الحركة الإسلامية بين زمن البنا والمودودي وزمن فتنة الدم والدين!

أحمد التلاوي

يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سُورة “البقرة”- من الآية 191]، ويقول أيضًا: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [سُورة “البقرة”- من الآية 217]، ولئن كانت أسباب نزول هاتَيْن الآيتَيْن تتعلق بقضية الإيمان والكفر، والتوحيد والشِّرْك، بعد واقعة العير الشهيرة ومقتل عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام على يد سَرِيَةٍ للرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”؛ فإن الكلمة عبر التاريخ، اكتسبت فحوىً آخر أكثر عمومية يتعلق بالضلالة، والعدول عن الحق، والزَّيْغ عن الدين.

والفتنة من بين أهم المصطلحات الواردة في منظومة الألفاظ في القرآن الكريم؛ حيث وردت في ستين موضعًا، وهي تُعبِّر عن سُنَّة كونية أرادتها المشيئة، وتُعتبر قانونًا مهمًّا من القوانين الربانية في الحياة الدنيا.. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سُورة “العنكبوت”- الآية 2].

والشيطان الرجيم هو الفتَّان، ولذلك فهو من بين أهم ما جُبِلَ عليه في خلقِه، هو أن يوقع العداوة والبغضاء بين البشر.. يقول تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [سُورة “المائدة”- من الآية 91]، وهو الفعل الوحيد الذي يبتسم له الشيطان الرجيم، ويرضى عنه من فعل زبانيته وأبنائه، كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه “مُسلم” عن الأعمش “رَضِيَ اللهُ عَنْه”.

ويلعب الشيطان في فعل الفتنة هذا بين البشر، على وتر المصالح، كما في آية “المائدة” السابقة، التي ضربت لذلك مثالاً على الميسر، بما فيه من مصالح مادية لأصحابه.

ولا توجد جريمة فتنة أكبر من أن نتحدث عن تفرقة صف المسلمين بحيث يقود ذلك إلى حروب مدمرة تسيل فيها دماء مسلمين بأيدي مسلمين آخرين لمجرد خلاف فقهي في الفروع، أو صراعًا على مكاسب سياسية زائلة؛ لا علاقة لها بالفحوى الحقيقي للمشروع الإسلامي، وهو استعادة خيرية الأمة، وإعادة إحياء دولة الخلافة الجامعة التي كانت ضمانة حقيقية لوحدة المسلمين وحماية مصالحهم ودمائهم وأعراضهم.

وتكون المشكلة أكبر إذا كانت واقعةً في صفوف طليعة الأمة، وهي الحركات الإسلامية التي من المفترض أنها نهضت لأجل تحقيق هذه الأهداف والغايات السامية، وذلك على النحو الذي نراه في الوقت الراهن في بلاد الشام، وبلاد الرافدين، وفي آسيا الوسطى المسلمة، وغيرها من بقاع العالم العربي والإسلامي.

وحتى نعلم أي منحدر انحدرته الحركة الإسلامية بشكل عام في وقتنا هذا، وأن الجميع خارج عن المنهج القويم، لنرَ ونقارن بين الرعيل الأول من مؤسسي الحركات الإسلامية المعاصرة، في مرحلة ما بعد تفكك دولة الخلافة، والواقع الحركي الراهن.

لنرَ كيف كانت العلاقة ما بين الإمام حسن البنا، مؤسس دعوة الإخوان المسلمين، وبين الإمام أبي الأعلى المودودي، أحد أهم منظِّري الحركة الإسلامية في باكستان وما حولها.

“كلاً من البنا والمودودي كانا من مدرسة مختلفة تماماً عن الآخر، لكنهما كانا على إدراك كامل بطبيعة المرحلة ومتطلباتها، وعلى درجة من الوعي حول طبيعة السياق الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين المسلمين”

كلاهما كان مدرسة مختلفة تمامًا عن الآخر في النظر لطبيعة المرحلة والأدوات، ولكنهما كانا على إدراك كامل بطبيعة المرحلة ومتطلباتها، وكانا على درجة من الوعي حول طبيعة السياق الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة بين المسلمين، وفق بديهية أن الجميع مسلمون، حتى ولو اختلفوا في الرؤية، وأن الهدف والغاية واحدة، مهما كانت النظرة للأدوات والأولويات.

وللإمام البنا مقولة شهيرة في هذا المُقام، وهي: “نجتمع على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”.

ووفق هذا المبدأ استطاعت مدرسة الإخوان المسلمين، في ذلك الوقت، استيعاب أفكار الشهيد سيد قطب على سبيل المثال، والتي تُعتبر “شديدة الثورية” -لو صح التعبير- بالمقارنة مع المنهج الذي وضعه البنا في رسائله، التي هي الأساس الفكري الذي تنطلق منه دعوة الإخوان المسلمين.

الجميع، في تلك المرحلة التأسيسية، كانوا على مبدأ الانطلاق مما اتفقنا عليه، وأن مصلحة الدين والأمة هي فوق أي اعتبار خلافي.

وقتها كانت هناك وحدة كاملة ما بين مختلف التيارات الإسلامية الفكرية والحركية؛ لأن الكل كان على قدر من الإخلاص للهدف؛ فلا تهم الخلافات الفكرية والفقهية، لذلك انطلق هذا الإطار حتى لمستوى استيعاب الشيعة، ودخل الأزهر في الأربعينيات على ذلك الخط، فتكونت جماعة التقريب بين المذاهب، واتخذت من القاهرة مقرًّا لها، ولعب البنا وآية الله علي كاشاني والإمام محمد تقي القمي، دورًا كبيرًا في هذا المجال.

أما الآن؟!.. فأين إرث البنا والمودودي؟!.. الخلافات بالدم، والدم وصل حتى إلى مستوى الحركة الواحدة، على النحو الذي نراه من ممارسات تنظيم الدولة في العراق والشام “داعش”.

والمتأمل في المنهج الحركي الذي أسسه البنا وكرسه سيد قطب، ثم عمر التلمساني ومصطفى مشهور، وغيرهما من بعد، كان يعتمد على عدد من الأمور، نركز منها على جزئية التحرك في المجتمعات من دون الصدام لا مع جماعات أخرى أو أنظمة، أو التورط في مشروعات سياسية لأنظمة أخرى لحين الوصول إلى مرحلة من التمكين المجتمعي الذي يمهد للتمكين السياسي، وذلك كله في الأصل لتحقيق هدف الوحدة بين المسلمين؛ لأنه من دون هذه الوحدة لن تعود دولة الخلافة، ولن يحقق المسلمين ما هو منوط بهم من مهام وواجبات جِسام باعتبارهم أمة التكليف.

وبطبيعة الحال؛ فقد لعبت قوى الاستكبار العالمية، بمعاونة أنظمة الفساد والاستبداد القائمة بين ظهرانيي الأمة، في سبيل كسر هذه الصورة، وتدميرها بالكامل؛ لخطرها الكبير على مشروعاتها لتقسيم الأمة، ومنعها من النهوض مرةً أخرى.

فكما كانت دولة الخلافة مُستهدَفة؛ فإنه تم بعد ذلك مواصلة هذه المسيرة السوداء لضمان عدم عودتها، وكانت عقدة هذا الأمر، هي مساعي الحركات الإسلامية ورموز الدعوة والإصلاح في هذه المرحلة التأسيسية، ولذلك تم التركيز على ضربها.

وهناك آلاف الوسائل الشيطانية التي يتبناها أعداء الأمة في هذا الصدد، وعلى رأسها ضرب الدعوة الإصلاحية بمكوناتها المختلفة وتيارات الصحوة الحركية من داخلها، من خلال طابور خامس إما داخل الحركة الواحدة، أو اصطناع حركات تعمل على شق الصف، وتشويه الصورة، وتغرق الحركة الإسلامية في بحور من الدماء والفرقة، على ذات النحو الذي يعرفه المشرق العربي والإسلامي في وقتنا هذا.

إن الأمر يتطلب قدرًا كبيرًا من الحركة الواسعة، من جانب من لم يزالوا ثابتين على المبادئ النقية الأولى، التي أسس لها جيل المؤسسين، من أجل تنقية الصف الداخلي من الأفكار الدخيلة، وتأسيس جبهة تضم المؤمنين بالفكرة والمشروع، من أجل عزل هذه المجموعات التي أدخلت فتنة الدم والدين على جماعة المسلمين.

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك