم الذين لا يثبتون حقائق الأشياء.([57])

نشأتهم:

       بعد فلاسفة المدرسة الطبيعية الثانية طرأت على المجتمع اليوناني أحداث سياسية أدت إلى تطورات هامة تركت آثاراً سيئةً في الحياة الدينية والأخلاقية والسياسية في بلاد اليونان.وأهم هذه التطورات :اعتداد الفرد بذاته واعتزازه بشخصيته، وظهور موجة من الإلحاد تجلت في إنكار الآلهة وأنها لا تستحق التقديس أو العبادة، كما تجلت في الثـورة على قديم متعارف عليه، والإقبال على كل جديد مستحدث .

ونتيجة اختلاف الفلاسفة في بيان أصل العالم، وتناقض أقوالهم في ذلـك حـدث ارتياب لدى الناس، وظهر جماعة من الفلاسفة يوجهون النقد والتشكيك لآراء الفلاسـفة السابقين، ثم اتسعت دائرة النقد والتشكيك لتشمل بجانب النظريات الفلسفية:العقائد الدينية وسلوك الإنسان في حياته، وحقائق الأشياء.في هذا الجو المشحون بـالتمرد والإلحـاد واتساع دائرة النقد والتشكيك ظهرت جماعة السوفسطائيين الذين كـانوا مـرآة صـافية انعكست فيها صورة هذا العصر.

مذهب السوفسطائيين:

ذهب السوفسطائيون إلى أنّه ليست هناك قضايا عامة تتساوى العقول في إدراكها فالإنسان وحده هو مقياس كل شيء، فما يراه حقاً فهو حق بالنسبة إليه، وما يراه بـاطلاً فهو باطل بالنسبة إليه.وهكذا هدم السوفسطائيون قواعد الأخلاق، وأنكروا الآلهة بالإضافة إلى إنكارهم حقائق الأشياء، وقالوا لا وجود لها إلا في الخيال، وهكذا صار الأمر فوضـى وأصـبح الناس أحزاباً متفرقة في آرائها.([58]).(58) ولمّا ظهرت في عصر السوفسطائيين أسباب النزاع والخلافات أمام المحاكم في الجانب السياسي نشأ الجدل والخطابة وفنون الحوار والمحاورة، وأصبح التّزود بمثل هذه الأمور ضرورة للتغلب على الخصوم في المناقشات والمحـاورات ووسـيلة للظهـور والترقي في الحياة السياسية، بغض النظر عن تحري الحق في ذاته أو الوصـول إلـى الصواب.

وأهمّ ما يميز السوفسطائيين أنهم كانوا يعلمون النّاس بالأجر، يلقـون الـدروس للأغنياء مقابل أجراً زهيداً، وللعامة بمبلغ أقل، وكانوا ينتقلون من مدينة إلى أخرى، ولهم قدرة فائقة في جلب التلاميذ، الذين يصطحبونهم ً أحيانا في تنقلاتهم. ول مّا كانت الخطابـة من أهم العلوم التي تهيئ الإنسان للنجاح السياسي فقد اختص السوفسـطائيون بتعليمهـا للشباب الأثيني الراغب في الوصول إلى السلطة والمشاركة في السياسة.

ذهب السوفسطائيون إلى تعليم الناس موضوعات متفرقة لا تربطها فكـرة، ولا يجمعها طابع مميز أو كيان معين.لقد اختص كل سوفسطائي بعمل معين اشـتهر بـه، وكرّس حياته ونفسه له، فمثلاً: بروتاجوراس :خصص نفسه لتعليم قواعـد النجـاح فـي الأمـور السياسـية، والوصول عن طريقها إلى أرقى المناصب .وجورجياس خصص حياته لتعليم البلاغـة وعلم السياسة، و"بروديكوروس "لتعليم قواعد النحو والصرف، والفيلسوف هبيـاس كـان يعلـم التاريخ والرياضة والطبيعة.

أشهر فلاسفة السوفسطائيين:

-1 بروتاجوراس:

يعد بروتاجوراس من أشهر الفلاسفة السوفسطائيين، وتعد آراؤه مصدراً لمذهب هـؤلاء الفلاسفة، ولد بروتاجوراس في مدينة أبديرا حوالي عام 480 ق.م .ولقد طاف في أنحاء اليونان، ثمّ استقر به المقام في أثينا، و ضع ً كتابا بعنوان " الحقيقة "شكك في وجود الآلهة، اعتبر الإنسان مقياس الأشياء جميعاً، ولكون أفراد الناس كثيرين فإنّ إحساسـات النـاس متعددة ومتناقضة أحيانا ً، والحواس هي وسيلة الإدراك الوحيدة ومالا يدرك بهـا فلـيس موجوداً.جاء في أول كتابه:" لا أستطيع أن أعلم إن كانـت الآلهـة موجـودة أم غيـر موجودة، فإنّ أموراً كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم، أخصها غموض المسألة وقصـر الحياة "، فاتُهم بروتاجوراس بالإلحاد، وحكم عليه بالإعدام، وأحرقت كتبـه علنـاً، ففـر هارباً، ومات ً غرقا أثناء فراره سنة 410 ق .م([59])

وعلى ضوء ما ذهب إليه بروتاجوراس يتبين ما يلي:

أ -إنّ الحقيقة المطلقة غير موجودة، لأن الحقائق تتعدد بتعـدد الأشـخاص واخـتلاف أحوالهم.

ب -يمتنع وقوع الخطأ، لأنه يمكن أن نتصور في شيء ما خلاف ما نتصوره عليه فـي وقت ما، فالحق يتعدد .

ج -إنّ الفرد مقياس الخير والشر، والعدل والظلم.([60])

-2  جورجياس 375 -480) ق .م)

وضع جورجياس كتابا في "اللاوجود "أورد فيه قضايا ثلاث:-  1- لا يوجد شيء.   2-إذا كان هناك شيء فالإنسان قاصر عن إدراكه. 3- إذا فرضنا أن إنساناً أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس.([61])

فرق السفسطائية :يمكن أن نميّز في السوفسطائيين ثلاث فرق هي:-

 -1 اللاأدرية: وهم الذين قالوا: نحن شاكون وشاكون في أنا شاكون، وهؤلاء هم الشكاك في الحقائق.

 -2 العنادية: وهم الذين يقولون ما من قضية بديهية أو نظريـة إلا ولهـا معارضـة أو مقاومة لمثلها في القوة والقبول عند الأذهان.

-3 العندية: وسموا بذلك لأنهم يرون أن الحقائق حق عند من عنده حق، وهـي باطـل عند من عنده باطل، وأن مذهب كل قوم حق بالقياس إليهم، وباطل بالقيـاس إلـى خصومهم، وقد يكون طرفا النقيضين حقاً بالقياس إلى شخصين، وليس فـي نفـس الأمر شيء بحق.([62])

وقد ظهر فلاسفة نصبوا أنفسهم لمعارضة السوفسطائيين، وبيان ضلالهم ومـن هؤلاء الفيلسوف اليوناني سقراط الذي ذاع صيته واشتهرت فلسفته.

المبحث الثاني:سقراط بن سفرنيقوس

حياته الشخصية:

ولد سقراط في أثينا حـوالي 470 ق. م، كـان والـده يشـتغل فـي صـناعة التماثيل، وأمه كانت قابلة، اشتغل سقراط في صباه بصناعة والده، ثم توجه إلـى الفكـر الذي أغرم به، واشتغل بالجدل و الحوار، وإثارة المشاكل الفكرية، والشكوك في نفـوس الناس حول القضايا التي أثارها السوفسطائيون.

صفاته الجسدية: كان سقراط قبيح المنظـر، قصـير القامـة، بـدين الجسـم، بـارز العينين، أفطس الأنف، واسع الفم، بالي الثياب.

سماته:

كان سقراط ً حكيما فاضلاً، زاهداً، امتاز بسرعة الفهم وحدة الذهن، حضور البديهة والبراعة في إخفاء سخريته، و طبع بمزيج غريب من الـتحكم فـي الـنفس، والمهـارة والحماس وبراعته في المناقشات، والدقة في كشف خداع الناس له.([63])

وفاته:

لقد ذاع صيت سقراط، واشتهر أمره في زمانه، ورغم ذلك تألب الناس عليه لأنّه نهى الرؤساء في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان، فاتهموه بالإلحـاد وإنكـار آلهـة اليونان، والدعوة إلى آلهة جدد، وإفساد عقول الشباب، نتيجة ذلك قُدِم للمحاكمة، فحكـم عليه بالإعدام، ويقال أنّ إعدامه تم بسقايته السم في شراب يحبه، وقـد تجـرّع الكـأس راضيـاً مبتسـماً، هلـك وعمـره ما بيـن السبعين والرابعـة والسـبعين سـنة 399 ق .م.([64])

منهجه في البحث والتفكير:

     ابتدع سقراط منهجاً ً جديدا في التفكير والمحاورة يقوم على أمرين-:

-1 التهكم السقراطي: بناه على تصنع الجهـل، والتظـاهر بالتسـليم لوجهـة نظـر الخصوم، ثمّ الانتقال إلى إثارة الشكوك حولها، ثم يستخلص م ن آراء الخصوم لوازم لا يستطيعون الالتزام بها لكونها متناقضة مع آرائهم ومعتقداتهم وبذلك يوقعهم فـي الحرج والتناقض .وكان قصد سقراط من هذا تنقية أذهان النـاس مـن المعلومـات الفاسدة، وتطهيرها من القضايا الكاذبة والمعارف الخاطئـة التـي ورثوهـا عـن السوفسطائيين.([65])

-2 التولد:أي تولد الحقيقة من نفوس الخصوم، من خلال استنباطها عن طريق توجيـه الأسئلة إليهم في نسق منطقي وترتيب فكري،([66]) ولم يكن حـواره ينتهـي إلـى نتيجـة معينة،وإنما كان القصد منه تنبيه الأذهان إلى ضرورة التزام الدقة في اختيـار الألفـاظ وإلى أن المعاني موجودة في النفس، ولا سبيل إلى استخراجها إلا بالحوار.([67])

فلسفة سقراط:

تدور فلسفة سقراط حول موضوع واحد هو الإنسان، وإذا ما تناولـت الكـون الطبيعي وموجودا ته الحسية وظواهره، فإنما لكونها مركز الإنسان وبيئته، ومكان نشأته ونموه.([68]) ويمكن القول بأنّ الأساسين الكبيرين لكل آرائه هما -:

أ -اعتقاده بوجود الحقيقة، وبإمكان معرفتها.

ب -ربطه العمل بالعلم، أي جعله المعرفة ً أساسا للسلوك.([69])

والذي يهمنا من فلسفة سقراط أمران-:

الأول:تحديده لمنهج المعرفة لما يترتب عليه من تحول كبيـر فـي موضـوع الفلسـفة

ومنهجها في تاريخ الفكر اليوناني.

الثاني :تحديده لمفهوم الفضيلة لما يترتب عليها من وجهة نظره الأخلاقية.

سقراط والمعرفة:

كان السوفسطائيون يرون أن المعرفة مقصورة على الإحسـاس، وهـي لـذلك تختلف باختلاف الأشخاص، فما يراه الشخص حقاً فهو عنده حـق، وإن رآه الآخـرون بخلافه، لأنّ الإحساسات تختلف باختلاف الناس. فلمّا جاء سقراط أنكر قولهم في المعرفة، وأثبت أنّ العلم إنما هو في المدركات العقلية، وأن المعرفة تتكون من حقائق كلية، يستخلصـها العقـل- لا الحـوا س -مـن الجزئيات المتغيرة، ولمّا كان العقل عنصراً مشتركاً لزم أن تكون الحقيقة عنـد شـخص معين هي نفسها الحقيقة عند شخص آخر، وهكذا.([70])

الفضيلة عند سقراط:

الفضيلة عنده أمر بديهي، في أساس تكوين الإنسان، لكن الإنسان حين يخطـيء معاينة الفضيلة يظن الباطل حقا والشر فضيلة.لهذا فإن الحقيقة التي يحب سقراط نقلهـا إلى الناس هو أنه عليهم إعادة فحص ما هم متيقنون من معرفته. وذهب سـقراط إلـى الربط بين الفضيلة والمعرفة، فالإنسان الذي يرغب أن يكون فاضلاً، فلا بـد أن يكـون عارفاً، وبمقدار ما يتحصل المرء من المعرفة، معرفة عن نفسه وما تشتمل عليـه مـن ملكات وقوى، ومعرفته عن الكون بمقدار ما يكون المرء فاضلاً. إنّ معرفة الخير ستدفع إلى فعله، ومعرفة الشر تحض المرء على تركه، والإنسان يبتعد عن فعل الخير ويسـلك الشر لأنّه جاهل بالخير والشر. يرى سقراط أنّ الإنسان روح وعقل يُسيِّر الجسم ويدّبره، ولـيس مركبـاً مـن الهوى والشهوة كما ذهب السوفسطائيون، وذهب إلى أن القوانين العادلة لا مصدر لها إلا العقل وهي متفقة مع القوانين غير المكتوبة التي رسمتها الآلهة في قلوب البشـ، فمـن

يحترم القوانين العادلة إنّما هو في الواقع يحترم العقل والنظام الإلهي.([71])

بحثه فيما وراء الطبيعة:

بحث سقراط فيما وراء الطبيعة فذهب إلى أنّ النفس ليست مجرد مبدأ الحيـاة، بل هي أهم من ذلك، هي "الذات الأخلاقية " ، وقال بخلود النفس، وأقام الأدلة على وجـود الإله،وهو في نظره إله خير، لا يدركه العقل، ولا يحيط به الوصف ،ولا يصـدر عنه إلا كل صلاح، ولا يشبه الحوادث في قول أو فعل، وأنه واحد لا يتغير ولا يتبدل، والواجب على الإنسان أن يطيع أوامره مهما كلفه من مشقة وتعب.([72])

وكان سقراط يتحدث ً كثيراً عن " الإله "المفرد أو عن الألوهية مخالفا ما يتحـدث به الآخرون بلفظ الجمع " الآلهة ".وكان ينهى ع ن عبادة الأصنام، وشدّد في نهيـه علـى الملك، وقال له مرة":إنّ عبادة الأصنام نافعة للملك ضارة لسقراط، لأنّ الملك يصلح بها رعيته ويستخرج بها خراجه، وسقراط يعلم أنّها لا تضرّه، ولا تنفعه، إذا كان مقراً بأنّ له خالقاً يرزقه، وجزيه بما قدّم من سيئ أو حسن.([73])

 

الفصل الثالث

المرحلة الثالثة:أفلاطون وأرسطو

في هذه المرحلة اتسع نطاق الفلسفة حيث صار موضوعها شاملاً لكـل بحـث إنساني، وامتاز هذا العصر بتبويب وتنظيم المسائل الفلسفية، وبلغت الفلسفة فيه كمالهـا، وكان ذلك على يدي:أفلاطون وتلميذه أرسطو من عام 427 إلى 322 ق .م.

المبحث الأول:أفلاطون 427 ـ 347 ق .م (:

هو أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس، ولد في أثينا سنة 427 ق.م من أسرة عريقة غنية، ذات شأن في السياسية والملك والحكمة، تثقف ثقافة واسـعة حيـث تعلـم الرياضة والشعر، واطلع على المذاهب الفلسفية، ولما بلغ سنّ العشـرين تعـرف علـى سقراط، فلازمه وتتلمذ عليه مدة ثمانية أعوام، نقل خلالها الكثير من أفكـاره وتعاليمـه، والتي تركت بدورها أثراً ً كبيرا في حيـاة أفلاطون وتفكيره الفلسفي.وبعد موت أستاذه سقراط غادر أفلاطون أثينا إلى ميغاري، وأقـام بهـا عنـد الفيلسوف أقليدس، الذي أسس مدرسة فلسفية في هذه المدينة، ثم غادرها إلى مصر التي درس فيها الرياضة دراسة وافية، واطلع على علومها ودياناتها، وفـي سـنة 370 ق. مغادر مصر إلى إيطاليا، وهناك تعرف على الفيثاغورثيين واتصل بهم ودرس مذهبهم.

لقد جمع أفلاطون من خلال رحلاته وتنقلاته بين ثقافات الشرق والغرب. الأمر الذي أسهم في فلسفته التي جاءت متعددة الجوانب الفكرية، متعددة الموضوعات، وممـا جعل فلسفته تمتاز عن فلسفة الذين سبقوه من اليونانيين، إذ تناول في فلسفته الطبيعة وما وراء الطبيعة، والإنسان والقيم والمثل والسياسة والمدنية وغير ذلـك مـن موضـوعات فلسفية .وفي سنة 378 ق.م رجع أفلاطون إلى أثينا، وبها أنشأ مدرسته الفلسفية، التـي تطل على حديقة "أكاديموس "أحد أبطال اليونان، فسميت لذلك بالأكاديمية، وقـد جعلهـا دينية علمية تدرس فيها جميع العلوم وأقام فيها معبداً، وظل يعلِّم فيها ويكتـب أربعـين سنة، وقد أقبل عليها الطلاب رجال ونساء، يونان وأجانب وظل فيها إلى أن توفي سنة

347 ق .م.([74]) .(74)

مؤلفات أفلاطون :

تمتاز مؤلفاته بتمثيلها لمراحل حياته الفكرية الثلاث -: فالمجموعة الأولى من مؤلفاته: هي التي كتبت في الفترة التي قضاها في أثينـا، والتـي أحاطت بموت أستاذه سقراط وقبل رحلاته خارج أثينا، وتمثل كتبه في تلك الفترة فلسـفة أستاذه سقراط.أما المجموعة الثانيـة : فقد كتبها بعد رحلته إلى ميغاري وغيرها من البلاد، وآراؤه فيها خليط من آراء أستاذه سقراط وصديقه أقليدس الذي تعرَّف عليه في ميغـاري، وآرائـه الشخصية التي تمثل فلسفته وتفكيره الخاص . وأما المجموعة الثالثة: فقد كتبها بعد استقراره في أثينا، ولما وصل درجـة لنضج والصفاء الذهني، ويمكن أن تعبر عن استقلاله في التفكير الفلسفي.([75]).(75)

فلسفة أفلاطون:

     شملت فلسفة أفلاطون موضوعات متعددة وأهمها ما يلي:

-1  نظريته في المعرفة من حيث مراحلها وكيفية تحصيلها.

 -2 نظريته في المثل، وهي بحث عن الحقيقة المطلقة فيما وراء الطبيعة.

-3  نظريته في الطبيعة، وموضوعها الطبيعة، وتبحث في ظواهر الوجود من حيث هـو

مادة يلازمها ملازمة ضرورية كل من المكان والزمان.

-4  الأخلاق وتبحث في واجبات الفرد نحو غيره .

-5  السياسة وتبحث في واجبات الإنسان نحو المجتمع، وفيها وضع أفلاطون نظريته في الحكم الجمهوري، وفي المدينة الفاضلة، وهو ما يعرف بجمهورية أفلاطون.([76]) .(76)

وبهذا يتبين أن أفلاطون تناول في فلسفته موضوعات شتى، وأنـه تميـز عـن الفلاسفة قبله الذين كانوا يقصرون مباحثهم على موضوع واحداً أو موضوعين. لقد شملت فلسفة أفلاطون: الطبيعة، وما وراء الطبيعة، المعرفـة، والمثل والأخـلاق والسياسة والمدينة الفاضلة، والنفس الإنسانية.

منهجه الفلسفي:

سلك أفلاطون في منهجه الفلسفي التوفيق والتنسيق بين المذاهب الفلسفية التـي سبقته، إذ لم ير في تعارضها سبباً للشك مثل السوفسطائيين، إنّ آراء السـابقين عنـده حقائق جزئية والحقيقة الكاملة تقوم بالجمع بينها وتنسيقها في كلٍ يجمع الأجزاء ويؤلفها. وطريقة التوفيق هي حصر كل وجهة في دائرة، وإخضاع المحسوس للمعقول، والحـادث للضروري إنّه جمع بين تغيّر هرقليطس ووجود بارمنيـدس، ورياضـيات فيثـاغورث وأصحابه وعقيدتهم في النفس، وجواهر ديمقـريطس، وعناصـر أنبـادوقليس، وعقـل أنكساغوراس، ومذهب سقراط. إنّه لم يرد شيئاً من تفلسف السابقين، بل انتفع بكل شيء ثم طبع هذا التفلسف بطابعه الخاص وزاد فيه، فتوسع وتعمّق إلى حدّ لم يسبق إليه.([77])

جوانب من فلسفته :

أولاً:آراء أفلاطون الفلسفية فيما وراء الطبيعة:

الجانب الإلهي في فلسفة أفلاطون:

أ -الله عند أفلاطون:

يربط أفلاطون بين العلّة ومعلولها ربطاً دقيقاً محكماً، فالعلّة الحقة للوجود لابـد أن تكون عاقلة تدرك معلولها قبل وقوعه، وتضع كل ما يحتاج إليه من الوسائل مرتبـة ترتيبا منطقياً وفعله لابد أن يكون لغاية.([78])  والاعتقـاد في الألوهية واجـب علـى كـل إنسان، وهذا الاعتقاد ليس طارئاً ولا مكتسباً، إنه مغروز في طبيعة الـنفس الإنسـانية، فالإنسان طبع على التدين، والاعتقاد بوجود إله أمر مركوز في طبيعـة الإنسـان التـي خلقت مع فطرته التي فطره الله عليها .ولذا فإن معرفة الله واجبة، وعبادة الله وتعظيمـه فرض على كل إنسان.([79])  لقد قاد أفلاطون تفكيره إلى إدراك الألوهية والاعتراف بوجود إله لهذا الكون مـدبر لـه ومهيمن عليه. وحكى عنه تلامذته: أنه كان يقول:إنّ للعالم محدثاً مبدعاً، أزلياً واجباً بذاته عالم بجميع معلوماته على صفة الأسباب الكلية، كان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل إلا مثالاً عند الباري تعالى، ربما يعبر عنه بالهيولي، وربما يعبر عنه بالعنصر.([80])).(80)يشير هنا إلى صور المعلومات في علمه تعالى (قال :أبـدع البـاري العقـل الأول، وبتوسطه النفس الكلية، وقد انبعث عن العقل انبعاث الصورة في المـرآة، وبتوسـطهما) توسط العقل والنفس( أبدع العنصر . وليس المقصود بهذا العنصر الهيولي التـي هـي موضوع الصور الحية إنما عنصر أخر.([81](

ب -أدلة وجود الله عند أفلاطون-:

يثبت أفلاطون وجود الله تعالى بدليلين هما -1: دليل الحركة      .2- دليل النظام

وهو يستمد هذين الدليلين من ظاهرتي الحركة الجارية في الوجـود والمتعاقبـة على كل موجوداته، وظاهرة النظام البادي في كل جزء من أجزاء الوجود.

ج -صفات الله عند أفلاطون:

وصف أفلاطون الله بالوجود والوحدة، ثم أضاف إليه من الصفات مـا يجعلـه موجوداً ً منفردا عن كل ما سواه، وبما استحق به أن يكون فوق قمـة الموجـودات، وأن يكون مدبرها وصانعها.

فمن صفات الله أنه :روح عاقل منظم، متصف بالجمال والخير والعدل والكمـال والبساطة، ثابت لا يعتريه تغير، صادق لا يعرض له الكذب، لا يخضع للزمان، يكـون وحده في حاضر مستمر، يتجه إلى العالم بعنايته التي لا تقتصر على كلي دون جزئي أو جزئي دون كلي.([82]) .(82)

 ثانيا :آراء أفلاطون في الطبيعة :

أ -علاقة الله بالطبيعة الكون (عند أفلاطون:

يفسر أفلاطون الكون على أساس نظريته في المثل وثنائية العالم، فالعالم كان في المبدأ مادة مبهمة غير معينة، ولا يعرف عنها غير صلاحيتها لتقبل الصور، وأن هـذه المادة تحركت أولاً حركة اتفاقية باستمرار حتى اتحدت ذراتها المتشابهة بالشكل وكونت العناصر الأربعة، وبعد أن وصلت تلك المادة إلى هذا النظام عين الصـانع لكـل منهـا مكاناً .ولا يقصد أفلاطون بالحركة الاتفاقية ما قصده الطبيعيون من القول بالصدفة والاتفاق، بل قصد أن الصانع المبدع المدبر وضع الروح فوق المادة فأَلّفت الانسجام والنظام الحاصل بين الأشياء، والكمال الموجود بين الكائنات نظمته قوة عاقلة هي التي تسير العالم إلـى غاية . ويبدو من كلام أفلاطون أن العالم مكون محدث، مما جعل أرسطو يعتبره مخالفا للفلاسفة الأقدمين.

وقد اختلف شرّاح فلسفة أفلاطون في الحدوث الذي ذهب إليه أفلاطون، هل هو المراد منه الحدوث الحقيقي أي سبق العدم على الوجود، أم أن المادة ليست أصلاً بذاتها بل هي متغيِّرة بفعل النفس العامة التي خلقها الصانع ليتكون من المادة الأولى المبهمة هذا النظام الكامل.([83])

ب -نظرية المثل عند أفلاطون :

وصف أفلاطون العالم المعقول بأنه إلهي لاشتراكه مـع الإلـه فـي الروحيـة والعقـل لكنـه يصنـف العالم العقلي في مراتب مختلفة أعلاها وفوق قمتهـا جميعـا الله عز وجل  ([84]).وكان ً كثيرا ما يطلق اسم الإله أو الإلهي على بعض المثل : كمثال الخير ومثال الجمال، وآلهة الكواكب، وآلهة الجن …وكل ما عدا الله من مجردات هي مبادئ للتـدبير آلهة باشتراك الاسم فقط، لأن كل واحد منهم يمثل قمة نوع أو مقولة، ولا يأخذون كـل خصائص الله، وإنما يستمدون منه وحدة وجودهم وخلودهم.([85])

و يرى أفلاطون أن المعاني الكلية المجردة لها وجود وتحقق ذاتـي فيمـا وراء الطبيعة، وهذه المعاني أو الجواهر المجردة لا تدركها الحواس ولا يطرأ عليهـا الفسـاد والفناء، ووجودها هو موضوع العلم اليقيني، ولولا وجود هذه الجواهر ما استفدنا العلم، وما استطعنا العلم بشيء علماً يقينياً، إنها العلم المعقول الذي هو أصل العالم المحسـوس ومثالٌ له، فالكليات هي الموجود الحقيقي.أما هذا الموجود المادي فليس إلا ظلاً وخيـالاً له .فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة الأولية أو الهيولي، والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي.. وبين ذلك كائنات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي. وهذه الكائنات المتوسطة، بعضها أرباب، وبعضها أنصـاف أرباب، وبعضـها نفوس بشرية. وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة، ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان، ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة. فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق، لتوسطها بي ن الإله القادر والهيولي العاجزة. فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين.

مما سبق يتبين لنا أن أفلاطون يرى أنّ هناك عالمين اثنين:-

 العالم الأول :عالم الحس المشاهد، دائم التغير، عسير الإدراك،ليس جديراً بـأن يسـمى موجوداً، ولا يسمى إدراكه علماً، بل هو شبيه بالعلم لأنه ظل وخيال للموجود الحقيقي .

العالم الثاني:عالم المجردات، فيه أصول العالم الحسي وهو مثاله الذي صـيغت عليـه موجوداته كلها، ففي عالم المثل يوجد لكل شيء مثال هو في الحقيقة الموجود الكامل لأنه مثال للنوع لا للجزء المتغير الناقص.ففي عالم المثل إنسانية الإنسان وحيوانية الحيوان، وخيرية الخير، وشكلية الشكل.. وهكذا.([86])

ومثال ذلك:أنّا إذا نظرنا في أفراد الإنسان الممثلة في إبراهيم وزيد وعلي وجدنا كلاً من هذه الأفراد جسماً نامياً ومتحركاً بإرادته، وهي ما نعبر عنه بقولنـا:حيـوان، ووجدناها تشترك أيضاً في التفكير بالقوة المعبرة عنه بـ "النطق "وبجوار هذه الصـفات الجوهرية المشتركة بين جميع الأفراد توجد صفات عارضة كالنوم والمرض والمشـي، فنستبعد الصفات العارضة ونبقي الصفات الجوهرية، مرتبين إياها في جـنس وفصـل، فيصبح التعريف حينئذ ً تعريفا بالحد التام، حيث يكون تعريف الإنسان "حيـوان نـاطق " وكل من الحيوان والناطق مدرك عقلي منتزع من أفراد الإنسان الحسية بعد تجريده مـن المادة، فهو صورة عقلية مجردة عن المادة.([87]) وهذه الصورة العقلية المجردة لها حقيقة خارجية مجردة عن المادة، لهـا كيـان خارجي مستقل بحيث تكون تلك الصورة مرآة لها ومنطبعة عليها .هذه الحقيقة الخارجية المجردة التي تنطبق عليها الصورة العقلية الكلية هـي مـا يسـميها أفلاطـون"مثـال الإنسان".([88])" فمثال الإنسان: "هو تلك الحقيقة المجردة الكائنة في العالم المعقول وهو عالم المثل، نظر إليه الصانع وصنع على شكله أشخاص الإنسان المحسوسة.([89]).(89) وبين العـالم الحسي وعالم المثل يوجد العقل الإنساني الذي تتحقق فيه معرفة حالة من حـالات تلـك المعاني الكلية والجواهر المجردة.

وعلى هذا فإن الأشياء لها ثلاث وجودات:

 الأول :أعلاها وجود المجردات في عالم المثل.

الثاني  :أوسطها وجودها الذهني غير الخارجي، وبواسطتها يمكن الحكم على المحسوسات ومعرفة المجردات في عالم المثل .

الثالث :أدناها وأحطها وهو وجودها المشاهد في عالم الحس.([90])

د ـ صفات المُثُّل عند أفلاطون:

-1 أنها عناصر: ومعنى ذلك أن وجودها في نفسها لم يصدر عن شيء آخر،إنها أساس الأشياء، ولاشيء أساس لها، وأنها لا تعتمد على غيرها، وغيرها يعتمد عليها.

-2 أنها عامة لا خاصة: فمثال الإنسان مثلاً ليس إنساناً خاصاً، وإنما هو الحقيقة العامة لكل إنسان، وكل مثال وحده لا يتعدد، وإنما يتعدد أفراده.

-3 هذه المثل ليست مادية، بل هي مجردة عن المادة، وجودها في نفسها مستقل عن كل عقل، وما في العقل صورة لها.هي أزلية أبدية لا تفن ى، وإنما يفنى أفرادها، وأنها لا يحدّها زمان ولا مكان وإلا كانت شخصية.

-4  إنها معقولة، بمعنى أن العقل في إمكانه أن يدركها بالبحث والاستنباط.([91])

 

المبحث الثاني:أرسطو طاليس

مولده وحياته:

 ولد أرسطو سنة 385 ق. م في مدينة أسطاغيرا التي سميت أخيـراً أسـطافرو وهي مدينة يونانية قديمة على ساحل بحر إيجة، وقد اشتهرت أسرة أرسطو بالطب فأبوه كان طبيباً لأحد ملوك مقدونيا توفي والده وهو صغير.التحق أرسطو وهو في سن الثامنةعشرة بأكاديمية أفلاطون بأثينا، فتفوق على زملائه، وأظهر من الذكاء والفطنة والإطلاع الواسع ما جعله يكسب إعجاب أستاذه أفلاطون، فكان يسميه تارة العقل، وتارة القرَّاء.([92])

لقد استمر أرسطو ملازماً أفلاطون في أكاديميته عشرين عاماً، قضى بعضها في التعليم والبعض الآخر في التدريس، فلما مات أفلاطون ترك الأكاديمية نهائياً.([93]) غادر أرسطو أثينا متوجهاً إلى آسيا الصغرى، وبها تزوج، وبعد بضع سـنوات عاد إلى أثينا وأسس مدرسة في أحد ملاعبها الرياضية، وقد اعتاد أرسطو إلقاء دروسـه على تلاميذه وهو ماشياً يسير على الأقدام بجوار الملعب، فعرفـت مدرسـته الفلسـفية "المدرسة المشائية "، وسمي أتباعه "بالمشاءين "، وعرفت فلسفته" بالفلسفة المشائية.([94])

 لقد اتهم أهل أثينا أرسطو بالإلحاد – كما اتهموا سقراط من قبل –مما اضطره إلى مغادرة أثينا بعد أن أوكل أمر المدرسة إلى تلميذه ثاوفرا أسطوس، استقر أرسطو فـي مدينة )خلقيس (أو(خلسيس (في جزيرة أوبا إحدى الجزر اليونانية، وبها تـوفي نتيجـة إصابته بمرض معوي وهو في سن الثالثة والستين وذلك سنة 322 ق .م([95])

مؤلفات أرسطو:

لقد دوّن أرسطو في مختلف فروع الفلسفة، فله مؤلفات في المنطق، وفيما وراء الطبيعة وفي الطبيعة، والأخلاق والسياسة والفن والخطابة والشعر، وأشـهر كتبـه فـي المنطق، وقد عرفت باسم"الأورغانون" ومعناه الآلة الفكرية.وتتميز فلسفة أر سطو في كتبه بمنهجين -:

الأول:منهج نقدي تحليلي: حيث قام أرسطو بإيضاح فلسفة السابقين وتحليلها ونقد مـالا يعجبه منها أو تزييفها.([96])  ولم يسلم من النقد أستاذه أفلاطون، وخاصة نظريته في المثل، حيث لم يعترف فيها أفلاطون بعالم المحسوسات .وإذا كان أفلاطون يرى أنهـا أوهـام وخيالات فإن أرسطو يرى أن الوجود الخارجي في حقيقته ليس إلا هـذه المحسوسـات .وأن مفاهيم الأشياء المحسوسة ومعانيها الكلية لا وجود لها في الخارج مستقلة عن وجود أفرادها الحسية الجزئية.([97])

الثاني:منهج تأسيس بنائي: وضع أرسطو أسساً لمذهب فلسفي جديد خاص به، وقد جاء هذا المذهب نتيجة محاولات فكرية وإطلاع واسع على فلسفة من سبقوه.([98])

منطق أرسطو:

ذهب أرسطو إلى أن المنطق قانون للفكر منظم لعملياته، وهو ميـزان للبحـث العقلي، وضابط لصحيحه من فاسده، وهو الذي يصلح كرباط أو آلة ارتباط بين عـالمي الحس والعقل، وبه ترتبط كليات هذا الوجود بجزئياته وكلياته، وجزئياته بعضها ببعض. ويعتبر أرسطو أول من نَظَّم المنطق كعلم له موضوع معين يتميز به عن سائر العلوم، فكان أول من بَوَّب أبوابه وفصَّل فصوله، ووضع أجزاءه على النحو الذي نـراه اليوم، ولعمله هذا سُميَّ أرسطو بالمعلم الأول.([99])

فلسفة أرسطو:

-1 فلسفته فيما وراء الطبيعة: وتسمى الفلسفة الأولى أو ما بعد الطبيعة، وموضوع هذه الفلسفة هو الوجود الثابت الذي لا يتغير.

سبق أن بينّا أنّ أفلاطون أستاذ أرسطو يرى أن الموجودات الطبيعية ليست إلا ظلالاً للمثل، أما أرسطو فقد عارض أستاذه فقرر أنّ الموجودات الحقيقيـة هـي الموجـودات المحسوسات، وأما المثل التي هي الكليات فليس لها إلا الوجود العقلي فحسـب.والعقـل ينتزع المثل )المفاهيم (من الموجودات الحقيقية، وهذه الموجودات تـدرك بالمشـاهدة لا بالفكر.([100]) وإذا كان وجود الأجسام الطبيعية حقيقياً فإن أرسطو أخذ في تفسـيرها وقـال إنهـا مركبة من مبدأين: الهيولي والصورة.

فالهيولي: كلمة معربة عن اليونانية معناها مادة غير معينة أصـلاً، وبهـا تشـترك الأجسام في كونها أجساماً، وهي الموضوع الذي تقوم به الصفات، وهي فـي ذاتهـا لا توصف ولا تحد، ويمكن أن توصف إذا خلعت عليها الصورة.

*وأما الصورة: فهي المبدأ الذي يعين الهيولي ويعطيها ماهية خاصة، ويجعلهـا ً شـيئا واحداً وهي ما نتعقله في الأجسام من الصـفات كـاللون والخفـة والثقـل، والجمـال واللمعان،والانطفاء والحلاوة.([101])

وتعتمد فلسفة أرسطو فيما وراء الطبيعة على نظريته في العلّة، والتـي يمكـن تلخيصها على النحو الآتي:يفسّر أرسطو عن طريق العلّة العناصر الميتافيزيقية المسببة للتغيرات المختلفة في الكائنات، ويقسم أرسطو العلّة إلى أربعة أنواع هي:

-1 العلّة المادية: هي المادة التي تتكون منها الأشـياء كـالبرنز للتمثـال، والخشـب للكرسي.

-2 العلّة الفاعلة أو المحركة: وهي ما يؤثـر في إيجاد الشيء كالصانع للتمثـال أو الكرسي.

-3 العلّة الصورية: وهي الأوصـاف والمميـزات التي بهـا تكون حقيقة الشيء وماهيته، وهو ما به أصبح التمثال تمثالاً والكرسي كرسياً.

-4 العلّة الغائية([102]) : وهي التي تشكل الغاية من وجود الشيء وهو المقصد والهدف من إقامة التمثال.([103])

وقد اختصر أرسطو العلل الأربع في علتين فقط هما: العّـلة الماديـة والعلّـة الصورية لاعتقاده بأن العلّة الغائية ترجع إلى الصورة والعلّة الفاعلة ترجع إلى المادة، ثم أطلق على ما أسماه العلّة المادية بالهيولي، وما أسماه بالعلّة الصورية بالصورة، وعلـى الهيولي والصورة يعتمد أرسطو في تفسيره لتغيرات هذا الوجود وما يحدث فيه من كون وفساد.([104])

علاقة الهيولي بالصورة:

          إنّ الهيولي لا تشكل موجوداً ما إلا بعد أن تأخذ صورته، فهي فـي الخـارج لا توجد مستقلة عن صورة ما، وإنما وجودها فيه يكون بحلول صورة الشيء الموجود في تلك الهيولي المطلقة، فإن حلّت في الهيولي صورة نبات وجد النبات في الخارج بمادتـهوصورته.وإن حلّت فيه صورة حيوان وجد في الخارج حيوان بصورته ومادته، وهكذا تتعاقب الصورة على المادة فتتشكل منها مختلف الأنواع والأجناس على اختلاف مراتبها في عالم الموجودات.

          فإن حلّت في المادة صورة موجودٍ أدنى كنبات أدنى مثلاً أخذ الموجود مرتبـة نبات، وإن حلّت صورة أرقى قليلاً كصورة حيوان مثلاً أخذ الموجود مرتبـة الحيـوان، وهكذا ترقى الموجودات برقي صورها من مرتبة إلى أخرى، وتتدانى الموجودات بـدنو صورها من مرتبة إلى أخرى في طريق عكسي. وفي أثناء ذلك تتصارع الصورة والهيولي، فالهيولي تحاول أن تجذب الصـورة إلى موجود أدنى لأن طبيعتها مادة صرفة، والصورة تحاول أن تجـذب الهيـولي إلـى موجود أرقى لأن طبيعتها المعنى المجرد عن المادة الذي هو غايـة الموجـودات فـي حركاتها إلـى أعلى، أي قد تنجح الصورة في جذب المادة إلى أعلى. ويعلّل أرسطو وجود شواذ المخلوقات في عالمنا هذا وحالات الإجهـاض فـي الحيوانات بأنه مظهر إخفاق الصورة في تشكيل موجود كامل من الهيولي . إنّ المادة في نظر أرسطو هي وجود الشيء بالقوة، وأن الصورة عبـارة عـن وجود الشيء بالفعل، فوجود الأشياء هو خروجها من القوة إلى الفعل وإعدام ما يعدم منها ليس إلا رجوعاً من الفعل إلى القوة.([105])

 الإله عند أرسطو :

أ ـ وجود الله عند أرسطو:

اعتمد أرسطو على الحركة في إثبات وجود الله فقال:إنّ كل متحرك لابد له من محرك، وهذا المحرك لا يمكن أن يحتاج إلى محرك آخر يستمد حركته من غيـره، وإلا لتسلسل الأمر إلى غير نهاية، فلابد من أن ينتهي الأمر إلى محرك أولي أزلي يُحرِّك ولا يتحرك، أو يفعل في غيره ولا ينفعل بغيره، وإلا لَمَا كان أولاً، وذلك المحرك الأول هو الله  ([106]).فالله عند أرسطو هو العلة الأولى، أو المحرك الأول. يقول :" فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولابد للمحرك من محرك آخـر متقدم عليه . وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محـرك لا يتحـرك، لأنّ العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية .

-3  قدم العالم : إن القـول فـي قـدم العـالم وأزليـة الحركـات بعـد إثبـات الصانع والقول بالعلة الأولى إنما شهر بعد أرسطو لأنّه خالف القدماء صريحا، وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهانا ، فنسج على منواله من كان من تلامذتـه وصـرحوا القـول فيـه مثـل :الإسكندر الأفروديسي، وثامسطيوس، وفورفوريوس.([107])

.يقول أرسطو":وهذا المحرّك الذي لا يتحرك لابد أن يكون سرمداً، لا أوّل له ولا آخر، وأن يكون كاملاً منزهاً عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون ً مسـتغنيا بوجوده عن كل موجود . وهذا المحرك سابق للعالم في وجوده، سبق العلـة لا سـبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل، ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني .لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه . أو كما قال: "لا يُخلَق العالم في زمان. "وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارن اليقين. إلا أ نّه يقرر فـي كتاب " الجدل " أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان.

براهينه في قدم العالم:

إنّ إحداث العالم يستلزم ً تغييرا في إرادة الله. والله منزه عن الغير. فهـو إذا أحدث العالم، فإنّما يحدثه ليبق ي الله جلّ جلاله كما كان. أو يحدثه لما هو أفضـل. أو يحدثه لما هو مفضول. وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حـق الله. فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان، فذلك عبث. والله منزه عن العبـث. وإذا أحدثـه ليصبح أفضل مما كان، فلا محل للزيادة على كماله. وإذا أحدثه ليصـبح مفضـولاً، فذلك نقص يتنزه عنه الكمال ! ويضيف: "وإذا كانت إرادة قديمة لا تتغير، فوجود العالم ينبغي أن يكون قديماً كإرادة الله. لأنّ إرادة الله هي علة وجود العالم. وليست العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب غيره. فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئاً ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسـيلة، أو لعارض طارئ، أو لعدول عن الإرادة.وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى !

وقد أفرط أرسطو في هذا القياس، حتى قـال: إنّ الله جـل وعـز لا يعلـم الموجودات، لأنّها أقلّ من أن يعلمها. و إّنّما يعقل الله أفضل المعقولان. وليس أفضل من ذاته، فهو يعقل ذاته، وهو العاقل والعقل والمعقول. وذلك أفضل ما يكون ! !

ج ـ الله وصفاته في نظر أرسطو:

قال أرسطو":الله هو الكل، وقال أيضاً :الله عقل وعاقل ومعقول ، فالله في نظـر أرسطو ذات أزلية ليس جسماً، وهو معقول ومعشوق، ليس فـي مكــان، تحريكــه للموجودات ليس عبثاً أو خبط عشواء، وإنما هو لقصد وغاية .وهو بسيط لا كثـرة فيـه بوجه من الوجوه، وإلا لكان ممكن الوجود جائز الانحلال".([108])  يقول أهل الفلسفة في شرح هذه العبارة، إ نّه إذا جردت الذات تجريـداً تامـاً، كانت عقلاً وماهية مجردة. وهذه الماهية المجردة، إذا نظرنا إليها من حيث هي كذلك، فهي عقل ومن حيث هي مجردة لشيء فهي معقولة. وذات الله مجـردة فهـي عقـل ومجردة لذاته فهي معقولة لذاته وباعتبار أن ذاته ماهية مجردة لذاتـه فهـو عاقـل لذاته.وبيان ذلك: أن واجب الوجود لذاته عقل لذاته ، وعاقل ومعقول لذاته ، عقل من غيره أو لم يعقل أما أنه عقل فلأنه مجرد عن المادة، منزه عن اللوازم المادية، فلا تح تجب ذاته عن ذاتـه ، وأمّـا أنّـه عاقـل لذاتـه فلأنـه مجرد لذاته، وأما أنه معقول لذاته فلأنه غير محجوب عـن ذاتـه بذاتـه أو بغيره، قال الأول يعقل ذاته ثم مـن ذاتـه يعقـل كـل شـيء فهـو يعقـل العالم العقلي دفعة واحدة من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقـول إلى معقول وأنه ليس يعقل الأشياء.([109])

وذهب أرسطو إلى أن الأول " الله "لا يعقل إلا ذاته، وينفي علم الله بالعالم لأن في ذلك سقوطاً يجب تنزيه الله عنه، وأنه لا يليق بالله المتصف بالكمال أن يعلم العالم وهـو أقل منه، فلو علمه كان ناقصاً مثله، ومن ثمّ اتهم أرسطو بالإلحاد، وإذا كان الله عنـده لا يتصل بالعالم من جهة الخلق والتدبير، ولا من جهة العلم فما قيمة هذا الإله ؟ وما منزلته؟ وما الفائدة من الإيمان بوجوده ووحدانيته، وكونه محركاً للعالم؟

إنّ هذا الرأي الذي نادى به أرسطو ) أنّ الإله لا يعقل إلا ذاته (يسـتلزم أنّ الله لا يعلـم العالـم بحجة أن العالم شيء دنيء بالنسبة إلى الله، وأن الأشياء توجد وتنعدم دون أن يريد الله لها ذلك أو يعلم من أمرها شيئاً .فالإله في نظر أرسطو سيكون منطوياً علـى نفسه، غير عالم بشيء من الكون، ولا مريداً لما يجري فيه من أحداث، فهـو إذاً ينفـي التدبير الإلهي للعالم.([110]) ولقد تعرض أرسطو نتيجة هذا الرأي لحملة من الهجوم مـن قبل تلاميذه، وغيرهم من الحكماء.([111])

ج ـ وحدانية ذات الله عند أرسطو:

*إن واجب الوجود لذاته واحد بالكلمة والعدد، أي واحداً بالاسم والـذات، وأمـا كونـه واحداً لأنه لو كان ً كثيرا لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ فيشملها جنسـاً، وينفصل أحدهما عن الآخر نوعاً، فتتركب ذاته من جنس وفصل، فتسبق أجزاء المركَّب على المركَّب سبقاً بالذات، فلا يكون واجباً بذاته.

*واجب الوجود حي بذاته، باق بذاته، نافذ الأمر في كل شيء.

*الأول مبتهج بذاته، أي الأول مغتبط بذاته ملتذ بها لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتهـا وشرفها.

*الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ويصدر عنه فقط العقل الفعال، لأنه لو صدر عنه أكثر من واحد لحصل تكثر في ذاته، والدليل قام على أنه واحد من كل وجه والعقل الفعال له في ذاته وباعتبار ذاته إمكان الوجود، وباعتبار علته وجوب الوجـود، فتتكثر ذاته لا من جهة علته، بل من جهة فعله أي ما يصدر عنه، فيصدر عنه شـيئان -لعلهما الهيولي والصورة ([112]).

ـ النفس عند أرسطو:

يرى أرسطو أنّ القوة الخفية التي تنظم الشيء وتحقق له الانسجام في سيره من الهيولي إلى الصورة هي نفسه، فنفس النبات هي القوة السارية فيه التي تهيئ له الجسمية النامية على وجه أكمل ونفس الحيوان هي القوة السارية فيه التي تهيئ له الجسمية النامية الحاسة على وجه أكمل، وهكذا كلما ترقت رتبة الموجود ارتقت نفسه لرقيه. والنفس الإنسانية عند أرسطو في أعلى مراتب النفوس في العالم الطبيعي، وهي فيما دون فلك القمر.([113]). (113)وقد جعل أرسطو للنفس الإنسانية قوى مختلفة هي وجوه مختلفة لشيء واحـد مع بساطة جوهرها، وبكل واحدة منها يؤدي وظيفة معينة، وهذه القـوى هي :

-1 الحاسة: وهي التي تدرك المحسوسات بما لها من صفات وعوارض حسية.

 -2 الحس المشـترك: وهي التي تدرك التشابه والت ضاد بين الأشياء المحسوسة ووجوه كل منهما، إذ لا يمكن إدراك سواد إلا بإدراك نقيضه وهو البياض، وهذا الإدراك المشترك هو وظيفة الحس المشترك.

-3 المخيلة :وهي القوة التي تنقل إلينا صور الأشياء بعد مرورها بالحس المشترك.

 -4 الحافظة :وهي القوة التي تحصل بها صور الأشياء مع إدراكها بأن هذه الصـور حصلت عن إحساس سابق .

-5 الذاكرة:  وهي القوة التي تستعاد بها صور الأشياء وتستحضر بعد غيابها ونسيانها .

-6 القوة العاقلة: وهي التي تدرك المعاني الكلية لصور الأشياء جميعها فموضـوعها الفكر والمعقولات، وتنقسم إلى :العقل القابل الذي هو استعداد القوة لأن تعقل، وإلى العقل الفاعل الذي هو عقلها بالفعل، ومجموع هذه القوى هي النفس الإنسانية .وإذا كانت النفس الإنسانية هي وظيفة الجسم وعمله، فإن وجودها لا يكون إلا بوجـود الجسم، إذ لا توجد مستقلة عنه، والنفس والجسم قديمان ذلك أن الهيولي والصورة قديمان.([114])

اتصال النفس بالبدن :

يرى أرسطو أن النفس تتصل بالجسم اتصال تدبير وتصرف، وأنها حدثت مـع حدوث البدن، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له،لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن .وإذا استكملت النفس قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله ووصلت إلى كمالها، وهذا التشبه بقدر الطاقة ويكون بحسب الاجتهاد أو بحسب الاستعداد، وإذا فارقت البـدن اتصلت بالروحانيين )عالم العقل ( وتم لها الالتذاذ والابتهاج . فأرسطو إذً يـزعم المعـاد للنفس البشرية، ولا يثبت حشراً ولا نشراً.([115])     ولقد أخذ الفلاسـفة الإسـلاميون أمثـال الفارابي وابن سينا هذا الاعتقاد عن أرسطو، وزعموا أنـه المـذهب الحـق، وأولـوا نصوص القرآن الكريم التي تثبت المعاد الجسماني والنعيم والعذاب الحسيين بما يتلائم مع ما أخذوه عن أرسطو الفيلسوف اليوناني الوثني.([116])

 

 

الفصل الرابع

الفلسفة الأفلاطونية الحديثة

المبحث الأول:فلسفة مدرسة الإسكندرية:

أصبحت الإسكندرية في عصر الدولة الرومانية ً مركزا ومقراً للفلسفة اليونانيـة الرومانية، وكان من الطبيعي أن يفد إليها الفلاسفة اليونانيون والرومانيون والمصريون، وقد أهلها لذلك موقعها الممتاز على البحر الأبيض المتوسط، ولقد أطلق علـى الفلسـفة السائدة في تلك الفترة " الفلسفة الانتخابية " وهي الفلسفة المأخوذة من فلسفات مجموعة من الفلاسفة، فهي ليست فلسفة رومانية صرفة، ولا يونانية صرفة، بل هي خليط مـن تلـك الفلسفات القديمة.([117])

وقد حمل لواء الفلسفة الانتخابية الفيلسوف اليهودي:فيلون المولود مـن أحـد الأمريكيين في الإسكندرية عام 25 ق.م، والمتوفى سنة 50 م. كان فيلون يؤمن بالديانة اليهودية وبكتابها المقدس التوراة، كمـا كـان يـؤمن بالفلسفة اليونانية، وهو يرى أن التوراة وحي مشوب بالوضوح والجلاء، والفلسفة وحـي مشوب بالعمق والغموض، وكل منها يهدف إلى تجلية الحقيقة وشرحها للناس ولهذا قيـل إن فيلون هو المسئول الأول عن خلط الفلسفة اليونانية بالوحي والإلهام، وقد أثـر عنـه شرح للتوراة على نمط فلسفي عميق.([118])

المبحث الثاني:المدرسة الأفلاطونية الحديثة:

تأسست الأفلاطونية الحديثة في مدرسة الإسكندرية، وهي تنسب إلى الفيلسـوف اليوناني أفلاطون مع أنها ظهرت بعد اليونان، وسبب ذلك أنها في جملتها كانت أميل إلى الأخذ عن مذهب أفلاطون والنزوع إلى اتجاهه وفلسفته، فهي وليـدة فلسـفة أفلاطـون ومذهبه، وإن كانت لم تحافظ عليها بل خلطتها بالإلهام الشرقي.([119])  ومن أشهر فلاسفة هذه المدرسة "أمونيوس سكاس" ولد من أبـوين مسـيحيين، وتوفي عام 242 م، يعده البعض المؤسس الأول للفلسفة الأفلاطونية الحديثـة، حـاول التوفيق بين فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو.([120])

 

أفلوطين:

يُعد المؤسس الحقيقي للمدرسة الأفلاطونية الحديثة، ويعتبر أهم مجـدد لبنائهـا وأكبر حامل للوائها.ولد أفلوطين سنة 205 م في مدينة " ليقويوليس "وهي مدينة أسـيوط حالياً، ولما بلغ سن الثامنة والعشرين رحل إلى الإسكندرية وتتلمـذ لأمينـوس سـكاس الحمال سنة 233 م، وقد رحل أفلوطين إلى سوريا والعراق ثم إلى روما حيث استقر بها وأسس مدرسته الفلسفية، وظل بها حتى مات سنة 270م .عرف أفلوطين بغزارة العلم، كان يجتمع إليه في مجلسه العلماء والكبراء وتتلمذ له كبار الساسة.أطلق العرب على مذهبه مذهب الإسكندرانيين، وأطلق عليه الشهرستاني"الشيخ اليوناني".([121])

مؤلفات أفلوطين:

بدأ أفلوطين كتابة مؤلفاته وهو في سن الخمسين تقريباً، وكان يعهد إلى تلميـذه "فورفوريوس "مراجعة ما يكتب. وقد ترك أفلوطين مجموعة من الرسائل الفلسفية، لكنها لم تقدم عرضاً منظمـاً ومرتبا لفلسـفته، بل كانت مجـرد شروح لنصوص أفلاطونية أو أرسطية أو رواقية، أو أجوبة لأسئلة وردت على واحد منها.جمع فورفوريوس رسائل أستاذه أفلوطين بعد وفاته في ستة أقسام، وفي كل قسم منها تسع رسائل وقدم لها بترجمة له، ولهذا عرفت بالتاسوعيات.([122])

مذهب أفلوطين الفلسفي:

إن فكرة أفلوطين في الوجود عامة تجمع بين مزيج من آراء السابقين في إطار أفلاطون، ويتميز بالجمع بين الديانات الشرقية وبين الفلسفة اليونانية بمذاهبها ونظرياتها.فالوجود في نظر أفلوطين يتكون من أربعة جواهر أولية مرتبة ً ترتيبـا تنازليـاً على النحو التالي-1 الواحد. – 2  العقل.  -3 النفس.  4- المادة.([123])

المرتبة الأولى:الواحد أو الوجود الأول:

وهو لا يشبه شيئاً من الموجودات، يتعذر وصفه بصفات إيجابية، ولكن يمكـن وصفه بصفات سلبية، كأن يقال :إنه ليس حركة، وليس في مكان أو زمان وليس صـفة، وليس ذاتاً، وغير ذلك من صفات السلوب.([124]) وهو واحد من جميع الوجوه، واحد فـي التصور الذهني، وواحد في الواقع، لا توجد فيه كثرة بأي اعتبار، والتركيب لا يتطـرق إليه بأي وجه من الوجوه، لذا فهو بسيط كل البساطة وهو واحد في الذات وحدة مطلقـة.ولكونه واحد فلا يقال عنه:عقل ولا معقول، لأننا إذ وصفناه عقلاً يجب أن نتصور فـي دائرته ومرتبته معقولاً معه .كما لا يوصف بأنه جوهر ولا بأنه عرض لأنهما من الأمور النسبية .وقد وصف أفلوطين الأول بأنه خير لا على أن معنى الخيرية وصف قائم به، بل على معنى أن الخير هو عين ذاته، وذاته وخيريته شيء واحد  ([125]).ومبالغة أفلوطين في نفي الكثرة عن الأول جعلته يلتزم القول بأن صدور العالم عنه يكون بالطبع، لا بالإرادة، لأن إضافة الإرادة له في نشأة العالم تستلزم مراداً، وهذا يقتضي تكثراً في التصور على الأقل والفرض أنه واحد من كل وجه.([126]) إنّه لا يتعين ولا يتنوع لبساطته، ولما كان هو مبدأ الوجود كله فإنّه يحوي كـل ما فيه من أشياء بالقوة، دون أن يصير هو واحداً متعيناً، إلا أنه فياض، وعن فيضه يوجد العقل.([127]) فالواحد الأول ) الله (ليس خالقاً ولا صانعاً عند أفلوطين، لكن الموجودات تفيض عنه دون أن يعلمها أو يعنى بها، والعالم المادي صادر عن النفس الكلية وهي علة نظامه وحركاته، وغاية الإنسان الفناء في الله على ما يقرب من عقيدة الهنود.([128])

المرتبة الثانية:العقل:

صدر العقل مباشرة عن الأول وهو في المرتبة الثانية بعده، ووحدة الأول مـن كل وجه تتكثّر في العقل الآن بالاعتبار، لأنّ مقتضى كونه عقـلاً يسـتلزم معقـولا أي يستلزم موضوعاً للتعقل، فهنا اثنينية في التصور حدثت بعد "وحدة "مطلقة كانت لـلأول. وقد صـدر العقـل عن الأول لا في وقت وزمن، وصدوره عنه مباشرة لا يقلّـل مـن جوهـره ولا يسـبّب له ضعفا ً ولا نقصاً، وصدوره عـن الأول بـالطبع لا بـالإرادة والاختيار.([129])  ولما يوجد بينه وبين الواحد من شبه فإنّ قوته تفيض شيئاً غيـره، وهـو النفس الكلية.([130])

المرتبة الثالثة:النفس الكلية:-

وهي في المرتبة التالية للعقل، وهي آخر الموجودات في عالم المجردات عنده، وبها تتحقـق الصلة والرابطة بين العالم المحسوس والعالم غير المحسـوس أو العـالم الإلهي،([131]) وهي مشغولة بتأمل الأول ) الواحد (كمصدر أو علة لها، وبتـدبير الثـاني)العقل (كامتداد لتأملها الأول،([132]) وتفيض هذه النفس فتصدر عنهـا نفـوس الكواكـب ونفوس البشر ونفوس الأجسام.([133]) وهي في جملتها لها قوة التدبير والإيجاد فيما تحتها نيابة عـن " العقـل " فوقهـا فالعقل موكل عن الأول بدوره في الإيجاد لما تحته والتأثير فيه، ولأنها نائبة فقـط فـي إيجاد هذا العالم المحسوس وتدبيره فرض أفلوطين على هذا العالم الشكر "للعقل "دونهـا على نعمة الوجود.([134])

وأمّا النفس الإنسانية: فإنّها إحدى النفوس الجزئية المنبثقة عـن الـنفس الكليـة والموزعة على الكائنـات الموجـودة فيما أسماه أفلوطين ب "الطبيعة "أي العالم المادي وهذه النفوس الجزئية هي أدنى مراتب العالم الروحاني أو عالم العقل.([135])

المرتبة الرابعة:المادة:

المادة تأتـي في آخر مراتب الوجود، وهي أصل هذا العالم المشاهد، وهو ما تحت النفس الكلية، ووجوده كشعاع لها فقط، إذ المادة التي هي أصله تحد مـن الحقيقـة فيه، لأنها نقص، بينما العالم المجرد أو العالم المعنوي كله حقائق محضة فهـذا العـالم ليست له حقيقة ذاتية، وبالتالـي ليس له كمال ذاتي، وما فيه من حقيقة أو كمال صـورة لعالم المجردات أو شعاع لضوئه.([136]) . (136)

ويرى أفلوطين أنّ وحدة الوجود بين أجزاء العالم ومراتبه المختلفة تتم بالتعقـل الذي يرد الكثرة إلى الوحدة، والمتعدد إلى الواحد، وما دامت وحدة العالم تـتم بالتأمـل والفكر فإن الوجود الحقيقي للأشياء لا يكون شيئاً سوى هذا التأمل.

وعلى هذا فإن أفلوطين يقرر بأن الموجود الأدنى "الطبيعة "إنما يحصـل علـى صورة الأعلى )النفس (بتأمله له فيتحد به، وهكذا يكون ما بين النفس والعقل ثم ما بـين العقل والواحد المطلق الذي لا توجد فيه كثرة  ما.([137]) . (13.7)وهكذا :تتكون من الأول، والعقل، والنفس الكلية ، والمادة سلسلة الموجودات كلها عند أفلوطين .وبصدور العقل عن الأول، وصدور النفس الكلية عن العقل، واتصـال الـنفس الكلية بالعالم المحسوس، وصدور المادة التي هي أصل العالم المحسوس عن هذه الـنفس الكلية يصور أفلوطينوحدة الوجود  عنده، كما يصور بها نشأة الكثـرة المطلقـة عـن الواحد من كل وجه.

وخلاصة القول:إنّ الأفكار الأفلاطونية الحديثة اشتركت في بنائها: الأفلاطونيـة والأرسطوطاليسية، وبعبارة أخرى إنّ أفلوطين مزج في مذهبه بين هـذه المـدارس الإغريقية الثلاث.([138])

علاقة النفس الإنسانية بالواحد الأول:

يرى أفلوطين أنّ النفس الإنسانية يلحقها من النقائص والشرور بمقدار اتصـالها بالمادة وتعلقها بها.ويمكن أن تكمل النفس بالخلاص مـن علائـق المـادة ولواحقهـا، والوسيلة الوحيدة التي تستعين بها النفس في هذا الخلاص وفي صـعودها فـي مراتـب الرقي حتى تصل إلى الواحد الأول هي الفلسفة، والنفس لا تصل إلى الواحد عن طريـق التفكير العقلي، لأن الأول غير معين، وغير المعـين لا يصـلح أن يكـون موضـوعاً للإدراك، وإنما تصل النفس إلى الأول بنوع من الإدراك لا يمكن وصفه ولا يقـال إنـه معرفـة، إنـه اتحـاد تـام وفناء كلي، وهذه الحال- كما يقول أفلوطين-لا يستطيع ن يعرفها إلا من ذاقها، وهم قلة من الناس، وذكر أفلوطين أنه نفسه لم يصل إليها ولـم يبلغها في حياته على طولها إلا أربع مرات فقط.([139])

لقد جمع أفلوطين في فلسفته وخاصة في الجانب الإلهي طائفة من المتناقضـات لتي نشأت عن اعتماده على التمثيل والتخيل والتعبير الإشاري أو الاستعاري أكثر مـن اعتماده على الحقيقة والواقع .وإذا كان أفلوطين يرى أن الفلسفة هـي السـبيل الوحيـد لوصول النفس إلى الواحد والاستغراق كلية فيه والفناء في ذاته، فإنّـه ينكـر صـلاحية الحدس أو المنهج العقلي لبلوغ هذه الغاية، وفي هذا تناقض واضطراب لأن الفلسفة تعتمد على العقل وقضاياه والاستدلال ومقدماته.([140])

المبحث الثالث:جمود التفكير الفلسفي بعد أفلوطين:

لقد جمد التفكير الفلسفي بعد أفلوطين، وأخذ نمط التقليد والترديد لآراء السابقين، وغلب عليه التعمق في الإلهامات، والعناية بالسحر والتصرف بالأسماء والطلاسـم، أي جانب العقل والمنطق، وبذلك انتهت الفلسفة اليونانية.وفي سنة 529 م أغلق الإمبراطور جوستنيان مدارس الفلسفة في أثينا، فنــزح بعض رجالها إلى الشرق، وبذلك انتهت الفلسفة اليونانية في بلاد اليونان، واتجهت نحـو الشرق والغرب حيث ترجمت كتب أرسطو إلى السريانية والعربية. وفي القرن الثـاني عشر ترجمت الكتب العربية إلى اللاتينية، فذاعت واشتهرت كتب أرسطو عند الغربيين، وكانت ً أساسا لظهور فلسفة حديثة لدى الغربيين عرفت بفلسفة عصر النهضـة، ولكنهـا فلسفة على نمط جديد وفي اتجاه آخر جديد.([141])

 

البـاب الثـانـي

الفـلسـفة الإسلاميـة

الفصل التمهيدي:

المبحث الأول:التباين بين الفلسفة والعقيدة الإسلامية

      إنّ أوجه الخلاف والتباين الجوهرية بين الدين والفلسفة تكون موجودة بين الدين السماوي المنزل من الله عز وجل وبين الفلسفة التي هي ابتكار إنساني وصنعة بشرية.

 -1 العقيدة الإسلامية ربانية في مصدرها، فهي من عند الله المتصف بالكمال المطلـق ،خالق الكون والإنسان، "فهي تصور اعتقادي موحى به من الله سبحانه ومحصورة في هذا المصدر لا يستمد من غيره . .وذلك ً تمييزا من التصورات الفلسفية التي ينشـئه ا الفكـر البشري حول الحقيقة الإلهية، أو الحقيقة الكونية، أو الحقيقـة الإنسـانية، والارتباطـات القائمة بين هذه الحقائق ً وتمييزا له كذلك من المعتقدات الوثنية، التي تنشـئها المشـاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية".([142]) ومادامت ربانية متكاملة شاملة، فإنّ الخير والبركة وكذا السعادة ووفرة الإنتـاج من بركات الالتزام بها، وما دامت ربانية من عند الله عز وجل وتلبي أشـواق الـروح البشرية فإنّها مبرأة من النقص وخالية من العيوب، وبعيدة عن الظلم وبالتالي فإنّها وحدها تشبع الفطرة الإنسانية.

     بينما الفلسفة بشرية في مصدرها؛ أي هي من تفكير العقل البشري وحـده، مـع اعتماده على الخيال الذهني والتفكير المجرد، وهي أيضاً صدىً ً كبيراً للبيئة التي يعـيش فيها الفيلسوف إذ يتأثّر بها إلى حد كبير، لذا فإن هذه الفلسفة تعيش في أذهانهم فقط، أي لم تتفاعل مع مشاعر الناس ونفوسهم، ولم تترك آثاراً إيجابية في سلوك الناس وحيـاتهم ولكون الفلسفة بشرية فإن النقص والاضطراب وعدم الشمول مـن سـماتها وميزاتهـا الجوهرية، ولكونها بشرية لم تنفع البشرية، ولن تتقدم بها خطوة واحدة إلى الأمام.

2- العقيدة الإسلامية ثابتة بثبات مصدرها، وثبات مبادئها وثبات غايتها، قـال تعالى:"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَل ْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلمون". سـورة الروم: 30 ، وقال تعالى"لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه".، وثبات العقيدة لكونها من عند الله، ولقد انقطـع الـوحي بالتحـاق الرسول صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، وبقيت نصوص الدين ثابتة إلـى يـوم الدين، وإذا كان الإنسان يتحرك ويتطور وينمو، وتتبدل حاجاته ومتطلباته وتتغير، فـإنّ ذلك يكون داخل إطار العقيدة الثابتة التي تتسع لحركة الإنسان و تطوره.

أمّا الفلسفة فإنّ أنماطها مختلفة ومتغيرة ومتطورة أو كل فيلسوف تختلف فلسفته عن غيره، كما أن فلسفة فترة زمنية معينة تختلف عن فلسفة الفترة التي سبقتها أو التـي تليها.

-3 العقيدة الإسلامية يرتضيها العقل ، ويطمئنّ لها القلب وتستقر في الوجدان وتتفاعـل مع المشاعر والأحاسيس البشرية، وبالتالي تنعكس على سلوك الإنسان وتصـرفاته فـي واقع الحياة ؛وتاريخنا الإسلامي يشهد كيف غيّرت العقيدة حياة الناس و أنماط سـلوكهم وواقعهم الاجتماعي والخلقي والثقافي، فلقد أحدثت العقيدة نقلة كبيرة وتغيراً شاملاً فـي حياة الإنسانية، وبدراسة واقع المجتمع الجاهلي ثم واقع المجتمع الإسلامي نـدرك ذلـك ببساطة وبكل وضوح.

إنّ هناك ً فرقا شاسعاً ً وكبيرا بين من يعبد الله ) الإله (الخالق المتصـف بصـفات الكمال المتصرف في الوجود كله، وبين من يعبد إلهاً مجرداً عن الصفات ليس له صـلة بالعالم، وفرق بين التصور الاعتقادي الرباني المستمد من كتاب الله وسنة نبيه - صـلى الله عليه و سلم –وبين التصور الفلسفي الذي يقوم على التخيلات والأوهام والذي يعتمد على مناهج التفكير الوثني اليوناني .

 -4 إنّ الدّين كمال مطلق ويمتاز بالثبات في أصوله ومبادئه، والصدق في أحكامه ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما الفلسفة في كل صـورها ومـذاهبها علـى اختلاف الدهور والعصور هي نتاج العقل الإنساني المحدود القاصـر القابـل للتغييـر والتبديل والتحول، وقد يقترب من الحق، وقد لا يقاربه أبداً .ولذا فإنّ التخالف والتعارض والتفاوت من سمات المذاهب الفلسفية، التي هي فبمجموعها فروض وتقديرات وآراء واجتهادات تدور في فلك الإمكان والاحتمـال، وقـد تقترب من دائرة الأسطورة والخيال كما في الفلسفة الهندية والصينية واليونانية القديمة .

-5 ومن أوجه التباين بين الفلسفة والدين : الاختلاف في طبيعة المنهج : فمـنهج الـدين مبني على الإيمان والتسليم، والمتابعة والانقياد لجملة أصوله وأركانه،والتطبيق العملـي لتشريعاته وأحكامه .أما الفلسفة فبحث عقلي صرف قوامه الحجة والمنطق والاسـتدلال سواء أدى إلى إثبات جملة من قضايا الفطرة – ومنها مبادئ أساسية أثبتهـا الـدين – أم أدى إلى إنكار جملة ما ثبت من الدين بالضرورة، فالفلسفة عبر تاريخها شهدت مـذاهب مؤمنة بوجود الإله الخالق البارئ، ومذاهب ملحدة تنكره وتنكر ما وراء المادة كـالروح والبعث.

-6 إن العقيدة الإسلامية تعتمد في تقريرها على الأدلة السمعية والعقلية المـأخوذة مـن القرآن والسنة، وهي أدلة قطعية الثبوت والدلالة توصل إلى المطلوب بيسـر وسـهولة، وهي شفاء لما في الصدور، شفاء من ألوان الشبه والشكوك والشبهات، قال تعالى :(يـا أيها النَّاسُ قدْ جَاءَتْكم مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكمْ وَشِفَاءٌ لِمَـا فِـي الصُّـدُورِ وَهُـدًى ٌ وَرَحْمَـة لِلْمُؤْمِنِينَِ) سورة يونس: 57 ، وقـال تعالى:(وَنُنزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِـفَاءٌ ٌ وَرَحْمَـة لِلْمُؤْمِنِينَ (سـورة الإسراء.82:

بينما تعتمد الفلسفة في تصوراتها على الآراء العقلية البشرية القاصـرة، كمـا تعتمد على المصطلحات الغامضة والقضايا الذهنية المجردة التي يصعب فهمهمـا، وإن تيسـّر فهمهما للبعض فإنّهـا لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، لا تفيد علماً ولا عملاً، لا توصل من يدرسها إلى الحق واليقين، ولن تسلمه من الشكوك والشبهات والأهواء، بـل جعلتهم محلاً للطعن والإسقاط، وأدت ببعضهم إلى الضلال، لقد اسـتطاع الشـيطان أن يتطاول على الفلاسفة وأن يتخذهم مطية إلى الضلال والإضـلال مـن جهـة إفـرادهم بمعتقداتهم ومعقولاتهم، وقولهم بالظن، واعتمادهم على الخيال الذهني في مجال العقيـدة دون التفات منهم إلى مسلك الأنبياء وأتباعهم في إثبات العقيـدة وتقريرهـا.

 إنّ الحجـج والبراهين التي تسوقها العقيدة الإسلامية يستفيد منها جميع الناس: عامهم وعلمائهم، بينما براهين وحجج الفلسفة فإنّ فهمها مقصور على طائفة معينة من الناس وهي قليلة، وهـي تكلِّف العقل البشري العنت والمشقة، فلا تكاد تخلو من التعقيد والتكليف والتطويـل، لـذا فإنّها ولَّدت لبعض الناس أمراض الشبه المفسدة للعلم، والمفسدة للإدراك والتصور.

 -7 الواقعيةالعقيدة الإسلامية تمتاز بالواقعية، فهي تصـور يتعامـل مـع الحقـائق الموضوعية ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي. لا كالفلسفة التـي تتعامل مع تصورات عقلية مجردة، أو مع مثاليات لا مقابل لها في عـالم الواقـع، أو لا وجود لها في عالم الواقع. ثمّ إن التصميم الذي تضعه العقيدة للحياة البشرية يحمل طابع الواقعيـة، لأنـه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثاليـة واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه. ولا يضرب العقل البشري في التيه كما في الفلسفة ليتمثلها على هواه، في سلسـلة مـن القضايا المنطقية المجردة على طريقة " الميتا فيزيقا " التي لا تفيد شيئاً، لا علما ولا إيماناً.

المبحث الثاني:الفائدة من دراسة الفلسفة الإسلامية:

          يقول علي حسين صاحب أبجد العلوم:إنّ العلم وإن كان مذموماً في نفسه كمـا زعموا فلا يخلوا تحصيله من فائدة :أقلها ردّ القائلين به، والنظر والمطالعة فـي علـوم الفلسفة يحل بشرطين : أحدهما أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية، بل يكـون قوياً في ذهنه راسخاً على الشريعة الإسلامية، والثاني أن لا يتجاوز مسـائل الفلاسـفة المخالفة للشريعة، وإن تجاوز فإنّما يطالعها للردّ لا غير، هذا لمن ساعده الذهن والسـن والوقت.([143])

    وفي نظرنا أنّ دراسة الفلسفة من قبل الباحثين فيها بعض الفوائد ومنها:

-1 توضيح القضايا الدينية التي تناولها فلاسفة الإسلام بالبحث والدرس، وتبين المـنهج الذي سلكوه في دراسة هذه القضايا،؟ وتبين طريقتهم فيما سموه توفيقاً بين الإسلام وبين ما أنتجه العقل الإنساني من تصورات في مسائل الألوهية والعالم.

-2  دراسة الفلسفة الإسلامية تهيئ لنا الفرصة للإطلاع على مشاكلها ومسائلها، ومـدى تأثرها بالفلسفات الدخيلة، تلك التي اعتمد عليها كثير من علماء الكـلام فـي شـروحهم لمسائل العقيدة الإسلامية، مما أدى إلى تفرقهم أحزاباً متنازعة، وإلى تعصب كل فريـق لرأيه بإزاء شرح المسائل الإلهية، ومن ذلك موقف الفرق الإسلامية إزاء مسألة صـفات الله ...وغيرها من القضايا الاعتقادية التي احتدم الخلاف فيها بين فرق المسلمين.([144])

-3 دراسة الفلسفة الإسلامية تمكّن العلماء المسلمين من الرد على انحرافات وضلالات الفلاسفة الإسلاميين وكشف زيوفهم، وإبعاد تأثيراتها السيئة عن أبناء الإسلام، وتخلـيص العقيدة الإسلامية من أدران الفلسفة وركامها.

 -4 دراسة الفلسفة تمكّن الباحث المسلم من معرفة أوجه التباين والاختلاف بين الـدين الحق والفلسفة.

 -5 يتعرف منها على بيان المبرّرات الشرعية التي جعلت علمـاء الإسـلام يحكمـون بتضليل وتكفير وإلحاد الفلاسفة.

دخول الفلسفة اليونانية بلاد المسلمين:

          يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنّ أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بـالموازين العقلية، ولم يسمع سلفاً بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنّما ظهر في الإسلام لمـا عربّـت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبا منها.([145]) ذكر السيوطي قصة دخول الفلسفة اليونانية إلى المسلمين، فقال:إن يحي بـن خالد البرمكي -وهو من الفرس الذين كانت لهم صولة ودولة في حكم العباسيين - هـو الذي جلب كتب الفلسفة اليونانية إلى أرض الإسلام من بلاد الروم، حيث أرسل البرمكي إلى ملك الروم يطلب منه هذه الكتب، وكان الملك يخاف على الروم أن ينظروا في كتب اليونان فيتركون دين النصرانية ويرجعون إلى الوثنية ديانة اليونانية، ومن ثـمّ تتفـرق كلمتهم وجمعهم، فجمع الكتب اليونانية ووضعها في بئر وأغلق عليها بالحجر والجـص، فلما علم يحي بن خالد البرمكي بها أرسل لملك الروم في طلبها، ولقد فرح ملك الـروم لهذا الطلب، فجمع بطارقته وقال لهم:ما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلاّ أفسـدتها وأوقعت بين علمائها، وإنّ القوم الذين يطالعون هذه الكتـب سـيهلك ديـنهم وسـتبدد جماعتهم، وأنا أرى أن نرسلها للمسلمين حتى يبلتون بها ونسلم نحن من شّرها، وإنّي لا آمن أن يأتي من بعدي من يخرجها للنّاس فيقعوا فيما أخاف منه، فقات البطارقـة نعـم الرأي أيّها الملك فأرسلها للمسلمين الذين طلبوها، فبعث الكتب اليونانية إلى يحي بن خالد البرمكي، فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف. وبدأ التعريب والنقل على يد البرمكي، وأكمل ذلك الخليفة العباسي المأمون، ويقال أنّ أول بدأ بتعريب الكتب اليونانية هو خالد بن يزيد بن معاوية لما أولع بكتب الكيميا.([146]) ومن المسلم به أنّ فلسفة أرسطو نُقلت إلى العربية، إ مّا مباشرة مـن اليونانيـة، وهذا هو شأن كتاب المقولات الذي نقله حنين بن إسحاق([147]) )( 6 ، وإمّا عن طريق السـريانية التي طبعتها أساليب اليونان في التعبير .وكانوا يؤثرون الترجمة الحرفية باعتبارها تمثل الأسلوب العلمي الصحيح للنقل، كما كانت معرفة هؤلاء المترجمين بالعربية غير متينة، بل كانت ً أحيانا لا تتجاوز معرفة العامية، وأمّا معرفتهم بال فلسفة، فلم تكن حقـاً معرفـة المختصين، ولم تكن مقصودة لذاتها، بل كانت عندهم وسيلة لإتقـان الترجمـة، وربّمـا اكتسبوها عن طريق التمرس على نقل النصوص الفلسفية . وهؤلاء المترجمين كانوا في غالبيتهم على دين النصارى، ومنهم من هو علـى دين الصابئة، وليس فيهم مسلم واحد، م مّا تر تّب عليه أ نّهم تركوا تعاطي الاحتكاك بالنص القرآني .فكانت الترجمة الحرفية ، والنقص في إجادة العربية الفصحى، والضـعف فـي التكوين الفلسفي، و سيطرة المعتقد غير الإسلامي ، ممّا أدي إلى وضع لغوي جداً معقد لا تفيد معه معرفة قواعد اللسان العربي ولا أساليب الكتابة العربية .كما أدى إلـى دخـول العقائد الكفرية إلى الفكر الإسلامي.

المبحث الثالث :التوفيق بين الفلسفة والدين عند بعض فلاسفة الإسلام :

حاول الفلاسفة الإسلاميون التوفيق بين الدّين والفلسفة، وذلك لاعتقادهم أنّ الدّين والفلسفة يساند كلّ منهما الآخر في كلّ المسائل الجوهريّة.وإنْ بدا بينهما تعارض فإنّـه ليس حقيقيًا، وإنّما نشأ نتيجة لسوء فهم كليهما، و نودّ أن نشير هنا إلى أنّ عملية التوفيـق بين الدين والفلسفة لم يبتدعها الفلاسفة الإسلاميون، بل سبقهم إليها فلاسفة ينتسبون إلـى الديانتين اليهودية والنصرانية. ومن هؤلاء :فيلون اليهودي 20) ق .م- 50 م (الذي افتـتن بالفلسـفة اليونانيـة، وجعل هدفه في الحياة التوفيق بين الكتاب المقدّس عند اليهود والفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلاطون.([148]) ومنهم :كليمنتس الأسكندري النصراني(70 -150 م) الذي زعم أنّ الفلسفة في ذاتها ليست شراً، وأن المعرفة نوعان، الأولى : عن طريق الوحي، وبـدأت فـي العهـد القديم، واكتملت في العهد الجديد، والثانية :عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان.([149]) ومنهم:أوريجنس254 –185 م وهو أوّل نصراني يرسم الحدود بين العقـل والوحي، وحاول جاهداً أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية ، فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى.([150])

وأمّا بالنسبة للفلاسفة الإسلاميين:فلقد احتلت ظاهرة التوفيق بين الفلسفة والدين مكانة هامة بالنسبة لفلاسفة المشرق غير أنّها كانت أكثر أهمية بالنسبة لفلاسفة المغرب، ولعل هذا يظهر بالخصوص في أنّ فلاسفة المشرق لم يفرد منهم أحد هذه المسألة بكتاب خاص في حين أننا نجد من فلاسفة المغرب كابن طفيل الذي أفرد لهذا الموضوع كتابـاً خاصاً هو قصته المشهورة "حي بن يقظان" كما خصص ابن رشـد لـنفس الموضـوع كتابين هما:(فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والكشف عن منـاهج الأدلة في عقائد الملة) ويضاف إلى هذا ما أورده في كتابه ) تهافت التهافت (وفي بعـض شروحه لكتب أرسطو. ولقد أ دّت محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء إلى زيادة تحريف للدين والعقيدة التي جاء بها رسل الله تعالى، وكانت سبباً قويـاً في تسرب الإلحاد إلى أتباعها. وفلاسفة الإسلام شغلوا بهذا التوفيق، وقد بدأه الكندي، لأنّه أولّ الفلاسفة وتبعه غيره من فلاسفة المشرق كالفارابي وابن سينا وغيرهمـا، وكـذلك فلاسفة المغرب اهتموا بهذا الموضوع ً اهتماما ً كبيرا وفي مقدمتهم ابن طفيل وابن رشد . لقد بدأت عملية التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة مع حركة النقل والترجمـة للكتب الفلسفية اليونانية، فقد ترجمت كتب كثيرة من المنطق والفلسـفة مـن السـريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية، وكان أكثرها لأرسطو، وكـان لترجمتهـا إلـى العربية الأثر الأكبر في زعزعة عقائد بعض أهل البدع، وإدخال الفكر الدخيل في حيـاة المسلمين الفكرية.

 ومن الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين :

- الكندي:

هو أبو يوسف يعقوب بن اسحق سمي بالكندي نسبه إلي بلدتة كندة مـن بنـي كهلان ببلاد اليمن، وهو فيلسوف العرب وأول من فلسف منهم آخذ بمـذهب المشـاءين وتأثر بفلسفة أرسطو مصطبغة بالأفلاطونية المحدثة، ولد ونشأ بالكوفة وكان أبوه أميـراً عليها، درس وتع لّم في البصرة، ثم بغداد علوم الدين واللغة والأدب بدأ حياتـه العقليـة متكلما ً، وشارك المعتزلة في بحوثهم المتعلقة بالعدل والتوحيد والاستطاعة والنبوة، ولـه فيها رسائل يذكرها القفطي في ) أخبار الحكماء( ، وابن أبي أصيبعة في )طبقات الأطباء) ، وكان عالماً في الطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والجغرافيـا والموسـيقي ، ولكنّ أكثر علمه في الفلسفة، كانت وفاته سنة 252 هـ . وهو أوّل فيلسوف حاول التوفيق بين الفلسفة والدين، وجمع في بعض تصـانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات، وأتخذ من التأويل منهجا للتوفيـق بـين الـوحي والعقل وقد مهد الكندي بمصنفاته ونظرياته مجال البحث لمن جاء بعده مـن الفلاسـفة والعلماء. وأحرز مكانة عند الخلفاء العباسين -المأمون والمعتصم والمتوكل - من أشـهر مؤلفاته في الفلسفة كتب الفلسفة الأولي، الفلسفة الداخلة، المسائل المنطقية، البحـث فـي تعليم الفلسفة، مسائل في المنطق .

            أكدّ الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله وحدة الغاية بين عمل الفلسفة وما يأتي عن طريق الأنبياء والرسل؛ فقال: لأنّ في علم الأشياء بحقائقها: علـم الربوبيـة، وعلـم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع، والسبيل إليه، والبعـد عـن كـل ضـار، والاحتراس منه واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثنـاؤه؛ فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلـزوم الله وحـده، وبلـزوم الفضائل المرتضاة عنده. المجردة والكلية؛ لأنها موجهة إلى الخاصة.ولذا هاجم الكندي وخصوم وأعداء الفلسفة، ودافع عن الفلسفة دفاعاً شـديدا ً، فيقول:"إنّ عداء هؤلاء للفلسفة إمّا لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وإمّا لدرانة الحسد المتمكن من نفوسهم البهيمية، أو هو ناشئ عن سوء قصد منهم، إ نّهم غربـاء عـن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق...إنّهم يعادون الفلسفة دفاعـاً عـن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، .. ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفراً.([151]) وهكذا يعتقد الكندي بوجود الاتفاق بين الفلسفة والدين ويجمع بينهما على أهداف وحقائق واحدة، ويرى أنّ غرض الفيلسوف في عمله إصابة الحق وفي عمله العمـل بالحقّ، وأنّ الفلسفة أشرف صناعة، ودراستها واجبة على من أقرها ومـن أنكرهـا، وهي تسير في ركاب الدين خادمة له. (11) ([152])

ـ الفارابي:

هو أبو نصر محمَّد بن محمَّد طرخان أوزلغ الفارابي الفارسي الأصل، ويُعرف بالمعلم الثاني .ولد في مقاطعة فاراب من بلاد الترك سنة 259 هـ، ونشـأ فـي بلدتـه، وحصل فيها على مبادئ العلوم، رحل إلى إيران فتعلّم اللغة الفارسية، وانتقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، فتعلّم فيها اللغة العربية، ولما دخلها كان بها أبو بشر متى بـن يونس الفيلسوف المشهور، فحضر حلقة درسه درس الرياضيات، والطـب، والفلسـفة، رحل إلى مدينة حرّان، وفيها يوحنا بن حيلان الفيلسوف النصراني، فاستفاد منه، وأخـذ عنه.كان يحسن اللغة اليونانية، وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره . تناول جميع كتب أرسطو، ومهر باستخراج معانيها، والوقوف على أغراضه فيها، وكان مـن أكبـر فلاسفة المسلمين، ولـم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه، وأبو علي بن سينا انتفع مـن تصانيفه وتتلمذ عليها. له مؤلفات كثيرة، بلغت أكثر من مئة مؤلف منها، الفصوص، آراء أصول المدينة الفاضلة، إحصاء الإيقاعات، المدخل إلـى صـناعة الموسـيقى، والآداب الملوكية، مبادئ الموجودات، إبطال أحكام النجوم، أغراض ما بعد الطبيعـة، السياسـة المدنية، جوامع السياسة، النواميس، الخطابة، حركة الفلك سرمدية، فيلسـوف العـرب، كتاب التعليقات، إحصاء العلوم، رسالة في العقل وغيرها.([153])

يرى الفارابي أنّ الدين الإسلامي لا يناقض الفلسفة اليونانية، وإن كانت هناك فروق ومتناقضات ففي الظواهر لا في البواطن، ويكفي لإزالة الفروق أن نعمد إلـى التأويل الفلسفي ونطلب الحقيقة المجردة من وراء الرموز والاسـتعارات المختلفـة. فالدين والفلسفة يصدران عن أصل واحد هو العقل الفعال، ([154])  ومن ثـمّ فـلا فـرق بينهما، ولا خلاف بين الحكماء والأنبياء وبين أرسطو ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم .وحاول أن يثبت أن لا خلاف بين الفلسفة اليونانية، وبـين عقائـد الشـريعة الإسلامية، وعنده أنّ الفلسفة والدين أمران متفقان، لأنّ كلا منهما حـق، والحـق لا يخالف الحق.([155])

وكذلك آمن الفارابي بوحدة الحقيقة مما حدا به إلى التوفيق بـي ن الحكيمـين أفلاطون وأرسطو كخطوة أولى في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل، على أساس أنّ كلا من النبي والفيلسوف يستمد الحقيقة من العقـل الفعـال واهـب الصـور، وأنّ الاختلاف بينهما إنّما هو اختلاف في طريقة الوصول، وكيفية عرض هذه الحقـائق؛ ذلك أنّ النّبي بحكم ما عنده من قوة المخيلة يتصل اتصالاً مباشـراً بالعقـل الفعـال؛ فتفيض عليه الصور والحقائق بدون عناء، وتعرض هذه الحقائق في قالـب مبسـط ومشخص ً تقريبا للأذهان؛ لأنها موجهة إلى عامة الناس وجمهـورهم فـي حـين أن الفيلسوف بحكم ما عنده من القوة العاقلة، وبتدخل من العقل الفعال يدرك الحقائق في صورها. لذلك نجد عند الفارابي "أن النبي والفيلسوف يرتشـفان مـن معـين واحـد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع، والحقيقة النبوية و الحقيقة الفلسـفية همـا علـى السواء نتيجة من نتائج الوحي، وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان.([156])

بل يذهب الفارابي إلى أبعد مـن ذلـك حـين يقـدر أن موضـوعات الـدين وموضوعات الفلسفة واحدة، يقول فـي كتابـه )تحصـيل السـعادة (فالملـة محاكيـة للفلسفة...وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلاهما تعطي المبـادئ القصـوى للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلهـا كـون الإنسـان، وهـي السـعادة القصوى، والغاية القصوى، وكل ما بين الدين والفلسفة من فرق عنـد الفـارابي هـو أن الفلسفة تعطينا الأدلة والبراهين العقلية والدين يعطينا الأدلة والبراهين الإقناعية.([157])

مما سبق يتبين أنّ الفارابي يرى أنّ الدين والفلسفة يرميان إلى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق، وعمل الخير وأن موضوعاتهما واحدة، والمعـارف كلهـا صادرة عن واجب الوجود بواسطة العقل الفعال وحياً كانت تلـك المعرفـة أم غيـر وحي، فلا فرق بين الفلسفة والدين من جهة غايتهما، ولا من جهة مصادرهما .

 

الفصل الرابع

مسلكهم في إثبات التوحيد

سلك الفلاسفة الإسلاميون في إثبات وحدانية الله تعالى مسلكين:أحدهما:شرعي مستمد من القرآن الكريم، وثانيهما:عقلي مستمد من الفكر الفلسفي.

المبحث الأول:المسلك الشرعي:

يعتبر ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي عني بالشرع في الاستدلال على وحدانية الله عز وجل، إذ أن غيره من الفلاسفة اعتمد على العقل فحسب في هذا المجال، وابن رشد في مسلكه الشرعي يلجأ إلى القرآن الكريم الذي تقرر آياته الشريفة وحدانيـة الله تعالى وتنفي الإلهية عما سواه (1)، ومن الآيات:

الدليل الأول :قوله تعالى:"لو كان فِيهِمَا ٌ آلِهَة إِلَّا اللَّهُ لَفَسَـدَتَا"Ëسورة الأنبياء :آيـة .22 ودلالة هذه الآية على وحدانية الله تعالى مغروزة في فطر النفوس، وهي حقيقـة بديهيـة تشهد الملاحظة بصدقها (2)، ووجه الاستدلال بهذه الآية على الوحدانية يوضحه ابن رشد بقوله :" إنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صـاحبه، أنـه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا معاً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكـون أحـدهما يفعل ويبقى الآخر عطلاً، وذلك منتف في صفة الآلهة . فإنّه متى اجتمع فعلان من نـوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة ".(3)وأيضاً فإنّ معنى الآية : أنا لو فرضنا وجود آلهة متعددة أو أكثر من إله لفسـد العالم في الآن، ولما يكن العالم فاسداً، وجب ألا يكون هناك إلا إله واحد .(4)

المناقشة :-

إنّ الآية القرآني ة واضحة الدلالة في إثبات وحدانيته عز وجل، فالآية يمكـن أن يؤخذ منها دليل عدم فساد الكون .(5)فانتظام أمر الكون بما فيه من المخلوقات المختلفة المتعددة دليل على أن الإلـه المدبر واحد، لأنه لو كان مدبر الكون أكثر من إله واحد لدخله الفساد والخلل كما أشارت

(1)انظر مناهج الأدلة ص 155 ، .159

(2)انظر المصدر السابق ص 155 ، المقدمة للمحقق ص .34

.156 – 155 مناهج الأدلة ص (3)

(4)انظر المصدر السابق ص .159

(5)انظر عقيدة التوحيد في القرآن الكريم :د .محمد أحمد ملكاوي ص .272.الآية الكريمة، وما دام الكون ً منتظما تمام الانتظام فالعقل يجزم أن الإله المدبر المتصرف

فيه المستحق العبادة دون سواه إله واحد لا شريك له .

وإذا كانت الآية تدل على توحيد الربوبية فهي تدل أيضاً على توحيد الإلهيـة إذ

يقال في معناها :إنه لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لها العبـادة سـوى الله

تعالى الذي خلق كل شيء لفسدت السماوات والأرض .(6)

يقول ابن تيمية معقباً على الآية السابقة ?Íل َوْ ك َانَ فِيهِمَا ٌ آلِهَة إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَـدَتَا

ف َسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ ال ْعَرْشِ عَمَّا يَصِف ُونَ ?Ëسورة الأنبياء : 22 فإن قوامهما (7) بأن تأله الإله

الحق فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الله لا سمي له ولا مثل له، فكانت

تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية ". (8) ويقول :" فكـل مألــوه ســواه

يحصـل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له ".(9) وم ما

يؤخذ على ابن رشد أنه استدل بالآية على توحيد الربوبية فحسب، ولم يستدل بها علـى

وحدانية الإلهية إذ الآية تدل عليهما معاً، كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية وغيره .(10)

الدليل الثاني :قوله تعالى : ?Í مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا ك َانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ

بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِف ُونَ ?Ëسـورة المؤمنـون : آيـة

. 9

يبين ابن رشد وجه الاستدلال بهذه الآية في إثبات وحدانية الله تعالى فيقول "فهذا

رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يلزم فـي الآلهـة المختلفـة

الأفعال، التي لا يكون بعضها مطيعاً لبعض، لا يكون عنها موجود واحد ولما كان العالم

واحداً وجب ألا يكون موجوداً عن آلهة متفننة الأفعال .(11)

المناقشة :-

الآية الكريمة التي استدل بها ابن رشد من الأدلة القرآنية في إثبات وحدانيـة الله

عز وجل، كما أن فيها رداً على الذين يزعمون أن الله اتخذ له ولداً، أو له شـريك فـي

الملك والتصرف، وهي تثبت وحدانية الله عن طريق انتظام الوجود واتسـاقه وارتبـاط

بعضه ببعض، وكما تدل الآية الكريمة على ربوبية الله الشاملة للوجود كله، فهـي تـدل

(6)انظر نفس المصدر السابق .

(7)فإنّ قوامهما :أي السماوات والأرض .

(8)انظر مجمع الفتاوى .24 /1

(9)انظر المصدر السابق ص .55

(10)انظر اقتضاء الصراط المستقيم 846 /2 ، درء التعارض 334 -343 /9 ،مفتاح السعادة لابن القيم

274 /1 ¡ 206 ، عقيدة التوحيد في القرآن الكريم ص .273

(11)مناهج الأدلة :ص .156.أيضاً على تفرده في الإلهية والعبادة (12) ، وكان من الواجب على ابن رشد أن يبين تقرير

الآية لتوحيد الإلهية كما استدل بها على توحيد الربوبية .

الدليل الثالث :قوله تعالى : ?Í ق ُلْ ل َوْ ك َانَ مَعَهُ ٌ آلِهَة كَمَا يَقُولُـونَ إِذًا لَـابْتَغَوْا إِلَـى ذِي

ال ْعَرْشِ ً سَبِيلا ?Ëسورة الإسراء :.42

ذهب ابن رشد إلى أن هذه الآية كآية سورة الأنبياء، برهان على امتناع إلهـين

فعلهما واحد، وذكر وجه استدلاله بالآية في إثبات الوحدانية فقال :" ومعنى هذه الآية أنه

لو كان فيهما آلهة قادرة على إيجاد العالم وخلقه غير الإله الموجود، حتى تكون نسـبته

من هذا العالم نسبة الخالق له، لوجب أن يكون على العرش معه فكـان يوجـد موجودان

متماثلان ينسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإن المثلين لا ينسبان إلى محـل واحــد

نسـبة واحـدة، لأنه إذا اتحدت النسبة اتحد المنسوب ..".(13)

يقصد ابن رشد أن وجود آلهة أخرى مع الإله الحق يوجب أن يكونـوا جميعـاً

على العرش، وهذا متعذر لأن العرش واحد، وكون العرش واحداً، يدل على وجود الإله

الواحد الذي ينسب إلى المحل الواحد .

المناقشة :

يلاحظ أنّ ابن رشد استدل بالآية الكريمة على إثبات توحيد الربوبية، والصواب

أنّ الآية في إثبات توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، فك فار مكة الذين نزلت الآيـة

في كشف زيف معتقدهم وفساد شركهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ومـاعرف عـنهم

الجدال والمخاصمة فيه، والذي كانوا ينكرونه هو توحيد الإلهية، وهو التوحيد الذي دعت

إليه الرسل وأنزل الله تعالى به الكتب، وأيضاً فإن المعنى المستفاد من الآية ليس هو مـا

ذهب إليه ابن رشد، فالمعنى الصحيح هو المنقول عن السلف، كقتادة وغيره، وهو الـذي

ذكره شيخ المفسرين ابن جرير الطبري والإمام ابن كثير .(14)

يقول ابن كثير في تفسيره للآية :"يقول تعالى قل يا محمد لهـؤلاء المشـركين

الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفا، لو كان الأمر كما

يقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه، لكان أولئـك المعبـودون يعبدونـه

ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه،

(12)انظر تفسير ابن كثير .255 /3

(13)مناهج الأدلة ص .156

(14)شرح العقيدة الطحاوية .41 /1.ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنّه لا يحب ذلك ولا يرضـاه، بـل

يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبياءه ..".(15)

ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس حول هذه الآية، بيّن فيه فساد تفسـير ابـن

رشد لها، وذكر التفسير الصحيح الذي تدعمه آيات القرآن الكـريم، يقـول رحمـه الله :

"والآية فيها قولان معروفان للمفسرين :-

أحدهما :أن قوله .ِإذًÇ لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي ال ْعَرْشِ سَبِيلًا ?Ë سورة الإسراء : 42 ، أي بـالتقرب

إليه والعبادة والسؤال له .

والثاني :بالممانعة والمغالبة . والأول هو الصحيح، فإنّه قال : ?Í ل َوْ ك َانَ مَعَهُ ٌ آلِهَـة كَمَـا

يَق ُول ُونَ ?Ëسورة الإسراء : 42 ، و هم لم يكونوا يقولون : إن آلهتهم تمانعه وتغالبه . بخلاف

?Ë وَمَا ك َانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ?Í : قوله تعالى

سورة المؤمنون :.91 فهذا في الآلهة المنفية، ليس فيها أنها تعلوا على الله، وأن المشركين

يقولون ذلك .

وأيضاً فقوله :?Í لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي ال ْعَرْشِ سَبِيلًا ?Ë يدل على ذلك، فإنّه تعالى قـال :

.(والمراد بـه اتخـاذ 19 : ) سورة المزمل ?Ëإِنَّ هَذِهِ تَذ ٌ ْكِرَة ف َمَنْ ش َاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِي لًا ?Í

السبيل إلى عبادته وطاعته بخلاف العكس، فإنّه قال : ?Í ف َإِنْ أَطَعْنَك ُمْ فَلَـا تَبْغُـوا عَلَـيْهِنَّ

سَبِيلًا ?Ëسورة النساء : 34 ، ولم يقل إليهن سبيلا ً .وأيضاً فاتخاذ السبيل إليه مـأمور بـه،

كقوله :?Í وَابْت َغُوا إِلَيْهِ ال ْوَسِيلَ ةَ ?Ëسورة المائدة : 35 وقوله : ?Í ق ُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْت ُمْ مِـنْ

دُونِهِ فَلَا يَمْلِك ُونَ كَش ْفَ الضُّرِّ عَنك ُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِـمْ

ال ْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَق ْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَاف ُونَ عَذ َابَهُ ?Ëسورة الإسراء : 57 – 56 فبين أن

الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة - فهذا مناسب لقوله : ?Í ل َوْ ك َانَ مَعَهُ ٌ آلِهَـة

كَمَا يَق ُول ُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي ال ْعَرْشِ سَبِيلًا ?Ëسورة الإسراء :(16) .42

المبحث الثاني :المسلك العقلي :

اعتمد الفلاسفة الإسـلاميون على العقـل في إثبـات وحدانيـة الله تعـالى -

كعادتهم في تقرير العقيدة - ولهم في إثبات وحدانية الله تعالى دليلان عقليان . وقد أشـار

ابن تيمية إلى ذلك فقال :" وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم - الذي هو تعطيل محـض

(15)تفسير ابن كثير 42 /3 ، وانظر :نفس هذا المعنى في تفسير الطبري 91 /15 ، منهاج السنة النبوية

. 332 – 331 / 3

.351 – 350 / 9 درء تعارض العقل والنقل (16).في الحقيقة - حجتان . (17) ودليلا الفلاسفة همـا : الاشـتراك فـي العليـة، والاشـتراك

والامتياز . (18)

ونذكر هذين الدليلين كما وردا في مؤلفات الفلاسفة ومؤلفات غيرهم من العلماء المطلعين

على المذهب الفلسفي .

الدليل الأول :الاشتراك في العلية :

يقول الفارابي في بيان هذا الدليل :" ويجب أن يكون واحداً، إذ كل اثنين فالواحد

متقدم والثاني متأخر، وهذا تقدم طبيعي، وهو تقدم الواحد على الاثنين، وإذا كانـا معـ اً :

فإما أن يشتركا في جميع الأشياء، فإن اشتركا لم يكن بينهما إثنينية وإن اختلفا فلابـد أن

يكون أحدهما سبباً والآخر مسبباً، لأن أحدهما واجب الوجود، فإن كـان الآخـر أيضـاً

واجب الوجود لم يتخصص أحدهما، ولم يتعين الوجود الواجب بل يتخصص بشيء آخر،

ولا محالة من أن يتخصص ما وجوده واحد في مفهوم ماهيته بوجوب الوجود ".(19)

يذكر ابن سينا هذا الدليل في كثير من مؤلفاته، فذكره في بعضها على وجه التفصيل، (20)

وذكره في بعضها على وجه الإيجاز .(21)

جاء في "الإشارات والتنبيهات " ذكر الدليل في الفصل الثامن عشـر مـن قسـم

الإلهيات، يقول : " إشارة :واجب الوجود المتعين : إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجـود،

فلا واجب وجود غيره، وإن لم يكن تعينه لذلك، بل لأمر آخر فهو معلول، لأنه إذا كـان

وجود واجب الوجود لازماً لتعينه كان الوجود لازماً لماهية غيره، أو صفة، وذلك محال

وإن كان عارضاً، فهو أولى بأن يكون لعلة وإن كان ما يتعين به عارضاً لـذلك، فهـو

لعلة .فإن كان ذلك وما يتعين به ماهية واحدة، فتلك العلّة علة لخصوصية ما لذاته يجب

وجوده، وهذا محال، وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق، فكلامنا في ذلـك السـابق

وباقي الأقسام محال ".

وجاء في كتابه الهداية " : (22)لا يجوز أن يكون وجوب الوجود لشخصين، فقد قيل

إن ذلك يوجب أن يكون كل واحد منهما معلولاً من حيث هوهـو، ولا يلحـق وجـوب

(17)منهاج السنة النبوية .298 / 3

(18)تسمية الدليل الأول توصلنا إليه من خلال دراستنا للدليل نفسه، فالاشتراك في العلية هو المحور

الذي يقوم الدليل على أساسه، وأما الدليل الثاني فقد سماه بهذه الاسم الدكتور محمد صالح الزركان،

انظر :كتابه " فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية " ص .237

(19)رسالة زينون - ع المجموص -.5

.334 – 230 -227 انظر :النجاة ص (20)

(21)انظـر :الهدايـة ص 262 – 261 ، الإشـارات والتنبيهـات 44 – 36 / 3 ، التعليقات ص

184 ¡ 131 ¡ 70 ¡ 37 ¡ .35

.262 – 261 ص (22).الوجود لاحق في ذاته يستحيل به، وإلا لتعلق وجوده بعلتي كونه ولا كونه لـم ينفــك

عنهما، وكانا :إما معلولية فيكون علة إحالة نفسه، وهذا محال، أو واجبين معـه، فيكثـر

وجوب الوجود .فواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته ".

وقد ذكر كل من الغزالي وابن تيمية وغيرهما (23)دليل الاشتراك في العلية الذي

اعتمده الفلاسفة في إثبات الوحدانية .وتقرير ابن تيمية للدليل أقرب لتقرير ابن سينا له في

"الإشارات والتنبيهات " على حين جاء تقرير الغزالي له بمعناه، وهو أيسر فهماً، حيث لا

يحتاج إلى إعمال عقل في فهمه، ومعرفة مقصوده، وسبب ذلك أن ابن تيمية لخص الدليل

من كتاب "الإشارات والتنبيهات " وما عليه من شروح للطوسي والرازي (24) ، وقد أشار

هو إلى ذلك (25)، على حين لخصه الغزالي - كما نر ى -من فهمه للدليل مـن مجموعـة

مؤلفات ابن سينا وغيره، فجاء تقريره للدليل بالمعنى .

ولبيان ذلك نذكر الدليل كما جاء عند الغزالي وابن تيمية .

تقرير الغزالي للدليل :" لو كانا اثنين، لكان نوع وجوب الوجود مقولاً على كـل

واحد منهما، وما قيل عليه :إنه واجب الوجود فلا يخل و :إما أن يكون وجـوب وجـوده

لذاته، فلا يتصور أن يكون لغيره، أو وجوب الوجود له لعلة، فتكون ذات واجب الوجود

معلولاً، وقد اقتضت علة له وجوب الوجود، ونحن لا نريد بواجب الوجـود، إلا مـا لا

ارتباط لوجوده بعلة، بجهة من الجهات .

وزعموا أن نوع الإنسان مقول على زيد وعلى عمرو، وليس زيد إنساناً لذاتـه،

إذ لو كان إنساناً لذاته لما كان عمرو إنساناً، بل لعلة جعلته إنساناً، وقد جعلت عمراً أيضاً

إنساناً، فتكثرت الإنسانية بتكثر المادة الحاملة لها، وتعلقها بالمادة معلـول لـيس لـذات

الإنسانية، فكذلك ثبوت وجوب الوجود لواجب الوجود، إن كان لذاته فلا يكـون إلا لـه،

وإن كان لعلة فهو إذن معلول، وليس بواجب الوجود، فقد ظهر بهذا أن واجب الوجـود

لابد أن يكون واحداً ". (26)

(23)تهافت الفلاسفة ص 160 ، منهاج السنة النبوية 299 – 298 / 3 ، مصارعة الفلاسفة للشهرستاني

.59 – 58 ص

(24)انظـر الإشـارات والتنبيهـات ج 3 هامـش ص 39 – 36 ، شـرح الإشارات للرازي ص 301

. 302 –

(25)انظر منهاج السنة النبوية .299 / 3

– ، وانظر :لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول للمكلاتي 16 تهافت الفلاسفة ص (26)

ص 187 ، حيث ذكر تقرير الغزالي للدليل بتصرف بسيط، وأيضاً الذخيرة للمحاكمة بين الغزالي و

الحكماء لعلاء الدين الطوسي ص .104.وأما تقرير ابن تيمية له : " أنهما (27)إذا اتفقا في الوجوب، وامتاز كل منهما عـن

الآخر بما يخصه، لزم أن يكون المشترك (28)معلولاً للمختص، كما إذا اشترك اثنان فـي

الإنسانية، وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص، وهـذا

باطل هنا، وذلك لأن كلاً من المشترك والمختص :إن كان أحدهما عارضاً للآخر لزم أن

يكون الوجوب عارضاً للواجب، أو معروضاً له، وعلى التقديرين فلا يكـون الوجـوب

صفة لازمة للواجب، وهذا محال، لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب .

وإن كان أحدهما لازماً للآخر، لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص، لأنـه

حيث وجدت العلّة وجد المعلول، فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك

في هذا وهذا، فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا، وما يختص بهذا في هـذا، وهـذا

محال يرفع الاختصاص ". (29)

المناقشة :

تعرّض دليل الاشتراك في العلية لجملة من الردود التي تبين بطلان الدليل وعدم

صحته في الاستدلال على المطلـوب ولعـل أقـوى الـردود هـو مـا وجهـه إليـه

الغزالي،ويتلخص في بيان عدم صحة تقسيم الفلاسفة نوع واجب الوجود :إلـى واجـب

الوجود لذاته، وواجب الوجود لعلة، ذلك أن واجب الوجود لعلة لا يمكـن أن يكـون إلا

معلولاً، والمعلول لا يكون واجباً، وإنما يكون جائزاً، فكيف يكون قسماً ً ثانيا من أقسـام

واجب الوجود .

ويرى الغزالي أن لفظ "وجوب الوجود " فيه إجمال، وهو يحتمل معنيين، لا يدل

واحد منهما على مقصود الفلاسفة، ولا يستقيم الدليل به، أحدهما : أن من معاني وجـوب

الوجود "نفي العلّة " ، وبهذا المعنى يكون سياق الدليل هكذا : إن الذي لا علة له، لا علة له،

لا علة له لذاته أو لسبب، وهذا تقسيم خاطئ، لأن نفي العلّة، واستغناء الوجود عن العلّة

لا يطلب له علة، وإذا كان كذلك فأي معنى للقول : إن ما لا علة له، لا علة له إما لذاتـه

أو لعلة .لأن قولنا : لا علة له سلب محض، والسلب المحض لا يكون له سبب ولا علـة،

ولا يقال فيه :إنه لذاته، أولا لذاته .

وثانيهما :من معاني وجوب الوجود " الوصف الثابت لواجب الوجـود " ، فيكـون واجـب

الوجود هو الموجود الذي لا علة لوجوده .وهذا معنى غير مفهـوم فـي نفسـه فالـذي

(27)أي واجبا الوجود .

(28)المشترك :هو الوجوب الذي يشترك فيه واجبا الوجود .

.299 – 298 / 3 منهاج السنة النبوية (29).يسـتفاد من نفي العلّة لوجوده، هو سلب محض . ولا يقال فيه : إنه لذاتـه أو لعلـة . (30)

وبعد أن يبين الغزالي فساد الدليل، يقول :فدل أن هذا برهان من خرف لا أصل له ". (31)

ويكشف الشهرستاني عن أوجه التناقض في الدليل من جهة الرسم والحد، ومـن

جهة المادة الموضوعة للاستدلال .

فمن جهة الحد والرسم يظهر التناقض في أقوال ابن سينا التي تتعلق ببيان معنى

واجب الوجود وإطلاقاته، فتارة يقول :إن واجب الوجود لا يقال على كثيـرين، وتـارة

يقول :ولا يجوز أن يكون نوع واجب الو جود لغير ذاته، فلفظ " النوع " هنا لا يقـال إلا

على كثيرين، فكيف يطلق ابن سينا لفظ "النوع " على واجب الوجود، وواجب الوجود لا

يقال إلا على ذات وموجود لا يشاركه في الاسم غيره ؟ (.32)

وأما التناقض الثاني :فهو أن ابن سينا أخذ الوجود مطلقاً وجعله موضوعاً للعلم

الإلهي، وتكلم في لوازمه، ثم جعل واجب الوجود من أقسامه ولواحقه، ثم تكلم في لوازم

واجب الوجود مطلقاً، وذكر من لوازمه أنه حق، وأنه تام، وأنه علة ومبدأ، ثم أخذ فـي

البرهنة عليه وإثباته، وهذا دليل على أنه جعل واجب الوجود نوعاً، فالسؤال فكيف تجعله

نوعاً، ثم تأخذ في البرهنة على وحدانيته ؟ !وكيف يؤخذ واجب الوجود بإطلاق أو علـى

شكل كلي ثم يبرهن على وحدانيته ؟ !إنّ المطلق أو الكلي لا يوجد في الخارج، لأن الذي

في الخارج هو المعين فحسب . (33)

وأمّا ابن رشد فيرى أن مسلك ابن سينا وأتباعه في التوحيد، لم يكن مسلكاً لأحد

من قدماء الفلاسفة، وأنه مؤلف من مقدمات عامة، تكاد تكون معانيها مقولـة باشـتراك،

وبسبب ذلك ترد عليها المعاندة كثيراً، ويذهب إلى أن تفصيل المعاني ومعرفة المقصـود

منها يقرب المسلك من الأقاويل البرهانية . (34)ثم يصحح ابن رشد هذا الدليل بتلاقي نقاط

الضعف فيه، ويأتي بدليل غيره يدل على وحدانية الله تعالى يقول ابن رشد :" وبرهـان

ابن سينا يتم على هذا الوجه :واجب الوجود إن كان اثنين، فلا يخلو أن تكون المغـايرة

التي بينهما :بالعدد أو بالنوع . أو بالتقديم والتأخير فإن ك انت المغايرة التي بينهما بالعـدد

كانا متفقين بالنوع، وإن كان التغاير بالنوع، كانا متفقين بالجنس .

وعلى هذين النوعين يلزم أن يكون واجب الوجود مركباً .وإن كان التغاير الذي

بينهما بالتقديم والتأخير، وجب أن يكون واجب الوجود واحداً، وهو العلّة لجميعها، و هذا

(30)تهافت الفلاسفة – بتصرف –ص 161 – 160 ، لباب العقول للمكلاتي ص 191 -188 ، الذخيرة

.105 – 104 للطوسي ص

(31)تهافت الفلاسفة ص .188

.61 – بتصرف – مصارعة الفلاسفة ص (32)

.62 – 61 – بتصرف – المصدر السابق ص (33)

(34)انظر :تهافت التهافت .463 / 2.هو الصحيح، فواجب الوجود إذن واحد، إذ لم يكن ههنا غير هذه الثلاثة أقسام، بطل منها

الاثنان، وصح القسم الذي يوجب انفراد الوجود بالوحدانية .(35)

إنّ دليل ابن رشد الذي قرره من خلال تصحيح دليل ابن سينا، أيسر ً فهما علـى

العقل من دليل الفلاسفة، ولكنه دليل فلسفي لا يمكن إثبات عقيدة التوحيد به، لأن العقيـدة

الإسلامية لا تحتاج إلى الأدلة الفلسفية المجردة لكي يستدل على تقريرها وإثباتهـا، وإذا

كانت عقيدة التوحيد بدهية فطرية فإن الأدلة التي تناسبها هي الأدلة التي تخاطب الـنفس

البشرية مباشرة، فتنفذ إلى أعماقها بكل يسـر وسـهولة دون الحاجـة إلـى اسـتخدام

المصطلحات الفلسفية التي يجهلها أكثر الناس .

ثمّ إنّ دليل ابن رشد يثبت وحدانية واجب الوجود، دون أن يثبـت وحدانيـة الله

تعالى في الربوبية والإلهية، وما جاءت رسل الله تعالى إلا لتذكير الناس بما استقر فـي

فطرهم من الإقرار بربوبيته عز وجل، ووجوب الإقرار له بالإلهية والعبودية، مع عـدم

صرف أي شيء من العبادة لغيره تعالى من الشركاء والأنداد .

وكان الأجدر بابن رشد أن يكتفي بالأدلة الشرعية المستقاة من القـرآن الكـريم

فهي أدلة سمعية وعقلية في نفس الوقت، وقد استدل ابن رشد نفسه بأدلة القرآن الكـريم

في إثبات وجوده تعالى، ولم يلتفت إلى سواها من الأدلة، وقد ذهب إلى اعتبار تلك الأدلة

أدلة بدهية فطرية، وأن ما دونها لا يصل إلى مرتبة اليقين والبرهان .(36)

الدليل الثاني :دليل الاشتراك والامتياز :-

يعود دليل الاشتراك والامتياز إلى أبي يعقوب الكندي، وعلى أساسه جرى كـل

من الفارابي وابن سينا وأتباعه من الفلاسفة في إثبات وحدانية واجب الوجود ، (37)وقـد

أخذ به بعض المتكلمين المتأخرين كالفخر الرازي .(38) وابن حزم الظاهري ، (39)وشمس

الدين محمد بن الأصفهاني (40)، وقد أشار إلى هذا الدليل منسوباً للفلاسـفة الغزالـي ، (41)

(35)المصدر السابق ص .468

.34 – ، المقدمة للمحقق د .محمود قا سمص 155 انظر :مناهج الأدلة ص (36)

(37)انظر :الكندي ورسائله الفلسفية – المقدمة – ص (4 ) 80 ، 207 من الرسائل، وانظر :الدليـل

عنـد الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة " ص 5 - 4 ، والتعليقات لابن سينا ص 183 – 182 ، حكمة

الإشراق للسهروردي ص 122 – 121 ، الفوز الأصغر لابن مسكويه ص .27

(38)انظر :لباب الإشارات ص 94 - 93 ، معالم أصول الدين ص 76 -75 ، الفخر الرازي وآراؤه

الكلامية والفلسفية للزركان ص .237

(39)انظر :الفصل في الملل والأهواء والنحل 107 -106 / 1 ، المحلى .5 / 1

(40)انظر :شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص 4 -3 ، 19 -18 ، وشمس الدين محمد بن الأصفهاني

هو :محمد بن محمود بن محمد بن عياد السلماني، أبو عبد الله شمس الدين الأصفهاني، ولد بأصبهان سنة

616 هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 688 هـ، قاضي وفقيه شافعي .من مؤلفاته :متن العقيدة الأصفهانية التي

شرحها ابن تيمية، شرح المحصول للرازي، القواعد – وهو في أصول الدين والفقه والمنطق والجدل -..وابن تيمية ، (42)والمكلاتي ، (43)وعلاء الدين الطوسي ، (44)والإيجي ، (45)ونذكر هذا الدليل

من كتب الفلاسفة وكتب غيرهم من العلماء .

يقول الكندي :لو كان الإله أكثر من واحد، لكانوا ً جميعا مشتركين فـي شـيء

يعمهم جميعاً، وهو كونهم فاعلين مبدعين، ولكانوا مختلفين ومنفصلين بحال مـا، فـإذن

يكون كل واحد منهم مركباً من العام الذي يشتركون فيه، ومن الخاص المختلفـين بـه،

والمركب لابد له بحكم العقل من مركب فإذاً لابد للفاعل من فاعل، ويستحيل أن يسـير

ذلك إلى غير نهاية، فلابد إذن من فاعل أول واحد غير متكثـر ولا مركـب، سـبحانه

وتعالى عن صفات الملحدين علواً كبيراً، ولا يشبه خلقه بحال فهو مبدع وهم مبـدعون،

وهو دائم وهم غير دائمين .(46)

ويذكر دي بور (47)الدليل منسوباً إلى الفارابي بصورة موجزة واضـحة سـهلة

الفهم، فيقول :" فلو كان ث َمَّ موجودان، كل منهما واجب الوجود، لكانا متفقين مـن وجـه

ومتباينين من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحداً بالذات،

وإذن فالموجود الذي له غاية الكمال يجب أن يكون واحداً ".(48)

وقد ذكر ابن مسكويه دليل الاشتراك والامتياز بطريقة موجزة واضحة، وقد جاء

دليله قريب الشبه بدليل الكندي، ذلك أن الكندي جعل الشيء الذي يشترك فيه أكثر من إله

هو كونهم فاعلين أو مبدعين، وهذا ما ذهب إليه ابن مسكويه، بينما الفارابي وابن سـينا

جعلا الشيء المشترك هو الوجود الواجب .

يقول ابن مسكويه :" إنه لو كان الفاعلون أكثر من واحد، للزم أن يكونوا مركبين،

وذلك أنهم اشـتركوا في أنهم فاعلون، واختلفوا في الذوات، ولابد من أن يكون الشـيء

الذي به خالف أحدهم الآخر غير ما وافقه به، فيجب أن يكون كل واحد منهم مركباً مـن

انظر :شذرات الذهب 406 / 5 ، فوات الوفيات 524 – 523 / 2 ، طبقات الشافعية 103 -100 / 8 ،

الفوائد البهية 198 –197 ، البداية والنهاية لابن كثير .315 /13

(41)انظر :تهافت الفلاسفة ص .162 -161

(42)انظر :منهاج السنة النبوية 299 /3 ، مجموع الفتاوى 232 – 230 /12 ، شرح العقيدة الأصفهانية

ص .23

.192 – 191 انظر :لباب العقول ص (43)

(44)انظر :الذخيرة ص .100

(45)انظر :المواقف ص .278

(46)انظر :الكندي ورسائلهالمقدمة الفلسفية ص ) 80 – ، .207 (4

(47)دي بور :مستشرق هولندي توفي عام 1942 م، متخصص في الفلسفة الإسلامية وضع كتابه "

تاريخ الفلسفة في الإسلام "بالألمانية، ثم ترجم إلى العربية، انظر :الموسوعة العربية الميسرة 824 / 1

. 825 –

(48)تاريخ الفلسفة في الإسلام ص .208.جوهر وفصل، والتركيب حركة، لأنه أثر، ولابد له من مؤثر ... فيجب من ذلك أن يكون

للفاعل فاعل، وهذا يمر بلا نهاية، فبالضرورة يرتقي إلى فاعل واحد ".(49)

ويوضح أبو حامد دليل الفلاسفة في إثبات الوحدانية فيقول : " قالوا :لـو فرضـنا

واجبي الوجود، لكانا متماثلين من كل وجه أو مختلفين، فإن كانا متماثلين من كل وجـه،

فلا يعقل التعدد والإثنينية ...وإذا استحال التماثل من كل وجه، ولابد من الاختلاف، ولـم

يكن بالزمان ولا بالمكان، فلا يبقى إلا الاختلاف في الذات . ومهما اختلفا في شيء، فـلا

يخلو، إما أن يشتركا في شيء أو لا يشتركا في شيء، فإن لم يشتركا فـي شـيء فهـو

محال، إذ يلزم أن لا يشتركا في الوجود، ولا في وجوب الوجود، ولا في كون كل واحد

قائماً بنفسه لا في موضوع .فإذا اشتركا في شيء، واختلفا في شـيء، كـان مـا فيـه

الاشتراك غير ما فيه الاختلاف، فيكون ثم تركيب وانقسام بالقول، وواجـب الوجـود لا

تركيب فيه، وكما لا ينقسم بالكمية، فلا ينقسم أيضاً بالقول الشارح، إذ لا تتركب ذاته من

أمور يدل القول الشارح على تعددها، كدلالة الحيوان والناطق على ما تقوم بـه ماهيـة

الإنسان ..وهذا لا يتصور في واجب الوجود، ودون هذا لا تتصور الإثنينية ".(50)

وقد لخصّ شيخ الإسلام ابن تيمية دليل الاشتراك والامتياز، وقد جاء تلخيصـه

ً قريبا من تقرير الغزالي له، ولا يكاد يختلف عنه، إلا في كون تقريـر الغزالـي أكثـر

تبسيطاً، وتوضيحاً للتركيب المنفي عن واجب الوجود، وهو التركيب اللازم بفـرض أن

واجب الوجود أكثر من واحد .

يقول ابن تيمية في تلخيصه لهذا الدليل :لو كان واجب الوجود أكثر من واحـد،

لاشتركا في الوجوب، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهـو التعيـين، ومـا بـه

الاشتراك غير ما به الامتياز، فيلزم أن يكون واجب الوجود مركباً في نفسه، وقد فرضناه

فرداً، وهذا خلف، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا

يكون واجباً بنفسه .(51)

المناقشة :-

إنّ دليل الاشتراك والامتياز الذي اعتمد عليه الفلاسفة في إثبات وحدانية الله عز

وجل هو نفسه :الأصل الذي بنوا عليه نفي الصفا ت عنه تعالى، وعنـدما يقولـون : إن

الواجب لا يكون إلا واحداً، فإن مرادهم به أنه واحد مجرد من العلم والقـدرة والحيـاة،

(49)الفوز الأصغر ص .27

.193 – 191 ، وانظر :لباب العقول للمكلاتي ص 162 – 161 تهافت الفلاسفة ص (50)

(51)انظر :منهاج السنة 298 / 3 ، مجموع الفتاوى 230 / 12 ، 232 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص

. 23.وليست له صفة تقوم به، لأنه في زعمهم لو كان متصفاً بالصفات القائمة به لكان مركباً،

والمركب لا يكون واحدا .ً(52)

وأهم الردود التي قيلت في نقده وإبطاله ما يلي :

-1 لقد زعم الفلاسفة أن واجب الوجود لو كان أكثر من واحد لتباينا في التعيـين الـذي

يخصه، والصواب :" أن المتباينين قد تباينا في جوهريهما من غير أن يتفقا في شـيء إلا

في اللفظ فقط، وذلك إذا لم يكونا متفقين في جنس أصلاً، لا قريب ولا بعيد، مثـل اسـم

الجسم عند الفلاسفة، المقول على الجسم السماوي، والجسم الفاسد، ومثـل اسـم العقـل

المقول على عقل الإنسان وعلى العقول المفارقة، ومثل اسم الموجود المقول على الأمور

الكائنة الفاسدة، والأزلية .فإن أشباه هذه الألفاظ هي أشبه أن تدخل في الأسماء المشتركة

منها في الأسماء المتواطئة .فإذن ليس يلزم في الموجودات المتباينة أن تكون مركبة ".(53)

-2 إنّ المشترك المطلق الكلي سواء كان الوجوب أو غيره – أمر اعتباري لا وجود لـه

إلا في العقل، فليس له تحقق في الخارج، لأن الذي في الخارج متعين خاص، وإذا كـان

الأمر كذلك فليس في أحدهما شيء يشاركه الآخر فيـه فـي الخـارج، فـإن الشـيئين

الموجودين في الخارج، سواء كانا واجبين أو ممكنين، وسواء قدر التقسيم في موجودين،

أو جوهرين، أو جسمين، أو حيوانين، أو إنسانين، لم يشارك أحدهما الآخر في الخـارج

في شيء من خصائصـه، لا في الوجوب ولا في الوجود، ولا في الماهية، إنما يشـابهه في ذلك، وإذا كان الاشتراك ليس إلا في الذهن لم يكن أحدهما مركبـاً مـن مشـترك ومميز، بل يكون كل منهما موصوفاً بصفة تخصه، لا يشابهه الآخر فيها، وبصفة يشابهه الآخر فيها، وهذا لا محذور فيه .إن هذا يمكن معارضته بما يلي :

أ –معارضته بالوجود : فالوجود ينقسم إلى واجب وممكن، والواجب والممكن يمتاز وجود

كل منهما عن الآخر بما يخصه، فيلزم أن يكون الوجود الواجب مركباً مما به الامتيـاز

ومما به الاشتراك، وأيضاً يلزم أن يكون الوجود الواجب معلولاً.

ب –معارضته بالحقيقة : فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن، والواجـب يمتـاز عـن

الممكن بما يخصه، فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص، ويلزم

أن تكون الحقيقة الواحدة معلولة.

ج -المعارضة بالماهية: فالماهية تنقسم إلى واجب وممكن، والواجب يمتاز عن الممكـن

بما يخصه، فيلزم أن تكون الماهية الواجبة مركبة من المشترك والمخـتص، ويلـزم أن

(52)انظر :مجموع الفتاوى 230 / 12 ، .232

(53)تهافت التهافت لابن رشد .471 / 2.تكون الماهية معلولة . وإذا أمكن معارضة ما في الـدليل ونقضـه بـالوجود والحقيقـة

والماهية، دل ذلك على أن الدليل الفلسفي لا يمكن أن يؤدي إلى مقصود أصحابه منه .(54)

-3 لو سلمنا جدلاً أن التركيب المذكور في الدليل كان صحيحاً – وهو قولهم :أن الواجب

تركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز – فإن دليل الفلاسفة على نفي التركيب باطـل .

لأن المعنى الذي نفوه و سموه تركيباً، لازم لكل موجود .(55)

-4 إنّ دليل الامتياز والاشتراك الذي سلكه الفلاسفة في إثبات وحدانيـة الله تعـالى، لا

يفهمه إلا قلة من الناس وهو مبني على ألفاظ وعبارات غريبة عن الحـس الإسـلامي،

وطريقتهم لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فهي بعيدة عن طريقة القرآن الكريم، وهي لا

تفيد علماً ولا عملاً، ولا توصل قارئها إلى اليقين، حيث لا تؤدي إلى إثبات وحدانية الله

تعالى، ووجوب عبادته وطاعته وحـده لا شريك له .

-5 إنّ طريقة الفلاسفة في إثبات وحدانية الله تعالى تحصر العقل ضمن مفاهيم نظريـة فلسفية من صنع الفكر البشري القاصر، ثم تحاول تطبيق هـذه المفـاهيم علـى عقيـدة التوحيد، وبالتالي فإنّها لا تصل إلى التوحيد الحق الذي أرسل الله تعالى رسله من أجـل بيانه للناس، ودعوتهم للالتزام بمقتضياته وما توجبه مفاهيمه.

 -6إنّ الدليل الفلسفي غير ملائم للفطرة البشرية، ولا يمكن أن يخاطب القلب، ولا يهـز مشاعر النفس، إنه يكلف قارئه العنت لكثرة ما فيه من قضايا ذهنية مجردة، ومصطلحات غامضة يصعب فهمها بسهولة ويسر .

إنّ الاعتماد على الأدلة السمعية والعقلية المأخوذة من القرآن الكريم خير وأفضل في الوصول إلى اليقين الذي تزول به شبهات المتشككين، ويزداد به إيمان المؤمنين .إن القرآن الكريم متضمن للبراهين والدلائل القطعية التي توصل إلى الحق وهو شفاء لمافي الصدور من أدواء الشبه والشكوك .قال تعالى:(يا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكم مَوْعِظَـةٌ مِنْ رَبِّك ُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ) Ëسورة يـونس: 57 ،Ëوَنُن َزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِين)سورة الإسراء82? وقـال:"وبراهين القرآن الكريم أقرب إلى العقول، وأفصح ً بيانا من غيرها، فلا تكلف فيها ولا تعقيب ولا تطويل. ومن فهم القرآن الكريم وعرف معانيه وتأمل براهينه ودلائله على التوحيد وغيـره مـن قضايا العقيدة أبصر الحق ً عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار .وهي تختلف عن بـراهين غيره من الفلاسفة والمتكلمين التي ما تكون غالباً عبارة عن ظنون كاذبة، وقضايا ذهنية مجردة يصعب على المرء تحصيلها. (56)

(54)انظر :منهاج السنة 301 -300 /3 ، مجموع الفتاوى 233 -232 /2 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص. 24

(55)انظر :مجموع الفتاوى :234 – 233 /12 ، شرح العقيدة الأصفهانية ص .24

(56)انظر :إغاثة اللهفان لابن القيم .54 /1.

الفيلسوف ابن سينا:هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ينتمي إلى الطائفة الإسماعيلية ذكر يحي بن أحمد الكاشي قول ابن سينا عن نفسه فقال:" وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانوا ربّما تذاكروا ذلك وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي وابتدءوا يدعونني إليه".([158]) كان ابن سينا عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام،ولد ابن سينا في قرية (أفشنة) الفارسية في صفر من سنة 370 هـ. ثم انتقل به أهله إلى بخارى، وفيها تعمّق في العلوم المتنوعة من فقه وفلسفة وطب، وبقي في تلك المدينة حتى بلوغه العشرين. ثم انتقل إلى خوارزم، حيث مكث نحواً من عشر سنوات( 392-402 هـ)، ومنها إلى جرجان، فإلى الرّي. وبعد ذلك رحل إلى همذان وبقي فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في خدمة علاء الدولة بأصفهان. وهكذا أمضى حياته متنقلاً حتى وفاته في همذان، في شهر شعبان سنة 428هـ.

ومن أساتذته: أبو بكر أحمد بن محمد البرقي الخوارزمي، وقد تلقى على يديه علوم اللغة، ودرس الفقه على يد أستاذه إسماعيل الزاهد، وعلوم الفلسفة والمنطق على أبي عبد الله الناتلي، وتتلمذ ابن سينا على كتب الفيلسوف أبي نصر الفارابي، وكتب الفيلسوف اليوناني أرسطو.

أمّا مؤلفاته فكثيرة، ومنها: 1- الشفاء في أربعة أقسام هي: المنطق، الرياضيات، الطبيعيات، الإلهيات 2- النجاة. 3- الإشارات والتنبيهات. 4- القانون في الطب4-منطق المشرفين. 5- رسالة في ماهية العشق. 6- أسباب حدوث الحروف.7- مجموعة من الرسائل منها: رسالة في الحدود، رسالة في أقسام العلوم العقلية، رسالة في إثبات النبوات.8- رسالة حي بن يقظان. 9-رسالة أضحوية في أمر المعاد.

         وقد كفّر جمع من أهل العلم ابن سينا، بل حكم عليه بعضهم بالزندقة والإلحاد، ومن هؤلاء: أبو حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لقوله بعدة عقائد فاسدة منها: قدم العالم، وعدم علم الله تعالى بالجزئيات، وإنكاره البعث الجسماني.([159])

      وأمّا أصل فلسفته: فيقول ابن تيمية: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنّما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي، الذي كان هو أهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطون الكفر المحض".)[160]( ويقول: "وابن سينا لمّا عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقّاه عن الملاحدة، وعمّن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء، وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركّب من كلام سلفه ومما أحدثه، مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات... فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح،حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض".([161])

        ويقول عبد الرحمن بن خلدون:" ثمّ كان بعده- أرسطو- في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين.. تصفّحها كثير من أهل الملة(الإسلام) وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم:أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا".([162])

 

 

الفصل الرابع

موقف الفلاسفة من النبوة والأنبياء

      درس الفلاسفة الإسلاميون الفلسفة اليونانية وتأثروا بها إلى حدّ كبير، بل واعتمدوها موضوعاً ومنهجاً، وتعصّبوا لكبار الفلاسفة اليونان أمثال أرسطو، وأفلاطون، وأفلوطين، واستبدل هؤلاء الفلاسفة الوحي بالعقل المجرد، وزعموا أنّ العقل وحده يعطي حقائق الأشياء، أمّا الوحي فيعطي عنها تخيلاً وتمثيلاً. ولقد حاول هؤلاء الفلاسفة التوفيق بين الفلسفة والدين في المسائل الاعتقادية، ولكنهم لم يستطعوا، لأنّه يستحيل التوفيق بين العقيدة الربانية الثابتة بالوحي، والفلسفة الوثنية التي تعتمد على التأمل العقلي المجرد والرأي والهوى والخيال، وهي من نتاج الفكر البشري المحدود. ومن هنا وقعوا في مجموع من المتناقضات والأغاليط، لقد أوقعتهم فلسفتهم في الخروج الصريح عن الدين الإسلامي، ممّا جعل جمع من أهل العلم يذهبون إلى تكفيرهم، والحكم عليه بالزندقة والإلحاد.

      وفي اعتقادي أنّ المسلم اليوم بحاجة ماسّة إلى تقويم منهج هؤلاء الفلاسفة - ومنهم ابن سينا- وتمحيص أفكارهم، وكشف باطلها وآثارها السلبية. خاصة إذا علمنا أنّ لهؤلاء مكانة في كثير من الجامعات والمعاهد العلمية في بعض دول العالم الإسلامي.وأنّ نتاجهم العلمي ما زال مكان الصدارة في تلك الجامعات والمعاهد.

إنّ عقيدة النبوة من القضايا الاعتقادية التي حاول الفلاسفة الإسلاميون أن يوفق فيها بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي.

المطلب الأول: تعريف الرسول والرسالة:

الرسالة: يعرِّف ابن سينا الرسالة بقوله: "هي ما قُبل من الإفاضة المسماة وحياً على أي عبارة استصوبت لصلاح عالمي البقاء والفساد علماً وسياسة ".

الرسول: ويعرِّف الرسول بقوله:هو"المبلغ ما استفاد من الإفاضة المسماة وحياً على عبارة استصوبت ليحصل بآرائه صلاح العالم الحي بالسياسة، والعالم العقلي بالعلم".([163]) والمراد بالإفاضة في قول ابن سينا:ما فاض على نفس النّبي من المعاني من العقل الفعّال،([164])-وهو الملك جبريل- ثمّ فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لذلك.

المناقشة:

إنّ الفرق المشهور-عند العلماء- بين النّبي والرسول، أنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنّبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه([165])، ولكن هذا الفرق لا يسلم من إشكال، لأنّ النّبي مرسل ومأمور بالدعوة والتبليغ، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة الحج:52، لذا ذهب بعض العلماء إلى أن الرسول: من أوحى إليه بشرع جديد، والنّبي: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنّ الرسول هو من أرسل إلى قوم كفار مكذبين، والنّبي من أرسل إلى قوم مؤمنين بشريعة رسول قبله يعلمهم ويحكم بينهم، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) سورة المائدة:44، فأنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام.([166]) وما ذكره ابن سينا مبني على أصوله الفلسفية، التي لا يسلم بها علماء الإسلام.وهناك مناقشة لابن سينا في معنى الوحي، فيما يأتي من البحث.

وأمّا زعمه أن ذلك فيض فاض من العقل على نفس النّبي، فيردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: إنّ هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم، لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام، ولا ملائكة تنزل بكلامه، ولا عندهم تمييز بين موسى وهارون- عليهما السلام- ولا بينهما وبين عدو الله فرعون.([167]) وقد بناه ابن سينا على أصله الفاسد إذ كان لا يرى أنّ الله يسمع كلام عباده، ولا يعلم ما في نفوسهم، ولا يقدر أن يغيّر شيئا من العالم، ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء.([168]) ومن قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنّه يكذب على القرآن الكريم الذي أخبر بأنّ موسى عليه السلام سمع نداء الله  تعالى له، وأنّه كلّمه دون واسطة في جبل طور سيناء، (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) مريم:52، (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء:16، وإخبار الرسول عن أمور الغيب يدلّ على نبوته،وهو يدلّ على أنّ النّبوة إنباء من الله عز وجل،وليس ذلك مما يقوله ابن سينا من أنّه فيض فاض عليه من العقل الفعّال. وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجرداً، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام علم فساد اللازم الذي زعمه.([169])

     إنّ قوله تعالى:( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة:97، وقوله (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ)الأنعام:من الآية114، يفيد أنّ التنزيل من الله تعالى، وهو يدلّ على بطلان قول ابن سينا الذي يجعل  الرسالة فيض فاض على نفس النّبي من العقل الفعّال، وهذا القول من أعظم الكفر والضلال،([170]) وقوله بالفيض يعني عدم إثبات حقيقة الرسالة،والنبوة عنده فيض من جنس المنامات، وهذا الجنس موجود لعموم الناس،ويشترك فيه المسلمون والكفار من المشركين وأهل الكتاب فأي ميزة أو فضل للأنبياء؟؟

المطلب الثاني:معنى الوحي عنده:

والوحي عند ابن سينا مرتبط بمعنى الرسول والنّبي، ويفسِّره بأنّه:" إفاضة العقل الكلي على نفس النّبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضان العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة العقل الفعّال".([171])

        ويعرِِف ابن سينا الوحي- في رسالة له بعنوان( الفعل والانفعال)،([172]) بقوله:" إلقاء الخفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول هذا الإلقاء. إمّا في حالة اليقظة ويسمى الوحي، وإمّا في حالة النوم ويسمى النفث في الروع ". ولإيضاح كيفية الوحي يقول ابن سينا : إنّ النّبي بما له من قوة قدسية يستطيع أن يتصل بالملك، ولأنّ الملك عقل مجرد، والعقل لا يستطيع أن يدرك الأشياء إلاّ مجردة عن الزمان، فإنّ الوحي في هذه الحالة يكون عبارة عن إلقاء الشيء إلى النّبي بلا زمان، وذلك بواسطة الملك، فتأتي قوة المخيلة في النّبي فتتلقى هذا الغيب عن العقل الفعّال، وتتصوره بصورة الحروف والأشكال المختلفة. كما تتصور الملك بصورة بشرية. والنّبي لا يصل إلى هذه الحالة إلا بعد استعداده وصفاء نفسه إلى درجة تجعلها أهلاً لذلك. ولتمييز كون الوحي قرآناً أو سنةً، لابد من التفريق بين العبارة المقارنة لتصور قوة المخيلة- في النّبي- في العلم بصورة الحروف والأشكال، وبين العبارة النقشية التي يصوغها النّبي بعد ذلك  يقول ابن سينا في ذلك:" وكلما عبر-أي النّبي- بعبارة قد اقترنت بنفس التصور فذالك هو آيات الكتاب، وكلما عبر عنه بعبارة نقشية فذلك هو إخبار النبوة ".([173])

إنّ ابن سينا يصرّح هنا بأنّ عبارات الوحي ما هي إلا ألفاظ استصوبها الرسول للتعبير بها عمّا أوحي إليه ، أي أنّ الرسول قد تلقى بالفيض عن العقل الفعّال معان عبّر عنها بألفاظ من عنده، وهذا الكلام مناقض للنصوص القرآنية، قال الله تعالى:]وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى[ سورة النجم 3-4.([174])

          وإذا كان النّبي يرى الملائكة ويسمع كلام الله بواسطتهم، فإنّ ابن سينا يزعم:أنّ الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية، وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الأصوات، وهو بمنزلة ما يراه النائم في منامه.([175]) وسيأتي مزيد إيضاح لأقوال ابن سينا في مسألة كلام الله تعالى والملائكة في بقية هذا البحث.

          ويلاحظ في أقوال ابن سينا السابقة مدى تأثره بنظرية الفيض الأفلاطونية،([176])ومدى محاولتـه التوفيـق بينهـا وبين الدين، وهي محاولة لم يكتب لها النجاح كما هو واضح.ونذكر هنا أنّ نظرية الفيض عند ابن سينا تقول بوجود عشرة عقول، آخرها العقل الفعّال([177]): وهو يلزم عن العقل التاسع ووجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول - الذي هو الواحد الحق- لكن تنتهي عنده العقول والمعقولات، أي ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً، وعن هذا العقل تصدر مادة الأشياء الأرضية، والصور الجنسية، والنفوس الإنسانية، ويصل العالم العلوي بالعالم السفلي، وهو المسمى بالروح القدس أو بالروح الأمين، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء.([178]

 وسنتعرض لمناقشة ابن سينا في معنى الوحي الذي ذهب إليه أثناء مناقشتنا لصفة الكلام، وذلك في المطلب السادس.

المطلب الثالث:النبوة ضرورية واواجبة عند ابن سينا:

      يذهب ابن سينا إلى ضرورة وجود النّبي، وأنّ بعثة النّبي واجبة عقلاً،يقول في ذلك: " فواجب إذاً أن يكون نبي،وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، فيتميز به عنهم، فتكون له المعجزات التي أخبر به".([179]) ويقول أيضاً:" إنّ النّبي من عند الله، وبإرسال الله، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنّما هو ما وجب من عند الله أن يسنّه، وإنّما يسنّه من عند الله ...".([180])

          ويعـدّ الفارابي أول الفلاسفة الإسلاميين  القائلين بنظرية النّبوة وضرورة النّبي، وهو يعدّ النّبوة وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، وأنّ النّبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحيتين السياسية والأخلاقية .

          والشروط التي يجب توافرها في النّبي هي نفس الشروط اللازمة لرئيس المدينة الفاضلة، وهي: أن يكون سليم البنية، قوي الأعضاء تامّها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة،وسريع البديهة، حسن العبارة، محباً للعلم وللاستفادة، وأن يكون صادقاً أميناً، ناصراً للعدالة، مجتنباً للملذات الحسية،غير شَرِه على المأكول والمشروب والمنكوح، مبتعداً عن اللهو واللعب،وأن تكون أعراض الدنيا هينة عنده. وأن يسمو إلى درجة العقل الفعّال الذي يستمد منه الوحي والإلهام.([181])

          وأمّا ابن سينا فيربط بين العناية الإلهية والنبوة، فيقول: " فلا بدّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدِّل،ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا إنساناً ".([182])

ووجود النّبي – في نظر ابن سينا– أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية فوجوده أشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، ووجود النّبي تقتضيها العناية الإلهية، وليس من المعقول أن تقتضي العنايـة وجـود تلك المنافع وأمثالها التي لا ضرورة لها في البقاء، ولا تقتضي النّبـوة التي هـي أسُّها، إذ لولا النّبوة لما كان هناك بقاء للنوع الإنساني.([183])

          فوجود النبوة واجب، وواجب أن يكون إنساناً، وله من الخصائص ما لغيره من الناس حتّى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم ، ويجب أن تكون له المعجزات التي أخبرنا بها.([184])

المناقشة:-

          إنّ من الحق الذي ذهب إليه ابن سينا: أنّ وجود النّبي أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية، وأشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار،وعلى الحاجبين،وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، وهذا موافق لما ذكره أئمة أهل السنة في هذا الموضوع، ومن ذلك ما قاله ابن تيمية، قال: فإنّ الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه..".

 ثم ذكر ثلاثة أصول وهي:1-إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهى القصص التي قصّها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم، 2-وتفصيل الشرائع، والأمر والنهى والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه، 3- الأيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب. ثمّ قال:"وعلى هذه الأصول الثلاثة، مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإنّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإنّ آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأمّا إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي"([185]).

ويبيّن ابن قيم الجوزية أنّ الحاجة إلى علوم الرسل أعظم من الحاجة إلى الطب، فيقول: "حاجة النّاس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمّا أهل البدو كلّهم وأهل الكفور كلّهم وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحّ أبداناً وأقوى طبيعةً ممّن هو متقيد بالطبيب، ولعلّ أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل قوم عادةً وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى أنّ كثيراً من أصول الطب إنّما أخذت عن عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم، وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن وتعطل الروح عنه، وأمّا ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبدان، وشتان بين هذا، وهلاك البدن بالموت، فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه وجهاد من خرج عنه، حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسم".([186])

          ويقال لابن سينا إنّ قولك: فوجود النبوة واجب، وأن بعثة النّبي واجبة عقلاً، ممّا لا يقبل في حق الله تعالى،  فالعباد لا يجوز لهم أن يوجبوا على الله شيء، أو يحرّموا عليه شيء، فالوجوب يجب أن يعلم بالسمع، والله هو الذي يوجب على نفسه، قال تعالى:( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة) الأنعام: من الآية54، وقال:(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم:من الآية47.ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه شيئاً أن يكون فاعلاً بالإيجاب، أي لا اختيار له، لأنّه سبحانه وتعالى أوجبه على نفسه باختياره ومشيئته، وأهل السنة والجماعة متفقون على أنّه تعالى خالق كل شيء وربّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً، لمنافاته مشيئة الله واختياره المطلق في مخلوقاته،ولأنّ في ترك هذا النوع من الواجب إمّا حصول مضرة أو فوات منفعة أو لزوم محال، والله تعالى يتنزه عن هذه كلها، لأنّه لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يتضرر بترك إرسالهم، ولا يلزم من عدم إرسالهم محال بالنسبة إليه سبحانه وتعالى.([187])

           يقول ابن تيمية:" وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين،ومن جوز ذلك: احتج بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة، وبقوله في الحديث القدسي الصحيح إني حرمت الظلم على نفسي الخ...وأمّا الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنّه ما شاء كان، وما شاء لم يكن،وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً،ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنّه كتب على نفسه الرحمة،وحرّم الظلم على نفسه، لا أنّ العبد نفسه مستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسّر لهم الإيمان والعمل الصالح".([188])

ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني:" إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع منّة من الله وفضل، لا واجب عليه ذلك، وإنّما هو على سبيل اللطف بالخلق والفضل عليهم، فبعثة الله جميع الرسل من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين إلى المكلفين لطف من الله بهم ليبلغوهم عنه سبحانه وتعالى أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ويبينوا لهم عنه سبحانه ما يحتاجون إليه من أمور المعاش والمعاد..".([189])

وبعثة النبي وإرسال الرسل تفضل من الله ورحمة للعباد، ، قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107،(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)آل عمران: من الآية164، وحتى لا يكون حجة للناس بأنّهم لم يبلغوا منهج الله وقال:(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء:165، وقال:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) طـه:134.

ومن المستنكر أن يقال أنّ إرسال الله تعالى رسله لعباده الذي فيه غاية صلاحهم وسعادتهم في الدنيا و الآخرة، ونهيه لهم عمّا فيه هلاكهم وشقاؤهم في الدنيا و الآخرة، واجب عقلاً!.

المطلب الرابع :النبوة مكتسبة :

          زعم الفلاسفة أنّ النبوة مكتسبة، فإنّ من راض نفسه، وخلّصها من الأوصاف الذميمة إلى الأوصاف الحميدة، ولازم الخلوة والعبادة، ودوام المراقبة،وإخلاء نفسه من الشواغل العائقة عن المشاهدة.إنّ النّبوة فيض يفيض على نفس النّبي إذا استعدت لذلك.([190]) يقول ابن سينا:" ولنفسك أن تنتقش بنفس ذلك العالم– يقصد العالم العقل- بحسب الاستعداد، وزوال الحائل، قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه".([191]) ويقول ابن سينا: "وهذه القوة ربّما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي، وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس لشدة الزكاة كما تحصل لأولياء الله الأبرار، والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثمّ يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء أو كرامة من الأولياء، وكلما زكّى المرء نفسه، رقي في هذا الباب، وزاد على مقتضى جبلته إلى أن يبلغ المبلغ الأقصى". ([192])

المناقشة:

          إنّ ما ذهب إليه الفلاسفة مخالف لنص القرآن ولإجماع المسلمين، فالله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يشترط في النبوة استعداد ذاتي كما زعم ابن سينا، ولا تنال بمجرد الكسب، وتكلف أنواع العبادات، وتطهير الأخلاق، ورياضة النفس، والله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أن النبوة اصطفاء واختيار واجتباء إلهي، وهي فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده،([193]) ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، ومن ذلك :قوله تعالى:(الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) سورة الحج :75، وقوله :( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) سورة آل عمران:33، وقوله تعالى لنبيه موسى:(قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين)سـورة الأعراف:144، وقوله تعالى:(واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) سورة ص: 45-47 .

          إنّ ادعاء الفلاسفة بأنّ النبوة مكتسبة قد رتّبه على نظرية الفيض التي استمدوها من الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلوطين، وادعاؤه هذا يسقط الفوارق بين الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الناس، فما دامت النبوة مكتسبة فقد يدعيها مدع، ويزعم أنه كالنّبي علماً وحكمة وعملاً، أو أنّه فوق النّبي في مثل هذه الأمور.

وبهذا يتبين أنّ الفلاسفة ما قَدَّر حق قدره، ولا قدّر الأنبياء حق قدرهم، لما ظنّ أنّ الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاضت عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعّال، وأنّ حصول النبوة ليس هو أمر يحدثه الله بمشيئته وقدرته واختياره.([194])

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أنّ الله يصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه واستعدّ بها لأنّ يخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) سورة الزخرف31-32، وقال تعالى:(ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) سورة البقرة:10وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء بقوله:(ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضّلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) سورة الأنعام: 84-87، فأخبر أنّه اجتباهم وهداهم ".([195])  

ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني: "وعند التحقيق فلا فرق عندهم- أي الفلاسفة، وابن سينا منهم- بين الفيض على نفس النّبي وسائر النفوس إلا من جهة كونها أصفى وأكمل"، ويقول:" من زعم أنّها مكتسبة فهو زنديق يجب قتله، لأنّه يقتضي كلامه واعتقاده أن لا تنقطع، وهو مخالف للنّص القرآني والأحاديث المتواترة بأنّ نبينا صلى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين عليهم السلام".([196])

المطلب الخامس:عمدة الفلاسفة في إثبات النبوة:

          إنّ عمدة الفلاسفة في إثبات النبوة هو المنامات. قال إنّ معرفة الأمور الغائبة عن طريق النوم ممكنة ، فوجب أيضاً أن تكون كذلك في حالة اليقظة. فالنائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فيحصل لها من العلم الذي يلقيه الله إليها ما لم تحصله في غير هذا الحال.  وهكذا يمكن أن يحصل في اليقظة نوع تجرد فتتصل النفس البشرية بالنفس الكلية وتتلقى عنها من العلم ما لم تحصله في غير هذا الحال([197]).

وفي رأي الفلاسفة أنّ التجربة والبرهان القياسي يشهدان أنّ النّفس الإنسانية تستطيع أثناء النوم الوقوف على المجهول، وإذا كان الأمر كذلك فليس بمستبعد عليها أن تتكشف المجهول حال اليقظة. وأنّ التجربة والقياس يقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبؤا بالمستقبل عن طريق الأحلام. وكذلك العقل حيث نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلية مثبتة في العالم العلوي، ومقيدة في اللوح المحفوظ. وإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى العالم العلوي والوقوف على ما في اللوح المحفوظ عرفت ما فيه، وتنبّأت بالغيب. وإذا كان هناك أشخاص يدركون مثل هذا الغيب عن طريق مخيلتهم أثناء النوم فيحلمون بأشياء كأنّها حقائق مسلمة. فإنّ غيرهم من الأشخاص ممن عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم يدركون ما في علم الغيب حال اليقظة، - كما يدرك غيرهم حال النوم- وهؤلاء هم الأنبياء.([198])

 يقول ابن سينا: "التجربة و القياس متطابقان علماً أنّ للنّفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال النوم، فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة، إلّا ما كان إلى زواله سبيل، ولارتفاعه إمكان. أما التجربة فالسماع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرّب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق ، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر،أما  القياس فاستبصر فيه من تنبيهات: تنبه: قد علمت فيما سلف أن الجزيئات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلى، ثم قد نبهت لأنّ الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأى جزئي، ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري" ([199]).

          ويرى ابن سينا استمرار أفعال اليقظة في الأحلام، وذلك يكون باستمرار بعض الأفعال والأفكار التي تشغل الإنسان أثناء اليقظة، حتى إذا استمرت المتخيلة مشغولة بها، والمتخيلة تحكي أموراً قريباً إليها إرادية، ويحدث هذا عندما تكون في همة لنفس وقت اليقظة شيء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره، فإذا نام لإنسان أخذت المتخيلة تحكي ذلك الشيء وما هو من جنسه، وهذا من بقايا انشغال الفكر في حالة اليقظة ([200]).

               والأحلام التي أشبه بها النبوات-عند ابن سينا- لا تنشأ عن احساسات خارجية أو داخلية بدنية، ولا تكون من بقايا اليقظة، وإنما تنشأ عن اتصال النفس بالملكوت (الملائكة أو العقل الفعّال) ويحدث ذلك أثناء النوم وفي بعض حالات اليقظة، فتتلقى النفس من هناك الوحي والإلهام. ويكون ذلك بمثابة الإنذار والإخبار بما سيكون([201]). فإذا حدث الاتصال أثناء النوم فهو رؤيا، وإذا حدث ذلك أثناء اليقظة فهو وحي وإلهام، وذلك وظيفة من وظائف القوة المتخيلة عند الإنسان([202]). 

يقول ابن سينا:" وصنف- أي عن المعجزات-يتعلق بفضيلة التخيل، ذلك أن يؤتي المستعد لذلك ما يقوى به على تخيلات الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات الأمور المستقبلة، فيلقي إليه كثير من الأمور التي تقدم وقوعها بزمن طويل فيخبر عنها، وكثير من الأمور التي تكون في زمان المستقبل يخبر بها،وبالجملة يتحدث عن الغيب فيكون بشيراً ونذيراً.. وقد يكون هذا المعنى لكثير من الناس في النوم ويسمى الرؤيا. وأما الأنبياء عليهم السلام فإنما يكون ذلك لهم في حالة النوم واليقظة معاً"([203]).

المناقشة :

إنّ الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدّث المرء به نفسه في اليقظة، فيراه في المنام، وقد ثبت هذا التقسيم في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:" الرؤيا الصالحة بشارة من الله، والتحزين من الشيطان، ومن الرؤيا يحدّث به الرجل نفسه".([204])

        إنّ كلام ابن سينا في الرؤيا، واتصال النفس بالعالم العلوي أثناء النوم يحتاج إلى  توضيح، وبيان ذلك: أن عامة علماء الإسلام يقرون بأنّ الرؤيا الصادقة من الله تعالى، فإنّ ما ادعاه من أنّ الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات فحق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح..."،([205]) وكان في أول الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ثمّ رأى الملك في اليقظة، حكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر.([206])

          ورؤى الأنبياء وحي معصوم، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له حق، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة:منها:قوله صلى الله عليه وسلم "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "،([207]) وقوله:" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".([208])

          ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل،ولا يتعلق به هوى لأنه محروس قال الله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم:3-4، بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنها قد يحضرها الشيطان, وقد وردت في القراَن الكريم أمثلة من الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،ومن ذلك الرؤيا التي رآها النّبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقة إلى الحديبية، قال الله تعالى:(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) سورة الفتح:27، والرؤيا التي رآها إبراهيم عليه السلام. قال تعالى:(يا يبني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك) سورة الصافات: 102.

وكلام ابن سينا عن الرؤيا الصادقة، وهو ما يراه الإنسان نتيجة اتصاله بالعالم العلوي حق، خاصّة وأنه يرى أنّ الأحلام الناشئة عن الاحساسات البدنية كاذبة، ويسميها أضغاث أحلام([209]).ولكن أقواله  بالجملة تحتاج إلى تحليل وبيان، حتى لا يلتبس الحق بالباطل، لأنّ رؤيا الأنبياء وحي بخلاف رؤيا غيرهم من الناس، والوحي لا يدخله خلل، ولا يخالطه هوى أو تخيلاّت، وهذا حاصل في رؤيا كثير من الناس، بسبب تلبيس إبليس، أو نتيجة مرض أو هوس، ونحو ذلك. قال ابن بطال:"والرؤيا الصادقه وأن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً، وليس كذلك".([210]) وإذا كان الأنبياء يختصون بآيات يؤيدون بها ليتميزوا بها عمّن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الإلهي، فإنّ رؤاهم كذلك يجب أن يتميزوا بها عمّن ليس مثلهم.

قال الخطابي:" قال بعض العلماء:أقام صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة, منها عشر سنين بالمدينة وثلاث عشرة بمكة, وكان قبل ذلك ستة أشهر يرى في المنام الوحي، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً، وقال بعض العلماء:معنى الحديث أي حديث الرؤيا- أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة, لأنّها جزء باق من النبوة ". وأضاف الخطابي: "هذا الحديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها, وقال وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة ".

وقال المازري: "ويحتمل أن يكون المراد أن المنام فيه إخبار الغيب، وهو إحدى ثمرات النبوة, وهو ليس في حد النبوة ; لأنه يجوز أن يبعث الله تعالى نبياً ليشرع الشرائع, ويبين الأحكام, ولا يخبر بغيب أبدا, ولا يقدح ذلك في نبوته, ولا يؤثر في مقصودها, هذا الجزء من النبوة وهو الإخبار بالغيب إذا وقع لا يكون إلا صدقا ". وأضاف المازري في: " كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا , وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة , لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم...ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول : إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال وهذا أشدّ فساداً من الأول لكونه تحكماً لا برهان عليه والانتقاش من صفات الأجسام, وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض, والأعراض لا ينتقش فيها، والصحيح ما عليه أهل السنة أنّ الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنّه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال, ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف, وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسرّ، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضرّ، والعلم عند الله تعالى". وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عمّا جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم, وبيان ذلك: أنّ الرؤيا إنّما هي من إدراكات النفس وقد غيّب عنّا علم حقيقتها أي النفس, وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها, بل كثير ممّا انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنّما نعلم منه أموراً جملية لا تفصيلية ".([211])

إنّ ما يجعله الله تعالى في النفوس إنّما يكون بعد إعدادها لذلك وتسويتها – لما يلقى فيها – بالعبادة الخالصة ومجاهدة النفس وإلزامها طاعة ربها عز وجل. لكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فالنّبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الملك ويخاطبه بالكلام ، وأحياناً يأتيه في الباطن فيكلمه، وأحياناً يتمثل له في صورة الرجل فيكلمـه. قـال تعالى: ( وما كـان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم ) الشورى:42.([212])

يقول أبو حامد الغزالي في مناقشته لمسلك ابن سينا السابق: " بم تنكرون على من يقول: إن النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرف الغيب، بتعريف الله عز وجل، على سبيل الابتداء، وكذا من يرى في المنام، فإنها يعرفه بتعريف الله تعالى، أو تعريف ملك من الملائكة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكرتموه،فلا دليل في هذا، ولا دليل لكم في ورود الشرع باللوح المحفوظ، والقلم، فإن أهل الشرع، لم يفهموا من اللوح والقلم، هذا المعنى قطعاً، فلا متمسك لكم في الشرعيات.. وإنّما السبيل فيه أن يتعرف من الشرع، لا من العقل ".([213])

          ويقال لابن سينا وإخوانه من الفلاسفة: إنّ الأدلة على إثبات النبوة ليست مقتصرة على ما ذكرتموه، فإنّما تثبت بالمعجزة، وبالاستدلال بأحوال النّبي وصفاته قبل النبوة وبصفاته حال الدعوة، وبعد تمامها،ومن خلال دراسة أخلاقه وأحكامه ومعاملاته مع الناس، ويستدل عليها أيضا بنصرة دينه على أعدائه، وعلىغيره من الأديان، وبهلاك المكذبين له. وتثبت بصدق ما يخبر عن ربه بوقوعه على ما أخبر به. وبإخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته. كما جاء خبر ووصف رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل. وتثبت نبوته من خلال دراسة ما يدعو إليه واتصافه بالواقعية والترابط وعدم التناقض والاضطراب، وكونه مما ترتضيه الفطرة السليمة، والعقل الصريح، وتستريح إليه القلوب والضمائر الحية.([214])

ومن الباطل في أقوال ابن سينا أنه جعل إدراك النبي الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات أمور المستقبل يحصل بفضيلة قوى التخيل عند النبي نفسه، ومن المعلوم بالضرورة أنّ هذه لا تدرك إلا بخبر المخبر للإنسان، وأمّا علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس، قال تعالى:(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) القصص:46، وقال (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) القصص:44، (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (يوسف:102) ،وقال (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)آل عمران:44.([215]).

المطلب السادس :صفة الكلام :

ذهب الفلاسفة إلى أن كلام الله تعلى ليس صفة قائمة بذاته تعالى، وليس له وجود خارج نفوس العباد ، فليس لله كلام أنزله بواسطة جبريل عليه السلام على أنبيائه الذين اصطفاهم برسالاته .وزعم أن الكلام هو ما يفيض على نفس النّبي من العقل الفعّال أو من غيره ، وأن الله تعالى لم يكلم موسى عليه السلام تكليماً ، إنما كلمه من سماء عقله بما أحدثه في نفسه من كلام، لم يسمعه موسى عليه السلام من خارج نفسه. فالمتكلم – عندهم- حقيقة هو النّبي، أما الله تعالى فهو متكلم مجازاً بما خلقه في نفس النّبي من ألفاظ. فالله لم يتكلم بصوت يسمعه النّبي من خارج نفسه، أي لا حقيقة لكلام الله في الخارج.([216])

ولتوضيح معنى كلام الله عند الفلاسفة ننقل بعض أقوالهم التي جاءت في مؤلفاتهم، ومؤلفات العلماء المطلعين على مذهبهم الفلسفي.

يقول ابن سـينا:"فوصفـه بكونه متكلماً لا يرجع إلى ترديد العبارات، ولا إلى أحاديث النفس والفكر المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل عليها، بل فيضان العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة القلم النقَّاش الذي يعبر عنه بالعقل الفعّال والملك المقرب هو كلامه. فالنّبي يتلقى علم الغيب من الحق بواسطة الملك، وقوة التخيل تتلقى تلك وتتصورها بصورة الحروف والأشكال المختلفة، وتجد لوح النفس فارغاً فتنقش تلك العبارات والصور فيه فيسمع منها كلاماً منظوماً، ويرى شخصاً بشرياً فذلك هو الوحي، لأنه إلقاء الشيء إلى النّبي بِلا زَمان، فيتصور في نفسه الصافية المُلَقِّي المُلْقَى، كما يتصور في المرآة المجلوة صورة المقابل، فتارة يعبر عن ذلك المنتقش بعبارة العبرية وتارة بعبارة العرب، فالمصدر واحد والمظهر متعدد، فذلك هو سماع كلام الملائكة ورؤيتها.([217])

          يتضح لقارئ أقوال ابن سينا أنّه ينكر صفة الكلام لله تعالى كما جاءت في الكتاب والسنة، وهو أنّه تعالى قد تكلم بصوت وحرف مسموع ، وأن ابن سينا يرجع الوحي والنبوة إلى قوة التخيل لدى النّبي وأنّ الرسول يسمع أصواتاً من داخل نفسه لا يكلـمه الله عز وجل مشـافهة كتكليمه لنبيه موسى عليه السلام ، ولا بواسطة الملك جبريل الذي ينزل بكلامه تعالى على المختار لرسالته، كما حصل للنّبي محمد صلى الله عليه وسلم.([218])

            وجاء في رسالة " النبوات " لابن سينا : أن إفاضة العقل الكلي على نفس النّبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضات العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة العقل الفعّال والملك المقرب ، هو كلامه ".([219])

           ويصّور ابن قيم الجوزية مذهب الفلاسفة في كلام الله تعالى فيقول : مذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أر سطو – وهم الذين يحكي ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم -: إنّ كلام الله فيض فاض من العقل الفعّال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها ، فأوجب لها ذلك الفيض من تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه، ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى، قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير. فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عنه غيرها، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس فتتصور المعقول صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الأذن، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية. قالوا: وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها، وتشكيل تلك الصور العقلية لعين الرائي،فيرى الملائكة ويسمع خطابهم، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج".([220])

حجة الفلاسفة في نفي صفة الكلام :

استدل ابن سينا على نفي صفة الكلام بحجة داحضة وهي : أن إثبات صفة الكلام لله تعالى يوجب إما أن يكون كلامه من جنس كلام البشر ، أو لا يكون من جنس كلامهم، فإذا كان من جنس كلام البشر كان مشاركاً له من جهة الإمكان والعرضية ، أي كونه ممكناً ومحلاً للأعراض ، وهذا متعذر في حقه تعالى ، ويلزم أن يكون الله تعالى جرماً لأن الكلام غير متصور دون حروف وأصوات، والحروف عبارة عن تقطيع الأصوات، وهذا لا يكون إلا للجرم، والصوت لا يكون إلا عن احتكاكات الأجرام. وإذا كان كلامه ليس من جنس كلام البشر فهو غير معقول، وغير المعقول محال.([221])

وإذا قيل له إن نفي صفة الكلام يقتضي إنكار أمره ونهيه عز وجل، وهذا يؤدي إلى عدم تحقيق معنى الطاعة له تعالى، وعدم صحة الرسالة. قال: إن معنى الطاعة لا يتحقق عن طريق الأمر والنهي ، بل يستند إلى التسخير على وجه الطواعية والإذعان على وفق الإرادة والاختيار، وأن تسخيره تعالى للمخلوقات وإبداعه للكائنات دون آلات وأدوات ، وتقليبه الخلائق بين المرغبات والمنفرات على وجه الطواعية حالة تنزل منزل القول بالأمر والنهي وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) سورة فصلت:11، فخطابه للسماء والأرض متعذر وكذلك قولهما ، وليس ذلك منهما إلا على سبيل الانقياد والتسخير.([222])

المناقشة: تتضمن المناقشة النقاط التالية :

أولاً: إثبات صفة الكلام لله عز وجل :

الكلام من صفات الكمال ، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ، كمن يعلم ويسمع فهو أكمل ممن ليس كذلك ، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً لذاته ، ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة واختيار.والكلام يكون صفة كمال للمتكلم إذا كان الكلام قائماً به، صادراً عنه بمشيئته وقدرته، لا كونه أمراً مبايناً له منفصلاً عنه.([223])

ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تقرر صفة الكلام لله ، وتثبت أنه متكلم حقيقة بكلام حقيقي هو صفة له، وهذه النصوص لا يملك المسلم أمامها إلا الإيمان بما أثبتته– دون تأويل أو تكييف أو تمثيل - ولا يستطيع أن يعطلها أو يحرفها ، وإلا دخل إيمانه ما يشوبه ويكدره.

والقرآن الكريم زاخر بالآيات التي تثبت أنه تعالى تكلَّم ويتكلَّم ، وكلَّم ويُكَلِّم وقال ويقول ، ونادى وينادي ، وأخبر وأنبأ ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل صراحةً على أنه تعالى متكلم بكلام حقيقي.([224])

       ومن هذه الآيات قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) سورة النساء:164 وقوله : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْك)َ سورة الأعراف:143، وقوله:( قَالَ يا موسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) سورة الأعراف: 144، وقوله:( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ) سورة التوبة : 6، وقوله "( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة) سورة البقرة:30، وقـولـه:( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه)ِ سورة المائدة : 116، وقوله:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)سورة البقرة : 34، وقوله : ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَر)َ سورة البقرة:60، وقوله : ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِين) سورة الشعراء:10، وقوله:(وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إبراهيم، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) سورة الصافات 104- 105، وقوله : ( قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ) سـورة التوبـة :94، وقوله: (إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سورة الزمر:7.

ومن الأحاديث الشريفة ما رواه عدي بن حاتم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه ترجمان.. ".([225]) وما رواه عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب:أنا الملك أنا الديان".([226])

ثانياً: مناقشة حجة ابن سينا:-

إنّ صفة الكلام من صفات الكمال التي يجب إثباتها لله تعالى على الوجه الذي يليق بجلاله وكماله ، ولا يعني بالضرورة أن إثباتها يقتضي أن يكون من جنس كلام البشر، فالقرآن الكريم والسنة جاء فيهما إثبات الكلام والنطق لبعض المخلوقات والجمادات، ومن المعلوم أنّ كلام هذه المخلوقات ليس من جنس كلام البشر، فليس لها آلات ولا أدوات قال تعالى مخبراً عن قول جهنـم يوم القيامة (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سورة ق:30، وأخبر عن السماء والأرض أنهما قالتا: قال تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)سورة فصلت:11، وأخبر عن نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة، شاهدةً على أعمال صاحبها(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) سورة فصلت:20-21.

وجاء في السنة أنّه عليه الصلاة والسلام. كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه وهو بمكة المكرمة.([227]) وسمع أصحابه تسبيح الحصى بين يديه.([228])

وبهذه الأخبار وغيرها أصبح معلوماً لدى النّاس أنّ الكلام والتكلُم بالحرف والصوت ليس موقوفاً على الأدوات والآلات التي يتكلم بها الإنسان، بل قد يتكلم المخلوق بدونها فكيف بالخالق عز وجل الذي لا يماثله المخلوق ، فلا يلزم إذاً أن يكون الله تعالى جرماً إذا اتصف بالكلام كما زعم ابن سينا.([229])

وأمّا ما جاء في الدليل من الزعم بأنّ الكلام إذا كان من غير جنس كلام البشر فغير معقول، وغير المعقول محال . فيردُ عليه بأنّ كلام الله لا يماثل كلام البشر، وغير المعقول أن يكون من جنس كلام البشر، إذ لو كان من جنسه لدخل الله تعالى تحت جنس البشر، وهذا محال . فذاته تعالى لا تماثل ذات أحد من المخلوقات لا بشر ولا غيرهم وكذلك صفاته تعالى، قال تعالى:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة الشورى:11. وإذا كان الفلاسفة لا يتصورون كلاما من غير جنس البشر فهذا راجع لقصور عقولهم، وعدم إيمانهم بالقرآن الكريم وغيره من الكتب السماوية التي أثبتت كلاماً للجمادات . وأهل الإيمان لا يلزمهم التسليم بكل ما يقرره من يلحد في أسماء الله وصفاته.

وأمّا ما زعمه من معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فإنّ الآمدي يبيّن بطلانه بقوله:"وأمّا ما أشاروا إليه في معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فتمويه لا حاصل له، وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء ما أمراً وتركه نهياً، وأن يكون الانقياد إلى ذلك التسخير طاعة كان ذلك في نفسه عبادة أو معصية. ولا يخفي ما في طي ذلك من المحال، فإنه ليس كل ما يسخر به مأموراً، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله يكون طاعةً على ما يخفي. وإذا كان الأمر على هذه المثابة لم يصح معنى التبليغ والرسالة عن الله..".([230])

ثالثاً: مناقشة معنى كلام الله عنده:

وأمّا قوله بأنّ كلام الله عبارة عن فيض من العقل الفعّال على نفس النّبي، فيرد عليه بالآتي:

1- لو كان كلام الله هو ما يفيض به العقل الفعّال على نفس النّبي، لكان آحاد الناس مشاركاً للنّبي في هذا الأمر، فمن الناس من يرى في المنام أن الملائكة تخاطبه وتكلمه، وأنّه في السماوات.

2- لو كان كلام الله ليس له وجود في الخارج، إنما يسمعه الرسول من نفسه بما يفيض فيها من العقال الفعّال، لما عاندت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبته في دعواه أنه رسول من رب العالمين أنزل الله عليه القرآن، ليكون للناس هادياً ومبشراً ونذيرا.ً([231])

3- قال تعالى:( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء)ُ سورة الشورى:51، وقال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) سورة النساء:164، وقال:( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه)ُ سورة البقرة:253، وهذه الآيات ونحوها أثبتت كلام الله تعالى لبعض رسله تكليما وتكليم الله لبعض عباده تكليماً خارجاً عن جنس الفيض – الذي زعمه الفلاسفة - الذي هو ضرب من الإيحاء العام.([232])

4- قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) سورة الأنعام: 114، أثبتت الآية الكريمة التنزيل صفةً للكتاب الذي هو كلام الله ، والمنزل من الله تعالى لا يكون فيضاً من العقل الفعّال على نفس النّبي عليه السلام.([233])

المطلب السابع:تفضيل الملائكة على الأنبياء:

ذهب الفلاسفة ومنهم ابن سينا إلى تفضيل الملائكة على الأنبياء وإلى هذا الرأي ذهب المعتزلة     وبعض الأشاعرة.([234]) واستدلّ الفلاسفة على مذهبهم بأدلة عقلية، منها:

1- الملائكة أرواح مجردة كمالاتها بالفعل، بخلف النفوس البشرية، والتام أكمل من غيره.

2- الملائكة مطهرة من الشهوة والغضب،وهما مبدأ الأخلاق الذميمة،بخلاف الجسمانيات، فهي لا تخلو منها.

3-الملائكة بسائط، غير مركبة بأي نوع من التركيب، وأمّا الأنبياء فأجسام مركبة، والبسائط أفضل من المركبات.

4-الملائكة نورانية علوية لطيفة، والأنبياء أجسام كثيفة مركبة من المادة والصورة، والمادة ظلمانية مانعة.

5-الملائكة لها قوة وقدرة على تصريف الأعمال الشاقة، كالزلازل والسحاب ونحوها ولا يلحقها فتور وضعف، بخلاف الجسمانيات.

6-الملائكة أفضل من جهة العلم والعمل، فمن جهة العلم: فلإحاطتها بالأمور الغائبة واطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية، ومن جهة العمل: فلكونهم عاكفين على العبادة، والتسبيح ليلاً ونهاراً، ولا يفترون عن ذلك. وعلوم الملائكة كلية فعلية آمنة من الغلط، وعلوم الأنبياء غير ذلك تماماً، فهي جزئية كسبية انفعالية، ولا تسلم من الغلط.

7-الملائكة روحانيات متعلقة بالهياكل العلوية النورانية، والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الفاسدة، ونسبة النفوس كنسبة الأجساد.([235]

المناقشة:-

يقول القرطبي: اختلف العلماء في التفضيل بين الملائكة وبني آدم على قولين، فذهب قوم إلى أنّ الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب الآخرون إلى أنّ الملأ الأعلى أفضل...وقال بعض العلماء ولا طريق إلى القطع بأنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأنّ الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ها هنا شيء من ذلك.([236])

وأما الأدلة العقلية التي ذكرتها الفلاسفة مبنية على أصولهم الفلسفية التي لا يسلم بها أهل السنة والجماعة.([237])

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين، فإنّهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين، ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصاحين بعد دخول الجنان، ورضى الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على غيرهم من المخلوقين، وإلاّ فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب".([238])

يقول علي ابن أبي العز الحنفي: " فإنّ الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنّبيين، وليس علينا أن نعتقد أيّ الفريقين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجبات، لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) المائدة:3. (وما كان ربك نسياً)سورة مريم:64، وفي الصحيح –يقصد الحديث الصحيح- " إنّ الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ". فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً أو إثباتاً، والحالة هذه أولى. ولا يقال: إنّ هذه المسألة نظير غيرها من المسألة المستنبطة من الكتاب والسنة، لأنّ الأدلة هنا متكافئة ".([239]) ويضيف: " والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنمّا تدل على الفضل، لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك..".([240]) وفي موضع آخر يقول:" وحاصل الكلام: أنّ هذه من المسألة من فضول المسائل، ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رحمه الله في الجواب عنها".([241])  

المطلب الثامن:أخبار الأنبياء:

          زعم ابن سينا أنّ ما جاءت به الأنبياء نوعان، الأول: الأمور العلمية، ومنها معرفة الله بأسمائه وصفاته والمعاد. وهذه الأمور لم يذكر الأنبياء حقائقها، إنما أخبروا جمهور الناس بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا الحق وهذا من جنس الكذب الجائز لمصلحة الناس، وهم يعلمون هذه المرتبـة، فضربـوا للنـاس الأمثال واستعملوا الرموز والإشارات.([242]) يقول ابن سينا تحت عنوان: " في إثبـات النبـوة وكيفيـة دعـوة النّبي إلى الله والميعاد "،([243]) "بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة، من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة  ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنّه لا نظير له ولا شبه ولا شريك.." ويضيف:" وكذلك يجب أن يقرّر عندهم أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممّا يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً…ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات".

          وفي رسالته"رسالة في إثبات النبوة وتأويل رموزهم "([244]) يوجب ابن سينا على النّبي أنّ يخاطب الناس بلغة الرموز الإيمائية ، وأن يسلك التمثيل والتخييل في ذلك ، تقريباً لإفهام العامة وترويضاً لعقولهم . وأما خاصة الناس فهم المعنيون بفهم الحقائق وتأويل الرموز وإدراك المعاني الباطنية التي وراء تلك الألفاظ التي استعملها الأنبياء. ومن ذلك قوله: " إن المشترط على النّبي أن يكون كلامه رمزاً وألفاظه إيماءً".

          ولقد كان ابن سينا في ذلك متأثراً بالفلاسفة اليونان. وبخاصة أفلاطون. ولقد اعترف ابن سينا بذلك صراحة فقال:" وكما يذكر أفلاطون في كتابه النواميس أن مَنْ لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهي، وكذلك جلة ابن سينا يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون في كتبهم المراميز والإشارات التي حشَوا فيها أسرارهم كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون…".([245])

          وأمّا النوع الثانـي: فهـي الأمـور العمليـة– يقصـد الشرائع والطاعات والنواهي – فهـذه أخبروا عنها، ويجب طاعتهم فيها والعمل بشرائعهم.([246]) وأنّ الأنبياء عليهم أن يعرفوا الناس العبادات التي تكون بها القربى من الله تعالى كالصلوات والصوم، وعليه أن يبين مصالح أخرى ومنافع دنيوية في تقوية السنة مثل الجهاد والحج، وأن يعين لهم أفعالاً يقدمونها خالصة لله كالذبائح ونحوها.ويجب أن يسن للصلاة سنناً لابد من اتباعها، وهى استعدادات يجريها الإنسان لملاقاة ربه تعالى من الطهارة والنظافة، وقد جرت العادة أن يقوم بها عندما يقابل الرؤساء والملوك، ولابد من الخشوع والسكون،وهذا يتحقق بغض البصر وقبض الأطراف، وترك الالتفات والاضطراب، وعلى النّبي أن يسنّ للإنسان في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة.([247])

          ونجد ابن سينا في أخبار الأنبياء العلمية(الاعتقادية) يسير على نفس منهجه من أنّ جمهور النّاس يعلمون من الأمور ظواهرها، ويجب على عاميتهم اعتقاد الظاهر، والعمل به، كما جاء في الشرع وأمّا الخاصة– وهم ابن سينا ومن على نحوهم – فينظرون إلى بواطن الأمور لا إلى حقائقها، فالصلاة مثلاً -عند ابن سينا- تنقسم إلى ظاهر وباطن فالظاهر منها :الطهارة والنظافة، والخشوع والسكون، وترك الالتفات والاضطراب،مع القيام والركوع والسجود، وما فيها من سنن وآداب، والباطن منها: المشاهدة الربانية التي تتحقق بمشاهدة الحق بالقلب الصافي، والنفس المجردة المطهرة عن الأماني، فالمشاهدة عنده عقلية، والعبادة عنده هي المحبة الربانية والرؤية الروحانية.([248])

 

المناقشة:

 - إنّ هذه الأقوال التي ذهـب إليهـا ابن سـينا هي نفس ما ذهب إليه الملحدة الباطنية كالإسماعيلية من أمثال إخوان الصفا، وملحدة الصوفيـة كابن عربـي وابن سـبعين الذين يرون أن لكل ظاهر باطن وأنّ الأنبياء قصدوا تفهيم الجمهور ظواهر الأمور، وإن كانت مخالفة للحق.

- إنّ اتهام الأنبياء بالكذب على الجمهور هو من المعلوم من الدين بالاضطرار بطلانه بل هو من الكفر الصريح، فابن سينا وأمثاله لم يقدروا الله تعالى حق قدره، ولم يقدِّروا رسوله عليه السلام حق قدره، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل الزنادقة والملحدة لإنكار كل ما جاءت به الأنبياء والمرسلون من العقائد والشرائع بحجة أنّ ظواهرها غير مرادة، وإنما وردت على سبيل التمثيل والتخييل.

- إنّ مراد ابن سينا من هذه الأقوال الفاسدة الصدّ عن سبيل الله، والصدّ عن فهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه فيما أخبر به. ولقد أخبر الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه بلّغ البلاغ المبين وبين مراد الله تعالى، وفي أقوال ابن سينا قدح في بيان الله تعالى، وقدح في الرسول الذي بلغ البلاغ الواضح المبين الذي هدى الله تعالى به العبـاد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرّق الله به بين الحق والباطل، فأوضح به السبيل وأنار به الدليل.([249])

- إن ابن سينا يسِّلم بأنّ الرسل من أعلم الخلق بالحقائق، وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به، وأنهم من أبر الناس وأصدقهم، وما نسبه إلى الرسل من إخبار جمهور الناس بضروب من التمثيل والتخييل والكذب لمصلحتهم يناقض ذلك، لذا كان ابن سينا من المتناقضين في أمر النبوات.([250])

المطلب التاسع:خصائص النبوة:

          ذهب ابن سينا إلى أن النبوة لها ثلاث خصائص، من قامت به فهو نبي، قال:" وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل، ومحصّلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية، وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة، وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاث..وهو يسمع كلام الله ويرى ملائكة الله تعالى، وقد تحولّت على صورة يراها..".([251]) والخصائص الثلاث التي يمتاز بها النّبي عن غيره، هي:-

الأولى: أن تكون له قوة قدسية، وهي قوة الحَدْس، بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره، وبالتالي يكون له إطلاع على المغيبات الماضية والحاضرة والمستقبلة، وهذا أمر لا يستنكر، فإن من صفت نفسه صفاءً شديداً، وقويت قوة عظيمة بحيث لا تشغلها الحواس عن النظر إلى العالم العقلي فإنّه عند ذلك تستعد استعداداً خاصاً للاتصال بالعقول المفارقة-ومنها العقل الفعّال- بأدنى توجه، ويفيض عليها من علم الغيب ما لا يدرك بالفكر والقياس.

الثانية : قوة التخيل والحسِّ الباطن: وهي التي يتخيّل بها في نفسه ما يعلمه، بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صوراً نورانية هي عند ابن سينا ملائكة الله، ويسمع في نفسه أصواتاً هي عندهم كلام الله، وهذا بأن تقوى نفس النّبي وتتصل في اليقظة بعالم الغيب، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة، فترى في اليقظة وتسمع. وليس هذا بمستنكر أيضاً فإنّه يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في منامه، فالنائم يرى في نومه صوراً تكلمه، ويسمع كلامهم، وذلك موجود في نفسه لا في الخارج، وهذا من جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة من الصوفية، فإنّ من تجردّت نفسه عن الشواغل البدنية سهل عليها أن تنجذب إلى عالم القدس.

الثالثة:قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي– مادة– العالم، وذلك بإحداث أمور غريبة، وهي عنده آيات الأنبياء ومعجزاتهم. فالنّبي بذلك تظهر منه من الخوارق للعادة لأنّ هيولي عالم العناصر مطيعة له ومنقادة لتصرفاته مثل انقياد بدنه لنفسه، تماماً كالعائن – الذي يصيب الآخرين بعينه – فإنّ له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين، وإذا كان أمر النّبي كذلك، فلا يبعد أن تقوى نفس النّبي حتى تحدث بإرادتـه في الأرض رياح وزلازل، وكأن يزيل جبل عن مكانه، ويذيب جوهراً فيستحيل ماءً، ويجمد جسماً سائلاً ليستحيل حجراً، وغيرها من الأمور الخارقة للعادة، وهذا أيضاً ليس بمستنكر، فأهل الرياضة من الصوفية ونحوهم تحدث منهم أمور عجيبة.([252])

المناقشة:

أولاً : مناقشة ما ذكره في الخاصية الأولى:

- إنّ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنّبي، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، يقول الله تعالى حاكياً قول رسول الله عن نفسه:]ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّني السوء[ الأعراف: 188.

- إنّ الاطلاع على بعض الغيب لا يخصّ النّبي فقط، فابن سينا يقول:إن أهل الرياضة والمرضى والنائمين يحصل لهم ذلك، فأي ميزة وخاصية للنّبي إذاً على غيره من آحاد الناس.([253])

- إنّ النّبي عليه السلام لا يعلم الغيب من تلقاء نفسه، ولا باستعداد ذاتي، بل يعلم الغيب بواسطة أمين الوحي جبريل الذي يعلمه ما يأذن به الله عز وجل، وليس للقوة القدسية التي جعلها ابن سينا خاصية للنّبي علاقة بذلك. يقول الله تعالى فـي حـق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقـون أقلامهم أيهم يكفل مريم ومـا كنت لديهم إذ يختصمون[ آل عمران:44 ويقول:]عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدا[ الجن: 26-27.

ثانياً: مناقشة ما ذكروه في الخاصية الثانية:

* إنّ ما قاله ابن سينا في شأن الملائكة لا يتمشى مع مذهبه الفلسفي العام واعتقاده في الملائكة فالملائكة عنده: إما نفوس مجردة عن المادة في ذواتها، متعلقة بأجرام الأفلاك ويسمونها ملائكة سماوية، وإما عقول مجردة ذاتاً وفعلاً، وتسمى بالملأ الأعلى، وليس لها كلام يسمع، لأنّ الكلام عندهم من خواص الأجسام. يقول الإيجي في الرد على الفلاسفة ومنهم ابن سينا:" قلنا: هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها، لأنهم لا يقولون بملائكة يرون، بل الملائكة عندهم نفوس مجردة، ولا كلام لهم يسمع، لأنه من خواص الأجسام، ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة، كما للمرضى والمجانين، على ما صرّحوا ".([254])

* إنّ الأدلة على وجود الملائكة كثيرة جداً، فنصوص الكتاب والسنة في هذا الجانب متواترة وهي تصرّح بما لا يدع مجالاً للإنكار: بأن الملائكة تجيء في صورة البشر، كما جاءت مريم وإبراهيم ولوط عليهم السلام، وتكليمهم للأنبياء إياهم وسماعهم كلامهم ورؤيتهم لهم على وجه الحقيقة، وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل وظهور جبريـل حقيقة على صورة الصحابي دحية الكلبي، وقد رآه غير واحـد من الصحابـة واستمعوا إليه، ثم إنّ أخبار نزول الملائكة لنصرة الأنبياء والأولياء وتأييـدهم، وإخبار الله تعالى عنهم بأنهم عباد الله المكرمون وأنهم يسارعون في الخيرات، ولا يستكبرون عن عبادته، وأنهم يحملـون عرش الله عز وجل، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار، وما في القرآن والسنة من ذكر أوصافهم وهيئاتهم وأصنافهم وأعمالهم كله صريح في بيان تهافـت أقوال ابن سينا التي تلقّاها عن أسلافه من الفلاسفة الوثنيين.([255])

* إن أقواله تتضمن تكذيباً صريحاً للقرآن الكريم، وهذا من الكفر القبيح، فضلاً عن مخالفته مما يعلم بالاضطرار من دين المرسلين.([256])

* إنّ عامة الأمم وأهل الأديان يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن، والملائكة التي يثبتها الفلاسفة ويسمونها بالعقول فهي عند التحقيق لا توجد إلا في أذهان من أثبتها لا وجود لها في الأعيان.([257])

* إنّ زعمه بأن النّبي صلى الله عليه وسلم يخيل له أنه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فباطل من عدة وجوه،منها:-

أ- إنّ قوله معناه إنكار الملائكة التي يسمع منها الرسول ، فالله عز وجل يرسل أمين الوحي جبريل إلى أنبيائـه يوحي إليهـم بإذن ربه ما يشاء، قال تعالى:]وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء[ الشورى :51، ففرّق الله سبحانه بين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء وبين الوحي، كما فرّق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى:] إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيين من بعد[ إلى قوله تعالى :] وكلّم الله موسى تكليما[ النساء:163-164. ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وتكليمه لموسى عليه السلام ، كما فرّق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء .

ب- إنّ ابن سينا يثبت فقط ما هو من جنس الوحي والإلهام عندما يقول بالقوة القدسية التي تفيض على نفس النّبي، بل الوحي والإلهام الذي أثبته الله تعالى فوق القوة القدسية التي يثبتها، والرسل لهم أحوال في السماع خارجة عن قوى النفس، وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك، إذ يسمعون كلام الملك المرسل إليهم، وتدل عليه آية الشورى السابقة، وقولـه تعالى:] الله  يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس[ الحج :175.

ج- لقد أخبر الله تعالى أنّه يكلم البشر من وراء حجاب، وأن يكلِّم موسى عليه السلام تكليماً، وهذا يقتضي أنه يكلم بعض رسله تكليماً خارجاً عن جنس ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها.([258])

د- يقول الله تعالـى في قصـة مريم:] فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً[ سورة مريم:17-19. وقال تعالى:] ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا[ سورة التحريم:12.

          لقد أخبر الله تعالى أنّ هذه الروح تصوّر بصورة بشر سوي، وخاطب مريم ونفخ فيها، ومن المعلوم أنّ القوى النفسانية التي تكون في نفس النّبي وغير النّبي لا يراها الحاضرون، ولا تحدث منها مثل هذه الأحوال والأفعال والأقوال ، وعلى هذا يبطل قول ابن سينا أنّ النّبي يخيّل إليه أنّه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فكون الملك تمثل بشراً وخاطب مريم ، فأي عاقل يقول أن مريم سمعت كلامه من داخل نفسها وهو أمامها بشري سوي تراه وتسمع كلامه([259]) .

هـ- يقول تعالى في حق جبريل ? : (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم ) سـورة التكوير:19-25. أخبـر الله تعالـى أن الذي جاء بالقرآن – وهو من كلام رب العالمين - رسول كريم ، ذو قـوة عنـد ذي العـرش مكين ، وأنه مطاع ثم أمين. ومن المعلوم امتناع أن تكون هذه الأوصاف للمَلَك الرسول صفات أعراض تقوم بنفس البشر سواء كان نبياً أو غيره ، وما كان كذلك امتنع أن يكون النّبي قد تخيل في نفسه أنه رآه وسمع منه كلام الله تعالى .

و- إذا كان النّبي لم يسمع كلاماً من خارج نفسه بل هذا تَخَيُّلٌ في نفسه كما زعم ابن سينا فهذا معناه أنّ الرسول من جنس آحاد المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السماوات، وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك ، ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الكفار .

ز- وإذا كان ابن سينا يزعم أن كلام الله هو ما يفيض على نفس النّبي من العقل الفعّال فإن هذا الزعم باطل وبيـان ذلـك : أن العقل الفعّال لا يمكن أن يتصور في صورة أعرابي ولا دحية الكلبي ولا ضيف إبراهيم ولا لوط ، ولا في صورة بشر سوي فنفخ في مريم ، ولا يمكن أن يكون كما قال تعالى : ] ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثَمَّ أمين[ لأن غاية العقل الفعّال عند الابن سينا أن يتحرك الفلك الأسفل تشبهاً به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه .

          وأيضاً فلقد أخبر الله تعالى أن النّبي صلى الله عليه وسلم رآه عند سدرة المنتهى ورآه بالأفق المبين مرتين، وجاء في الحديث الصحيح أنّ النّبي عليه الصلاة والسلام رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشـرق والمغـرب، ومَنْ كانت هذه أوصافه وأحواله استحال أن يكون هو العقل الفعّال كما يزعم ابن سينا.([260])

ثالثاً : مناقشة ما زعمه من أن معجزات الأنبياء هي نتيجة تأثيره القوة النفسانية للنّبي:

إنّ كون بعض النفوس أو غيرها من الأعيان قد جعل الله تعالى فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر شرعاً ولا عقلاً، ولكن دعوى ابن سينا بأنّ معجزات الأنبياء هي من هذا الباب فبهتان عظيم وإفك أثيم . وأدلة بطلانه كثيرة جداً نذكر هنا بعضاً منها يفي بالغرض المطلوب :-

* إنّ المؤثر الوحيد في الوجود هو: الله تعالى الذي لا شريك له في ملكه وتدبيره وتصريفه لما في ملكه  ولم يثبت شرعاً ولو بدليل ضعيف هذا الكلام الذي زعمه ابن سينا، ثمّ إنّ المعجزات وخوارق العادات هي: كرامات يظهرها الله تعالى على يد النّبي برهاناً على نبوته وتصديقاً لما جاء به من ربه عز وجل ولو كانت من تأثير نفسه كما زعم ابن سينا لما كانت معجزة يتحدى بها الأولين والآخرين من الجن والإنس .

* لقد أثبتت نصوص القرآن صراحة أن الملائكة لها تأثير في العالم بالقول والفعل ولكن بإذن الله تعالى وبمشيئته وقدرته، ومن ذلك تأييدها للأنبياء بالنصر والتأييد وإنزال السكينة، وهذا يبطل قول ابن سينا أن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية ، فإن الملائكة خارجة عن هذا وهذا .

* إنّ ابن سينا لم يدلل على مزاعمه بدليل صحيح، فقوله بلا علم ولا دليل، وعامة ما يعتمد عليه التجويز الذهني، والعقائد والمغيبات لا تثبت بمثل ذلك، ولا ريب أنّ معجـزات الأنبيـاء مما أجمـع النـّاس على أنّ قـوى النفوس لا تقتضيها، فالنّاس يعلمون بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية حدوث خوارق للعادات كثيرة، ليس لها علاقة بنفوس بني آدم، لا نفوس أنبياء ولا غيرهم، كزلزلة الأرض ونزول المطر من السماء، وأخذ القرى الظالمة.

* إن تأثير النفوس في الأجسام لا يختص بالنّبي، فمثلاً الجن تفعل كثيراً من الغرائب والأعاجيب، ومن ذلك حملها لبعض الناس وطيرانها بهم في الهواء، وسرقة أنواع من الأطعمة وإتيانها بها للكهنة وإخبارهم بالأمور الغائبة. وهذا ما يعلمه كثير من الناس والجن ليست قوى نفسانية، فمن الناس من شاهدها، ورآها - أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان- ، أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة .

* إنّ الملائكة ثابتة آثارهم وأفعالهم في العالم، وأخبارهم في ذلك متواترة عند أتباع الأنبياء ، ومعلومة بالمعاينة والمشاهدة ، وهذا من أعظم الأدلة على بطلان دعوى أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية .

 * إنّ تأثير قوى النفس لا يبلغ مبلغ معجزات الأنبياء ، فإنزال ماء الطوفان الذي أغرق أهل الأرض وإرسال الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً التي أهلكت قوم عاد واقتلعت قرى قوم لوط وقلبتها حتى أهلكتهم، وإرسال الطير الأبابيل بحجارة من سجيل لهـلاك أبرهة الحبشي وأصحابه عام الفيل  وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام، وفلق البحر، وتفجّر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشر عيناً، وانشقاق القمر، واهتزاز العرش، وخروج الناقة العظيمة من الصخـرة وإنـزال المائدة من السماء، لا يمكن أن يقول عاقل أنّ هذه وأمثالها من تأثيـرات القـوى النفسانية عند الأنبياء، بل كلّ عاقل يعلم أنّها من فعل فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته، وبحسب مشيئته وحكمته،وأنّه هو الله رب السماوات والأرض، ورب كلّ شيء ومليكه .

 * إنّ الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بأنّ خوارق العادات – المعجزات المؤيدة لدعوى النبوة – ليست في مقدور البشر، فمن زعم أنّها من تأثير قوى النفس كان مكذباً للأنبياء فيما أخبروا به، والأنبياء عليهم السلام أخبروا بوجود الملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست أعراضاً قائمة بغيرها وأخبروا بأنّهم يفعلون أفعالاً خارجة عن قدرة البشر، ومن ذلك مجيء الملائكة إبراهيم عليه السلام في صورة رجال نكرهم ولم يعرفهم حتى ظن أنهم ضيوف، ثم إخبارهم له بأنهم ملائكة وبشروه بإسحاق ثم أخبروه بأنهم ذاهبون إلى قوم لوط من أجل إهلاكهم بأمر الله تعالى. ومن زعم أنّ مثل هذا من قـوى النفس فقـد كذّب القرآن الكريم وكذّب الأنبياء فيما أخبروه به، وهذا في غاية الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.

          ومن معجزات الأنبياء ما لا يكون النّبي شاعراً به، ومنها ما لا يكون مريداً له، وهذا لا يكون من فعل نفسه، ومنها ما يكون قبل وجوده، ووجود قدرته، ومنها ما يكون بعد موته ومفارقته لهذا العالم. ومن المعلوم أن أمثال هذه المعجزات خارجة عن مزاعم ابن سينا في تأثير القوة النفسانية للنّبي.ومن هذه المعجزات : قصة أصحاب الفيل التي حدثت حين مولده صلى الله عليه وسلم، وأخبار الكهان وأهل الكتاب عن نبوته وإخبار الأنبياء السابقين المتقدمين عن نبوته ورسالته، وانتشار دعوته عليه الصلاة والسلام في مشارق الأرض ومغاربها كما أخبـر هـو عن ذلك، وحفظ الله تعالى للكتاب الذي أنزله عليه، وما جعله الله تعالى في القلوب من محبته وتعظيمه، والعلم بمنزلته وعلو درجته ومكانته، وانتصار أوليائه، وهزيمة أعدائه.([261])

 

عقيدة البعث عند الفلاسفة

الإيمان بالبعث:

إنّ من أصول العقيدة الإسلامية الإيمان بالبعث وبالحساب والجزاء‏,‏ وبالخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبداً‏,‏ أو في النّار أبداً‏,‏ ‏ وإنّ إنكار البعث كان حجة كفار قريش‏,‏ كما كان حجة الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين‏,‏ كفراً برب العالمين‏,‏ وجهلا بطلاقة قدرته التي لا تحدها حدود‏,‏ أو قياسا للقدرة الإلهية بقدرات البشر المحدودة ظلما وعدوانا. وجهلا بمدلول الألوهية الحقة‏,‏ ومن ثمّ عجز الكافرون عن تصور إمكانية البعث‏,‏ وما يتبعه من الحساب والجزاء‏,‏ وفي التشكيك في  ذلك، وهذا من صلب الدين الذي جاء به الأنبياء‏,‏ والمرسلون‏,‏ وتكامل الحديث عنه فيما جاء به النبي الخاتم والرسول الخاتم‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏.‏

ومن أجل التأكيد علي حقيقة البعث بعد الموت وما يتبعه من حساب وجزاء ابتدأت آيات القرآن الكريم باستنكار تساؤل الكافرين عنه تساؤل المنكر له أو المتشكك في إمكانية وقوعه‏,‏ وألمحت بالتهديد القاطع لكل منكر أو متشكك في تلك الحقيقة الربانية الحاسمة‏,‏ ثم أوردت عدداً من البراهين والآيات الدالة علي كمال القدرة الإلهية في إبداع الخلق، لكي تكون شاهدة علي أنّ الخالق المبدع قادر علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه‏..!!!,‏ ولذلك أكدّت سورة القرآن الكريم علي حقيقة يوم البعث وأهواله‏,‏ وسمته بأسماء متعددة.!‏ ثمّ ذكر لنا القرآن الكريم بعض صور العذاب الذي أعده الله تبارك وتعالي‏ للطاغين من الكفار والمشركين من المنكرين لدين الله‏,‏ والمكذبين بآياته‏,‏ والغافلين عن حسابه‏,‏ وذلك بإدخالهم إلي جهنم وبئس المصير، التي تترصد بهم‏,‏ وتستعد لاستقبالهم وفيها من صور العذاب المهين.

          قال بعض العلماء: إن الله تعالى أكثر في ذكر البعث، وأدلته، ومن القرائن التي تدل عليه والمعجزات والآيات والبراهين، وكذلك ما بعده من الجزاء على الأعمال ومن الحشر، والنشر وما إلى ذلك.

    ولعل الحكمة من المبالغة في ذلك إقناع المشركين، وذلك لأن المشركين من العرب كانوا ينكرون أشد الإنكار بعث الأجساد، فضلاً عن حساب عليها أو عذاب، فهم يقولون -مثل ما حكى الله عنهم هم والأولون أيضاً بقوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).الأنعام:29، وكذلك حكى الله.

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/67884

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك