التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده

الدكتور عباس محجوب

 

من البديهيات أن نقول: إن التربية قد ارتبطت بظهور الإنسان على الأرض، وإحساسه بنفسه، وتعامله في نطاق الأسرة ثم الجماعة.

ويحدثنا مؤرخو التربية أن الصغار كانوا يتعلمون من الكبار في المجتمعات الأولى عن طريق التقليد والمحاكاة، أو عن طريق المشاركة فيما يقوم به الكبار سعيا وراء ضروريات الحياة، بطريق عفوية يهيئ الأطفال عن طريقها لاكتساب المهارات العملية في الحياة.

والقرآن الكريم يحدثنا أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد البشر تربويا بتعليمهم منذ أن خلق سيدنا آدم وأودع فيهم القوى والطاقات التي تمكنهم من استعمار الأرض وإظهار ما أودع الله فيها من كنوز وخيرات؛ فكان الإنسان هو الخليفة الذي سلم أمر الأرض إليه، وأعطي من العلم ما ييسر له استعمال خاصية اللغات برموزها وإشاراتها إلى الأشياء والأشخاص وإعطائها المسميات التي تميزها، وهذه القدرة التي أودعها الله في الإنسان هي سر من أسرار تكريمه للإنسان على كثير ممن خلق، وترفعه إلى المعرفة والعلم فوق درجات الملائكة هي درجة مسؤوليات الخلافة في الأرض؛ يقول الله تعالى:  {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[1].

ففي هذه الآيات نلمح بوادر التربية الإلهية للإنسان ممثلا في سيدنا آدم الذي كرمه الله، وعلمه مسميات الأشياء، ووكل إليه تحمل مسؤولية المواجهة للغواية ووسوسة الشيطان والمحافظة على عهد الله، ثم ما أعقبت المعصية من تنبه ويقظة وندامة وحسرة، وما ترتب على هذه التجربة من طلبٍ للمغفرة وتوبة إلى الله؛ كل ذلك ليستفيد الإنسان منها على الأرض مكان الخلافة التي خلق لها وأنزل إليها مزودا بتجارب متهيئة لمواجهة أعدائه في الأرض: النفس والشيطان.

فالتجربة التربوية الأولى كانت من عند الله سبحانه، وفي غير الأرض، ثم تتعدد التجارب التي تربي الإنسان في الأرض في أحداث القرآن، وبسائل خارجة عن تجارب البشر ومعارفهم، فإذا كانت التجربة الأولى ممثلة من خليفة الله في الأرض للخير وإبليس رمزا للشر؛ فإن التجربة تتكرر في أول جريمة على هذه الأرض من ابني آدم قابيل وهايبل، وهذه التجربة توضح أن وسائل التربية للإنسان ليست هي التحذير والموعظة والتذكير دائما؛ إذ إن النفوس تتباين وتختلف، ولابد تبعا لذلك من اختلاف الوسائل والطرق التربوية؛ يقول الله تعالى:  {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[2].

فالقصة تعلمنا أن النفس الشريرة إذا ما اندفعت في اتجاهها تطوع للإنسان كل جريمة من إزهاق روح بريئة، كما أن حيرة القاتل تظهر حداثة التجربة وجدتها في الأرض، وتظهر عجز الإنسان أمام التجارب والأحداث الجديدة في حياته مهما كانت قوته وجبروته وبطشه، ما لم تتعده التربية بالتهذيب والتعليم والتوجيه لطاقاته وخبراته الوجهة الصحيحة.

وكانت وسيلة التعليم والتربية في القصة أن بعث الله خلقا من مخلوقاته هو الغراب؛ ليظهر للإنسان ضعفه ويعلمه كيف يدفن أمواته.

وسواء أقتل الغراب غرابا آخر معه ثم حفر له أو جاء إلى غراب ميت فدفنه؛ فإن الله هو الذي أودع هذه الغريزة في هذا الحيوان ليعلم الإنسان وليأخذ منه العظات والعبر، وليكون وسيلة أيضا لبيان أحكام شرعية تتعلق بحماية الإنسان في الأرض.

وقد أدرك سيد البشر صلى الله عليه وسلم الناحية التربوية في هذه القصة؛ فوجه المسلمين إليها وقال:  "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلا؛ فخذوا بالخير منهما"، كما قال:  "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم".

والقرآن مليء بنماذج كثيرة تدل على المواقف التربوية في حياة الأنبياء والأمم التي تعاقبت على الأرض قبل الرسالة المحمدية التي جاءت خاتمة للرسالات، كاملة الأسس والأهداف والنظريات التربوية.

ويذكر مؤرخو التربية الحديثة أن البشرية قد عاشت آلاف السنين وهي لا تعرف التربية المنظمة التي نمارسها في مدارسنا أو معاهدنا التي تعتبر الأماكن المخصصة لممارسة عملية التربية، وإذا كانت التربية الأولية أو البدائية لا تمارس في حجرات الدراسة فإنها كانت تمارس في واقع الحياة من خلال المهارات التي يتعلمها الفرد عن طريق المحاكاة والتقليد من خلال ممارسات الزراعة والصيد وغيرهما، أو من خلال المعلومات التي تتبادلها الناس في حياتهم، ولم تكن تلك المهارات والمعلومات من التعقيد بمكان؛ نسبة لبساطة الحياة وقلة الحضارة وبدائية الثقافة وغير ذلك من المكونات التراثية في حياة الأمم.

وكانت التربية آنذاك من وظيفة الآباء والمجتمع الصغير الذي يعيش فيه الفرد، وكان لابد لهذه التربية البدائية من أن تتطور بتطور البشرية في سلوكها ومهاراتها ومعارفها وحضارتها، وكان لابد أن يتبع التطور والتغيير في حياة الناس المادية تطور في الأفكار والاتجاهات واختلاف وجهات النظر في أمور الحياة وطرقها ومعيشة الناس وقيمهم وأخلاقياتهم.

وتبع هذا التطور الحاجة إلى جماعة من المجتمع يهتمون بالأبناء ويقومون بواجب التربية والتعليم نيابة عن الآباء والأسرة؛ فظهر المعلم الذي يعلم أبناء مجتمعه في مكان ما من البيئة، ثم تطور الأمر إلى وجود أماكن مخصصة يتعلم فيها الأبناء أصول القراءة والكتابة وما وصلت إليه الأمة من تراث يمثل تاريخها وشرائعها، ولذلك كله نجد في بلاد الصين قبل خمسة آلاف سنة مدارس تنتشر في القرى في مبان ضيقة لا تزيد عن حجرة أو في أركان المعابد، ويتعلم الأطفال فيها الكتابة وبعض الأشعار ومبادئ الحساب، ولم تكن هناك صلة أول الأمر بين لغة التخاطب ولغة التعليم، وينتقل الطلاب من مرحلة دنيا إلى مرحلة عليا يدرسون فيها التاريخ والفلسفة والدين والشؤون الزراعية والحربية، ولأن التربية كانت خاضعة للدولة فإنها كانت تهيئ لها الموظفين الذين يعينون حسب شهاداتهم والامتحانات الدورية التي تعقد لهم، ويجتاز الطالب عدة امتحانات ليمتحن أخيرا في كلية (هان لين بوان)، وهي أكاديمية امبراطورية في بكين؛ قاعة الامتحانات فيها تتكون من عشرة آلاف حجرة، ولكل طالب حجرة يختبر فيها ويأكل فيها ويعيش فيها؛ حيث تستمر ثلاثة عشر يوما في الأدب والأخلاق والفلسفة، ثم يعين الناجحون - بعد تلك الأيام القاسية التي عاشوها في حجرات غير صحية - في مناصب الدواة الكبرى[3].

وكان غرض التربية إلى جانب ذلك (إعداد القادة؛ بتزويدهم بالمعارف القديمة التي تتصل بنظام المجتمع وصلات الأفراد بعضهم ببعض، وإعداد كل أفراد الشعب ليكون سلوكهم حسنا في جميع أعمالهم وفي جميع ما يزاولونه في حياتهم)[4] ، أي أن التربية كانت تعنى بالناحية الخلقية الاجتماعية.

أما في مصر الفرعونية فقد هدفت التربية إلى تهيئة الأفراد ليكونوا أعضاء عاملين في المجتمع، وذلك بمدّهم بالخبرات اللازمة لذلك، كما عملت التربية على تنمية الناحيتين الثقافية والمهنية، والدينية والدنيوية (فالدنيوي تخريج المتعلمين في الفنون المختلفة مما يضمن لهم المعيشة الراضية، والديني هو العمل على محبة الآلهة في الآخرة بالتعبد والتقرب إليهم)[5].

أما الهند فقد كان التعليم محتكرا لدى البراهمة الذين قصروا التعليم أول الأمر على عدد قليل من الطبقة العليا، ثم سمحوا به للطبقات كلها، ويشمل التعليم الدين والأخلاق والحساب والكتابة، ثم ينتقل الجميع إلى الجامعات، وكانت التربية تعمل على اكتساب الطلاب لعادات التفكير والإحساس والتحكم في الجسم والسلوك؛ فكان الطالب يجلس جلسة واحدة مدة تستغرق ساعات طويلة يتعود بها على التحكم في نزعات نفسه ورغبات جسمه[6].

(وقد اهتم قدماء المصريين بالعلم والمدارس؛ باعتبار المعرفة وسيلة إلى المجد والثروة، ووصايا حكمائهم تحث على الثقافة والمعرفة اللتين لا يسمو شيء عليهما، وقد قسموا المجتمع إلى طبقات: أولى تتكون من الكهان والأطباء والمهندسين ورجال الفكر والعلم والكتاب، وثانية هم المحاربون، وثالثة يمثلها الفلاحون والرعاة والتجار والعمال، كما أنهم قسموا التعليم إلى مراحل: أولية للأطفال، ومتقدمة تقتصر على أبناء الفراعنة - الطبقة الأولى - وكان لديهم جامعة مشهورة هي «جامعة اون» عين شمس، كما كان التعليم العسكري عندهم منفصلا)[7].

أما في أوربا فقد كان لمدينة اسبرطة نظامها التربوي العجيب؛ إذ إن الدولة كانت تتعهد الطفل منذ مولده؛ فإذا أحسوا بضعفه تركوه في العراء ثم عادوا إليه بعد فترة؛ فإذا تحمل الجوع والبرد أبقوا على حياته وإلا تركوه حتى يموت بدلا من أن يشب مواطنا ضعيفا، والطفل يظل مع أمه سبع سنوات ثم يرسل إلى إحدى مؤسسات الدولة؛ ليعيش مع غيره من الأطفال تحت نظام قاس عنيف من التربية؛ ليأخذ على مظاهر التقشف والنظام، ومن يبدي منهم شجاعة وإقداما أصبح رئيسا للجماعة، وعلى الآخرين طاعته.

فالتربية في اسبرطة تهدف إلى إعداد الطفل إعدادا عسكريا في المقام الأول؛ ليقوم بوظائفه القتالية، ثم تأتي التربية الأدبية والخلقية، كما تهدف التربية العسكرية على تقوية روح الطاعة المطلقة.

أما الفضائل الإنسانية - مثل الصدق والأمانة - فهي نسبية؛ إذ إن الكذب يجوز على غير الاسبرطيين، ولا يعاقب السارق إلا إذا ضبط متلبسا بجريمته؛ لأنه فشل في إخفاء نفسه ولم يكن حريصا، وكان أغلبهم لا يتعلم القراءة والكتابة مع أنهم كانوا أذكياء.

وإذا انتقلنا إلى أثينا الدولة المنافسة دائما لاسبرطة فإنها مع اهتمامها بالشجاعة والإقدام إلا أنها لم تكن تربية عسكرية؛ إذ كانت تعمل على أن يتحلى الإنسان بالحكمة المغلفة بالعقل والابتكار الجديد في الحياة، والعمل على سعادة الإنسان وكماله الجسماني والعقلي والخلقي، وتطلب الدولة من الأسرة الاهتمام بالطفل، ويعلم الطفل السلوك الطيب والقراءة، ويحفظ مؤلفات أعظم الشعراء حيث يجد فيها النصائح والقصص ومفاخر مشاهير الرجال، والتعليم طبقي يكتفي فيه أبناء الفقراء بالمرحلة الابتدائية، ويستمر أبناء الأغنياء في اكتساب الخبرات والمعلومات وتذوق الفن[8].

وفي مجال المقارنة بين التربية الصينية والأثينية يقول برتراند رسل فيه: (إن التربية الصينية التقليدية كانت كبيرة الشبه من بعض النواحي بنظيرتها في أثينا في أعزّ أيامها؛ كان الصبية الأثينيون يحملون على حفظ هومر عن ظهر قلب من أوله إلى آخره، وكذلك كان الصبية الصينيون يحملون على حفظ المأثورات الكنفوشية، وكان الأثينيون يعلمون نوعا من احترام الآلهة، يقوم على المحافظة على المظاهر، ولا يضع حاجزا في طريق النظر الفكري الحر، وكذلك كان الصينيون يقيمون طقوسا خاصة، تتصل بتقديس الأسلاف، من غير أن يجبروا بحال على اعتقاد ما كان منطويا في تلك الطقوس).

أما الرومان فمع عراقة دولتهم لم تكن لهم نظريتهم التربوية المميزة، ومرت التربية عندهم بمراحل؛ وشملت الاهتمام بالدين والأخلاق والرياضة وفنون القتال، ثم ظهرت المدارس النظامية التي تعلم مهارات الحياة العملية وإعداد المواطن البليغ خطابة والفصيح بيانا، وفي الثقافة العالية الملم بصنوف المعرفة والمهارات الفلسفية والقانون والسياسة والحرب والذي يتولى أرفع المناصب في الدولة [9].

وقد عاشت أمم الشمال والغرب من أوربا في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية؛ لم ينبثق منها فجر الحضارة والعلم بعد، ولم تظهر على مسرحها الأندلس العربية الإسلامية لأداء رسالتها في العلم والمدنية، وكانت بمعزل عن ركب الحضارة الإنسانية يقول عنها ه- ج. ويلز: (لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا، قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم؛ لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي - كإيطاليا وفرنسا فريسة - الدمار والفوضى والخراب)[10].

أما عن أوربا الغربية فيقول البروفيسور شيلي في كتابه تاريخ الفلسفة: (لعل القرنين السابع والثامن كانا أظلم عهد في تاريخ حضارة أوربا الغربية؛ أنه كان عهد بربرية وجهالة لا نهاية لها، غمرت فظائعها أعمالا تدمر جميع المنجزات الأدبية والجمالية للعهد الماضي الكلاسيكي)، كما يقول دربير: (يصعب القول عن سكان أوربا القدماء بأنهم تجاوزوا مرحلة البربرية والوحشية؛ فقد كانت أجسامهم قذرة وأخيلتهم مفعمة بالأوهام؛ يؤمنون إيمانا راسخا بكل ما ينقل من الأساطير والحكايات التافهة التي لا أساس لها عن كرامات الضرائح ودعاوى القداسة المزعومة).

أما التربية المسيحية فلم تخرج عن رسالة المسيح عليه السلام في نشر روح التعاطف والتسامح والمحبة والتواضع، مع استخدام وسائل مختلفة مثل الأمثلة والحكايات الرمزية ذات المغزى الأخلاقي المستمد من الواقع والمألوف، إلى جانب الحكم والأمثال كوسائل سريعة إلى قلوب المستمعين، وقد أخذت التربية المسيحية عن سقراط طريقته في استخدام الحوار للكشف عن المغالطات والأخطاء، وأخذ على هذه الطريقة أن النتائج ونهاية الحوار معدتان سلفا، ولا يمكن تغييرها، وكانت التربية المسيحية تعتمد على الأسرة ثم الكنيسة، ثم دخلتها الانحرافات التي دخلت على المسيحية فتغيرت عن صبغتها الدينية الخالصة، ثم بدأت المسيحية في إنشاء المدارس في اليونان، وجاءت فترة سيطرت فيها الكنيسة فيها على التعليم إلى نهاية القرن الحادي عشر، وكان التعليم قاصرا على أبناء الأغنياء والطبقات العليا ورجال الكنيسة[11].

إن التربية المسيحية يمكن النظر إليها من خلال طبيعة الديانة المسيحية؛ فمع ما تقدم ذكره مما جاء في كتاب تاريخ التربية فإن الواقع التاريخي يدل على أن المسيحية لم تكن بطبيعتها ديانة تبنى عليها حضارة أو تقام على ضوء تعاليمها دولة، وقد جاء (بولس) فطمس نورها وأزال البقية من آثار تعاليمها وطعمها بخرافات الجاهلية والوثنية التي نشأ عليها، ثم قضى (قسطنطين) على البقية الباقية فأصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية؛ فتلاشت تعاليم المسيح كتلاشي القطرة في اليم؛ فأصبحت معتقدات لا تغذي الروح ولا تمد القلب ولا تشعل العاطفة ولا تحل مشاكل الحياة، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية؛ يقول (SALE) مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية، عن نصارى القرن السادس الميلادي: (وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية؛ حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر)[12].

والمعروف أن العالم قد وصل إلى درجة كبيرة من الانحطاط في القرنين السادس والسابع؛ نتيجة لانقطاع صلة العالم بالله سبحانه وتعالى، وبعد الشقة بينها وبين رسالات الأنبياء، وفقدان الأديان لروحها وتعاليمها؛ لكثرة ما لحق بها من تحريفات وما لحق الأمم من فوضى وانحلال، وطبيعي أن ديانة كهذه لا تستطيع، بل ليست من طبيعتها أن تقدم نظرية متكاملة في التربية؛ لأنها لم تأت بمنهج كامل للحياة كالإسلام.

أما اليهود فكانت التربية عندهم من واجبات الأسرة باعتبارها قوام حياة المجتمع اليهودي، وظلت على هذه الحالة في اعتمادها على الأسرة وعلى التعليم الخلقي والديني والقومي (كشعب الله المختار)، وقد أنشأوا المدارس بعد ظهور المسيحية ليتعلم أطفالهم القراءة والكتابة والتاريخ والهندسة والفلك، (وكان الإسرائيليون الأوائل يجهلون معنى لأي نظام اجتماعي سوى الأسرة، ولا يتخذون رئيسا سوى الإله، وكان على أطفالهم أن يتربوا على أن يكونوا مخلصين لـ(يهود).

وكان تعليمهم يتم عن طريق المثال الصالح القدوة، وكانوا يتعلمون القواعد الأخلاقية والمعتقدات الدينية الخاصة بهم، أما تعليم القراءة والكتابة فكانت مقصورة على الفتيان، في حين تتعلم الفتيات الغزل والحياكة وتهيئة الطعام ورعاية شئون المنزل والغناء والرقص)[13].

أما في القرنين السابقين للإسلام فقد كان اليهود أمة في أوربا وآسيا وإفريقيا، وكانوا أغنى أمم الأرض مادة في الدين، إلا أنهم لم يكونوا من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين المؤثرة في غيرهم؛ إذ قضي عليهم أن يتحكم غيرهم فيهم وكانوا عرضة للاضطهاد والاستبداد والنفي، وأورثهم تاريخهم الخاص - تاريخ العبودية والاضطهاد والإذلال والجشع وشهوة المال والربا - أورثهم نفسية غريبة وخصائص لا توجد في أمة أخرى، منها الخنوع عند الضعف والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله، وقد وصف القرآن حالهم في القرنين السادس والسابع وما وصلوا إليه من تدهور خلقي وانحطاط نفسي وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن قيادة العالم.

وقد تجددت حوادث في أوائل القرن السابع بينهم وبين المسيحيين بغضتهم إليهم، وحدثت بينهما حروب طويلة وقتل وقسوة، كما فصل ذلك المقريزي في الجزء الرابع من كتابه؛ بما يدل على استهانة الفريقين بالدم الإنساني وتحين الفرص في النكاية بالعدو وعدم مراعاة الحدود في ذلك، مما يبعدهم جميعا بأخلاقهم هذه من قيادة البشرية وأداء رسالة الحق والعدل والسلام وإسعاد البشرية في ظلها[14].

أما عن إيران أو مملكة الفرس، فقد قاسمت مملكة فارس الروم حكم العالم؛ كانت الأخلاق فيها منحطة والمحرمات موضع خلاف، حتى أن يزدجر الثاني الذي حكم أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بنته وقتلها، كما أن (بهرام جوينى) في القرن السادس كان متزوجا بأخته، فالإيرانيون اعتادوا الزواج بالمحرمات، وكانوا يعتبرون ذلك وسيلة تقرب إلى الله، وقد سبق ظهور دعوة (ماني) في القرن الثالث إلى تحريم النكاح استعجالا للفناء، ثم دعوة (مزدك) المولود في القرن الخامس إلى المساواة في المال والنساء، وجعل الناس شركاء فيهما حتى لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه.

أما الأكاسرة ملوك فارس فكانوا يدعون أنه يجري فيهم دم إلهي؛ فنظر الفرس إليهم كآلهة يقدسونهم ويؤلهونهم فوق البشر؛ لذا كان بعض ملوكهم أطفالا لأن هذا الحق لا يخرج عنهم.

كما اعتقد الناس في البيوتات الروحية والأشراف الذين يرونهم فوق طينة العامة في نفوسهم وعقولهم؛ مما عمق نظام الطبقات في المجتمع، وجعل كل واحد لا يعمل إلا بالحرفة التي خلقه الله لها، ولا يشتري عقارا لأمير أو كبير، ولا يتولى الوضيع وظيفة، وقصة المغيرة بن شعبة مع الفرس توضح هذا[15].

كما كان الفرس يمجدون قوميتهم الفارسية التي يرون لها فضلا على سائر الأجناس والأمم التي يزرونها، وينظرون إليها باحتقار وسخرية، ويرون أن الله قد خصهم - دون الأمم - بمواهب خاصة.

وكانوا في عبادتهم قديما يعبدون الله ويسجدون له، ثم عبدوا الشمس والقمر والنجوم، ثم جاءت (زرادشت) الذي دعا إلى التوحيد وأبطل الأصنام، وقال: إن نور الله يسطع في كل ما يشرق ويلتهب في الكون، وأمر بالاتجاه إلى الشمس والنار ساعة الصلاة؛ لأن النور رمز إلى الإله، ثم مجدوا النار إلى أن عبدوها وبنوا لها المعابد والهياكل، وانتهت كل عقيدة وديانة إلى عبادة النار[16].

ولا تذكر كتب تاريخ التربية نظريةً تربوية مميزة للفرس، ولكن تلك المعتقدات والعادات هي التي كانت تحدد فلسفتهم التروية.

وهذا الاضطراب في حياة المجتمعات والديانات كلها أسرعت بحاجة البشرية إلى دين جديد وبعث جديد ورسول جديد وتربية جديدة.

 

التربية في العصر الجاهلي:

لم تكن للعرب قبل الإسلام - كما نعلم - دولة منظمة، بل كانت الحياة قبلية النظام، والتربية فيها فطرية تكتسب فيها العادات والقيم والمهارات عن طريق التقليد والمحاكاة وقيم القبيلة وأخلاقها؛ فالمثل العليا مأخوذة من مآثر القبيلة وأيامها ورجالها ومعتقداتها وقيمها المتوارثة وحروبها وبطولاتها، والمهارات لا تتعدى مهارات الحرب وطرق الدفاع والهجوم والصيد وصنع آلات الحرب وركوب الخيل، وغير ذلك من المهارات المعروفة لديهم.

ومن الأمم حولهم تعلموا بعض العلوم، وبفطرتهم نبغوا في الشعر والخطابة، ومن علومهم علم الفلك والطب والأنساب والعيافة والفراسة والزجر وغيرها.

أما وسائلهم ففي التقليد للآباء ورجال العشيرة، ثم المواعظ والإرشادات والحكم من الآباء والأمهات، كوصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس، وأسماء بنت خارجة لابنتها، والأوس بن حارثة لابنه، وغير ذلك مما تحفل به كتب الأدب القديمة كالعقد الفريد والأمالي ومجمع الأمثال وغيرها، وكان الاهتمام بالناحيتين الأدبية والخلقية أكثر عند العرب إلى جانب النواحي الأخرى المتعلقة بالقيم السامية في الحياة كالشجاعة والكرم والشهامة والمروءة الخ.

ومن وسائلهم لنشر قيمهم وأفكارهم المؤتمرات الموسمية في أسواقهم المعروفة، كسوق عكاظ وذي المجاز ومجنة؛ حيث كانت تلك الأسواق الأدبية معاهد لتبادل الأفكار والأشعار، وتبادل الخبرات في عالم التجارة والاقتصاد ونشر المثل والقيم..

التطور المنهجي للتربية الإسلامية:

جاء الإسلام وعدد من يقرؤون ويكتبون من قريش سبعة عشر رجلا؛ منهم عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب من الراشدين، وقلة من النساء منهن حفصة وأم كلثوم من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة التي كانت تقرأ المصحف ولا تكتب، وكذلك أم سلمة، ومنهن الشفاء بنت عبد الله العدوية معلمة حفصة، وأما في المدينة فلم يزد عددهم من الأوس والخزرج على أحد عشر رجلا، وكان بعض اليهود يقومون بتعليم صبيان يثرب بعد أن تعلموا العربية، ولقلة الرجال الذين يكتبون آنذاك كان لقب (الكامل) يطلق على من تعلم الكتابة والرماية والعوم؛ فلقب بذلك سعد بن عبادة سيد الخزرج، وأسيد بن حضير وعبد الله بن أبي، وكان ممن كتبوا للرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعثمان بن عفان وشرحبيل بن حسنة وأبان بن سعيد والعلاء الحضرمي ومعاوية، ولم يكن تشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم قاصرا على تعليمهم القراءة والكتابة لصبيان المدينة كما حدث مع أسرى بدر، بل طلب من زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود لأنه لا يأمنهم على القرآن، فعرف كتابتهم، كما طلب منه أن يتعلم السريانية قائلا له: إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا فتعلمها في مدة وجيزة..

ولعلنا نستطيع أن نقول بنوع من التجاوز: إن أول مدرسة في تاريخ الإسلام هي تلك المدرسة التي كانت في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة؛ حيث ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تربية لم تتوفر في تاريخ البشرية، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك بعده المصدرين الأساسيين للدعوة والتربية، وهما القرآن الكريم وسنته زيادة على سيرته العطرة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان المعلم الأول الذي أرسله الله إلى البشرية ليعلمها الكتاب والحكمة ويزكيها، وكان عليه الصلاة والسلام المطبق الأول لتعاليم السماء والمنهج الإلهي سائرا على الأرض؛ فقد وصفته أم المؤمنين بأنه كان خلقه القرآن، وكان القدوة الحسنة لأصحابه؛ يعلمهم بالموعظة الحسنة والتجربة الفعلية والتوجيه النافع وقت الشدائد والمحن، ولمعرفته لأهمية المعلم والتعليم في التربية والدعوة أرسل مصعيب بن عمير مع أهل يثرب حين آمنوا ليقوم بواجب التعليم والتربية والدعوة إلى الله.

وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب؛ فكان مسجده صلى الله عليه وسلم جامعة المسلمين الكبرى ومركز الدعوة إلى الله فيها؛ يتعبد الناس، وفيها يبلغ الرسول عن الله، وفيها ينزل التشريع منظما للمجتمع الجديد، وفيها يقابل السفراء والوفود، ومنها تخرج الجيوش حاملة لواء الدعوة، وإليها تتجه أنظار القبائل والدول والأمم، وكان القرآن - والقرآن وحده - هو منهج تلك الدراسة وهدفها ووسيلتها وغايتها، وكان نتائج ذلك المنهج ذلك الجيل القرآني جيل الصحابة المميز في تاريخ الإسلام كله والبشرية جمعاء؛ ذلك الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم على كتاب الله لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده؛ جيل خالص القلب والعقل والتصور والشعور والتكوين المجرد من كل المؤثرات غير منهج الله الممثل في القرآن.

أما وسيلته إلى ذلك فقد كان القرآن وحده؛ باعتباره النبع الذي يسقون منه ويتكيفون به ويتخرجون عليه، مع وجود المؤثرات من حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي مازال في أوربا، ومن حضارة الإغريق ومنطقهم وفلسفتهم وفنهم الذي مازال نبع الغرب، ومن حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها وحضارات أخرى.

وكان للرسول صلى الله عليه وسلم في اتخاذ ذلك المصدر وحده منهج مقصود وتصميم مرسوم؛ كان نتاجه ذلك الجيل الفريد الذي ذكرنا أوصافه[17].

والذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم تربية دقيقة عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين، وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس؛ يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا؛ قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعا وعشرين مرة في عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة؛ فهان عليهم التخلي عن الدنيا، وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم، ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعوّدوه، وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة؛ فتنشطوا وخفوا لامتثال أمرها)[18].

وهذا الجيل الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا تيقن من ثمرة تربيته ونجاح غرسه لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الظلمة، وأضاء الأرض بنور الله وهديه.

وقد اقتضى الفتح الإسلامي وامتداده - زيادة على طبيعة هذا الدين الجديد - أن يتعلم المسلمون القراءة والكتابة، وأن تتسع حركة محو الأمية بينهم.

وقد ساعدت عدة عوامل على انتشار القراءة والكتابة وازدهار الحركة العلمية:

أهمها اختلاط العرب بغيرهم مما جعل التعليم أمرا لازما لمواجهة الحياة الجديدة والحضارة الموعودة.

ومنها أن الإسلام قد جاء بدعوة تدعو إلى إعمال العقل والتفكير في ملكوت الله وخلق الإنسان؛ ليصل بذلك إلى الإيمان بالله وقدرته وإبداعه ووحدانيته، وتدرج في هذا الخطاب بما يناسب عقلية العرب وتصوراتهم والمحسات المتعلقة بحياتهم؛  {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[19]، {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}[20].

فكانت هذه الآيات ومثيلاتها في القرآن بواعث على إعمال العقل والنظر في الكون والتأمل فيه، مما وجه إلى أهمية التعليم كوسيلة إلى المعرفة، وارتفع المستوى العقلي في ذلك المجتمع، وزادت الثقافة والمعرفة من القرآن، مما زاد في نفوسهم حب العلم والتطلع إليه.

يقول ابن سعد في طبقاته - عن مسروق من التابعين -: (شاممت أصحاب رسول الله فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت).

وهؤلاء يمثلون بعض رجال الطبقة الأولى في العلم، ومع ذلك نجد بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نوعا من التخصص في العلوم؛ فعبد الله بن عمر كان من أوثق رواة الحديث وأكثرهم دقة وتحريا لألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما لم يكن والده - على قرب صلته من الرسول صلى الله عليه وسلم - كذلك؛ إذ كان ثاقب الفكر بعيد النظر في المشكلات الكبيرة، خاصة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأيام خلافته، أما عبد الله بن عباس فكان رجلا متعدد المعارف واسع الثقافة؛ فهو مفسر ومحدث وعالم بأشعار العرب وأيامها والأنساب والفرائض والمغازي، كما كان مطلعا على التوراة والإنجيل، أما علي بن أبي طالب فقد عرف بالحكم والأشعار والخطب والأدعية ورواية الحديث وحسن القضاء وأسباب النزول.

ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهمية العلم والتعليم في تغيير سلوك القبائل المعتنقة للإسلام؛ فقد كان يرسل من يعلمهم؛ فقد أرسل إلى اليمن والبحرين ومكة بعد فتحها، والمدينة قبل الهجرة، وتبعه في ذلك خلفاؤه.

وكان لانتشار الصحابة في الأمصار الإسلامية أكبر الأثر في ازدهار الحركة العلمية، وتكوين مدارس بها، وتخريج جماعات نبغت علميا من التابعين، من أمثال سعيد بن المسيب وشريح وعلقمة ومسروق.

ولم يقتصر الأمر على العرب، بل نبغ كثير من الموالي وأبنائهم ممن وحد الإسلام بينهم وبين العرب، من أمثال نافع مولى عبد الله بن عمر وراوي أحاديثه، وسليمان بن يسار الذي كان والده مولى لميمونة أم المؤمنين، وربيعة الرأي شيخ الإمام مالك، أما في مكة فعكرمة مولى عبد الله بن عباس وراوي أحاديثه، ومجاهد بن جبير مولى بني مخزوم، وعطاء بن رباح مولى بني فهر، وغيرهم كثير، وعرف في مصر يزيد بن حبيب مولى الأزد وأستاذ الليث بن سعد، وكان مفتي أهل مصر، وهو من شمالي السودان من (دنقلا)، وفي الشام مكحول بن عبد الله، أستاذ الأوزاعي، وفي الكوفة سعيد بن جبير، وفي البصرة محمد بن سيرين، والتي كانت أمه مولاة أبي بكر، والحسن بن يسار مولى زيد بن ثابت، أما من كانوا من أبوين أحدهما عربي والآخر عجمي فكثيرون، منهم القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طال (زين العابدين)، وغيرهم كثير.

والمعروف أن التعليم كان يمارس في عهد الخلفاء في المساجد؛ فقد أرسل عمر بن الخطاب لأهل البصرة من يفقههم، كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر عنه قوله: (علموا أولادكم السباحة والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحسن الشعر)[21].

وكان التعليم في عهد الخلفاء وقفا على القراء من حملة القرآن؛ لانشغال الصحابة بأمر الدعوة وإرساء قواعد الدولة الجديدة، وفي ذلك يقول ابن خلدون: (ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا، ولا كان الذين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته؛ بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم، وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرؤون الكتاب؛ لأن العرب كانوا أمة أمية فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ، وبقي الأمر كذلك صدر الملة، ثم عظمت أمصار الإسلام وذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتابة، وتمكن الاستنباط وكمل الفقه، وأصبح صناعة وعلما؛ فبدلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء)[22].

وقول سيدنا عمر السابق يدل على أن التعليم المنظم لم يكن موجودا في صدر الإسلام، وأن الآباء هم الذين كانوا يقومون بواجب التعليم؛ زيادة على ما كان يتعلمه البعض في حلقات المساجد حيث يجلس الأستاذ وحوله الطلاب يتلقون عنه، فقد روي أن عبد الله بن عباس كان يجلس بفناء الكعبة والناس يسألونه عن تفسير القرآن، وكان ربيعة الرأي يجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتيه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة يحدقون به وحلقته وافرة، وكذلك كان مجلس الحسن البصري في مسجد البصرة، وقد يكون في المسجد الواحد عدة حلقات،.

ولم يكن التعليم وقفا على العلوم الدينية، بل كانوا يعلمون في المساجد الكيمياء والزجر والفأل[23].

ولا تجد سندا على أن المسلمين قد أنشأوا مدارس خاصة للتعليم إلى العهد الأموي، وإنما اقتصر على المساجد والبيوت، وتذكر الروايات أن تعليم الصبيان في المساجد لم يكن مرغوبا فيه، وربما كانت الكتاتيب قرب المسجد أو ملحقة بها.

ثم كان محور التعليم في هذه المدارس القرآن، ثم الأحاديث والأخبار وبعض الأحكام الفقهية والشعر؛ وكان الاهتمام بالقرآن - كما يقول ابن خلدون  -لأنه شعار الدين، وأصبح القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات.

وقد اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان، واختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات؛ فأما أهل المغرب فيقتصرون على تعليم القرآن فقط لا يخلطون ذلك بالحديث أو الفقه أو الشعر، أما أهل الأندلس فيعلمون القرآن ورواية الشعر وتجويد الخط، وأهل إفريقية فيعلمون القرآن والحديث وقوانين العلوم، وأهل المشرق فيخلطون في التعليم مع العناية بالقرآن وإفراد الخط بمعلميه [24].

ومما سبق يتضح لنا أن التعليم اقتصر في عهد الخلفاء على تعليم القرآن الكريم، ثم دعت دواعي حفظ اللغة مع انتشار الصحابة ومن دخلوا في الإسلام إلى الاهتمام باللغة ودراستها؛ خوفا من ظهور اللحن في القرآن الكريم؛ فكان اهتمام أبو الأسود الدؤلي بقواعد اللغة أخذا عن سيدنا علي أو بتوجيه منه.

وفي العهد الأموي توسعت الدائرة إلى الاهتمام بالشعر والأدب والتاريخ والقصص؛ فقد روي عن معاوية أنه كان يسهر الليل في سماع أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها.

وكان نتاج هذا الاهتمام بالتاريخ ظهور كتب السير والمغازي من جمع الأحاديث المتعلقة بهما، كما انتشرت القصص التي بدأت في نهاية عهد عمر أو عهد عثمان، وكان القاص يجلس في المسجد فيذكر الله، ثم يسرد قصصا عن الأمم الأخرى تقوم كلها على الترغيب والترهيب.

ثم ظهرت العناية بعلم الحديث في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز، مما جعل الحديث يحتل مكانة كبيرة في المنهج الدراسي، ولم تكن تلك بداية الاهتمام بعلم الحديث وتدوينه كما يرى البعض، وإنما كانت بداية احتلال الحديث لمكانته في المنهج التربوي الإسلامي؛ فقد بدأت العناية بعلم الحديث منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن المنهج التربوي التعليمي الإسلامي في صدر الإسلام كان يركز على ثلاث مواد رئيسية هي:

1- القرآن الكريم الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صحف مفرقة كتبها كتاب الوحي، ثم تولى زيد بن ثابت جمعه من الصحف وصدور الرجال في عهد أبي بكر، ثم جمع سيدنا عثمان لجنة من الصحابة برئاسة زيد بن ثابت جمعت القرآن في مصحف واحد نسخت منه نسخا أرسلت إلى الأقطار الإسلامية، ولأن العرب لم يكونوا يفهمون القرآن في جملته وتفصيله كلّهم فكانت الحاجة إلى العناية بالقرآن حفظا وتفسيرا، واشتهر بالتفسير جماعة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب في المرتبة الأولى، ويليهم زيد بن ثابت وابن الزبير وأبو موسى الأشعري، وكان لهؤلاء المفسرين رواة من التابعين من أمثال عكرمة ومجاهد وابن أبي رباح ممن رووا عن عبد الله بن عباس، ولم يتعد التفسير آنذاك الاقتصار على المعاني اللغوية، أما استنباط الأحكام فقد ارتبط بالحركة الفقهية وظهور المذاهب الدينية.

2-  أما مادة الحديث: فكانت العناية به - كما قلنا - منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن تدوينه لم يكن يدوّن منه إلا القليل، وكان أغلبها في صدور الرجال، مما جعل علم الحديث يتعرض إلى كثير من الوضع، وأشهر من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم أبو هريرة وعائشة وابن عمر وابن عباس وجابر وأنس بن مالك، ولكن الحديث بصورته التي وصلت إلينا لم يدون في القرن الأول، وقد فكر سيدنا عمر بن الخطاب في تدوينه إلا أنه لم يفعل، حتى جاء سيدنا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله يطلب جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر البخاري أن أول من جمع الأحاديث الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة، كما صنف فيه مالك الموطأ بالمدينة، والأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالكوفة، وغيرهم ممن صنفوا في الحديث.

3-  أما اللغة فقد أدت الفتوحات الإسلامية إلى انتشار اللغة العربية في البلاد التي دخل أهلها الإسلام، والعوامل التي نتجت من اختلاط العرب بغيرهم إلى ظهور اللحن في اللغة، والحاجة إلى علم يضبط قواعد اللغة ويحفظها ويتعلمه الناس، (وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم، حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة، ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره، وإن كان يغني في الدلالات على أصله، وسمي لسانا حضريا في جميع أمصار الإسلام)[25].

وقد ذكرنا أن المساجد كانت أمكنة للتعليم كما هي للعبادة والقضاء والتخطيط للحرب ونشر الدعوة، واستمر الحال على ذلك في القرن الثاني للهجرة أيضا، واشتهر من المساجد إلى جانب الحرمين الشريفين جامع المنصور في بغداد، وجامع دمشق الذي بناه الوليد بن عبد الملك، وجامع عمرو بن العاص في مصر والذي بني عام 21ه.

ولم تقتصر الدراسة فيها على العلوم الدينية بل شملت العلوم اللغوية والأدبية.

أما الكتاتيب - والكلمة مأخوذة من التكتيب وتعليم الكتابة - فقد اقتصرت على تعليم الكتابة والقراءة، ولم تظهر في العهد الأول للإسلام؛ فقد كان التعليم من واجب الآباء والمعلمين الخصوصيين، ووصية سيدنا عمر تدل على ذلك، ولم يشجع المسلمون تعلم الصبيان في المساجد لأن الصبيان لا يحافظون على حرمة المسجد ونظافته، ومع ذلك كانت الحلقات الدراسية في أركان المساجد.

وقد وضعوا أسسا للتعلم: أهمها ما نسميه - بالمفهوم الحديث 0 استمرارية التعليم والحض على طلبه والاستزادة منه، ومن ذلك ما رواه سعيد بن المسيب عن عبد الله عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:  "من جاء أجله وهو يطلب علما ليحيي به الإسلام لم تفضله النبيون إلا بدرجة"[26]، وسئل عمرو بن العلاء: حتى متى يحسن المرء أن يتعلم؟ فأجاب: ما دام تحسن به الحياة.

ومما يدل على أن التعليم الأول كان في الكتاب ثم ينتقل الطالب إلى المسجد ما روي عن الشافعي قال: (كنت يتيما في حجر أمي فدفعتني في الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم فكان قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء)[27].

وقد فرقوا بين العلم والتعلم باعتبار التعلم (نشاطا عقليا يمارس فيه الإنسان نوعا معينا من الخبرة الجديدة التي لم يسبق أن مرت في خبرته السابقة)[28] ، وأن التعلم عملية لا تلاحظ مباشرة في المتعلم، إنما يستدل عليها من آثارها ونتائجها في شخص المتعلم وسلوكه وأفكاره؛ ولذلك كانوا يقولون: إنما العلم بالتعلم.

وكانوا يرون التنوع والمرتبة والتدرج في طلب العلم؛ فقد روي عن ابن خالد الوالي قوله: كنا نجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيتناشدون الأشعار ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية[29]3. وروي عن يونس بن يزيد قوله عن ابن شهاب: (يا يونس لا تكابر العلم فإن العلم أودية، ولا تأخذ العلم جملة فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي)4.

وقد اتخذوا أساليب مختلفة في التعليم ومراعاة الفروق الفردية والجوانب النفسية في التعليم.

أما في العصر الأموي فقد تطور المنهج التربوي لعوامل عدة:

أوّلها: اهتمام الخلفاء بالنواحي العلمية؛ فقد عرف عن معاوية استدعاؤه في مجلسه للأدباء والعلماء؛ ليقرؤوا له تاريخ العرب وأيامهم، وتاريخ الفرس والروم وحكامهم ونظم إدارتهم.

أما العامل الثاني: فهو استمرار الاهتمام بالعلوم الدينية، وتفرق الصحابة في الأمصار حيث كونوا مدارس وتلاميذ ينقلون العلم عنهم من جيل التابعين وتابعيهم.

ثالثا: ظهور المدارس المختلفة في علوم الحديث والفقه واللغة في المدينة المنورة والكوفة والبصرة ومصر، وكان من أبرز علماء مدرسة الحديث والفقه محمد الباقر وابنه جعفر الصادق وسفيان الثوري ومالك، كما ظهر في العراق مدرسة أبي حنيفة، وعرفت مدرسة العراق بالرأي وإعمال القياس في القرنين الأول والثاني وكثير من التابعين ينتمون إليها ومنهم الحسن البصري.

ولم تكن المذاهب الأربعة قد تكونت في القرن الأول، ولكن ولد إمامان من الأربعة في أواخر الدولة الأموية، وهما الإمام أبو حنيفة الذي ولد عام 80ه، ومالك الذي ولد عام 96ه، وامتاز مذهبه باعتماده على الحديث وعمل أهل المدينة.

أما اللغة والنحو فقد ظهرت عدة مدارس أشهرها مدرستا البصرة والكوفة، وقد اشتهر من الأولى عيسى بن عمر الثقفي أستاذ الخليل بن أحمد، وسيبويه ويونس بن حبيب والأصمعي وغيرهم، أما الثانية فعلى رأسها الكسائي والفراء وغيرهما.

وقد تطور منهج التعليم في هذا العصر من حيث المحتوى؛ فشمل - إلى جانب القرآن والحديث والفقه واللغة - العلوم الطبيعية والرياضية.

وقد صاحب التطور في المنهج تطور في مفاهيم التعليم وطرق التعلم وأساليبه.

وكان من نتائج ذلك كله أن بدأت النظريات التربوية تتبلور وتتضح، والمدارس التربوية تتميز.

وساعد على ذلك التطور الكبير في ميادين العلوم المختلفة، وانتعاش الحركة العلمية بظهور رجال نبغوا في ميادين المعرفة المختلفة، من أمثال الطبري في التاريخ والتفسير، والجاحظ والمبرد والزجاج في اللغة والأدب، وفي ذلك يقول الكاتب الأمريكي (دريبز) في كتابه (النزاع بين العلم والدين) - نقلا عن (جيبون) -: (كان أمراء المسلمين في الأقاليم ينافسون الملوك ويناظرونهم في رعاية العلم والعلماء، وكان من نتيجة تنشيطهم وتشجيعهم للعلماء أن انتشر الذوق العلمي في المسافة الشاسعة التي بين سمرقند وبخارى إلى فارس وقرطبة، ويروى عن وزير لأحد السلاطين أنه تبرع بمائتي ألف دينار لتأسيس كلية علمية في بغداد، ووقف عليها خمسة عشر ألف دينار سنويا، وكان عدد الطلبة فيها ستة آلاف لا فرق بينهم بين غني وفقير؛ فكان ابن السيد العظيم وابن الصانع الفقير على السواء، وكانوا يكفون التلاميذ الفقراء مئونة دفع أجر التعليم، ويعطون الأساتذة مرتباتهم بكرم وسماحة، وكانت المؤلفات الجديدة الأدبية تنسخ وتجمع؛ سدا لحاجة أهل العلم ورغبة الأغنياء في جمع الكتب) 1.

وقد صحب تطور المفاهيم التربوية ظهور المدارس التربوية، كمدرسة الحديث والفقه وعلم الأصول والكلام والتصوف وغيرها.

وقد تحددت المفاهيم أول الأمر بالالتزام بنصوص الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة.

أما في القرن الرابع الهجري فقد حدث الاختلاف في الرأي بين الفقهاء والمحدثين؛ في حين رأى المحدثون الاكتفاء بالنظر في تراث عصر النبوة والصحابة بينما رأى الفقهاء اعتماد ما تركه الأئمة في مجال الرأي واتباع منهجهم في البحث والدراسة؛ إذ إن المحدثين اعتبروا التمسك بتراث الأئمة تقليدا وتحرجوا من اتباعهم، كما استنكروا ظهور المذاهب واشتغال المؤرخين بالتاريخ دون الحديث.

كما اختلفوا في طرق البحث والتحصيل العلمي؛ فبينما يشترط المحدثون الرحلة والإسناد لم يشترط ذلك جماعة من الفقهاء، زيادة على اعتبارهم أن جهود الفقهاء قامت على جهود المحدثين.

وهذه الانتقادات أثرت في مفاهيم الفقهاء الذين استنكروا التقليد مع المحدثين وأباحوه للعامة؛ لأنهم لابد من أن يقلدوا علماءهم.

وكان من نتائج ظهور هذه المدارس ظهور رجال اتضحت مفاهيمهم التربوية وتبلورت نظريات التربية الإسلامية فيما كتبوا، وسنعرض لجهودهم وإضافاتهم وآرائهم عندما نتحدث عن جهود رجال التربية الإسلامية.

أما القرن الخامس فقد تبلورت نظريته في التربية على يد علماء الأشاعرة - الماوردي والخطيب البغدادي وأبو حامد الغزالي - وساعدهم على ذلك ظهور التقليد ومعارضة الاجتهاد واتهام من يعمل عقله بالميل للمبتدعة ومشايعة الاعتزال، وكان الحنابلة على رأس هذا الاتجاه المتحرج، ومعهم عدد من رجال الفقه والحديث.

وقد أدى هذا الاتجاه إلى انحسار التخصصات في أطرها المذهبية والتراجع عن بعض المبادئ التربوية، مثل الاستعدادات والميول للمتعلمين، كما أصاب الضعف محتوى المنهاج وأساليب التربية والتعليم التي كانت سائدة، مثل طرق الأسئلة والإملاء، وطريقة السماع.

كما تأثرت علاقات المذاهب الفكرية؛ إذ حل التعصب مكان التسامح، وأوقع كل فريق بالآخر فاضطهد العلماء وحدثت الفتن، وظهر خطر الإسماعيليين الذين أنشأوا الجامع الأزهر ليكون مركزا لنشر الدعوة الشيعية، إلا أن السلاجقة قد تحالفوا مع مذاهب السنة في مواجهة الخطر الإسماعيلي في ميدان العقيدة والفكر، (وأن يختاروا من هذه المذاهب من يستطيع قيادة المعركة الفكرية والإشراف على مؤسسات التعليم، ولم يكن هناك من يفوق الأشاعرة في تلك المهمة، والواقع أن استيلاء السلاجقة على السلطة في بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري قد كان بداية لانتصار أهل السنة على الشيعيين، واتخذوا العلم وسيلة لمحاربة أفكار التشيع؛ إذ إن الناس إذا تعلموا الدين الحقيقي فرقوا بين الحق والباطل وحرروا عقولهم من أوهام المضللين؛ فأنشأ (نظام الملك) مدرسة عرفت (بالمدرسة النظامية)، وكانت نقطة الانطلاق في الاتجاه لبناء مثل هذه المدرسة حتى عند من جاءوا بعد السلاجقة؛ فقد أنشأ (نور الدين زنكي) أول مدرسة في دمشق، كما أن الأيوبيين وضعوا حدا للحكم الشيعي في مصر وأعادوا مصر إلى السنة، وأنشأوا المدارس التي أشاعت السنة، واستمر إنشاء المدارس بعد سقوط الأيوبيين وقيام المماليك بحكم مصر.

وفي القرن الخامس ظهر ثلاثة من العلماء كانوا قمما في مضمار التربية الإسلامية وتحديد أصولها وأهدافها ووسائلها، منهم علي بن محمد الماوردي (364- 450ه)، وأحمد بن علي الخطيب البغدادي (392- 463ه)، وأبو حامد الغزالي (450- 505ه).

وقد حددوا هدف التربية بأنها إعداد الإنسان للحياة الدنيا والآخرة وتربية العقول؛ إذ إن الهدف من طلب العلوم عند الغزالي هو التقرب إلى الله دون الرياسة والمباهاة والمنافسة.

وأما من الناحية المنهجية فتأتي العلوم الدينية في مقدمة المنهج، ثم العلوم المهنية، ولابد للمتعلم من التزود بثقافة كاملة واطلاع على كل العلوم، ثم التخصص.

وقد قسم الغزالي العلوم إلى علوم محمودة ومذمومة، ولكل منهما أقسام وأحكام.

وسنتحدث بالتفصيل عن ذلك كله عندما نتحدث عن جهود هؤلاء العلماء وإسهاماتهم في ميدان التربية.

وإذا استعرضنا أهم الأمكنة التي قامت بمهمة التربية والتعليم في القرنين الثالث والرابع نجد الجامع الأموي بدمشق، والذي بناه الوليد بن عبد الملك، وكانت حلقات الدرس فيه مختلفة؛ إذ كان للمالكية فيه زاوية وكذلك للشافعية، وكان للخطيب البغدادي حلقة يجتمع الناس إليه ليقرأ لهم دروسا في الحديث، ولم يقتصر المنهج فيه على العلوم الدينية، بل شمل العلوم اللغوية والأدب والحساب والفلك؛ يفدون من كل مكان.

وكذلك جامع المنصور في بغداد، والذي بناه أبو جعفر المنصور، وكان الكسائي يجلس فيه لتدريس علوم اللغة.

والجامع الأزهر الذي أنشأه جوهر الصقلي، واكتمل بناؤه في 361ه، وأصبح منارة للطلاب من البلاد الإسلامية كلها حيث يدرسون علوم القرآن والسنة.

أما المدرسة النظامية في بغداد فقد تم بناؤها في 459ه، وهي تنسب إلى منشئها الوزير العالم الفقيه نظام الملك الذي أنشأ غيرها من المدارس في كل البلاد، وقد درس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.

أما المدرسة النورية الكبرى بدمشق؛ فقد قال عنها ابن جبير (تبعد تلك المدرسة عن الجامع الأموي بنصف ميل تقريبا، ومساحتها 1500 متر مربع بالتقريب، وبها بيت خاص لمدرسي المدرسة، وأهم مكان بها قاعة للمحاضرات، وهي قاعة كبيرة تسع عددا كبيرا من الطلاب، وبالمدرسة مسجد مفتوح لمن يرغب في العبادة، وهناك استراحة للمدرسين ومساكن للطلبة المقيمين بالقسم الداخلي، ومسكن لخادم المدرسة، ودورة للمياه ومخزن للأدوات الزائدة بالمدرسة.

ونلاحظ أن محتوى التعليم لم يكن متباينا بين التعليم في المساجد والمدارس، إلا أن المساجد هي أماكن للعبادة ثم التعليم وأمور الناس، بينما المدارس أعدت أساسا للدراسة وإقامة الطلاب المغتربين، وألحقت بها أماكن للصلاة.

أما في القرنين السادس والسابع الهجريين فقد تجمد مفهوم النظرية التربوية، وضعف أمام تلبية حاجات المجتمع؛ وذلك لأسباب عدة: أهمها انتشار التعصب المذهبي بين المذاهب والجماعات والفتن والخصومة، وقد ذكر ابن جبير أن أصحاب كل مذهب كانوا يؤدون صلاتهم منفردين في المسجد الحرام، وكل يحرم للحج من مكان يختلف عن الآخرين، وأدى التعصب إلى ظهور مدارس خاصة بالشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وانحصر المنهج فيما يتعصب المذهب إليه، ثم سيطرت الدولة على التعليم لضعف العلماء وذهاب مكانتهم القديمة، واستغلت سلطات الدولة توجيه التعليم لتثبيت أنظمتها وتكريس الولاء لها، وتعيين المشايخ والمدرسين حسب ولائهم، والتخطيط للمناهج التي تدرس وأنواع الكتب1، وحدث الانفصال بين العلوم الدينية والطبيعية.

أما في القرون التالية للقرن الثامن (فلم تتمكن نظرية التربية الإسلامية أن تتحرر من الركود الذي أصابها في الفترة السابقة؛ فأخذت ابتداء من القرن الثامن الهجري في الجمود الذي استمر حتى مطلع القرن الحالي، فلم تعد تتفاعل مع حاجات المجتمع وظروف التطور، وانحسر مفهوم النظرية التربوية ليتخلص من قدرة الخلف على تزويد معارف السلف أو شرحها أو تلخيصها)1، ثم انحسر لذلك المنهج الذي اقتصر على العلوم الدينية وحدها، والاكتفاء باختصار كتب السلف وشرحها وتدريسها.

وسنتحدث عند تفاصيل هذه الموضوعات التي أجملناها عندما نتحدث عن علماء التربية الإسلامية خلال العصور المختلفة في الأعداد القادمة إن شاء الله.

[1]  سورة البقرة الآيات: 30- 38.

[2]  سورة المائدة الآية: 27- 31.

[3]  د. سعد موسى أحمد - تطور الفكر لتربوي ط 1 ص 74- 85.

[4]  مونرو - تاريخ التربية نقلها عن التربية وطرق التدريس لصالح عبد العزيز وعبد العزيز عبد المجيد.

[5]  د. سعد موسى تطور الفكر التربوي ص 84- 85.

[6]  التربية وطرق التدريس ص 33.

[7]  د. إبراهيم ناصر مقدمة التربية ص 35.

[8]  مونرو - تاريخ التربية ترجمة صالح عبد العزيز ص 86- 88.

[9]  د. سعد موسى – تطور الفكر التربوي ص 147- 150.

[10]  الشيخ أبو الحسن الندوي - ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 45- 46.

[11]  راجع المرجع السابق ومقدمة تاريخ التربية د. إبراهيم ناصر ص 38.

[12]  راجع الشيخ أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (37).

[13]  د. إبراهيم ناصر مقدمة في التربية ص 34.

[14]  ماذا خسر العالم ص 44.

[15]  راجع الطبري ج 4 ص 108.

[16]  الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 47.

[17]  راجع سيد قطب معالم في الطريق ص 11- 14..

[18]  أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 98.

[19]  سورة الغاشية: 17، 18، 19، 20.

[20]  سورة عبس الآيات: 24- 32.

[21]  البيان والتبيين - الجاحظ ص 92 ج 2.

[22]  مقدمة ابن خلدون ص 446م ط دار البيان.

[23]  أحمد أمين: فجر الإسلام ص 165.

[24]  مقدمة ابن خلدون.

[25]  مقدمة ابن خلدون ص 379.

[26]  القرطبي: جامع بيان العلم وفضله ص 126.

[27]  المصدر السابق ص 130.

[28]  د. أحمد زكي علم النفس التربوي ص 633.

[29]  القرطبي جامع بيان العلم ص 139.

3  القرطبي جامع بيان العلم ص 139.

4 المصدر نفسه ص 138.

1  عطية الابراشي: التربية الإسلامية وفلاسفتها ص 65.

1  راجع تطور مفهوم النظرية التربوية ص 175 وما بعدها.

1  ماجد سرحان: تطور مفهوم النظرية التربوية ص 209.

 

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/60265

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك