مشروعنا السياسي .. البنية السياسية للدولة

زهير سالم

لفظ (الخلافة) مصطلح تاريخي وفي دولة المؤسسات لا أحد يتمتع بمكانة الفاروق أو الرشيد

(خليفة رسول الله) هو المصطلح الذي توافق المسلمون على إطلاقه على أميرهم أبي بكر بعد البيعة الكبرى. وعندما أخطأ أحد الأشخاص ونادى على الأمير الجديد (يا خليفة الله) صحح له الأمير المرهف رضي الله عنه: (لست خليفة الله وإنما أنا خليفة رسول الله).

والخليفة هو الرجل الذي يخلف الرجل في أهله أو ماله أو في كل أمره. وحين جاء عهد عمر رضي الله عنه وأراد المسلمون أن يلقبوه قالوا (خليفة خليفة رسول الله)، ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إن هذا الأمر يطول فقال بعضهم نلقبه (أمير المؤمنين) ثم جرت العادة في كتب التاريخ أن يسموا صاحب الأمر (الخليفة) مقطوعاً عن الإضافة أو (الإمام)، وينادونه بأمير المؤمنين..

هذا الرواية المستفيضة في كتب (التاريخ والسير) تؤكد أن اختيار لقب (الخليفة) لم يكن أمراً (توقيفيا) كما يزعمه البعض اليوم، بل كان أمراً اجتهادياً تشاورياً بين المسلمين رأوا فيه مصلحتهم فتوافقوا عليه. ولو كان هناك نص ثابت بتسمية صاحب الأمر بالخليفة لما اختلف الناس أولاً، ثم لما تشاوروا إذ لا شورى في مورد النص كما تعودنا أن نقول.. ولعل جملة الأخبار والروايات الحديثية التي ورد فيها لفظ (الخليفة والخلفاء والخلافة..) على ندرتها وتفاوت درجات ثبوتها، قد رويت أصلاً بالمعنى حملاً على ما تعارف عليه بعدُ الناس، واشتهر على ألسنتهم، على الرغم من ترددهم في وصف الرجل الأول بين (الإمامة والخلافة).

بل إن لفظ (الإمام) بعيداً عن التعسف الشيعي في توظيفه، أكثر دوراناً في نصوص الحديث الصحيح منها ما ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله حيث كان أولهم (إمام عادل..) ومنه على سبيل التمثيل العاجل حديث الرعاية الشاملة (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وبدأ بالرجل الأول ولقبه إماما فقال (فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته..).

وفي حين ذهبت شراذم أهل التشيع على القول بانتقال الإمامة بالوراثة أو بالنص، على اختلاف كبير بينهم في المنصوص عليه أو فيمن (نص) وطرائق النص فقد أجمع فقهاء أهل السنة والجماعة ومؤصلوهم على أن الأمة هي المرجع في الولاية. وإلى اختيارها يرجع الأمر كله…

“التطور التاريخي الذي حدث في وظيفة الدولة وبنيتها وآليات عملها هو تطور إنساني عام كالذي حصل في ميدان العلوم والاختراعات، ومن حقنا أن نعمل معطيات عصرنا في بناء بنيتنا السياسية”

ثم إن الذي يجب أن يكون واضحا أن عظيم ما أنجزه الخلفاء العظام إنما كان عطاءَ نفوسهم العظيمة التي تربت على يدي النبي العظيم، وليس من عظمة الترتيبات السياسية الأولية التي بنى عليها المسلمون بناءهم. ولا يجوز لنا أن ننسى ونحن نقرأ بشغف منجزات أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وعبد الملك والوليد وعمر الثاني والمنصور والرشيد والمأمون والمعتصم والفاتح أن هذه الترتيبات السياسية نفسها سمحت بوقوع فظائع مثل كربلاء والحرة وقتل مئات العلماء مثل سعيد بن جبير بعد ثورة ابن الأشعث التي عُدت ثورة القرّاء والفقهاء، ثم في خلافة مثل الوليد بن اليزيد أو مثل الكثير من الخلفاء الضعفاء والظلمة أيضاً الذين قيل في أحدهم يوماً (المهتدي العباسي)

خليفة في قفص… بين وصيف وبغا

يقول ما قالا له… كمـا تقول الببغا

إن الإسلام الذي حدد العدل مقصداً عاماً من مقاصد شريعته. والتي ألحت عليها الكثير من نصوص هذه الشريعة ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ))، وجعل الشورى قاعدة أساسية في نظامه السياسي ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ))؛ لم يفرض بل لم يقترح على المسلمين أي شكل من أشكال الحكم يحقق مقاصده الكبرى.

إن الذي يجب أن يتأمله المسلمون ملياً، ولاسيما جيل الشباب منهم، هو مغزى أمر رسول الله الواضح: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قالها مراراً، وسكوته المقصود –من غير خطأ ولا نسيان ولا قصور في البلاغ– عن تسمية الخليفة أو الإمام أو الرجل الأول الذي يليه في أمر الناس..؟!

إن التطور التاريخي الكبير الذي حدث في وظيفة الدولة وفي بنيتها وفي آليات عملها هو تطور إنساني عام كالذي حصل في ميدان العلوم والفنون والاختراعات والصناعات. فقد كان ما لم يعلم آباؤنا من وسائل المواصلات التي وعدنا الله بها حين عدد عليهم: الخيل والبغال والحمير وقال (ويخلق ما لا تعلمون) فركبنا الطائرة والقاطرة والسيارة، وكان ما لا نعلم من وسائل الكيد والحرب ففهمنا قوله ((وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ…)) وقوله (الخيل مربوط بنواصيها الخير) برمزيته فاصطحبنا البارودة وركبنا الدبابة والمدفع…. فأي معنى يبقى، إذا وصلنا إلى الأمر الأخطر والأهم في حياة الناس (الإمامة العظمى) أن نحجّره ونجمّده في قالب تاريخي نأبى أن نحوّل عنه…؟!

“المفارقة الكبرى بين ما أسست له شريعة الإسلام وما تتبناه الدولة الحديثة هو في (وظيفة الدولة) وليس في بناها ولا في آلياتها، وهذا ما يجب أن يفكر المجتهدون فيه”

أعمل المسلمون الأوائل حكاماً وفقهاء وعامة معطيات عصورهم في بناء (بُنيتهم) السياسية، ومن حقنا بل من واجبنا أن نعمل معطيات عصرنا في بناء بنيتنا السياسية. لم يكن للشورى في عهد الراشدين ولا في أي عهد جاء بعدهم صورتها الناطقة المعبرة لا في شكلها ولا في مضمونها وإنما كان معيارها وضابطها تقوى الله في نفس حاكم إنسان وعوامل كثيرة لم يعد من السهل في هذا العصر التعويل عليها والبناء على معطياتها…

ومع حبنا وتقديرنا للعمرين ولابن عبد العزيز وللرشيد وبنيه لا يمكن لمسلم واع في هذا العصر أن يدعو إلى اختيار حاكم على طريقة اختيار أولئك الرهط الكرام ولا بصلاحياتهم…

إن (الدولة الحديثة) بمؤسساتها ومعطياتها هي إنجاز إنساني لكل البشر. وحظ الفقه الحضاري الإسلامي في الخلفية الثقافية الذهنية لمؤسسيها ليس قليلاً، حتى يكاد الفقيه المسلم حين يتقلب في حجراتها أن يقول: بضاعتنا ردت إلينا..

ربما تكون المفارقة الكبرى بين ما أسست له شريعة الإسلام وما تتبناه الدولة الحديثة اليوم هو في (وظيفة الدولة) وليس في بناها ولا في آلياتها. وهذا ما يجب أن نمسّك به ونعيه، وذلك ما يقتضي أن يفكر العلماء المجتهدون فيه.

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9%D9%86%D8%A7-...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك