حقوق الإنسان بين التشريع والمُمارسَة

بقلم: محمد باقي محمد 

طويلة كانت المسافة التي قطعتها البشرية في معرض تطوّرها، لتغادر طفولتها المديدة، ولتتعافى بحدود في أمكنة بعينها، من غير أن نتناسى المعوقات الجمة التي اعتورتها، سواء أكانت تلك الصعوبات على الصعيد الذاتيّ، أو على الصعيد الموضوعيّ!



 ومن المُؤكّد أن لا أحد على وجه التحديد يستطيع أن يُقدّر عمر الإنسان على سطح البسيطة، بيد أنّ التأكيد على طفولة بشريّة - استغرقت جلّ هذا العمر - يبدو في حكم الحقيقة الناجزة، والغريب أنّه في طفولته تلك كان مُتحصّلاً على حقوقه كاملة، تلك التي ندعو إليها اليوم وبإلحاف، غير أنّ المُؤسف في المسألة يتمثل في أنّ وعيه لحقوقه كان في الدرجة صفر، وأنّ حياته كلها كانت تقوم على مُجرّد تلاؤم مُنفعل مع الطبيعة!




 كانت التشكيلة المشاعيّة أولى أنماط التجمعات البشريّة التي شهدتها الأرض، ولتبسيط لا يتوخى التسطيح بقدر ما يروم التوضيح، سنمثّل للتجمعات في إفرادها بمجموعة من الرجال والنساء جمعتهم الحاجة، الحاجة إلى التحصّل على الغذاء ما يحفظ لهم الحياة، والحاجة إلى الأمن من الضواريّ التي قد يصعب على مُفرد أن يتحاشى تغوّلها، والحاجة إلى حفظ النوع، على أن نتذكّر بأنّ العائلة الثنائيّة لمّا تكن قد عُرفت بعد، وعلى ذلك يبدو القول بسفاح القربى خالياً من أيّ معنى، إذ أنّ المنظومة الذهنيّة كانت بعيدة عن هكذا تصوّر أو تحليل!




 والآن .. إلى أيّ نمط إنتاجيّ يرجع التأسيس لتفاوت القيمة أو الحقوق بين البشر!؟ هو لا يعود حتماً إلى مرحلة الجمع والالتقاط، جمع الثمار والجذور والديدان، كانت قيمة المرأة كبيرة في هذه التشكيلة، ما انعكس على آلهة مُختلطة أنثويّة وذكوريّة، وآنَ عجزت هذا العمل عن تأمين احتياجاتهم مع التزايد المُطرد لعددهم، عمدوا إلى الصيد، إنّ الصيد يتطلب قوة بدنيّة مُتحصّلة للرجل، بيد أنّ مكانة المرأة لم تتزعزع، وذلك بسبب مقدرتها على جمع الثمار والجذور أو الديدان بصبر وبراعة، إلى جانب القوّة تطلبَ الصيد خبرة بعادات الحيوان، إضافة إلى إعداد الطعوم أوأدوات الصيد، لكنّ القفزة جاءت عندما اكتشف البشر - بالالتصاق - أنّ بعضاً من هذه الحيوانات قابل للتدجين، وهكذا انتقلوا إلى المُجتمعات الرعويّة، إلاّ أنّ أيّ تغيّر على نمط عيشه لمّا يتحصّل، أو أنّه كان في حدوده الدنيا!




 وإذا كان الصيد قد علمَ الإنسان تربيّة الحيوان، فلقد قاده الجمع والالتقاط إلى الزراعة، عير الدهشة فالفضول والتجربة، ليتحصّل على طفرة في حياته عدّها الدارسون الثورة الأولى له، خاصة إذا وضعنا في حسابنا اكتشافه للنار، إذ نقلته من الظلمة إلى النور، ومن الطعام النيّء إلى الطعام المطهو، وغيّرت في أدواته!



أمّا لماذا شكلت الزراعة ثورة في حينه، فلأنّها نقلت الإنسان من حياة التنقل إلى حياة الاستقرار، لتظهر القرى الأولى على سطح الأرض، مُترافقة من ثمّ بظهور الملكيّة الخاصة، والزواج الثنائيّ، ناهيك عن تقسيم العمل، لتحصّل الإنسان - ولأوّل مرّة - على فائض في الإنتاج، ما سمح له بتجارة نشطة، والانتقال من الأدوات الحجريّة إلى عصر المعادن - البرونز نموذجاً، فكيف انعكست هذه الطفرة على أشكال تفكيره ومنظومته الذهنيّة!؟




 وفي الجواب سنقف بالمُفارقة، إذ في الوقت الذي كان البشر يقطعون فيه المسافات بسرعة، ويتحصّلون - لأوّل مرة في تأريخهم - على فائض أسهم في تنشيط التجارة كما أسلفنا، كانوا - وعلى الطرف الآخر من المُعادلة - قد فقدوا المُساواة في الحقوق والواجبات، التي ساست حياتهم طويلاً، لتدخل البشريّة نفقاً مُظلماً أسّس للتشكيلة العبوديّة، استعبد الإنسان أخاه الإنسان إذاً، وتراجع دور المرأة إلى حدود المحظيّة في الجوهر، تحت مُسميات الزوجة والأم أو الأخت كأدوار مُذلة!




 من ممالك المدن - أور - السومريّة أو - أوروك - و -أثينا - اليونانيّة أو - اسبارطة - مثالاً، إلى الامبراطوريات - الرومانيّة - مثالاً، تلك التي قامت على القمح كأساس اقتصاديّ لها ، وذلك في قوس المناخ المُعتدل من تخوم الصين المداريّة شرقاً، إلى هضبة المكسيك غرباً، مروراً بوادي الغانج وهضبة الدكن فوادي السند وهضبة إيران، بلاد الرافدين - ميزوبوتاميا - وساحل بلاد الشام، فساحل شمالي أفريقيا! إذاك أدرك الحاكم - ولأوّل مرة - أهميّة الدين كجملة من التصوّرات والطقوس توّلف الذهن على مفهوم الطاعة، وليقوم - من ثمّ - تحالف مقيت بين السلطان والفقيه، لمّا ينفصم عراه عبر التأريخ!



تقدّمَ الإنسان في أنماط إنتاجه، غير أنّ منظومته الفكريّة تراجعت، إذا نظرنا إليها كحكم قيمة، واضعين اشتغال المُفكرين والفلاسفة والكتاب والفنانين على أقانيم ثلاثة خالدات - الحق والخير والجمال - في الحسبان!




 إنّ العبوديّة فعل مناف للتأريخ، بل هي فعل مناف للطبيعة، تلك التي تقوم على توازن مُعجز، ذلك أنّ عناصرها تقوم بأدوارها، من غير أن يُخلّ أحدها بالآخر، ولأنّ الحضارة الماديّة - على جورها - نقلت البشر من خانة الانفعال إلى خانة الفعل، ثار العبيد على أسيادهم غير ثورة، وفي غير صقع، فهل نستشهد بثورة عارمة كادت أن تطوّح بالامبراطوريّة الرومانيّة قادها الثائر الشهير سبارتاكوس!؟



انغلقت عصور ما قبل التأريخ والعصور التأريخيّة القديمة على أفق عبوديّ إذاً، ومع بداية العصور الوسطى تشكلت الدولة العربيّة الإسلاميّة ذات النظام السلطانيّ القبليّ، مُؤسّسة لتشكيلة جديدة تنهض على إقطاع وسيع، مع بؤر حرفيّة نشطة - البصرة العباسيّة نموذجاً، وعلى نحو ما كان هذا حال أوروبا المُتذرّرة إلى إقطاعات تتمحور حول قصر المالك الإقطاعيّ أو الكنيسة، ليتحوّل ثنائيّ السيّد والعبد إلى ثنائيّ الإقطاعيّ النبيل والفلاح البسيط، الذي لا يعدو عن صنو للعبد إلاّ قليلاً!!!




 وإذا تحرّينا في الجانب القيميّ، لوضعنا يدنا - ثانيّة - على تراجع مُفارق، إذ كان الجنس - على سبيل التمثيل - طقساً مُقدّساً يُمارس في المعابد، ربّما بسبب دور المرأة في الإنجاب، لكنّه أضحى طقساً مُؤثماً على نحو تدريجيّ، بدأ مع نهايات العصور القديمة، وتعزّز في العصر الوسيط، لا سيما في الديانات السماويّة، ثمّ أنّ العبد إذ انقلب إلى فلاح، لم يكسب أيّ حقّ يُقلل من جوهر عبوديته الظاهرة في التشكيلة العبوديّة، اللهم إلاّ تغلف تلك العبوديّة بمُسمّى جديد، أضاف إلى أرزائه أعباء جديدة، وأخذ نضال البشر ضدّ أشكال القهر المُتباينة يأخذ تعبيرات شتى، بعضها عرقيّ، وبعضها الآخر ديني أو مذهبيّ أو طائفيّ أو - حتى - قبليّ!




 حثيثة راحت الجماعات البشريّة تودّع العصور الوسيطة، لتلج العصور الحديثة، عبر كشوفات جغرافيّة عادت على أوروبا الناهضة بثروات طائلة، كانت الامبراطوريّة العربيّة الإسلاميّة تضعف، ناهيك عن انتقالات طال مركز ثقلها هنا وهناك، لتنتهي إلى الآستانة مع الامبراطوريّة العثمانيّة، ولتنتقل الخلافة - من ثمّ - إلى السلاطين العثمانيين! 




 أمّا الانقلاب الثانيّ في حياة البشريّة فلقد تجلى في الثورة الصناعيّة، ذلك أنّها نقلت مركز الثقل في الإنتاج من القريّة إلى المدينة، إذاك .. وحتى تحمي الكيانات منتجاتها من المُنافسة، تشكّلت الدول القوميّة بمفهومها الحديث، وتبلور مفهوم القوم أوالأمة، لكنّ المنظومة القيميّة تراجعت أكثر فأكثر، إذ ترافقت الثورة الصناعيّة بظاهرة الاستعمار! لم يعد كافياً أن يولد ثنائيّ جديد، الرأسمالي والعامل - إذاً - بل خضعت أصقاع العالم للاستعمار الغربيّ، في بحث محموم عن المادة الأوليّة للصناعة، ناهيك عن أسواق لتصريف المنتوجات، آسيا وأفريقية وأمريكا اللاتينيّة، بل وحتى أمريكا الشماليّة كانت مسرحاً لانتهاك بغيض - لا لحقوق الإنسان المُفرد - بله الأمم والقوميات!
 الدولة التي ولدت من رحم الصناعة أسّست للدولة القوميّة كما نوّهنا، لكنّها - حقوقياً - لم ترقَ بالمثال عن سابقاتها بكثير، ولنا في المرأة السبيّ والأمة أو الجاريّة أو الرقيق الأبيض - في تعبيره الحديث - خير مثال، إذ أضحت مادة للاستغلال، ابتداءً بصرخات الموضة أو التجميل، وانتهاء ببغاء فقد صفة القداسة، تلك التي تمتع بها ذات حضارة!




 فهل اختلفت الاشتراكيّة عن التشكيلات السابقة عليها، أم أنّها - عبر ديكتاتوريّة البروليتاريا - أنتجت نظاماً شمولياً استولت فيه الدولة على مُقدرات المُجتمع، هذا من غير أن ننكر عليها تقدّماً على مُستوى حقوق الطفل أو المرأة!؟




 ولكن ألم يأزف الوقت لرسم مسار بيانيّ ينضويّ على التأريخ الفكريّ والفلسفيّ للبشر في مراحل تطوّرهم المُختلفة، لنزعم بأنّ الفكر الإنسانيّ راح يحبو طويلاً وراء تفسيرات للظواهر التي تحيط به!؟ وحتى لا ندخل في جدل حول الأسطورة أو الملحمة والسحر الذي وُلد من رحمه الدين والعلم والفنّ، سنذهب إلى أنّ الفضل في منهجة الفكر الفلسفيّ - ذاك الذي عرفته شعوب مصر القديمة والهند والصين وبلاد فارس وبلاد ما بين النهرين وسواحل المتوسط على تفاوت - إلى الإغريق، ولا نظنّ بأنّ المقام سيسمح بالوقوف على التيارات الفلسفيّة التي راحت تتموّر في ممالك المدن اليونانيّة كالرواقيّة والأبيقوريّة مثلاً، أو على ظهور فلاسفة كبار كسقراط وأفلاطون وأرسطو، ليتبلور مفهوم السياسة أو الحق، ولكن من غير أن يغادر ثنائيّة الطبقة الأرستقراطيّة والعوام، أو الأسياد والعبيد، مفهوم الدولة أو الحقوق والواجبات شهد جدلاً واضحاً، ولكن بعيداً عن التماثل بين البشر، لهيمنة مفهوم الامتثال، امتثال شمل - حتى - المدينة الفاضلة لأفلاطون أو لغيره، بل وللفارابيّ أيضاً!




 بيد أنّ مفاهيم كانت تشكو الإبهام - على نحو ما - راحت تترسخ كالدولة - مثلاً - أو أنظمة الحكم المُتباينة، بما فيها النظام الديموقراطيّ، أو الدساتير والقوانين والتشريعات، تشريعات صولون مثالاً!



ابتداءً بالقرن الرابع عشر للميلاد ستقطع البشرية حبل السرة مع إرثها الأسطوريّ، لتتبنّى الفكر السياسيّ، وهو ما قاربه عالم الاجتماع ابن خلدون، إذ كشف عن مراتب الدول وتزاحمها أو تعاقبها، بيد أنّ السؤال الذي شغله هو : ترى ما هي القوة التي يتكىء عليها الحكام للاستيلاء على السلطة!؟ سؤال قد يتطلب فهمه الإحاطة بالمُجتمع الذي عاش فيه إذ راح يُنجز مُقدّمته الشهيرة! على هذا التأسيس ستنجز أوروبا طفرتها الفكريّة في ما سيُصطلح عليه بفلسفة عصر الأنوار، أو النهضة الأوروبيّة، أي مع نهايات القرن الخامس عشر، وبدايات القرن السادس عشر، لتطال أنماط الدولة، ولكن غير بعيد عن علاقة الحاكم بالمحكوم، ولتتبصّر في مفاهيم الحق، أو العلاقة بين الدين والدولة، العلمانيّة والعقلانيّة والديموقراطيّة وحقوق الإنسان، طبعاً من غير أن نخوّض في تأثير الفلسفة العربيّة الإسلاميّة على التطوّر الفكريّ العالميّ، مُستشهدين في هذا الصدد بابن رشد، الذي نقل اليهود ترجمته إلى أوروبا! 
 عبر غير فيلسوف كهوبز مثلاً، إذ تتسم فلسفته بالعقلانيّة، ذلك أنّه يرى بأنّ السياسة تتأسّس على مفاهيم وتعريفات دقيقة وصائبة، مُعارضاً أرسطو بهذا الصدد، إنّ المُجتمع السياسيّ بحسبه نتاج ميثاق ومنفعة، يقوم على تنازل المواطنين عن مجموع مصالحهم الخاصة مقابل الحماية، وبذلك فإنّه ينفي عن السلطة مصدرها الإلهيّ!




 هوبز - إذاً - وجون لوك الذي ذهب إلى تخلي البشر عن سلطاتهم، تلك التي محضتها الطبيعة لهم، وذلك لحساب مُجتمع مدنيّ، مُضيفاً الفصلَ بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة إلى الفصل بين الدين والدولة، انطلاقاً من العقد الذي أنتج المُجتمع السياسيّ، أي المُجتمع المدنيّ، بهذا المعنى فهو يذهب إلى مُجتمع مُنتظم بالتبادل بين الناس، ما سمح للمُجتمع بمُراقبة الدولة!
 هوبز وجون لوك ومونتسكيو الذي أتكأ في روح الشرائع إلى الدستور الفرنسيّ، ما وسم منهجه بالتنوّع والنسبيّة والحتميّة، وذلك في ظلّ العقلانيّة بالاستناد على أفلاطون، والريبيّة ذلك أنّ عظمة القانون - بحسبه - لا تتناسب مع عجز المُشرّعين!
 إنّ مونتسكيو يدين الحكم الاستبداديّ، فهو يرى فيه إهانة لطبيعة الإنسان، ويقترح الدين رادعاً، والاعتدال فضيلة، واللامركزيّة مع فصل السلطات، للحيلولة دونه، أي دون الاستبداد، لقد تميّز المُجتمع المدنيّ - عنده - باتخاذه شكل القانون!
 فما الذي سيُضيفه روسو إلى هذا الإرث!؟ لاشكّ بأنّه كان في عقده الاجتماعيّ مُبْتكِراً، ويتجلى ابتكاره في الحريّة والمُساواة، ثمّة ابتكار لنظام جديد إذاً، نظام عادل بالضرورة من خلال العقد الاجتماعيّ!




 أمّا هيجل فيرى بأنّ الدولة هي التي تكوّن المُجتمع المدنيّ ثمّ تحميه، لكنّه لا يرى في الدولة تجسيداً للإرادة العامة، أو - حتى - تجلياً للعقد الاجتماعيّ، بل كائناً طبيعياً يُجسد العقل والحرية، ضن شرطين، أن يجد المواطن العاقل تلبيّة لرغباته المعقولة فيها، وأن تتحصّل هي - بالمُقابل - على اعترافه بعدالة قوانينها!




 مع ماركس سنقف بالدولة كمؤسّسة قوميّة آيلة إلى الزوال، فهل نحن بصدد الفوضى كبديل موضوعيّ لزوال الدولة!؟
 إنّنا إذ نقف بتفسير ماركس وأنغلز سنشير إلى أنّه تفسير فلسفيّ، لقد نقد ماركس هيجل تأسيساً على رفض الأول للفصل بين الدولة والمُجتمع المدنيّ، ذلك أنّه - بحسبه - يُحيل إلى اغتراب الإنسان، ما يُؤسّس لعالم السياسة القائم على حريّة المُواطن، وعالم الاقتصاد الذي يخضع واقعياً لعلاقات الاستغلال، فتطل البيروقراطيّة بظلها المُقيت!




 تحت يافطة ديكتاتوريّة البروليتاريا - إذاً - رسم ماركس وأنجلز الطريق من الرأسماليّة إلى الشيوعية عبر سلطة الدولة، وذلك لغياب الصورة الجليّة لآليات تلاشي الدولة!
 ورشة دؤوب راحت - على اختلاف وائتلاف - تتباحث في موضوعات ضاغطة شغلتهم طويلاً!
 وفي اختصار مطلوب سنمرّ سريعاً على صيغة العقد الاجتماعيّ في تنظيم علاقة السلطة بشعوبها، ربّما لأنّ إجماعاً حول ضرورة السلطة تبلور عند الجميع، غير أنّ تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم لمصلحة الدولة، بما هي التمثيل المُؤسّساتيّ لتلك السلطة، مقابل أن تحقق لهم الأمان والرفاه، أضحى تنازلاً إرادياً، مشروطاً برضا الطرفين، مع احتفاظ الطرف الثاني بحق تغيير هذه السلطة إن هي أخلت بالتزاماتها، ليظهر مفهوم التمثيل والانتخاب، ثمّ تبلورت فكرة الفصل بين الدين - باعتباره شأناً مُطلقاً سماوياً وخاصاً - والدولة - باعتبارها شأناً أرضياً ونسبياً يمسّ حياة الناس - فأطلت العلمانيّة برأسها، مُحتكمة إلى العقلانيّة، بما هي إعلاء لشأن العقل، أي إلى الأخذ بالأسباب، إن استعرنا مفهوماً دينياً بقصد التوضيح، وأعليَ شأن النظام الديموقراطيّ في إطار دولة الحق والقانون التي ترسخت في الغرب، وذلك في إطار ليبراليّ يرى في الفرد خليّة المُجتمع الأولى، بدل الأسرة أو العائلة في المُجتمعات الشرقيّة، وأكثر فأكثر راح مفهوم المُجتمع المدنيّ يرسم تعبيراته في تلك المُجتمعات، هذا إلى جانب حقوق الإنسان!
 أليست الصورة ورديّة في إجمالها!؟ ولكنّها في الحقيقة جاءت عبر مخاض عسير، إذ لم تسلّم الكنيسة بإقصائها عن السلطة هكذا وبسهولة، وقد نستشهد بالعسف الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية بحق البروتستانت، أو برفضها للعودة إلى داخل الكنيسة ببساطة!
 ثمّ أنّ الدولة - من حيث المبدأ - سلطة كما تقدّمَ، وكلّ سلطة تسعى إلى المزيد من أسباب القوة، من غير أن تعي بأنّ دولة قويّة تفترض مُجتمعاً مدنياً معافى لا العكس، أي أنّ تدرك بأنّ الدولة ليست على التضاد مع المُجتمع المدنيّ!




 وإذا كان النظام الرأسماليّ - بما ينطوي عليه من تناقضات بنيويّة - قد أنتج الدولة الحديثة، فكيف ستحل مُشكلة تمركز الثروة بأيدي قلة من الأثرياء مثلاً!؟ وكيف تتحرّر المرأة ممّا علق بها من فوات بعد!؟ كيف يتلاءم العمل بالأجر المُعادل له، وكيف يتخلص هذا النظام من أزماته الاقتصاديّة الدوريّة، التي تسببت بحربين كونيتين، هذا على سبيل الاستعراض مثلاً!؟
 غيض من الأسئلة تبحث عن أجوبة تناسب عناوين العصر ويافطاته، ولكن كيف ستبدو اللوحة إذا انتقلنا إلى العالم المُخلف، ذاك الذي تعرض للاستعمار طويلاً، والذي تحصّلت غالبية دوله على استقلالها بعد الحرب الكونيّة الثانيّة، مُتذكرين - ثانية - بأنّ الحربين العالميتين جرتا في ظلّ المفاهيم التي جئنا عليها، والتي أنتجت - في تناقض مُثير للجدل - حداثة سياسيّة ومُجتمعيّة كبرى!؟ وكيف ستردم الهوة بين شمال ثريّ - بمعناه السياسيّ لا الجغرافيّ - وجنوب فقير!؟
 قد نرسم أفقاً شاحباً عبر تذكرنا لنظرية المركزية الأوروبيّة، تلك التي ترى أن لا حضارة خارج أوروبا، أو نذهب - على هذا - جهات استشراق، لم ينأ عن الاستعمار كثيراً، وقد نستعيد - مُندهشين - رأياً لهيجل - باعتباره أحد أهم الفلاسفة عبر التأريخ - يقول فيه بأنّ الزنوج خاملون وعديمو الضمير، لنتساءل - من ثمّ - كيف لعقل جبار كعقل هيجل أن ينزلق إلى الدراج والمغلوط تحت مظلة الاستشراق تلك!؟ وإذا كان الخمول يعود إلى عامل مناخيّ كما يرى ابن خلدون في فطنة، فأين نذهب بانعدام الضمير لقارة كأفريقيّة بأكملها!؟ ثمّ ماذا بعد!؟ إنّ هذا التشاؤم - بالانتقال إلى تعبيراته العالمثالثية مثلاً - يستمد نسغه من حكام أوتوقراطيّين مُستبدّين، يحكمون عموم العالم المُخلّف، عدا استثناءات تكاد لا تذكر، ناهيك عن مُجتمعات مُفوتة تتجاور في تكوينها الفكريّ والاجتماعيّ القبليّ والطائفيّ أو المذهبيّ، أو من نمط إنتاج مُتداخل بحسب ماركس، أي ما تعارف عليه الدارسون بنمط الإنتاج الآسيويّ، على ألاّ ننسى بأنّه لم يدرس بشكل كاف حتى من لدن ماركس، أو عن عسكرتاريا عالمثالثيّة غادرت ثكناتها، لتغتصب السلطة بالقوة، ولتحيل مُعارضيها إلى السجون أو المنافي أو إلى التصفيات الجسديّة، وإذا تذكّرنا بأنّ الأحزاب تعبيرات اجتماعيّة راقية عن مصالح مُتباينة في الغرب، فأين هي ممُا تقدّمَ في مُجتمات تعيش ولاءاتها بعيداً عن مفهوم الانتماء، مُجتمعات لم تتمكن من إنجاز دولتها الوطنيّة، وعندما صادرت سلطاتها السياسة منها، انداحت الأصوليات على الحواف بسبب الانحسار في العمل السياسيّ، فانضاف التكفير الدينيّ إلى التخوين السياسيّ، ثمّ ماذا عن معاجم ليس فيها مُعادل لمفهوم “civil”، أي المدنيّ في الغرب، ليُشير عزمي بشارة - بذكاء لافت - إلى تباينه عن العسكريّ أو الدينيّ، وبهذا المعنى فهو علمانيّ بامتياز!؟ بل أين نصنف “سلطات” تحيل مُواطنها إلى خانة الواجبات من دول تحيل إلى المأسسة، أي إلى خانة الحقوق فالواجبات!؟ 




 بتأثير هذه اللوحة غير المُشرقة راح مفهوم حقوق الإنسان يكتسب وعي الضرورة، وإذا كانت البدايات فكريّة موغلة في بدايات النهضة الأوروبيّة، فإنّها على مُستوى المُمارسة راحت تحقق مُكتسبات مُهمّة تقوم على المأسسة، إذ ها هو الرئيس الأمريكيّ ولسن يعلن للعالم مبادئه الأربعة عشرة في مطلع القرن المُنصرم، وفي عالم راح ينجز ثورته الثالثة .. ثورة المعلومات، ضغطت القوى المُجتمعيّة للتحصّل على المزيد من حقوقها، فكان الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف، أي في أعقاب حرب كونيّة عاتية، ليتصدّر حق الحياة والحرية والأمان والمُساواة مواده الثلاثين، مُكتسباً أهميّته من اعتراف دوليّ ببنوده، ذلك أنّه صدر عن الجمعيّة العامة للأمم المتحدة - أي عن الهيئة الدوليّة التي تشكّلت في أعقاب الحرب العالميّ الثانية - عام 1948، ثمّ تعدّدت هيئاته العالمية - الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان - والإقليميّة - الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان - ليستتبع بملاحق للحقوق المدنيّة والسياسيّة، أو للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، فالحق في التنميّة، وإعلان مبادىء التعاون الثقافيّ الدوليّ، ثمّ اتفاقيّة مناهضة التعذيب، واتفاقيّة القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة، فحقوق الأقليات القوميّة والإثنيّة والدينيّة واللغويّة، أو مُناهضة أشكال التعصب الدينيّ، وأخيراً حريّة الفكر والوجدان والدين، ناهيك عن الملحق الذي قدمته المُنظمات غير الحكوميّة إلى المُؤتمر العالميّ الثانيّ لحقوق الإنسان في فيينا 1993، ما يُعفينا من التذكير بالمُؤتمرات العالميّة التي انعقدت لهذه الغاية!




 فهل نُنكر على مُفكّرين عرب إسهامهم في ترسيخ مفهوم الدولة والمُجتمع المدنيّ والديموقراطيّة وحقوق الإنسان!؟ فهمي هويدي مثلاً الذي رأى بأنّ المُجتمع المدنيّ هو ذاك الذي تتشعب فيه التنظيمات الطوعيّة، و بذلك تدخل الأحزاب ضمن آليات المُجتمع المدنيّ، مع أنّها تضع السلطة في مقاصدها، بشكل ينأى بها عن المهام الموكلة للمُجتمع المدنيّ، أو سعد الدين إبراهيم الذي يرى في المُجتمع المدنيّ فضاءً للحريّة، يتفاعل فيه الناس تفاعلاً حراً، فإذا تذكّرنا مع عزمي بشارة بأنّ المُجتمع المدنيّ مفهوم مُتغيّر، يترجّح لنا بأنّه مُعطى آيديولوجيّ!
 لقد أنتج العرب الدولة السلطانيّة التي لا تبادل للسلطة فيها، وإن كانت تعبيرات أهلية أطلت منها على استحياء، لهذا - ربّما - ستكون الديموقراطيّة الإطار الرئيسيّ للتعدّديّة، وهذا يذهب بنا جهات المحطة الثانية محطة الدولة، التي إن غابت دبت الفوضى في جسد المُجتمع “العراق” مثالاً، وإذن فلا مجتمع مدنيّ خارج الدولة، ولا حقوق للإنسان خارج المُجتمع المدنيّ، فهل عرف العرب الدولة عبر آليات عملها وأطرها وتقاليدها، أم أنّهم يخوّضون في مرحلة ما قبل الدولة بمعناها الفلسفيّ التكوينيّ!؟




 لقد خفت مفهوم المُجتمع المدنيّ في مفصل من مفاصل القرن العشرين، وطال هذا الخفوت بالضرورة حقوق الإنسان، بسبب التغيّرات التي طالت الخارطة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، إذ سقط الاتحاد السوفييتيّ، وتذرّر إلى دويلات أثنيّة، مُمثِلاً لهزيمة الفكر الشموليّ، كما انهزم الشيوعيون في بولندة على يد حركة تضامن، ليبدأ المفهوم بالترسّخ ثانيّة، فهل كان للكنيسة الكاثوليكيّة يد في هذا الترسخ!؟ التقدّم الاجتماعيّ والثقافيّ في أوروبا، إضافة إلى الثورة التكنولوجيّة، فتشدّد نبرة العدوان على يد رونالد ريغان، ومن بعده إدارة بوش، هذا كله خلق رأياً عالمياً نادى بعودة السلم إلى العالم، وسنتذكر في هذا الإطار المُظاهرات في مئتي مدينة عالميّة لمُناهضة الحرب!




 بقي أن نقول - في تفاؤل ربّما و ربّما بإصرار - أنّ التجربة الاشتراكية إذ لم يُقيض لها النجاح، فإنّ حلم البشر بالعدالة الاجتماعيّة سيظلّ ما دام البشر يعيشون على سطح هذه البسيطة، أنّ الرأسماليّة ليست نهاية التأريخ كما روّج لها فرانسيس فوكوياما، أي أنّها ليست ثيمة لا مفرّ منها، كما أنّ صراع الحضارات الذي قال به صموئيل هنتغتون ليس قدراً، قد يكون واقعاً اليوم، ربّما لأنّ السياسة الدوليّة تحتكم إلى المصالح لا المبادىء، ولكن تحويله إلى حوار حضارات هو مهمة البشر، كلّ البشر، إنّها معركة الجميع - بتعبير ميشيل بينيون - ما يُعطي لمقولة ادواردو غاليانو التي سطرّها على كتاب نعوم تشومسكي الشهير “501 الغزو مستمر”، والتي يأتي فيها على ما مفاده “إنّ موهبة تشومسكي الجبارة تثبت - ثانية - بأنّه ليس مقدراً للبشر أن يكونوا سلعاً” ولا نظننا سنقبل بأن نكون سلعاً، لا الآن ولا في المُستقبل! 

المصدر: http://www.alawan.org/article13677.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك