التواصل الحضاري والتفاهم بين الشعوب

التواصل الحضاري والتفاهم بين الشعوب

مقدمة

يَتَزايَدُ‮ ‬اهتمام المجتمع الدولي‮ ‬بدعم الجهود المبذولة على أكثر من صعيد،‮ ‬من أجل تعزيز الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات والتعايش بين الشعوب،‮ ‬من منطلق الحرص على بناء عالم جديد تسودُ‮ ‬فيه قيمُ‮ ‬التسامح المبنيِّ‮ ‬على‮ ‬‮ ‬الاحترام المتبادل،‮ ‬وعلى اعتماد مبادئ الحق والعدل والمساواة وحقوق الإنسان قاعدةً‮ ‬ومنهجاً‮ ‬للعلاقات الدولية،‮ ‬وطوقَ‮ ‬نجاةٍ‮ ‬للإنسانية ممّا تتخبَّط فيه من مشكلات وأزمات وتوتّرات تهدّد الأمن والسلم في‮ ‬العالم‮.‬

ولما كان الحوار بين الثقافات هو المدخل إلى التواصل الحضاري‮ ‬الذي‮ ‬هو الأساس في‮ ‬بناء التفاهم الإنساني‮ ‬بين الشعوب،‮ ‬فإنَّني‮ ‬اهتممت بالبحث في‮ ‬مفهوم التواصل الحضاري‮ ‬ودلالاته،‮ ‬وتحليل عناصره الرئيسَة،‮ ‬وربطت بين التواصل الحضاري‮ ‬وبين الحوار الثقافي‮ ‬والتحالف الحضاري،‮ ‬وأمعنت النظر‮ ‬في‮ ‬الوضع الدولي‮ ‬من هذه الزاوية،‮ ‬وفي‮ ‬هذه المرحلة بالذات،‮ ‬من خلال الرؤية الحضارية الإسلامية إلى التواصل،‮ ‬باعتباره مفهوماً‮ ‬يعزّز المفاهيم الحديثة للتعايش بين الشعوب على أساس متين من القيم الإنسانية المشتركة‮.‬

ولقد كانت‮ ‬الدعوة التي‮ ‬وجّهت لي‮ ‬من الرابطة الإسلامية في‮ ‬الدانمارك،‮ ‬لإلقاء محاضرة في‮ ‬كوبنهاجن حول موضوع‮: ‬‮"‬التواصل الحضاري‮ ‬وأثره في‮ ‬تدعيم التفاهم بين الشعوب‮"‬،‮ ‬في‮ ‬يوم‮ ‬14‮ ‬رمضان‮ ‬1431‮ ‬هـ‮ ‬‮/‬‮ ‬24‮ ‬أغسطس‮ ‬2010‮ ‬م،‮ ‬مناسبة طيبة أُتيحت لي‮ ‬لأخاطب باللغة الإنجليزية،‮ ‬جمهوراً‮ ‬من المثقفين من مشارب مختلفة وعدداً‮ ‬من المسؤولين الدانماركيين وسفراء الدول الإسلامية،‮ ‬في‮ ‬هذا الموضوع المهمّ‮ ‬الذي‮ ‬يثير اهتمامات الرأي‮ ‬العام العالمي،‮ ‬خاصة اهتمامات النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية التي‮ ‬تعنى بهذا الموضوع الثقافي‮ ‬المهمّ‮.‬

إنَّ‮ ‬التواصل الحضاري‮ ‬في‮ ‬مفهومه الدلالي،‮ ‬وفي‮ ‬مضمونه الفكري‮ ‬والثقافي،‮ ‬هو إقامة الجسور بين الثقافات والحضارات،‮ ‬من خلال تقوية الروابط التي‮ ‬تجمع بين الشعوب،‮ ‬باعتبار أن التواصل من حيث هو،‮ ‬إنما‮ ‬يكون بين الأفراد والجماعات،‮ ‬بتبادل الأفكار ومناقشة الآراء وبالبحث المشترك عن الحلول للمشاكل القائمة التي‮ ‬تعاني‮ ‬منها الشعوب والأمم‮. ‬فالتواصل الحضاري‮ ‬الذي‮ ‬هو أساس التحالف بين الحضارات من وجهة النظر العملية،‮ ‬هو من أقوى الوسائل المتاحة لإصلاح شؤون العالم،‮ ‬وللإسهام في‮ ‬إنقاذ الأسرة الإنسانية ممّا تتخبط فيه من مشكلات تَتَراكَمُ‮ ‬وأزمات تَتَفاقَمُ،‮ ‬فشلت السياسة الدولية حتى الآن،‮ ‬في‮ ‬إيجاد تسوية عادلة وحلول ناجعة وحاسمة لها،‮ ‬بالدبلوماسية التقليدية،‮ ‬وبالأساليب الاعتيادية التي‮ ‬تفتقر‮ ‬غالباً‮ ‬إلى الصدق والجدّية والإخلاص،‮ ‬وتفتقد الروحَ‮ ‬الإنسانية والنزاهة الأخلاقية‮.‬

لقد‮ ‬كانت الفكرة الأساس التي‮ ‬دارت حولها هذه المحاضرة التي‮ ‬أنشرها اليوم بثلاث لغات؛ العربية،‮ ‬والإنجليزية،‮ ‬والفرنسية،‮ ‬أن التواصل الحضاري‮ ‬باعتباره‮ (‬تفاعلاً‮)‬،‮ ‬هو تبادل‮ (‬الوصل‮) ‬ــ لا القطع ــ بين طرفين أو مجموعة أطراف،‮ ‬بحيث‮ ‬يصل كلّ‮ ‬طرف إلى الطرف الذي‮ ‬يقابله أو‮ ‬يرغب في‮ ‬الاقتراب منه والتعاون معه‮. ‬وهذا الضرب من التواصل الإنساني‮ ‬الراقي،‮ ‬إنما‮ ‬ينبثق من الإرادة الجماعية والرغبة المتبادلة والإحساس المشترك بالحاجة إليه باعتباره ضرورة من ضرورات التعايش والتفاهم بين الشعوب‮.‬

إنَّ‮ ‬التواصل أيَّا كان،‮ ‬ومن حيث المبدإ،‮ ‬هو سلوك حضاري،‮ ‬بالمفهوم العميق للحضارة‮. ‬والعالم اليوم في‮ ‬أشدّ‮ ‬الحاجة إلى هذه الأنماط من السلوك والممارسات المتحضرة التي‮ ‬من شأنها أن تخفّف من أجواء التوتر التي‮ ‬تسود المجتمعات الإنسانية،‮ ‬وتفتح المجال أمام تعزيز التعاون الدولي‮ ‬على طريق حوار الثقافات وتحالف الحضارات،‮ ‬تدعيماً‮ ‬للسلام العالمي،‮ ‬وتمكيناً‮ ‬للقانون الدولي‮ ‬من التحكَّم في‮ ‬ضبط مسار العلاقات بين الأمم والشعوب،‮ ‬وفقاً‮ ‬لأحكامه ومبادئه‮.‬

لقد أتيحت‮ ‬الفرصة لي‮ ‬للحديث إلى نخبة من المسؤولين‮ ‬والسياسيين‮ ‬في‮ ‬تلك الأمسية الرمضانية،‮ ‬ووسط أجواء التوتّر التي‮ ‬تسود العالم،‮ ‬وتهيمن على علاقات العالم الإسلامي‮ ‬بالغرب،‮ ‬وبالدانمارك بصورة خاصة،‮ ‬نتيجة لما خلفته الرسوم الكاريكاتورية المشينة،‮ ‬التي‮ ‬أثارت‮ ‬غضب المسلمين في‮ ‬كلّ‮ ‬مكان ــ اخترت أن أتحدث حول هذا الموضوع،‮ ‬لغرضين اثنين؛‮ ‬أولهما‮ ‬أنَّ‮ ‬الجهود التي‮ ‬بذلت على الصعيد الدولي‮ ‬لتعزيز ثقافة الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات،‮ ‬هي‮ ‬اليوم في‮ ‬حاجة إلى إسناد ثقافي‮ ‬ودعم فكري‮ ‬على أكثر من صعيد،‮ ‬من خلال طرح تصوّرات جديدة واعتماد مقاربات مبتكرة تعطي‮ ‬لهذه الجهود دفعة قوية‮. ‬وثانيهما‮ ‬أن صورة العالم الإسلامي‮ ‬في‮ ‬الغرب،‮ ‬ليست كما نريدها أن تكون،‮ ‬ولا هي‮ ‬تعبّر عن حقائق الأمور،‮ ‬ولا تعكس الرؤية الإسلامية إلى التعامل مع الآخر من منطلق الإحساس بالأخوة الإنسانية والشعور بالمسؤولية المشتركة إزاء الأوضاع التي‮ ‬يجتازها العالم اليوم،‮ ‬ممّا‮ ‬يقتضي‮ ‬بذل الجهد من أجل تصحيح المعلومات عن الإسلام،‮ ‬وعن الحضارة الإسلامية،‮ ‬وعن العالم الإسلامي،‮ ‬بلغة تجلي‮ ‬الحقائق ويفهمها العالم‮.‬

أعتقد أن مخاطبة الغرب بلغته،‮ ‬وبمنطقه،‮ ‬وبالأسلوب العقلاني،‮ ‬تلبّي‮ ‬حاجةٌ‮ ‬ماسَّةٌ‮ ‬تقتضيها طبيعة الوضع الحالي‮ ‬الذي‮ ‬وصلت إليه علاقات العالم الإسلامي‮ ‬مع الغرب،‮ ‬ليس بالمفهوم الجغرافي‮ ‬فحسب،‮ ‬بل بالمعنى الثقافي‮ ‬الشامل والمدلول الحضاري‮ ‬العميق‮. ‬ولقد كانت هذه المحاضرة خطوة في‮ ‬هذا الاتجاه،‮ ‬إذ صحّحت بعض المفاهيم،‮ ‬وقدمت صورة واضحة المعالم للموقف الذي‮ ‬يتخذه العالم الإسلامي‮ ‬من قضايا العصر،‮ ‬وللرؤية الحضارية الإسلامية إلى الأوضاع الدولية،‮ ‬وأوضحت جانباً‮ ‬من الحقائق التي‮ ‬تغيب عن الرأي‮ ‬العام الغربي‮ ‬بخصوص معاناة الشعب الفلسطيني‮ ‬وبشاعة الاحتلال الإسرائيلي‮ ‬وعدوانه على حقوق هذا الشعب المضطهد‮. ‬كما تحدثت عن قضايا أخرى تشغل اهتمامات الرأي‮ ‬العام الدولي‮.‬

واللَّه الموفق والهادي‮ ‬إلى سواء السبيل‮.‬

الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
المصدر: http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/la%20communication%20civilis...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك