العقل والعلم بين عالم الغيب و عالم الشهادة

د. لحسن مبـركـي

مقدمة:

بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في بيئة عربية جاهلية مريضة، فجاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم برحمة ينور بها القلوب التي استبد بها الحقد والحسد والثأر والحمية الجاهلية، وحكمة يصلح بها العقول الماردة على الفطرة العابدة للأشجار والأحجار والبشر. كان الناس في تلقيهم لرسالة الإسلام أصنافا ودرجات. فمنهم من سارع إلى اعتناق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم. ومنهم من استبدت بعقولهم خرافات الجاهلية وسيطر على قلوبهم الران والغفلة. فكان هذا الصنف بحاجة إلى البراهين العقلية والأدلة المادية ليتلمس طريق الهداية. فجاء القرآن الكريم مسترسلا بالمعجزات الخارقات وبالآيات الباهرات التي أقنعت أهل مكة ومن حواليها بالدخول في دين الله الحنيف.

          وعلى خلاف العقل الأوربي الذي خبر الفلسفة وجرب العلوم وابتكر التكنولوجيا، كان العقل العربي حين البعثة عقلا ساذجا لكن عنيدا. إلا أن العقلان تساويا في الحيرة والتأله والبعد عن الفطرة.

          نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما أنزل وهو بغار حراء قوله تعالى:) اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى. إن إلى ربك الرجعى( (1).هذه الآيات الكريمات التي بدأ بها الوحي تضمنت أمرا وإخبارا وتنبيها وتذكيرا:

  • أمر إلهي بالقراءة والتعلم. قراءة وتعلم باسم الله وعلى هدى من الله.
  • إخبار بأن الله تعالى هو خالق كل شيء وخالق الإنسان في أحشاء بطن أمه، وليست الطبيعة ولا السلحفاة ولا القرد الذي تطور إلى نوع بشري كما ادعت " الداروينية التطورية ".
  • تنبيه إلى طبيعة الطغيان المتأصلة في نفوس البشر، والتي يجب محاربتها بالرجوع إلى الله سبحانه.
  • تذكير الإنسان بما ينتظره من موت وحساب وجنة أو نار.

هكذا  نشأ العقل  المسلم الرباني مؤمنا  بالله  مستجيبا لندائه بعبادته، قال تعال ى:  ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ((2)، وباستخلافه تمكينا للصالحين في أرضه، قال سبحانه: ) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئا. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ((3)

وعلى خطى العقل العربي الساذج، سار العقل الطبيعي الآلي ممتطيا متاهات الفلسفة و حرية العلوم، فتنكب عن الصراط المستقيم و انتصب لمعاداة الدين و محاربة الأخلاق. فكان لابد من إظهار اليقينيات الكونية و الشواهد العلمية في قالب إيماني يمكننا من إعادة العقل إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، وهي الوظيفة التي يستطيع علم الإعجاز العلمي في القرآن و السنة أن يتصدى لها قبل أي علم آخر .

 

I- نظرة الفلسفة والعلم الطبيعي للعقل:

استفاض رواد العلوم الإنسانية كما عباقرة العلوم " الطبيعية " في تناول العقل بالدراسة والتحليل، باذلين الجهود المضنية لمعرفة مكوناته واستكناه طرائق اشتغاله وبحث كيفيات توظيفه وإعماله.

1- الفلسفة : تأليه العقل وتسييد الطبيعة

يقرر "أرسطو طاليس" أن العقل عبارة عن جوهر قائم بالإنسان يفارق به الحيوان ويستعد به لقبول المعرفة.(4) هذا "الجوهر" هو الذي وظفه  " تشارلز داروين" وهو يبحث عن "أصل الأنواع"(5)، فتوصل بعد رحلته المشهورة إلى جزر "الجلاباجوس" إلى كون الصدفة هي خالقة الإنسان ما دام هذا الأخير ناتجا عن تطور حيوانات سابقة غير ناطقة نجحت في معركة الصراع مع الطبيعة وتفوقت في امتحان التكيف والتأقلم.

تبلورت النظرية التطورية عند داروين لما توصل إلى أن أجزاء الطبيعة المنعزلة عن القارة ملايين السنين في تلك الجزر طورت لنفسها نمطا خاصا للحياة يضمن لحيواناتها ونباتاتها الاستمرارية. كما أن السلحفاة طورت لنفسها عبر الزمن رئتين تمكنها من الغوص في البحر لالتقاط أعشابه بعدما افتقدت أعشاب اليابسة، وطورت عنقا طويلة لتصل إلى الشجيرات البعيدة.

هكذا يدور العقل  الفيلسوف في مدار منغلق عن الدين، منحبس عن الأخلاق، مرتميا في حبال التصور الدوابي للإنسان لما تحقق لديه أن هذا الدين عدو للعقل وضد للعلم.

هذه العقلية الفلسفية التي نسبت أصل الإنسان إلى القرد وأصل الطبيعة إلى الصدفة، وقبل العلم بفرضياتها ونظرياتها، وجدت في قهر الكنيسة وطغيانها وفساد سلوكات القساوسة المسوغ للثورة على الدين وإلغاء الغيب كليا من المعادلة. ويذكر أن "الداروينية" كمظهر من مظاهر ثورة بعض المثقفين الأوربيين على "الإله" جاءت ثلاثة قرون تقريبا من الحملة الواسعة في أوربا ضد فساد رجال الكنيسة.

 

2- العقل العلومي: التقدم العلمي والتقني وأسئلة الغيب المحيرة.

 حصر علم الحياة العقل في ملكة الإدراك والعلم بالأشياء اللذان يتمان بواسطة جهاز اسمه الدماغ البشري. وبهذا الحصر، يكون العقل مكونا مثل باقي مكونات جسم الإنسان، وتكون بالتالي وظيفته واحدة من بين وظائف تلك المكونات كالسمع والبصر والمشي واللمس والشم وغيرها.

إلا أن الأبحاث العلمية المهتمة بالمخ والجهاز العصبي بدأت تعمل على تصنيف العقل وتقسيم أدوار ووظائف أجزائه. ومن الذين بحثوا في هذا الاتجاه:

  • آدم سميث   :  " قوى العقل"   ' The powers of Mind '
  • بوب سامبلز: " العقل الرمزي"   ' The Metaphoric Mind '
  • ريتشارد م. رستاك: "المخ آخر خطوط الكشوفات"   ' The Brainz the Last Frontier '
  • صالي ب. سبرنجر: وجيورج دوتشك:  " المخ الأيسر والمخ الأيمن"   ' Brain Right Brain Left '

 

أ- " بوب سامبلز": العقل المنطقي و العقل الرمزي  

          خلص سامبلز في أبحاثه التي قام بها على المخ والجهاز العصبي إلى كون كرة المخ الموجودة في الجمجمة تنقسم إلى قسمين رئيسيين تتواصل عبر كتلة كثيفة من الخيوط العصبية التي تكون ما يسمى بالكالوسم : Carpis Callosum

-       يقوم نصف الكرة المخية الموجود في الجانب الأيسر بالقدرات العقلية التي تتطلب العمليات الحسابية والأبحاث الطبيعية في المادة.

-       ويقوم النصف الموجود في الجانب الأيمن بالعمليات العاطفية والوجدانية.

          بناء عليه، توصل –سامبلز- إلى أن في الإنسان عقلين:

  • § عقل منطقي Logical Mind، وهو الموجود في الجانب الأيسر، وتظهر آثاره في نتائج الأبحاث العلمية وقوانين الكون.
  • § عقل رمزي Metaphoric Mind في الجانب الأيمن، وتتجلى آثاره في الإلهام والإبداع الفني.

ومن صفات هذا العقل الرمزي " أن يتبعنا بعناد ويزعجنا بحضوره ونحن نتجول في الممرات العقلية. إنه الرباط الرمزي الذي يربطنا بالمجهول الذي يخبرنا عن الدين ويدفعنا لبناء المعابد. والمعابد تبنى بتخطيط العقل المنطقي.. ولقد سمى " أنشتاين" العقل الرمزي "الهدية المقدسة" بينما سمى "العقل المنطقي" "الخادم الأمين" (6).

                   فسامبلز عبر صراحة عن انزعاجه من العقل الرمزي الذي يتبعنا بعناد – حسب تعبيره –

          ب- ريتشارد فان سكوتر: خلل التوازن بين العقل المنطقي و العقل المجازي

          نفس الحيرة عبر عنها " ريتشارد فان سكوتر"  في تعليقه على نتائج التحليل التشريحي للعقل المنطقي والعقل المجازي الذي قام به " سامبلز ".

          فقد سجل " سكوتر " أن تواجد العقل المجازي في الإنسان إلى جانب العقل المنطقي أمر ضروري، وربما وجد هذا التوازن في فترات معينة من حياة الإنسان. ولكن الغالب على الجنس البشري أن يوجد أحد العقلين دون الآخر. فإذا وجد العقل المجازي غاب العقل المنطقي على وظائف الحياة وما زال الوصول للتوازن والتواصل بين العقلين بعيد المنال (7).

          ج- جون كارو إكليز ": وجوب الإيمان بالغيب

          أما " جون كارو إكليز " ، فالحقيقة التي توصل إليها هي أننا نعجز عن فهم حياتنا على الأرض ووجود الكون المحيط بنا، ونعجز عن الإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بحكمة هذا الوجود بوسائلنا المعرفية البشرية. لذلك فنحن بحاجة إلى معاودة الاتصال بمعارف الدين والوحي. فلقد ذهب العلم أكثر مما ينبغي في تدمير معتقدات الإنسان الروحية العظيمة متعللا بإنجازاته الكبيرة في العالم المادي. وأظن بأن المشكلة الرئيسة عند الإنسان الحديث هي قياداته الفكرية المصابة بالغطرسة وادعاء ما لا يستطيعون. يجب أن نؤمن بالغيب العظيم وصلاتنا به. يجب نفتح قلوبنا للمستقبل البعيد: مستقبل ما بعد الموت، فهذا الكون لا يجري دون هدف أو معنى، فنحن بشر متميزون بين المخلوقات ولكن لا نفهم سر وجودنا.(8)

وبهذا يكون الباحثون في تناولهم لموضوع المخ والدماغ والجهاز العصبي قد توصلوا إلى أن العقل يهتم بالمادة والروح، بالمحسوس والمجهول، بعالمي الشهادة والغيب. إلا أنهم حاروا في كيفية التوفيق بين العالمين، وطريقة تحقيق التكامل التام بين طرفي العقل، وسقطوا مقابل ذلك في لاييكية نابذة للدين. تحضر الحيرة ويغيب الجواب الشافي للعقول التائهة والقلوب الظامئة. يحضر السؤال ويغيب جواب الكيف.

          هذا العقل المعاشي فيلسوفا كان أو علوميا، لم يختلف كثيرا عن العقل العربي الساذج الذي كان مهيمنا زمن ظهور رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ذلك العقل الذي لم تمنعه سليقة اللسان ولا قوة البيان ولا شوكة السلطان من السقوط في دركات الانحطاط لما كان أشراف القوم يعتقدون أن التماثيل والأحجار، والنجوم والنار هي الآلهة الخالقة المانحة.

          لكن خلل العقلين واحد وهو البعد عن الفطرة وانغلاق بصائر هؤلاء وأولئك. قال عنهم الله عز وجل: ) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها( (9). ووصفهم القرآن الكريم بالدوابية في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: ) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون((.1) وقال تعالى: ) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يومنون ((11).

خلاصة:

- يتساوى عقل الإنسان الجاهلي وعقل الفيلسوف "التطوري" وعقل العالم الطبيعي في كون مبلغ معرفته ومنتهى قصده كيفية التعامل مع الكون ومع الماديات من حيث توظيفها باتجاه إشباع رغبات الإنسان المادية المحسوسة الملموسة. وما دام هذا العقل الآلي لا يفهم إلا لغة الملموس في عالم الشهادة الحسي، فإنه صم آذانه عن عالم الغيب، فغيب بذلك في حسبانه شق الروح وقيم الفضيلة والأخلاق وغيرها من المعنويات.

- وظيفة العقل الآلي الطبيعي " العلومي" هي التفكير والتدبير المنطقي في مجال الكونيات. إلا أن نفيه للغيب وعداءه للدين لا يمكنه من تجاوز حيرته المستمرة وهو يبحث عن أجوبة لأسئلته الوجودية عن الحال والمآل، عن الأشياء ومسبباتها، عن الحياة وما بعد الممات.

- العلم الحالي يرفض الدين ولا يتوافق مع الغيب والإيمان، لكن عدم قدرته على تحقيق السعادة الكاملة للإنسان اضطراه إلى  التعامل والتساكن مع عبدة الشيطان وطوائف الانتحار الجماعي ومخربي البشر بالأمراض المميتة الفتاكة. هذه الاتجاهات التي ارتمى الإنسان الغربي في أحضانها هربا من جفاء المادية وخواء العقلانية معنويا، برزت كبديل يائس لسد الفراغ الروحي الذي أحدثه انقطاع العقل عن منابع الإيمان.

 

II- صراع الدين / الفلسفة والعلم:

          نشأ "الفصام النكد"(12) بين الدين والعلم في أوروبا إبان القرون الوسطى لما تجاوزت الكنيسة مهام التوحيد والإرشاد، وتورطت في عمليات كبيرة للابتزاز حين أحدثت صكوك الغفران. ثم أخذت تلطخ سمعة "الدين" بما اقترفته من مجازر دموية في حق المعارضين وما أشعلته من محارق على مدى ستة قرون كان أتونها يستعر بما يرمى فيه من وقود بشري جله من العلماء الذين خرجوا عن عقيدة الكنيسة وأخذوا يخبرون عن حقائق العلم وفضائل المعرفة.

          هكذا بدأ الصراع بين علماء الفلك وفلاسفة التنوير من جهة وبين قساوسة القهر والاضطهاد من جهة، فاستتبع ذلك حتما، القطيعة بين دين محرف زاده تحريفا سلوك دعاته وصناديده وبين علم لا يؤمن إلا بالحقائق الطبيعية الملموسة وفلسفة جعلت الصراع ضروريا في كل شيء من أجل التطور والرقي. وبعد ذلك، عمم العلم والفلسفة موقف الرفض للدين على كل دين.

          ثم توجهت الكنيسة صوب العلماء لتصفيتهم ومنع اكتشافاتهم مخافة إيقاظها لعقول كانت تقبل بخرافات الكنيسة وابتزازها.  فكانت الكنيسة وقتئذ تحكم بالإعدام، وأحيانا بالحرق في الساحات العامة كل من يخرج عن تعاليمها، أو يأتي بآراء علمية، تخالف – في زعمهم- تعاليم الإنجيل !!.. ولمحاكم التفتيش في أوربة تاريخ حافل بالقسوة والغلظة والوحشية في مطاردة رجال الفكر، والفلسفة والعلم، والإصلاح في آرائهم...(13) فقد أحرقت الكنيسة من أحرقت وهم أحياء كـ "جون هس" سنة 1415م، و "جيروم البراجي"، و "جان دارك"، و "برونو" سنة 1598م... وسجنت "أبيلارد" و "روجر بيكون" و "جاليليو" قضى منهم من قضى في سجنه، وأحرق منهم من أحرق بعد موته... وقدر بعض المؤرخين العدد بما لا يقل عن تسعة ملايين من البشر (معظمهم من المسلمين الذين أخبروا على التنصر)(14).

          في هذه الحقبة، وجد الفلاسفة سبيلا لنقض الدين ورفض الغيب. وفي هذه الفترة نشأت لديهم القناعات التي تقضي بأن الدين أفيون الشعوب وبأن الغيبيات خرافات وبأن الإيمان عدو للعقل. وسار العلم في نفس الركاب مقترنا بفلسفة مادية تنطلق من  منطلقين أساسيين:

-         أولهما أن الإنسان حيوان ناطق خلق نفسه حين نجح في معركة الصراع مع الطبيعة.

-         ثانيهما أن الكون والإنسان مخلوقان من صدفة، وبالتالي فلا إله خالق ولا حياة بعد الموت.

لقد ساهمت الثورة على الكنيسة في تنشيط الحقل المعرفي وأدت الحرية الأكاديمية الناتجة عن تلك الثورة إلى تطور العلم، إلا أن هذا العلم ظل محصورا في الأشياء المحسوسة التي تدركها الحواس ويستطيع إثباتها المنهج العلمي التجريبي. وفي مقابل ذلك استقال هذا العلم من ساحة الغيبيات من إيمان وموت ونشور وجنة ونار وملائكة... هذا العلم وما أنجزه من مدنية وتقدم صم في الإنسان أذن سماع الإيمان وبصائر القرآن، وعجز عن الإجابة على الأسئلة الجوهرية: من خلق الإنسان؟ ولماذا؟ وما مصير الإنسان بعد الموت ؟

 

III- علم الإعجاز ورسالة الجمع بين عالمي الغيب والشهادة:

أسس العلم والفلسفة لمذهب طبيعي لما جعلا الطبيعة قاعدة بحثهما ومحور اشتغالهما. وقد ولدت وترعرت في أحشاء هذا المذهب قناعات عقدية وتيارات فكرية ونظريات إيديولوجية لها مقاصد مشتركة وأهداف موحدة. ولم يسلم من ذلك حتى العلم الحديث. ومن نتائج المذهب الطبيعي أنه أوقع العديد من البشر في شرك الطبيعة ووضعوا أرواحهم في أقفاصها حتى أصبحت عندهم إلاها  نسبوا له صفات الخلق والعلم والحكمة . لقد استولت الطبيعة على عقل الإنسان استيلاء مطلقا، وامتصت إيمانه امتصاصا تاما، بحيث أصبح خاوي القلب، صلب الطبع، وأصبح عقلا آليا، ميكانيكيا، لا يحس بالتوافق مع الكائنات المحيطة به، ولا بالإنسجام  مع روحه وكيانه، ولا بالالتئام مع بعضه البعض. كائن تائه مهجور، يحمل معاول الحفر في هذا الجانب حتى إذا أعياه ذلك ضرب في موطن آخر... يعكس الحيرة والدهشة والشك المتهور والاضطراب والشقاء الروحي الحاد (15).

1- وظيفة علم الإعجاز الأولى: الدلالة على الله عز وجل.

إن الغاية التي وجد وخلق من أجلها الإنسان أن يخلص العبادة لله عز وجل. ومن مظاهر هذه العبادة التقرب إلى المولى بالفرض والنفل، ولها أيضا مظهر كوني " موضوعه العلوم الطبيعية التي توفر للعالم المسلم دخول مختبر الآفاق وإبراز "معجزات العصر" "وبراهينه، وتوفير "الشواهد" التي تكشف عن عظيم صنع الله وقدرته، وتقنع المتعلم الجديد والأجيال الجديدة بوجوب محبة الخالق محبة كاملة وطاعته طاعة كاملة... وتطبيق هذا المظهر للعبادة يتطلب من التربية أن تدخل بالمتعلمين مختبر الكون لتعرفهم به وتوجههم إلى اكتشاف القوانين التي تنظم الكائنات الحية والطبيعية واكتشاف خصائصها (16)، الشيء الذي يؤدي إلى القناعة والتصديق واليقين ومعرفة الله عز وجل حق المعرفة.

2- علم الإعجاز ومهمة الوصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة :

من وظائف الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أن يبين أن المعرفة لا تنحصر في الظواهر الكونية كما يقرر ذلك العلم والفلسفة، بل تشتمل بالإضافة إلى العالم الحسي على عالم الغيب. فإذا كان الغيب – في الإسلام- وجود وراء محسوس ما زال مغيبا عن المشاهدة (17)، فإن عالم الشهادة هو الوجود الكوني الذي تم بروزه ومشاهدته بالحواس، وهو ينقسم إلى قسمين: ميدان الأنفس، وميدان الآفاق(18). وإلى هذين الميدانين أشار الله تعالى في قوله سبحانه : ) سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم الحق. أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ( (19). والعلاقة بين العالمين علاقة متكاملة لأن أدلة عالم الغيب موجودة في عالم الشهادة،وتنتقل من هذا الأخير إلى عالم الغيب بانتظام واطراد؛ ولأن المخلوقات تظهر من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. الأمر الذي يهيئ فرصا ومناسبات كثيرة للبحث العلمي والاكتشاف. إجمالا، وظيفة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية كعلم ناشئ، أن يتصدى لمهمة جليلة وأمر عظيم وهو الوصل بين العلم التائه والدين المنقذ، والربط بين العقل المارد والقلب الحي، والتوفيق بين عالم الشهادة وعالم الغيب.

3- من وظائف علم الإعجاز: اعتبار الأخلاق في العلوم.

بعد أن ينجح علم الإعجاز في تحقيق المصالحة بين عالمي الغيب و الشهادة ، يكون في مرحلة لاحقة قد شق طريقه نحو إدخال الاعتبار الأخلاقي في العلم لأن الحضارة الغربية الحديثة ببعديها العقلي و القولي ، و شقيها المعرفي و التقني وإن قصدت تلبية حاجات الإنسان المختلفة و المتزايدة ، فإنها تضر بأخلاقياته بقدر  يهدد إنسانيته (20). هذا الإضرار تجلى في الإصرار على ضرب القيم والتعالي على القدرة الإلهية حين ابتكر العلم ما سمي بالاستنساخ ، فتراءت للعقل المعاشي المتأله إمكانية خلق الإنسان . أنى لهم، وسبحان الله أحسن الخالقين .

حين تسكن الأخلاق النبيلة مخابر العلوم وتستوطن قلوب الباحثين ، سنكون بإزاء معنى العلم النافع  – حسب تصور علماء الأمة – الذي يكون باعثا على العمل ، ولا يصلح أي عمل إن لم يبن على علم نافع (21). والعلم في الإسلام يشمل كل علم نافع سواء أكان العلم دينيا أو كان دنيويا، نظريا أو تجريبيا، فرض عين أو فرض كفاية ...ما دام أنه في خدمة الدين والدنيا، ومادام أنه لرفع منار المدنية والحضارة، ومادام أنه واضح لصالح الحياة والإنسانية(22).

إنهما تحديان كبيران مطروحان على علم الإعجاز: تجاوز الفصام بين العلم والدين، وردم الهوة بين العلم والأخلاق. هاذان التحديان يتطلبان عقلا خاصا يجب أن نبحث في خصائصه ومميزاته .

4- الرحمة والحكمة: تكامل القلب الرباني والعقل الراشد.

لقد تاه العقل لما شرد عن معين الوحي و انفصل عن الدين وفطم نفسه عن الأخلاق ، فكان لابد من مجهود يعيده إلى الفطرة . ثمرة هذا المجهود أن تستبدل العقلانية المادية المتألهة بعقلانية ربانية تستقي من عقل سليم يكون مصدره قلب ينظر بنور الله في الأكوان و الأنفس. وإرجاع العقل إلى هذا الصواب كان من الهموم التي انشغل بها الفلاسفة المسلمون مثل "الكندي" و"الفارابي" و "ابن سيناء" و "ابن رشد" وغيرهم ، حين سعوا إلى تجسيد شعار"صرف الشريعة إلى الحكمة". إلا أن هذه المعادلة الدمجية التي عملت على إلحاق الأصل بالفرع لم تختلف في خطئها وانزلاقها عن الصيغة التفريقية لفلاسفة الفصل التام بين الدين والعلم وبين الدين والدنبا.

لم يهتد الفلاسفة المسلمون إلى الحل السليم الذي يكمن في كون حكمة العقل المسلم يجب أن تستقى من رحمة القلب المؤمن لتمنعها هذه الأخيرة من اتباع الأهواء والانزلاقات، و لكي تصقل النتائج العلمية وثمار الاكتشافات.

لا يستقيم العقل ولا تنفع أبحاثه إذا لم يعد إلى الفطرة ليستقي من كتاب الله عز وجل الذي أخبر بأدوار العقل ووظائفه وحددها في التفكر والتدبر والتفقه والنظر في الأكوان والأنفس :

* يتكرر فعل "عقل" (بمعنى: ربط الأفكار بعضها ببعض ... حاكم ..فهم البرهان العقلي) يتكرر في القرآن حوالي خمسين مرة، ويتكرر ثلاث عشر مرة هذا السؤال الاستنكاري ، وكأنه لازمة "أفلا تعقلون" ؟ ! (23). هذا التكريم الإلهي للعقل اعترف به حتى الأعداء. فها هو الكاتب الماركسي "مكسيم رودنسون" يقول في حديثه عن"العقيدة القرآنية" :"القرآن كتاب مقدس تحتل فيه العقلانية مكانا جد كبير، فالله لا ينفك فيه يناقش  ويقيم الراهين. بل إن أكثر ما يلفت النظر هو: أن الوحي نفسه – هذه الظاهرة الأقل اتساما بالعقلانية في أي دين، الوحي الذي أنزله الله على مختلف الرسل عبر العصور،وعلى خاتمهم محمد – يعتبره القرآن هو نفسه أداة للبرهان ،فهو في مناسبات عديدة، يكرر لنا أن الرسل قد جاء واب "البينات"..وهو لا يألو يتحدى معارضيه أن يأتوا بوحي مثله؟.(24)

* وذكرت مادة "قلب" في القرآن الكريم أزيد من 130 مرة مامنها لفظة واحدة تشير الى "القلب" ذاك العضو الذي يضخ الدم في الشرايين، بل كلها تدل  على القلب الذي يكون منبعا للإيمان.

* وذكرت مادة " فقه " في القرآن الكريم 20 مرة، ومادة " فكر " 18 مرة.

هكذا تأتي كلمة " عقل " في القران الكريم مرادفة لكلمات " التذكر " و " التدبر " و" التبصر "... وهي تدل بوضوح على معان لها تعلق بالمغيبات . (25) وباجتماع هذه القدرات فقط: قدرة " الفقه " وقدرة " التفكر " وقدرة " التدبر " وقدرة " التفقه " يتمكن الإنسان من استثمار نعمة العقل لتكون أداة توصل إلى معرفته سبحانه وتعالى، وليتدبر من خلالها آيات الله في الكتاب – ليهتدي بها وليشهد آياته في الآفاق فيشهدها وينتفع بها.(26)

بهذا العقل المستنير بنور الله المسترشد بهدى من الله الصافي الطاهر بذكر الله، يتمكن الإنسان من التغلب على طاغوتي النفس والطبيعة.(27) ومن تم يستطيع هذا الإنسان أن يتجاوز أشكال الدنيا وماديتها وبهرجتها، إلى الإيقان بما بعد الحياة الأولى من سؤال منكر ونكير، وبعث ونشور، وخلود في نعيم مقيم أو في عذاب وجحيم –نعوذ بالله-

تاه الفلاسفة وغفل العلماء الطبيعيون لما انسدت قلوبهم وانغلقت عن تلقي الإيمان. وواؤها هو تسليمها وترقيقها بذكر الله لتكون هادية للعقول، فاتحة لمغالقه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)    سورة العلق. الآيات من 1 إلى 8.

2)    سورة الذاريات. الآية 56.

3)    سورة النور. الآية 55.

4)    طه عبد الرحمان : سؤال الأخلاق : مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء،،2000 ص 62.

5)    هو عنوان كتاب داروين الذي نشره سنة 1830م.

6)    ماجد عرسان الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية (سلسلة أصول التربية الإسلامية 1) مؤسسة الريان - بيروت - 1998، ص. 267 – 268.

7)    المرجع السابق، ص. 269.

8)    المرجع السابق، ص. 274.

9)    سورة محمد. الآية : 39.

10) سورة الأنفال. الآية : 22.

11) سورة الأنفال. الآية : 76.

12) التعبير لأبي الحسن الندوي الذي فصل فيه أسباب الفصام بين الدين والعلم في كتابه " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟ "

13) يوسف القرضاوي، "الدين في عصر العلم" (سلسلة رسائل ترشيد الصحوة 1) مطبعة المدني، 

     المؤسسة السعودية بمصر، 1990، ص 44.

14) من كتاب "الدين والسلوك في الإسلام" لمصطفى السباعي رحمه الله.

15) محمد خروبات، خلاصة في نقد الفكر الطبيعي، قراءة في كتاب "الطبيعة" مع مقالة في بناء الإنسان عند بديع الزمان النورسي، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ص.21.

16) ماجد عرسان الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية، ص. 86.

17) رشيد رضا، تفسير المنار (سورة البقرة،  4)

18) ماجد عرسان الكيلاني، مرجع سابق ص 243.

19) سورة فصلت. الآية 54.

20) طه عبد الرحمان، سؤال الأخلاق، ص 145.

21) المقدمة، الشاطبي في الوافقات.

22) عبد الله ناصح علوان، معالم الحضارة في الإسلام. ص 15.

23) المقدمة، الشاطبي في الموافقات.

24) مكسيم رودنسون، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزيه الحكيم. نشر دار الطليعة، ص 134.

25) طه عبد الرحمان، مرجع سابق، ص. 75.

26) المرجع السابق. ص. 254.

27) بديع الزمان النورسي في مقدمة كتاب "المثنوي العربي النوري" : جاء فيه بكلمة معبرة "إن هذه ثلاثون سنة لي مجادلة  مع طاغوتين وهما: "أنـا" في الإنسان، و"الطبيعة" في العالم. (تحقيق إحسان قاسم الصالحي، 1988 –مطبعة الزهراء- العراق).

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/65710

الأكثر مشاركة في الفيس بوك