أخلاقية الحوار مع الآخرين

كما أن للحوار أدواته وشروطه وقنواته، فكذلك له أخلاقيته التي هي أوسع من دائرة آدابه، وحتى نفهم أخلاقيات الحوار، ونؤسس لها بين شبابنا وفتياتنا يتعين الإجابة عن ثلاثة أسئلة:
1- ما هو منطلق الحوار؟ أو ما هي دوافعه؟
2- ما هو الهدف أو الغاية من الحوار؟
3- كيف يجري الحوار؟
1-دوافع الحوار:
فالسؤال الأوّل الذي ينبغي أن تطرحه على نفسك وأنت تستعد لإجراء حوار مع أخ أو صديق أو أي شخص آخر، هو: لماذا أحاوره؟ أو ما الذي يدفعني لمحاورته؟
وباعتبارك إنساناً مسلماً تستحضر الله في كلّ عمل تقوم به، فإنّ منطلقك في أي حوار يجب أن يكون (الله) سبحانه وتعالى، كيف يتحقّق ذلك؟
من خلال نيّة القربة إلى الله، فإذا كنت تحاور من هذا المنطلق فحوارك عبادة، سواء حاورت في الدِّين والعقيدة والأخلاق، أو حاورت في أي شأن من شؤون الحياة الأخرى.
ما فائدة ذلك؟
لقد مرّت بنا أمثلة عديدة من الحوارات السلبية، ومنها إصرار المحاور على الخطأ، أو تشبثه بالانتصار والغلبة، أي أن يخرج من الحوار منتصراً حتى ولو طرح محاوره أرضاً.
هذه الحوارات لا تستهدف التقرب من الله ونيل رضاه، وإنّما تستهدف تضخيم (الأنا) وارضاء الشيطان، ولذلك فإنّك لو راقبت حواراً جاداً ونافعاً وتأملت في محاوريه فإنّك يمكن أن تكتشف جديّة المحاور ورزانته من خلال تواضعه واقراره بالحقيقة حتى لو قال بها محاوره الآخر، وهذا مما يحبّه الله، فالحقُّ أحقّ أن يُتبع.
2-غاية الحوار:
قد يبدو الفارق بين دافع الحوار وغايته دقيقاً، ولكنّنا إذا عرفنا أنّ الدافع هو (المنطلق) والهدف هو (الغاية) وإنّ الحوار ذاته هو الخط الواصل بين المنطلق والغاية عرفنا موقع كلّ منهم في الحوار.
وقد سبقت الإشارة إلى أنّ الغاية من الحوار قد تكون ذاتية، فأنت تسعى للانتصار لذاتك حتى يقول أصدقاؤك أنّك غلبت فلاناً وأنت أقدر منه في الحوار، فيتركّز اهتمامك على شكل الحوار لا على الانتصار للحقيقة.
ولكي تعرف الغاية من حواراتك، هل هي لـ(البحث عن الحقيقة) أو (إثبات الذات) يمكنك طرح الأسئلة التالية على نفسك:
- هل سأقبل بالحقيقة حتى ولو كانت عند غيري؟
- هل سأكابر وأغالط حتى لو انبلج نور الحقيقة واضحاً ساطعاً؟
- هل ستكون الحقيقة المنشودة أكبر من ذاتي فأقرّ بها، أم أنّ ذاتي ستكون أكبر من الحقيقة لتدوسها بقدميها إذا كانت تعرّضني أو تعرّض مصالحي إلى الخطر؟
وبقدر ما تجيب بصدق على هذه الأسئلة، فإنّك ستعرف غايتك من الحوار، ذلك أنّ البعض يحاور على طريقة "أنا أحاور فأنا موجود" فالغاية كسب الشهرة وهزيمة الآخر لا هزيمة الباطل أو الخرافة أو التخلّف، فإذا كنت تطلب الشهرة لذاتك لا للحقيقة فأنت تبحث عن ذاتك لا عن الحقيقة.
إنّ نسبة كبيرة من الحوارات يغيب فيها الجانب الموضوعي ويطغى الجانب الذاتي، وهو ما يخرج الحوار عن أخلاقيته الإسلامية، لكن ذلك لا يعني أن تلغي ذاتك تماماً، فأنت حينما تشعر بالرضا والسعادة لأنّ الحقيقة انتصرت بعد أن دافعت عنها، تشكر الله على توفيقه لك في أنّك كنت جندياً مخلصاً من جنود الحقيقة. وهذا بحدّ ذاته يدخل عليك حالة من الابتهاج وراحة الضمير لأنّك جعلت ذاتك تسير في خط طاعة الله، وهل الإيمان غير هذا؟!
3- أخلاقية الأسلوب:
تتمثّل أخلاقية الأسلوب في الحوار، في:
أ‌) الموضوعية في الحوار والتحرّر من المؤثرات الجانبية التي تبعدك عن طريق الوصول إلى بيت الحقيقة. وقد ذكرنا أنّ النبيّ (ص) كان يحاور المشركين ليقودهم إلى الإقرار بالحقيقة من خلال تجميده لقناعاته (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/ 24).
فرغم أنّ النبيّ (ص) على (هدى مبين) ولديه (كتاب مبين) وأكثر الناس معرفة بـ(الضلال المبين) لكنّه يطالب محاوريه بالابتداء من نقطة الصفر وتناسي الخلفيات الفكرية والعقيدية، حتى يكون الحوار متحرّراً من أي عامل خارجي.
ولأجل أن نضع ذلك في إطاره الواقعي، فإنّنا لا يمكن أن ننكر أو نتجاهل خلفياتنا الفكرية، فالمسلم يحاور وهو يحمل فكر الإسلام في داخله، والكافر يحاور وهو يحمل آراءه في ذهنه، ولكنّ المراد من تجميد القناعات السير بالحوار خطوة خطوة وذلك باستدراج العقل إلى ساحة الحقيقة دون ضغط وإنّما بإدراك أنّ هذا الذي يقوله الآخر ذو حجّة بالغة وبرهان ساطع ودلائل مقنعة.
وقد تكون المؤثرات نفسية تنطلق من الحبّ والبغض والمزاج والتعصب، ولو تابعت جميع حوارات النبي (صلى الله عليه وسلم) والأئمة من أهل بيته والصحابة رضوان الله عليهم، لرأيت أنّهم كانوا يحاورون الكافرين والمشركين وأبناء الديانات الأخرى بحبّ، أي أنّهم لم يكونوا يكرهونهم ولكنّهم يكرهون كفرهم وشركهم ونفاقهم، فيعملون – من خلال الحوار – على تخليصهم من هذه الانحرافات.
اُنظر إلى هذه المحاورات التي تجري بالحكمة والموعظة الحسنة:
"قدم إلى المدينة المنورة أعرابي من البادية وذهب إلى المسجد النبويّ كي يظفر بمال من النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فرأى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) جالساً بين أصحابه، فدنا منه وطلب مساعدته، فأعطاه النبيّ (صلى الله عليه وسلم) شيئاً من المال، إلّا أنّ الاعرابي لم يقنع بما أعطاه النبيّ (صلى الله عليه وسلم) حيث رآه قليلاً، فتفوّه على النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بكلمات بذيئة مما أثار غضب أصحاب النبي عليه فقاموا يريدون طرحه أرضاً، فأبى النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عليهم ذلك، ثمّ خرج مصطحباً الاعرابي إلى بيته فزاده شيئاً من المال فأظهر الرضا والامتنان، وقال: جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا.
فقال له النبيّ (صلى الله عليه وسلم): إنّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، وأنا أخشى أن يصيبك منهم أذى، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلته بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك، فاستجاب الاعرابي لذلك ونفّذ ما وعد به.
وهنا أراد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أن يقدّم لأصحابه درساً في (الحوار) البعيد عن الانفعال و(العنف) فقال: مثلي ومثل هذا – يقصد الاعرابي – مثل رجل له ناقة شردت منه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلّا نفورا، فناداهم صاحبها: خلّوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجّه لها بين يديها فأخذها من قمام الأرض فردّها حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها ثمّ استوى عليها"!
إنّ الحوار الذي يدور في جو نفسي رائق أضمن في الوصول إلى النتائج المرضية. ولذلك لا نتردد في القول إنّ (الحوار فن) وليس قدرة كلامية أو ثقافية فقط.
وإليكم مثلاً آخر:
فلقد جرت المحاورة التالية بين الإمام محمّد بن علي الباقر وبين نصراني أراد الاستهزاء به وبلقبه (الباقر)، فقال له:
- يا بقر!
والكلمة جافية جارحة يمكن أن تكون باعثة على الردّ بانتقام، لكنّ الإمام أجابه بهدوء: أنت تسمّيني (بقراً) وجدّي رسول الله أسماني (الباقر)
وأراد النصراني الإمعان في استخفافه بالإمام، فقال: يا ابن الطبّاخة! لكنّ الإمام بقي محافظاً على هدوئه واتزانه، فقال: تلك هي حرفتها!
ولمّا لم تُجدِ الشتائم السابقة نفعاً، قال النصراني: يا ابن الزنجيبة البذيئة!! أي أنّه طعنه في سمعته وشرف أمّه، ولكنّ الإمام لم يخرج عن اتزانه وهدوئه قط، بل قال له: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك!!
وإذا أردنا تقويم هذا الحوار، فإنّه حوار غير متكافئ، فأحد الطرفين يسيء إلى أدب الحوار وإلى المحاوَر، والآخر يحافظ على أدب الحوار حتى النهاية، لكن درس هذه المحاورة يأتي في عاقبتها أو نتيجتها، فإنّ الحوار الإمام بالتي هي أحسن هو الذي دفع النصراني إلى الانقلاب والاسلام على يدي الإمام الذي رأى فيه نموذجاً راقياً من نماذج الحوار.
ونحن على أتمّ اليقين في أن شبابنا وفتياتنا الذين يراعون أدب الحوار وأخلاقيته قادرون على الإقتداء بذلك.
ا) روحية الانفتاح والمرونة: افتح قلبك لمحاورك، وقد قيل إنّك إذا أردت أن تفتح عقله فافتح قلبه أوّلاً، فالحقد والبغضاء أبواب موصدة وأقفال صدئة لا تفتح عقلاً ولا قلباً ولا أذناً.
لا تتهمه بشيء.. ولا تحمل كلماته محل السوء، ففي الحديث: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه". فالقاعدة الإسلامية في التعامل مع الآخرين سواء في الحوار أو في غيره، هي أن تحمل أقوالهم وأفعالهم على الصحّة، ولا تلجأ إلى الاحتمالات السيِّئة، ففي الحديث: "لا تظننّ كلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا".
ب) التركيز على نقاط الاتفاق: الحوارات التي تبدأ بمناقشة نقاط الاختلاف والتوتر، أو ما يسمّى بالنقاط الحادة والساخنة حوارات كتبت على نفسها الفشل سلفاً، فلا تسقط الحوار بإثارة مشاعر محاورك في نقاط الاختلاف وإنّما أكّد على نقاط الالتقاء أو ما يسمّى بـ(الأرضية المشتركة) حتى تمهّد الطريق لحوار موضوعي ناجح، والقرآن الكريم يضع هذه القاعدة الحوارية المهمة في صيغة الآية الكريمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا) (آل عمران/ 64).
ج) أدب الحوار: وأدب الحوار – كما قلنا – هو جزء من أخلاقية الحوار، ويستدعي مراعاة الأمور التالية:
1- استخدام اللغة المهذبة، فالكلمات التي تندرج تحت عنوان الشتائم والسباب والتشهير والتسقيط ليست كلمات جارحة ونابية فقط وإنّما كلمات هدّامة لا تبقي مجالاً للحوار ولجسوره بل تنسفها نسفاً، ولذا قال الله تعالى وهو يعلّمنا لغة التهذيب حتى مع المسيئين: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام/ 108). وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)
2- استخدام اللغة الرقيقة اللينة، فالكلمات التي بين يديك فيها (حسن) وفيها (أحسن).. اختر الأحسن ما أمكنك ذلك لأنّه يعمّق العلاقة النفسية والفكرية مع محاورك، ولذا فإنّ الله سبحانه وتعالى حينما طلب من موسى وهارون (ع) أن يحاورا الطاغية فرعون، قال لهما: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا) (طه/ 43-44)، أي استعملا في حواركما معه لغة شفافة فيها لطف وليس فيها عنف، ذلك أنّ الكلمات الجافة والقاسية توصد أبواب الاستجابة وتغلق طريق الحوار، وذلك قوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).
3- احترام رأي محاورك، لأن ذلك يخلق حالة من الانفتاح على الأفكار المطروحة للنقاش، واعلم أنّ احترام الرأي غير احترام الشخص، فقد تحاور إنساناً ضالّاً وقد تحترم بعض آرائه، أي أنّك لا تستخفّ بها فتجعله يسخّف آراءك أيضاً، لكنّ الاحترام في الحوار هو جزء من أدب الحوار ولا يعني تبنّي واعتناق تلك الأفكار.
4-وهناك توصيات لأدب الحوار، منها: الالتفات إلى محاورك وعدم إبعاد نظرك عنه وكأنّك تتجاهله، وأن لا ترفع يدك كمن يهمّ بضربه، وأن لا تضرب على فخذك لأنّ تلك علامة الانفعال والتشنج والتأزم النفسي، وعدم رفع الصوت عالياً.
وحتى نلخّص أخلاقية الحوار وأدبه، نقول:
- ادر الحوار بعقل بارد بعيد عن التوتر والإثارة، وتذكّر أنّ المحاور المتشنج مهزوم حتى ولو كان الحق إلى جانبه، ولعلك قرأت قصة (المفضل بن عمر) وكان شاباً مؤمناً حيث دخل ذات يوم إلى المسجد النبوي وسمع بعض المنكرين لنبوة النبي (ص) يتحدّثون بالإلحاد هناك فغضب (المفضّل) واسمعهم كلاماً قاسياً، فقالوا له:
"يا هذا! إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم، فلا كلام لك.
وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، وقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحكيم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا، ويصغي إلينا، ويستغرق حجّتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظننّا أنّا قد قطعناه، ادحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير، يلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه".
والمقطع السابق يوضح أصول الحوار وأسلوبه وشروطه ويمثلها خير تمثيل.
- ركِّز على الأساسيات ولا تدخل في التفاصيل فتضيع في دهاليزها، لأنّ الخوض في الجزئيات والثانويات والفرعيات يفقدك جوهر الموضوع ولا يؤدي إلى نتيجة.
- مرّ على الماضي، ولكن لا تركز عليه فهو ليس مسؤوليتك الآن.. حاور في المسائل الراهنة.
- واصل الحوار.. فالحوار قد لا ينتهي في جلسة واحدة، وإذا كانت هناك عدّة جلسات حوارية، ففي الجلسات القادمة ابدأ من حيث انتهيت.
- بهدوءك وأدبك وأخلاقك جرّ محاورك إلى ساحة الأدب والتهذيب والتزام أصول الحوار، وإذا رفض فلا تدخل في مهاترة.
- لتكن (الحقيقة) غايتك من الحوار، فما عداها لا يمكن اعتباره حواراً جاداً ونافعاً.
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك