أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي

الدكتور/عبدالله قادري الأهدل

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المقدمة.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ون سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مصل له، ومن يضلله فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: 117].

((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)) [النساء:2].

((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أموالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)) [الأحزاب: 70ـ71].

أما بعد:

فإن الإسلام هو دين الهدى والنور، الذي لا سعادة للبشرية ولا أمن لها ولا سعادة، في الدنيا والآخرة، إلا عندما تهتدي بهداه، وتستضيء بنوره، مخلصة في عبوديتها لله الخالق، تأتمر بأمره، وتتبع منهجه، نابذة كل منهج من المناهج الأرضية المخالفة له.

فإن أي أمة من الأمم في أي بقعة من الأرض، وفي أي زمان من الأزمان، إذا دانت بهذا الدين، واعتصمت بحبل الله المتين، واتبعت رسوله الأمين، بصدق وعلم ويقين، بما أنزله الله في كتابه المبين، وسنة رسوله الرؤوف بأمته الرحيمـ إن أي أمة من الأمم تتمسك بذلك، لا بد أن تكون أسعد الأمم، وأكثرها أمنا واستقرارا، تعيش في رغد من العيش، وتحيا حياة عز وسؤدد، تقود ولا تقاد، وتأمر ولا تؤمر، وتَنهَى ولا تُنهى، تحب الخير للناس كلهم، وتهديهم إليه بجد ونشاط، وتكره لهم ما تكره لنفسها من الشر، بعزم وقوة، ولو اقتضى ذلك منها أن تقدم من أجل تحقيقه، المال والولد والنفس، لأنها بذلك ترضي ربها الذي لا غاية لها في الحياة سوى رضاه.

 

وإن أي أمة من الأمم في أي بقعة من الأرض، وفي أي زمن من الأزمان، رفضت هذا الدين، وبعدت عن هديه، وحاربته وحاربت الدعاة إليه، متبعة هواها، عاصية ربها، هاجرة كتابه، خارجة على هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، إن أي أمة فعلت ذلك، لجديرة بأن تكون أكثر الأمم شقاء وخوفا واضطرابا وضنكا، في كل شأن من شؤون حياتها، حتى لو بدت في ظاهر أمرها غنية بالأموال، كثيرة بالرجال، قوية بالمرافق والصناعات الثقال، فإن السعادة لا يجلبها منصب ولا مال، والأمن لا يحصل بسلاح ولا رجال، والطمأنينة لا يأتي بها أي سبب من الأسباب المادية، إذا خلت من الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

وقد دل على ذلك – أي سعادة المهتدين بهدى الله، وشقاوة الرافضين لمنهج الله - الكتاب والسنة وواقع الأمم الذي سجله التاريخ في كل الأحقاب.

قال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام: ((فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهارا)). [نوح:10-12]

فقد رتب على استغفارهم ربُّهم الذي أمرهم به، إمداد الله لهم بالأموال والبنين، ومنحهم الجنات والبساتين والأنهار، وهذا من ثمرات طاعة الله في الدنيا، ويشبه ذلك قول الله تعالى: ((ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير. وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله)) [هود: 3]

آيات نوح كانت في قوم أول رسول بعثه الله إلى الأرض، وآيات هود كانت في قوم آخر رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وكلها دالة على أن المتاع الحسن، والعيش الرغيد، والرزق العميم، يعطيها الله من اتبع منهج الله واستجاب لهداه.

 

وقد يمتع الله عدوه الكافر بالرزق والجنات والأنهار والقوة المادية، ولكنه متاع غير هنيء، بل متاع مقترن بالقلق والشقاء والظلم، ثم إن الذي يستقيم على منهج الله يتمتع برزق الله وهو له أهل، بخلاف من لم يؤمن بالله، فإنه تعالى يمتعهم برزقه ابتلاء لهم، وزيادة في شقائهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ((قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون))  [الأعراف: 32]

 

فتخصيص الله تعالى المؤمنين بأن هذه الطيبات لهم في الحياة الدنيا، مع أن غيرهم من المشركين والكفار يشتركون معهم في التمتع بها، يدل على أن غير المؤمنين –الذين أهمل ذكرهم- ليسوا أهلا لتلك الطيبات في الحياة الدنيا، وأن المؤمنين هم أهلها.

 

وقد روى ابن جرير رحمه الله بسنده عن سعيد بن جبير، أنه قال: "ينتفعون بها في الدنيا –أي المؤمنون- ولا يتبعهم إثمها" [جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 8/165]

 

وقال القرطبي رحمه الله ((قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا)): "يعني بحقها في توحيد الله تعالى والتصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وَحَّدهُ المُنعَم عليه وصدقه، فقد قام بحق النعمة، وإن كفر فقد أمكن الشيطان من نفسه، وفي صحيح الحديث (لا أحد أصبر على أذىً من الله، يعافيهم ويرزقهم، يدعون له الصاحبة والولد)" [الجامع لأحكام القرآن: 7/199]

 

وقال أبو حيان التبريزي: "معنى الآية أنها للمؤمنين خالصة في الآخرة، لا يشركهم الكفار فيها، وهو كذلك، لأن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، إلا أنه أضاف إلى المؤمنين ولم يذكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا، تنبيها على أنه إنما خلقها للذين آمنوا بطريق الأصالة، والكفار تبع لهم في الدنيا، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى: ((هو الذي خلق لكم في الأرض جميعا)) [البحر المحيط 4/291]

 

ومما يدل على أن رزق الله تعالى منحه خلقه فتنة منه لهم واختبارا أيشكرونه أم يكفرونه، قوله تعالى: ((واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)) [الأنفال: 28]

ودلت آية أخرى على أن رزق الكفار يكون حسرة عليهم، لأنهم ينفقون رزق الله في معصية الله،كما قال تعالى: ((((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)) [الأنفال: 36]

 

ومن الآيات الدالة على أن الأمة المهتدية بهدى الله، يكرمها الله تعالى بالسعادة والخير والبركات في الدنيا، فتحيا حياة الأمن والعيش الرغيد، قوله تعالى: ((ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماوات والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)) [الأعراف: 96]

 

وإذا رأيت أمة من أمم الأرض محادة لله ورسوله، وقد أغدق الله عليها من رزقه من السماء والأرض، وظهرت بصفة المسيطر المتعالي، فاعلم أن ذلك ليس بركات عليهم ولا تكريما من الله لها، وإنما هو محنة واستدراج لها، لتنال عقابها الأليم في نهاية المطاف، كما قال تعالى في الأمم التي كفرت بأنعم الله قبل بعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: ((ولقد أرسلنا رسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا، ولكن قست قلوبهم وزين لهمم الشيطان ما كانوا يعملون. فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)) [الأنعام: 43-45]

 

ومن أصرح الآيات وأجمعها لسعادة المهتدين بهدى الله وطيب حياتهم في الدنيا والآخرة، قوله تعالى: ((من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)) [النحل: 97]

 

والحياة الطيبة ليست هي الحياة التي تتوافر فيها أنواع المتع المادية من مأكل ومشرب ومركب وملبس ومنكح، وصناعة وزراعة واختراعات فحسب، وإنما هي الحياة الآمنة التي تطمئن فيها القلوب، ويأمن فيها الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ينتشر فيها العدل، ويختفي فيها الظلم أو يقل، ويقود الناسَ فيها الأكفياء الصالحون إلى ما يرضي الله تعالى، ومتاع الدنيا المادي المباح جزء من الحياة الطيبة.

 

ومن الآيات التي جمعت بين إثبات السعادة لمن اتبع هدى الله في الدنيا والآخرة، وإثبات الشقاء والضنك والخسران لمن بَعُدَ عن هدى الله وحاربه، قول الله عز وجل: ((قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا. ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)) [طه: 123-126]

 

تأمل كيف نفى الله الضلال والشقاء عمن اتبع هداه، وأثبت المعيشة النكدة الضيقة والضلال المبين -الذي عبر عنه بالعمى-لمن أعرض عن ذلك الهدى، وهو ذكر الله، ثم أكد تعالى شقاء من لم يهتد بهدى الله في الدنيا بالحياة الضنك، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فقال: ((وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) [طه: 127 وراجع كتاب شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/9)] 

 
دلالة السنة على ما دل عليه القرآن

 

وأما السنة فقد دلت على أن الله تعالى ينزل ألوانا من الشقاء، على الأمم التي تحارب منهج الله وتصد عن هداه: شقاء الجهل وشقاء انتهاك الأعراض، وشقاء ارتكاب ما يفسد العقول، وإذا فسدت العقول وانتهكت الأعراض، وفشا الجهل، فسدت الحياة كلها! وأي حياة تلك التي تحيا بها أمة هذا شانها إلا حياة الضنك والضيق التي بينها القرآن؟

 

روى أنس رضي الله عنه، قال: "لأحدثنكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد.) [صحيح البخاري 1(/28)]

 

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يتقارب الزمان، ويلقى الشح، ويكثر الهرج) قالوا: يا رسول الله، أَيُّمَ هو؟ قال: (القتل القتل) [البخاري 8/89]

 

وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل) [البخاري 8/89]

 

أي إن آخر الزمان يخالف أوله، بمعنى أن العصور الأولى كانت عصور نور وهدى، انتشر فيها العلم وثبت العمل الصالح، وأمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، لأنهم كانوا ملتزمين بهدى الله، يتعلمون الكتاب والسنة، ويعملون بما تعلموه منهما ويطبقون ذلك اعتقاداً وقولاً وعملاً.

 

ولهذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك القرون بحسب سبقها الزمني، لسبقها العملي، كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونههم).

 

قال عمران: "لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ قرنين أو ثلاثة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم": (إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) [البخاري 3/151، 4/189]

 

وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: (قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته...) [البخاري: 7/224]

 

وسبب هذا التفضيل، تلك التزكية التي زكى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالوحي الذي كان ينزل عليه، علماً وعملاً، وكذا تزكية أصحابه بعده للتابعين، ثم تزكية التابعين لأتباعهم...

 

كما قال تعالى: ((كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)) [البقرة: 151]

 

وقال تعالى: ((هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)) [الجمعة: 2]

 

دلالة الواقع على شقاء مَن بَعُد عن هدى الله.

 

أما الواقع التاريخي، فإن الذي يتتبع فيه حياة الأمم  سيجده شاهد صدق على أن الأمة المهتدية بهدى الله، هي التي تحوز قصب السبق في العزة والتمكين والسعادة والطمأنينة في هذه الحياة، وأن الأمة الرافضة لهدى الله البعيدة عن اتباع منهجه، هي التي تمنى بحياة الذل والشقاء والاضطراب والخوف والقلق، مهما أوتيت من ثراء وقوة ومن ألوان المتع المادية، ومهما شيدت من قصور، ومدت من جسور، وشقت من طرق، وأعلت من أهرامات، تجد فيها السادة المتجبرين، والعبيد الأذلاء المستضعفين، والظلمة الباطشين المستأثرين، والمظلومين المحرومين، لا ينصر فيها القوي – بالعدل- ضعيفا، ولا يدفع فيها القادر عن الخائف مخوفا، كما تجد فيها الفواحش المنكرة، والأمراض الفتاكة المنتشرة، وتجد فيها الجهل بأصول الإيمان وفروعه، وبذلك يعبد أفرادها وجماعاتها أهواءهم، ويعتدون على الناس فلا يردهم عن عدوانهم إلا القوة الرادعة لهم.

 

وهذا ما نشاهده في هذا القرن الذي نعيش فيه: القرن العشرين – المنصرم - الذي تطرب لذكره أسماع، وتخشع لعظمته قلوب، القرن الذي بنيت فيه ناطحات السحاب، وعُبِّدَت فيه الطرق البرية الواسعات، حتى أصبح ساكن أقصى الأرض في الشرق، يسافر بسيارته إلى أقصاها في الغرب، وصنعت فيه الطائرات التي تقطع في ساعات ما بين المشرق والمغرب، وامتلأت البحار المحيطات بالسفن الضخمة، المدنية والحربية والغواصات، وأصبحت بعض كواكب السماء، للمسافرين محطات، وقد وطئت أقدام الإنسان على وجه القمر الذي كانت تشبه به الغيد الجميلات!

 

وهكذا ما من شيء محسوس في هذا الكون إلا كان هدفا لتفكير المفكرين، ومحلا لبحث الباحثين، ليكتشفوا فوائده، ويغوصوا في أعماق أسراره، ويخضعوه للاستفادة منه مدنيا وعسكريا.

 

ولكن الحياة مع ذلك كله، لا زالت حياة شقاء ونكد، تنتشر فيها الفوضى الحسية والمعنوية، ويعم كثيرا من سكان الأرض الخوف والجوع والفقر والمرض، فلا تجد شعبا ولا دولة-صغرت أم كبرت-آمنة من اعتداء شعب ودولة أخرى، تعد للاعتداء عليها العدة، وتتربص بها الدوائر، ولا تجد شعبا ولا دولة يأمن فيها الناس من الظلم والجور والإجرام، بل إنك لتجد الجرائم تتصاعد كلما تقدم الناس في الاكتشافات العلمية والصناعات القوية، يدل على ذلك ارتفاع نسبة الإجرام والمجرمين في المحاكم والسجون والمعتقلات - عدا من لم تضبطه أجهزة الشرطة ومن يسندها ممن يسمون بأجهزة الأمن - لا بل إنك لتجد الصالح المصلح الأمين، العالم المحب لأمته الساعي إلى تحقيق مصالحها وسعادتها، هو المجرم المكبل بالقيود المودع في المعتقلات، المصلت على رقبته سيف الموت من قبل من آتاه الله القوة من المتكبرين الطغاة، الذين هم أولى بوصف المجرمين، وأحق بالسجون والمعتقلات والنفي والقتل.

 

كما تجد من يموتون جوعا، في كثير من المعمورة، وبجانبهم من يموتون من الشبع والتخمة، وتجد العرايا من الملبس والبساط والغطاء، لا يجدون ما يستر عوراتهم، ولا ما يفترشونه تحت جنوبهم، و ما يتغطون به من الحر والقُرِّ، وبجانبهم من يؤثثون المنتزهات المؤقتة -بله المساكن الدائمة- بأجود أنواع الأثاث، وقد امتلأت خزائنهم بالملابس الغالية، وافترشوا الزرابي والنمارق.

 

وتجد من يدعي مناصرة حقوق الإنسان والديمقراطية، وهو يفتك بالإنسان قتلا وتشريدا، ويربي الكلاب والقرود، ويقدم لها ما تشتهيه أنفسها من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ورخاء، وتكبت أي صوت يرتفع مطالبا بالعدل والمساواة، إذا لم يكن ذلك الصوت مؤيدا لمدعي مناصرة حقوق الإنسان والديمقراطية زورا وبهتانا.

 

إن هذا العصر الذي توجد فيه هذه الكوارث وغيرها، لمن أعظم شواهد الحق على أن الأمة التي تَبْعُد عن منهج الله وهداه، خليقة بالشقاء والخوف والقلق والاضطراب والدمار، مهما أوتيت من متاع الدنيا الزائل، وأن التربية الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي التي تجلب للأمة السعادة، وتجنبها من الويلات والضنك والمحن، وتبدلها بذلك الحياة الطيبة المستقرة.

 

ومما يدل على ذلك أن حياة الشعوب الإسلامية التي حافظت على القليل من منهج الله، هي أسعد من غيرها من الدول التي لم تحافظ على شيء من ذلك.

 

إن تعليم الأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتزكيتها بذلك، وحملها على العمل بهما، هي التي تحقق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع معا، بدون طغيان بعضها على بعض، كل يأخذ حقه، ويؤدي واجبه، بدون صراع ولا نزاع ولا تطاحن، بل برضا واطمئنان، فلا يفرض أمن فرد ولا أسرة ولا مجتمع بقوة السلطة فحسب، لأن الفرد والأسرة والمجتمع يؤمنون بالواجبات والحقوق، وبالتعاون على البر والتقوى، فلا طغيان لأحد على سواه، وإذا أراد أحد الاعتداء على غيره، وجد ما يردعه من أحكام الشرع التي كلف الله الأمة تطبيقها على القوي والضعيف.

 

هذا وقد دفعني التأمل في أحوال الناس عامة، وأحوال المسلمين خاصة، أن أجمع في هذا الكتاب جملة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال علماء الإسلام ما عسى أن يقنع المسلمين أولا، وغيرهم ممن ينشدون الأمن والسعادة ثانيا، بضرورة السعي الجاد لتطبيق التربية الإسلامية، لينبني على تطبيقها أثرها، وهو أمن الفرد والأسرة والمجتمع، وأنه بدون ذلك لا أمن ولا حياة طيبة سعيدة.

 

وسميته: [أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي] إشارة إلى أن ما تسمى بأجهزة الأمن لا تحقق – مستقلة عن هذه التربية - للفرد والأسرة والمجتمع الأمن المنشود.

 

محتويات الكتاب

 

وقد احتوى الكتاب ما يأتي:

1-تمهيد

2-ثلاثة أبواب كل باب اشتمل على فصول ومباحث ومطالب، وقد تشتمل بعض المطالب على فروع

أكتفي هنا بذكر الأبواب والخاتمة، أما الفصول والمباحث والمطالب، فسيأتي ذكرها في مكانها، وستفصل في محتويات الكتاب.

 

الباب الأول: في تربية الفرد

الباب الثاني: في تربية الأسرة

الباب الثالث: في تربية المجتمع

الخاتمة وتشتمل على ثمرات التربية الإسلامية.

 
التمهيد:

وفيه بيان معنى الأمن، وأقسامه، وأصول الحياة الطيبة التي لا أمن للبشرية بفقدها، ولا تستقيم حياتها إلا بها.

وفي هذا التمهيد مطالب:

المطلب الأول: معنى الأمن

المطلب الثاني: أقسام الأمن

المطلب الثالث: أصول الحياة الطيب.

 

المطلب الأول: معنى الأمن       

 

أصل الأمن طمأنينة النفس وعدم خوفها، يقال: أمن، كسلم وزناً ومعنىً.

وأمن البلد: اطمأن به أهله. [تراجع مادة: أ م ن في كتب اللغة، كلسان العرب، ومفردات الأصفهاني، والمصباح المنير]

والمراد بالأمن هنا اطمئنان الفرد والأسرة والمجتمع على، أن يحيوا حياة طيبة في الدنيا، لا يخافون على أنفسهم وأموالهم وعقولهم ونسلهم، من الاعتداء عليها، أو على ما يصونها ويكملها.

وكذلك الاطمئنان على سعيهم إلى كل ما يرضي ربهم، لينالوا الأمن في الآخرة بإحلال رضوانه عليهم، وينعموا بجزيل فضله وثوابه، والنجاة من عقابه.

 

هذا هو الأمن بمعناه الإجمالي: الأمن على الحياة الطيبة في الدنيا، والأمن على نيل رضا الله وثوابه، والنجاة من عقابه في الآخرة.

 
المطلب الثاني: أقسام الأمن

يتضح مما تقدم أن الأمن ينقسم قسمين:

القسم الأول: الأمن في الدنيا، وهو الاطمئنان على ضرورات الحياة، وحاجياتها ومكملاتها، بحيث لا يعتدي أحد على تلك الضرورات وما يتبعها، فإذا هم أحد بالاعتداء على شيء منها وجد ما يزجره عنها من الزواجر التي وضعها الله تعالى، من العقاب الأخروي، أو العقاب الشرعي في الدنيا.

وهذا القسم من الأمن يحرص على تحقيقه جميع الأحياء من العقلاء، لأنه محسوس عاجل، والنفس مولعة بحب العاجل، فلا يقدم أحد على فعل يكون سببا في فقد أمنه، إلا لسببين:

السبب الأول: عدم علمه بأن ما يقدم عليه، قد يكون سببا في فقد أمنه، كمن يقدم على قتل نفس محرمة فيزهقها –خفية في ظنه-ثم يُكشف أمره، فينال جزاءه وهو القصاص.

السبب الثاني: أن يترجح عنده الإقدام، مع العزم على الدفاع عن أمنه، إذا أراد أحد أن يعتدي على نفسه أو عرضه أو ماله، فيدافع عن ذلك، حتى يقتل، سواء كان قتله في ميدان المدافعة ضد المعتدي، أم تحت تجبر طاغية استغل قوته في قتله، لأنه يرى أن دفاعه والمحافظة على شرفه وعزته، خير من المحافظة على حياة لا يتوافر لها الأمن الحق والحياة الحرة الطيبة.

 

والأمن الدنيوي الذي يرزقه الله الأمم، لا يدوم مع الكفر، بل يبدلها الله به الخوف والجوع والحياة النكدة والضنك، كما قال تعالى: ((وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)) [النحل: 112]

ومن الأمم التي أعطاها الله الأمن، ثم بدلها به الخوف لكفرانها، مشركو قريش، الذين قال تعالى فيهم: ((فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) [قريش:3 ـ4]

 

وعندما أصروا على كفرهم بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته لهم، أبدلهم الله بالأمن خوفا، وبالغنى فقرا، وبالشبع جوعا، وسلط الله عليهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين، فأخافوهم في بدر والأحزاب، ثم دخلوا مكة فاتحين آمنين منتصرين، وأهلها خائفون، وأيقنوا أنه لا أمن ولا طمأنينة لهم إلا بالدخول في دين الله، ولهذا دخلوا في دين الله أفواجا، فنالوا الأمن، وأصبحوا بدخولهم في دين الله سادة الدنيا وقادة أهلها.

هذا هو القسم الأول من أقسام الأمن في الحياة الدنيا.

 

القسم الثاني من أقسام الأمن: الأمن الأخروي:

وهذا هو الأمن الحق الذي إذا وفق الله له أمة من الأمم، فهيأ لها أسبابه، ووقاها من موانعه، فسعت لتحقيقه، تحقق لها معه أمن الدنيا أيضا.

وأهم أسباب هذا الأمن: الالتزام بمنهج الله وعبادته وحده لا شريك له، وعدم طاعة غيره في معصيته، كما قال تعالى: ((وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) [النور: 55]

 

فالأمة التي تؤمن بالله وتعمل صالحا، فتعبد الله ولا تشرك به شيئا، هي الأمة الجديرة بالاستخلاف والتمكين والأمن في الأرض، كما هي جديرة بالأمن التام يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، كما قال تعالى: ((إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا، أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة، اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) [فصلت:40]

 

فالنجاة من النار يوم القيامة هي الأمن الحق، والذي ينجو من النار يكمل أمنه بدخول الجنة ونعيمها وغرفاتها، كما قال تعالى: ((إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين) [الحجر: 45-46]

 

وقال تعالى: ((وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا، إلا من آمن وعمل صالحا، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا، وهم في الغرفات آمنون))  [سبأ: 37]

 

هذا هو الأمن التام الذي لا يتحقق إلا بالخوف التام: الخوف من الله تعالى وحده، والتوكل عليه وحده، وعدم الخوف من سواه، وهو الذي جادل به أبو الأنبياء –إبراهيم عليه السلام - قومه، عندما خوفوه بآلهتهم، كما قال الله تعالى: ((وحاجه قومه، قال: أتحاجوني في الله وقد هدان، ولا أخاف ما تشركون به، إلا أن يشاء ربي شيئا، وسع ربي كل شيء علما، أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [الأنعام: 80-82]

 

وبهذا يعلم أن الأمة التي تحوز الأمن التام في الدنيا والآخرة، هي أمة التوحيد والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها إذا سعت للحصول على الأمن في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما معا، بغير ذلك، فسعيها ضرب من اللعب واللهو، كما قال تعالى: ((فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).

 

ومن أجل هذا الأمن أنزل الله كتبه وبعث رسله وخلق خلقه وأعد جنته وناره((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))  [الذاريات: 156].

 

((ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدا الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين))  [النحل: 36].

 

مواقف غالب الأمم من أسباب الأمن الحقيقي

 

ومع ذلك فإن أغلب الأمم التي تدعي أنها تنشد الأمن والرخاء والاستقرار لا تسلك سبيل هذا القسم، بل إنها لتضع السدود أمام سالكيه وتحاربهم وتصد من أراد أن يستجيب لهم، يدل على ذلك قصص الأنبياء والرسل مع قومهم، وتاريخ الدعاة إلى الله مع الأجيال المتلاحقة.

 

اقرأ قصة نوح مع قومه، وقصة إبراهيم مع قومه، وقصة هود مع قومه، وقصة صالح مع قومه، وقصة شعيب مع قومه، وقصة لوط مع قومه، وقصة موسى مع قومه، وقصة عيسى مع قومه، وقصة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه من الأنبياء أجمعين، مع قومه.

 

وتأمل تاريخ الأمم إلى يومنا هذا، لترى أن أغلب تلك الأمم تسعى- في الواقع - جاهدة لتعاطي كل سبيل يوصلها إلى خوفها وهلاكها ودمارها، وتسد كل باب يوصلها إلى أمنها واطمئنانها واستقرارها، على الرغم من دعواها السعي الجاد إلى الأمن والاستقرار، ثم تتبع ما ذكر الله في كتابه من أن أكثر الناس ضالون مضلون فاسقون كافرون غير مؤمنين، كما قال تعالى: ((إن الله لذو فضل على الناس  ولكن أكثر الناس لا يشكرون))  [البقرة: 243].

 

وقال تعالى: ((وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله))  [الأنعام: 116]، وقال تعالى: ((إنه الحق من ربك لكن أكثر الناس لا يؤمنون))  [هود: 17]، وقال تعالى: ((ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً))  [الفرقان: 50]، وقال تعالى: ((لتنذر قوماً ما أنذر آباءهم فهم غافلون لقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون))  [يس: 6-7].

 

وتأمل كيف يستهزئ الناس الذين يفقدون الأمن بدعاة الخير والأمن من الرسل، فينالون بذلك غاية التحسر والتندم، كما قال تعالى: ((يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به ستهزءون))  [يس: 30].

 

وتأمل كذلك قوله تعالى: ((وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير))  [الحج: 72].

 

بل إن أعداء الأمن يقتلون دعاة الأمن، كما قال تعالى: ((لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون))  [المائدة: 70].

 

ومن هنا يتضح لنا ضرورة التربية الإسلامية التي لا يتحقق الأمن الحق في أي أمة إلا إذا تزكى أفرادها وأسرها ومجتمعها على تلك التزكية الربانية.

 ((هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين))  [الجمعة: 2].

 

المطلب الثالث: أصول الحياة الطيبة.

وهذه الأصول التي لا تكون الحياة طيبة بدونها، هي التي  يسميها العلماء بالضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وبعضهم يضيف إليها ضرورة سادسة وهي: العرض.

هذه الضرورات إذا لم تحفظها أي أمة، فإن بقاء تلك الأمة الحقيقي مستحيل، وانقراضها أو ذوبانها محقق.

 

ولذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله:

"فأما الضروريات فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين" [الموافقات (2/8) بتحقيق الشيخ عبد الله دراز] 

 

وإذا رجعنا إلى نصوص القرآن والسنة وكتب الشريعة الإسلامية وجدنا أن هذه الأصول التي لا حياة بدونها، هي الهدف الذي يجب أن يكون نشاط الإنسان كله متجهاً لحفظه وحفظ ما يكمله أو درء ما يضعفه.

وللمؤلف كتاب مستقل في هذه الضرورات، يمكن الرجوع إليه لمن أراد، فإنه يغني عن التطويل هنا، وهو بعنوان: [الإسلام وضرورات الحياة، صدر عام 1406 عن مكتبة دار المجتمع في مدينة جدة].

 

الفصل الأول

 

وفيه مباحث:

المبحث الأول: في المقصود بالعلم.

المبحث الثاني: العلم بالله تعالى.

وفيه مطالب:

المطلب الأول: العلم بألوهية الله.

المطلب الثاني: العلم بإحاطة علم الله بكل شيء.

المطلب الثالث: العلم بقدرة الله التامة على كل شيء.

المطلب الخامس: العلم بأسماء الله وصفاته.

المبحث الثالث: العلم بكتاب الله وسنة رسوله.

المبحث الرابع: العلم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

المبحث الخامس: العلم باليوم الآخر.

المبحث السادس: العلم بالملائكة ووظائفهم.

المبحث السابع: العلم بوجوب محبة الله ورسوله.

المبحث الثامن: العلم بأن الله واهب الحياة والرزق.

 

المبحث الأول: المقصود بالعلم

 

العلم المقصود هنا هو هدى الله تعالى الذي أوحاه إلى رسله عليهم السلام لهداية الناس، وقد أخبر الله تعالى نبيه آدم أبا البشر عليه السلام وزوجه حواء، وإبليس لعنه الله، عندما أهبطهم إلى الأرض، أنه باعث إليهم ذلك العلم، فمن اتبعه نجا في الدنيا والآخرة، ومن عصاه هلك فيهما، كما قال سبحانه وتعالى: ((قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))  [البقرة: 38-39].

 

وهو – أي العلم المقصود هنا – الذي أخبر الله سبحانه وتعالى أن من اتبعه نال السعادة ونجا من الضلال والشقاء، ومن أعرض عنه نزل به الضيق والشدة في الدنيا، ونال العقاب الشديد في الآخرة، كما قال سبحانه وتعالى: ((قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى))  [طه: 123-126].

 

قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآيات:

"يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية: الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان. قال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن: الهدى القرآن، وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعمّ.

((فمن تبع هداي))  أي أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل ((فلا خوف))  أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ((ولا هم يحزنون))  على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: ((قال اهبطا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى))

قال ابن عباس: "فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة". ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى))، كما قال ههنا: ((والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))  [تفسير القرآن العظيم (1/82)، وانظر الكتاب نفسه (3/186)].

 

وهذا العلم هو الذي ألهم الله خليله إبراهيم وابنه إسماعيل، أن يدعواه جلّ وعلا بأن يمنّ به على ذريتهما الذين يخلفونهما في عمارة بيت الله الحرام، مع رسول يكرمه الله به، ليتلوه عليهم ويعلمهم إياه ويطهرهم به، بحيث يعبدونه ولا يشركون به شيئاً، كما قال سبحانه وتعالى: ((وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين))  [البقرة: 127-130].

 

قال ابن كثير رحمه الله:

"يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم، أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم أي من ذرية إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن..." [تفسير القرآن العظيم (1/184)].

 

قلت: وقد بيّن سبحانه وتعالى في كتابه أنه بعث فيهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بكتابه لتعليمهم وتطهيرهم بالعمل الصالح، كما قال تعالى: ((لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين))  [آل عمران: 164].

وقال تعالى: ((هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين))  [الجمعة: 2].

 

وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم العلم النافع الذي هو كتاب الله وسنة رسوله، وضرب له مثلاً بالغيث الذي يسقي الله به الأرض، كما ضرب أمثلة لأقسام الناس في انتفاعهم بهذا العلم وعدمه، فقسّمهم ثلاثة أقسام:

قسم يعلم هدى الله ويهتدي به، ويهدي به غيره، وهم الذين يسعون في تحصيل هذا العلم ويعملون به ويدعون إليه، وضرب لهم مثلاً بالأرض الطيبة التي تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير.

 

وقسم يسعون في تحصيل العلم، ولكن فقههم فيه أقل من القسم الأول؛ وكذلك عملهم، فهؤلاء ضرب لهم مثلاً بالأجادب من الأرض التي تمسك الماء فيسقي الناس منها ويشربون.

وقسم ثالث لا يسعى في تحصيل العلم ولا العمل به، وضرب لهؤلاء مثلاً بالأرض السبخة التي لا تقبل الماء ولا تنبت الكلأ.

 

كما روى ذلك أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) [البخاري في العلم (1/28) ومسلم (4/2282)].

 

هذا هو العلم النافع الذي جاء من عند الله، فأثمر في صاحبه العمل الصالح الذي يرضي الله تعالى، وكل علم سواه فليس بنافع ما لم يكن خادماً له مؤدياً إلى ما يؤدي إليه.

 

قال الشاطبي رحمه الله:

"العلم الذي هو العلم المعتبر شرعاً – أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق – هو الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جارياً مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعاً وكرهاً" [الموافقات (1/34) تحقيق محمد محي الدين].

 

وقال: "قال سفيان الثوري: إنما يتعلم العلم ليتقي به الله، وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقي الله به، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال - وذكر فيها -: وعن علمه ماذا عمل فيه) [الترمذي (4/612) من حديث ابن برزة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح].

 

وعن أبي الدرداء: إنما أنا أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: علمت، فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع... [الموافقات (1/29-30].

 

وأوضح ابن القيم رحمه الله أن العلم النافع هو العلم الذي تطيب به الحياة وينشرح به الصدر، وهو الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ومنها – أي من أسباب شرح الصدر – العلم، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً وأوسعهم قلوباً وأحسنهم أخلاقاً وأطيبهم عيشاً...) [زاد المعاد (2/24)].

 

قلت: من أهم أسباب انشراح صدر العالم بالعلم النافع صحة تصوره لما ينفعه وما يضره، لأنه بذلك يصبح سيره في الدنيا مبيناً على علم بالطريق الآمن الذي يحقق له السعادة، فهو يسلكه راضياً مطمئناً، ولو حصل له بسلوكه ضرر مؤقت، فإنه يعلم حسن عاقبته، كما أنه على علم بالطريق المخوف الذي فيه شقاؤه، فلا يسلكه وإن كان فيه نفع مادي ولذة مؤقتة.

 

والجاهل بخلافه ولذلك يضيق صدره، وإن بدا سعيداً، لأنه محجوب الرؤية عن سبيل سعادته وسبيل شقائه، فيسلك سبيل الشر ظاناً أنه ينتفع به، فينكشف له عكس ذلك مرة بعد مرة، وهو لا يتعظ ولا يفيق، وكلما وقع في شرّ ضاق صدره، وهكذا.

 

 
المبحث الثاني: العلم بالله تعالى:

 

العلم بالله سبحانه وتعالى هو أساس العلم النافع، وكل علم لم يُبْنَ على هذا الأساس فليس بنافع في الحقيقة، وإن اغترّ به أهله، لأنه لا يحقق لصاحبه سعادة في الدنيا ولا هداية، ولا ينجيه من شقاء الآخرة وعذابها، بله أن يوصله إلى رضا الله ودار نعيمه.

والعلم به سبحانه يعني التعرف على أسمائه وصفاته وأفعاله، عن طريق كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العلم أنه يستحيل على المخلوق مهما بلغ من الاجتهاد في معرفة الله أن يحيط به، كما قال تعالى ((ولا يحيطون به علماً))  [طه: 110].

 

وفي هذا المبحث أربعة مطالب:

 

المطلب الأول: العلم بألوهية الله.

 

العلم بألوهيته تعالى التي لا يشاركه فيها أحد، وهي الأساس الأول من أسس الإسلام، وإليها دعا جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام، من لدن نوح إلى خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

 

قال ابن تيمية رحمه الله:

"وهذا حقيقة قول (لا إله إلا الله) وبذلك بعث جميع الرسل، قال تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)) [الأنبياء: 25]

وقال: ((واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون))  [الزخرف: 45] وقال تعالى: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت))  [النحل: 36]. "وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل" [مجموع الفتاوى (10/51)].

 

والإله معناه المعبود بحق، وألوهيته سبحانه مطلقة كربوبيته، فكما أنه تعالى الربّ الخالق الذي لا ربّ ولا خالق سواه، فهو سبحانه الإله المعبود الذي لا إله سواه، وهي تتضمن أن يكون المخلوق عبداً له لا لسواه.

 

والعبودية هي كمال الحب وكمال الخضوع للإله سبحانه، وذلك يقتضي طاعته المطلقة والبعد عن معاصيه، فإن العبادة شاملة لكل حياة الإنسان، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمساكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة..." [الفتاوى (10/149-150)].

 

 

وقال ابن القيم رحمه الله في هذا المطلب:

"فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظ العباد منه حسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، لذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جلّ جلاله، فإن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه، فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، قال تعالى: ((ولله الأسماء الحسنى))  [الأعراف: 179].

 

فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها، وكل مشهد سواه، فإنما هم مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية، وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإله الحق، وصار من أغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:

غنيت بلا مال عن الناس كلهم،،،،،،،وإن الغنى العالي عن الشيء لا به"

[طريق الهجرتين وباب السعادتين، ص: 78-79 طبع قطر].

 

قلت: وإنما يكون الغنى بالله بالتركية الإسلامية، التي تحمل الفرد على إيصال الخير إلى الناس وكف الأذى عنهم، والاستغناء بالله تعالى عن المخلوقين.

 

وقال سيد قطب رحمه الله: "يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك ألوهية وعبودية، ألوهية يتفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه، وكما يتفرد الله سبحانه بالألوهية، كذلك يتفرد تبعاً لهذا بكل خصائص الألوهية، وكما يشترك كل حي، وكل شيء بعد ذلك  في العبودية، كذلك بتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية، فهناك إذاً وجودان متميزان: وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله، والعلاقة بين الوجودين، هي علاقة الخالق بالمخلوق والإله بالعبيد" [خصائص التصور الإسلامي ص:229-230، 263 الطبعة الثانية].

 

وقال في موضع آخر: "إن توحد الألوهية وتفردها بخصائص الألوهية، واشتراك ما عدا الله ومن عداه في العبودية، وتجردهم من  خصائص الألوهية، إن هذا معناه ومقتضاه أن لا يتلقى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلا من الله، كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر إلا لله، توحيداً للسلطان الذي هو أخص خصائص الألوهية، والذي لا ينازع الله فيه مؤمن ولا يجترئ عليه إلا كافر..." [خصائص التصور الإسلامي ص:229-230، 263 الطبعة الثانية].

 

فالعبد مأمور أن يحقق العبودية لله، فيطيعه في أمره ويجتنب معصيته، وإذا قام هذا المعنى في نفسه على الحقيقة، لم يعمل في الدنيا إلا خيراً، ولا يرتكب شراً يضره أو يضر غيره، فإن فعل شيئا من ذلك، أسرع إلى التوبة النصوح. وبذلك يتحقق أمنه وأمن غيره معه.

 

المطلب الثاني: العلم بشمول علم الله وإحاطته بكل شيء.

 

لقد كثر في القرآن الكريم ذكر علم الله المحيط بكل شيء بأساليب شتى، وكلها ترمي إلى هدف واحد، وهي إشعار الإنسان بأن أعماله لا تخفى على الخالق، وأنها محفوظة مكتوبة، وسيحاسب عليها.

قال تعالى في شأن أهل الكتاب، الذين حذّر بعضهم بعضاً من الاعتراف بما في كتبهم مما يوافق القرآن ويؤيد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لئلا يكون اعترافهم ذلك حجة للمسلمين عند الله، وكأن الله لا يعلم ذلك لو كتموه، قال تعالى: ((وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون، أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون))  [البقرة: 76-77].

تأمل هاتين الآيتين، هل تجد شيئاً يمكن إخفاؤه على الله الذي أحاط علمه بما في السماوات وما في الأرض، وما يخطر للمرء في صدره، وهل يقدر الإنسان أن ينكر شيئاً مما عمل في الدنيا عندما يلاقي الله فيجد عنده كل ما عمل من خير أو شر؟

 

ولقد أعذر الله إلى عباده وحذرهم نفسه رأفة بهم، ومن لم يحذر بعد ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.

وإن الإنسان مهما احتال على الناس، وأظهر غير ما يبطن فصدقوه وظنوا به الخير، وهو فاسد القلب سيئ العمل، فإن ذلك غير خاف على الله.

 

وإأنه قد يفعل السوء على غفلة من الناس وينسبه إلى غيره من ذوي البراءة، ولكنه لا يفوت على الله الذي لا يخفى عليه شيء، وإن الإنسان قد يدافع عن المذنب ويحامي عنه، ويثبت أمام الناس براءته، ولكنه لا يقدر على ذلك عند الله.

 

كما قال تعالى: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا. هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا. ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا))  [النساء: 105-112، وراجع في تفسير الآيات وسبب نزولها الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/375-380)].

وقال تعالى: ((وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون))  [الأنعام: 3].

وقال تعالى: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون. وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون. ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين))  [الأنعام: 59-62].

 

وقال سبحانه: ((ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور))  [هود: 5].

 

إن الذي يضمر عداوته لأي شخص، ولا يظهر ما يدل عليها لا يقدر أحد من البشر أن يكشف تلك العداوة التي أضمرها، ولكن الله الذي خلق الصدور، عليم بذات الصدور، وقد ذكر في سبب نزول الآية أن بعض المنافقين كانوا يقولون: إذا أثنينا صدورنا واستخفينا في بيوتنا واستغشينا ثيابنا، على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ فأنزل الله آية هود السابقة [راجع كتاب الجامع لأحكام القرآن في تفسير الآية المذكورة].

 

تُرى أي قانون وأي سلطان في الأرض، قادر على هذه الرقابة الملازمة المحيطة التي لا يشذ عنها شيء؟

 

وقال سبحانه: ((الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار))  [الرعد: 8-10].

 

وقال تعالى: ((وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين))  [يونس: 61].

 

قال تعالى: ((إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد. ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم))  [المجادلة: 5-7].

 

وقال تعالى: ((رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق. يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب. وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير))  [غافر: 15-20].

ولو أراد الباحث تتبع الآيات المماثلة الدالة على كمال علم الله وإحاطته بكل شيء، وأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله، معلوم لله مكتوب على صاحبه وسيجزيه الله عليه يوم القيامة، لو أراد الباحث تتبع ذلك لما وجد صفحة من صفحات القرآن تخلوا من ذلك.

 

ولو أن البشر يربون على هذه الصفة وما تقتضيه من مراقبة الله، لما كان في الأرض إلا الصلاح الذي اقتضاه منهج الله، وهو الإحسان الذي سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ليعلم الناس، فقال: (أخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم: (1/37)].

 

وإذا تقيّد الإنسان بمنهج الله لتيقنه أن الله تعالى يعلم كل شيء لا يخفى عليه شيء، كان مأموناً في كل تصرفاته التي يعلم أن عليه فيها رقيباً في كل لحظة من لحظات عمره.

 

قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد أنّ الإيمان بلا إله إلا الله يجعل الإنسان مقيداً بقانون الله ومحافظاً عليه، فإن المؤمن يكون على يقين بسبب اعتقاده بهذه الكلمة، أن الله خبير بكل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه إن أتى بعمل في ظلمة الليل أو حالة الوحدة، فإن الله يعلمه، وأنه إن خطر بباله شيء غير جميل فإن علم الله محيط به، وأنه إن كان من الممكن له أن يخفي أعماله عن كل واحد في الدنيا، فإنه لا يستطيع إخفاءها على الله عزّ وجل، وأنه إن كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان، فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عزّ وجلّ، فعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله، قائماً عند حدوده لا يجرؤ على اقتراف ما حرّم الله، ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله، ولو في ظلمة الليل أو حال الوحدة والخلوة، فإن معه شرطة لا تفارقه حيناً من أحيانه، وهو يتمثل دائماً أمام عينه تلك المحكمة العليا التي لا يكاد الإنسان ينفذ من دائرة حسابها" [مبادئ الإسلام ص:98، طبع الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية].

 

المطلب الثالث: العلم بقدرة الله التامة على كل شيء

 

إن العلم بهذه الصفة العظيمة، وهي قدرته على كل شيء يجعل الإنسان يخاف من أن يقدم على شيء من الشر، أو يترك شيئاً مما أمر به من الخير، لعلمه بأن الله لا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه شيء وسيجازيه على علمه بما اقتضاه علمه.

 

وقد جمع الله تعالى بين علمه المحيط وقدرته التامة في قوله سبحانه وتعالى: ((قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله على كل شيء قدير))  [آل عمران: 29].

 

والجاهل بصفة قدرة الله تعالى لا يبالي ما عمل من خير أو شر، لأنه يظن أن لا حياة بعد الموت، لعدم وجود قادر على إعادته بعد موته، ولذلك كثر في القرآن الكريم إقامة الحجج على المشركين الذين أنكروا المعاد، والنصوص في ذلك كثيرة جداً.

 

قال تعالى: ((أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه))  [القيامة: 3-4].

 

وقال تعالى: ((فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر، يوم تبلى السرائر، فما له من قوة ولا ناصر))  [الطارق: 5-10].

 

وقال تعالى: ((أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون))  [يس: 77-80]. فقد جمع هنا بين كمال قدرته وإحاطة علمه.

 

وقال سبحانه: ((أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا))  [فاطر: 44].

 

فالتربية على العلم بقدرة الله وعلمه المحيطين بكل شيء، تكسب الفرد تقوى الله وخشيته، فلا يقدم على ما لا يرضاه، وتكسبه كذلك الثقة في إثابته على فعل الخير فيسعى للعمل بما يرضيه وترك ما يسخطه.

 

المطلب الرابع: العلم بعدل الله الكامل.

 

إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه، وهي تتضمن أخباراً وأحكاماً، فأخباره كلها صدق، لا يتطرق إليها كذب، وأحكامه كلها عدل، لا يتطرق إليها ظلم، سواء منها ما تعلق بالدنيا من إخبار عما يقع فيها من المغيبات، أم ما كلفه الله الناس من التشريعات، أو ما يتعلق بالآخرة من إخبار عما أعد الله فيها جملة أو تفصيلاً، وما يجازي به تعالى خلقه من أنواع الجزاء، فإن أخباره صدق عن الدنيا والآخرة، وأحكامه عدل في الدنيا والآخرة، ولذلك قال سبحانه وتعالى عن نفسه: ((وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم))  [الأنعام: 115].

 

قال الفخر الرازي رحمه الله في تفسير الآية السابقة: "إن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر والتكليف، أما الخبر فالمراد به كل ما أخبر الله عن وجوده أو عدمه، وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده، وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين، فنقول: قال تعالى: ((وتمت كلمة ربك صدقاً))  إن كان من باب الخبر، ((وعدلاً)) إن كان من باب التكاليف، وهو ضبط في غاية الحسن" [التفسير الكبير (13/161)].

 

وعدله سبحانه يقتضي أن يوفى كل عامل جزاء عمله، ويقضي لكل مظلوم من ظالمه، مهما قل العمل أو كثر، وجل العمل أو دق، فإنه تعالى قد أمر بالعدل ونهى عن الظلم، وأقام الحجة في الأرض ببيان ما هو عدل وما هو ظلم، ووعد أهل العدل بثوابه وتوعد أهل الظلم بعقابه، قال تعالى: ((إن الله يأمر بالعدل))  [النحل: 90] وقال تعالى: ((قل أمر ربي بالقسط))  [الأعراف: 29] وقال: ((وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون))  [الطور: 47].

 

ولهذا أنذر سبحانه عباده بحسابه العادل الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال تعالى: ((إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما))  [النساء: 40].

 

وقال تعالى: ((ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون))  [يونس: 54].

وقال تعالى: ((ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون))  [يونس: 47]

وقال تعالى: ((إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون))  [يونس: 44]

 

وقال سبحانه: ((ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا))  [الكهف: 49].

قال تعالى: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين))  [الأنبياء: 47].

 

إن تربية الفرد على هذه الصفة للإله العالم القادر على كل شيء، هي أعظم تربية تجعله يسعى إلى طاعة الله وترك معصيته، ومعاملة عباد الله بما شرّع الله دون تعدٍ لحدوده.

وقوله سبحانه وتعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره))  [الزلزلة: آخر السورة] أجمع ما وعد الله فيه عباده المؤمنين، أو توعد به الكفرة المجرمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أنواع الخيل، وأنها لرجل أجر، ولرجل وزر، فسئل عن الحُمُر؟ قال: ((ما أنزل الله عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة)) وذكر آخر الزلزلة [البخاري (3/217) ومسلم (2/681-682)].

 
المطلب الخامس: العلم بصفات الله وأسمائه

 

العلم بصفاته وأسمائه تعالى التي وردت في كتابه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعبد له بها، من أعظم ما يؤثر في سلوك العبد، فإن أسماءه وصفاته إنما ذكرت ليتعرف الله بها إلى عباده، كما قال سبحانه وتعالى: ((قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى))  [الإسراء: 110].

 

فالتزكية بأسماء الله وصفاته والتعبد بها، هي أعظم ما يؤثر في العبد التأثير الحسن، لأن كل اسم من أسماء الله يحمل من المعاني ما لو فقهها المؤمن وغرست في نفسه، لازداد تقرباً إلى الله بطاعته وترك معصيته، ومن ذلك السعي في إيصال الخير والإحسان إلى الناس والبعد عن الإساءة إليهم.

 

قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره، فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له صلى الله عليه وسلم، يقول: (لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) [صحيح مسلم (1/352)]. ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله، لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم" [طريق الهجرتين وباب السعادتين ص:561-562].

 

وما ذلك إلا لتأثير تلك الأسماء في محصيها المتعبد بها لربه، لأنها زكّته بمعانيها على طاعة الله وشكره، والبعد عن معاصي ربه، ومن ذلك أن يحسن إلى خلق الله ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه.

 

ومعنى هذا أن يحفظها ويفهم معانيها التي أثرت فيه، وألفاظها وحدها لا تكفي مَن حَفِظَهَا ليتأثر بها التأثر الذي يريده الله.

ولكن ينبغي أن يعلم أن العلم بأسماء الله وصفاته، لا يناله من ألحد فيها بتعطيل أو تشبيه أو تأويل، اتباعاً للهوى وتحكيما للعقل، كما هو شأن من حاد عن طريقة السلف الصالح من الإيمان بها من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل، على ضوء قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))  [الشورى: 11] وقوله تعالى: ((ولا يحيطون به علماً))  [طه:110].

 

المبحث الثالث: العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

 

إن القرآن الكريم لم ينزل إلا لهداية البشر وإقامة الحجة عليهم، كما قال سبحانه وتعالى: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيها هدى للمتقين))  [البقرة: 1-2].

وقال سبحانه: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم))  [الإسراء: 9].

وقال تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))  [الصف: 9].

 

قال شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وهذه الآية الكريمة (يعني آية الإسراء المذكورة) أجمل الله جل وعلا فيها جميع مما في القرآن من الهدي إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال، لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة..." [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/409)].

 

والعلم بكتاب الله لا يأتي إلا عن طريق تلاوته وتدبره وتطبيق أحكامه، وتزكية النفس بما اشتمل عليه من إيمان وأدلة يقينية عليه، وعمل صالح ومكارم أخلاق، والذي لا يقرأ يستطيع أن يأخذ حظه من تعلم ذلك وتطبيقه.

 

فقد بين الله تعالى في هذا القرآن ما يجب على العبد القيام به، لربه ولنفسه ولغيره من المخلوقين، وما يجب اجتنابه كذلك. فإذا علم الإنسان القرآن الكريم وائتمر بأوامره وازدجر عن نواهيه، فإنه لا بد آتٍ بما ينفع نفسه وينفع الناس، ويبتعد عما يضر نفسه ويضر الناس، وذلك هو الأمن في الحقيقة.

 

 

ولقد كان لهذا القرآن أثره في نفوس الذين أخذوه علماً وعملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك كانت السعادة، وكانت العزة، وكان الأمن والاستقرار، والإيثار والمودة والإخاء، وهذه المعاني التي ينشدها العالم اليوم لفقدها أو ضعفها الذي يكاد كالفقد، لا يمكن أن تعود إلى البشرية، إلا إذا سلك المسلمون مسلك سلفهم الصالح في تعلم كتاب الله وسنة رسوله، لتطبيقهما في حياتهم، كما طبقها أولئك السلف.

 

قال ابن كثير رحمه الله: "وقال الأعمش... عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، وقال أبو عبد الرحمن  السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً" [تفسير القرآن العظيم (1/3) وانظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (13/331)].

 

وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم في التكليف كالقرآن، وقد فصَّلَتْ ما أجمل فيه، و شرع الله فيها أحكاماً ليست في القرآن، وهي وحي مثله، إلا أنها وحي غير مَتْلو، والله تعالى قد أمر بطاعته وطاعة رسوله، وأمر بأخذ ما جاء به من السنّة كالقرآن.

 

قال تعالى: ((قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين))  [النور: 54].

 

وقال تعالى: ((وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى))  [النجم: 3-4]

وقال تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))  [الحشر: 7].

 

لذلك كان لا بدّ من تعلم سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، لأنها التطبيق العملي للإسلام الذي جاء به من عند ربه.

 

المبحث الرابع: العلم برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

والمقصود أن يتيقن المسلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله – كما تيقن أن الرب الخالق هو الله المعبود – أنزل عليه وحيه ليبلّغ دعوته إلى الناس كافة، وأنه لا رسول بعده، ولا كتاب بعد القرآن الذي جاء به، وأنه هو الذي يجب التلقي عنه واتباعه والاقتداء به، ولا يجوز اتباع من خالف ما جاء به كائناً من كان، وأن سنته الصحيحة واجبة الاتباع، كالقرآن في التكليف، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما وصفته عائشة (خلقة القرآن) [مسلم (1/513)].

 

وقد فصّلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن وزادت عليه أحكاماً لم ترد فيه، وهي كأحكام القرآن في وجوب الأخذ بها.

 

وهداية البشر وسعادتهم في تحقيق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يعلم حق هذا النبي الكريم ويعمل بما جاء به من عند ربه، جدير بأن يأمنه الناس على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بكل ما فيه خير للبشر جميعاً، ونهى عن كل ما فيه ضرر كذلك، رأفة بأمته ورحمة، وخوفاً عليهم من الإثم والعنت، كما قال سبحانه وتعالى عنه في كتابه: ((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم))  [التوبة: 128].

 

وقال تعالى: ((واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون))  [الحجرات: 7].

 

وقد بين صلى الله عليه وسلم كمال رأفته وشفقته على هذه الأمة، وأنه يذود العصاة الذين يقعون في السيئات – مع شدة حرصه أن لا يقعوا فيها –عنها وهم يقعون فيها، والوقوع فيها وقوع في النار التي أرسل للإنذار منها والتبشير بالجنة لمن أطاع الله، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما مثلي ومثل الناس، كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار، يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها) [البخاري (7/186) ومسلم (4/1789)].

 

المبحث الخامس: العلم باليوم الآخر:

 

إن علم الإنسان بأنه سيموت فقط، غير كاف في تربيته على فعل الخير واجتناب الشر، لأنه ما من أحد إلا يعلم أن الموت أمر حتم، وأنه لا يخلد أحد في هذه الأرض، يستوي في ذلك المؤمن المطيع الكامل الإيمان، والكافر والفاسق، بل إن الكافر الذي لا يؤمن بالبعث واليوم الآخر وما فيه من جزاء، كلما ذكر الموت ازداد ضراوة وشراهة في التمتع بالشهوات، وازداد اعتداؤه على حقوق غيره، ما لم يردعه رادع مادي من العقاب، لأنه لا يرجو متعة بعد موته فيستعجل كل متعة ممكنة قبل الموت.

 

ولهذا تجد الإيمان بالله تعالى يقترن به الإيمان باليوم الآخر، وتجد الذين لا يؤمنون باليوم الآخر هم أكثر الناس عصياناً وتمرداً على الله ورسوله، وأكثر بعداً عن الاستجابة لداعي الخير.

 

 

والتذكير بالموت إنما ينفع المؤمن باليوم الآخر، ليزداد المطيع من الطاعة، ويتوب العاصي عن المعصية ويزدجر، خشية مما هو مقدم عليه من الحساب والجزاء.

 

فالمؤمن باليوم الآخر حق الإيمان، ينافس فيما يرضي ربه، على عكس من لا يؤمن به. وقد أجمل الله سبحانه وتعالى رحلة الإنسان وأطوارها خاتماً لها بالبعث بعد الموت، فقال: ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون))  [المؤمنون: 12-16].

 

وقد آمن الناس، بل صدقوا بهذه الأطوار كلها، لأن ما أحرزوه من علم مادي مما علمهم الله إياه في هذه الحياة، قد كشف لهم عن صدقها، ما عدا البعث فإنه لم يؤمن به إلا من هداه الله لدينه، فآمن بما أخبر الله به من الغيب الذي هو أول صفات المتقين في القرآن: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون))  [البقرة: 1-3].

 

وقد زودهم الله تعالى – مع إيمانهم المطلق بكل ما أخبر به من الغيب، ومنه البعث – بالحجج والبراهين الساطعة، على أن البعث حق لا مرية فيه، فاجتمع لهم الأمران، الأمر الأول: التصديق المطلق والتصديق الكامل بما أخبر الله معتبرين خبره هو الدليل الكافي، لأن أخباره كلها صدق، والأمر الثاني: العلم بالحجج العقلية المقنعة على صدق ما أخبر الله تعالى به.

 

أما غير المؤمنين بالله حقاً، فمازال أكثرهم لا يؤمنون باليوم الآخر، الذي هو نهاية أطوار حياة الإنسان كلها، بسبب أنهم لا يصدقون إلا بما أدخلوه تحت تجاربهم المادية، فظهرت لهم نتائجه حسية، وما عدا ذلك من الغيب لا شأن لهم به..

 

وقد ذكّر تعالى بأهوال يوم القيامة، وما يصاب فيه الناس من ذهول لشدته، فقال جل وعلا: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد))  [الحج: 1-2]. أمر سبحانه بتقواه وأتبع ذلك بهذا الإنذار والتخويف من بأس يوم القيامة الذي هذا شأنه.

 

كما نبّه سبحانه الناس من الغفلة التي هم فيها والإعراض عن طاعته، باقتراب الحساب على ما يعملون من أعمال، فقال تعالى: ((اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون))  [الأنبياء: 1-3].

 

هذه طبيعة من لم يؤمن بالبعث والجزاء في اليوم الآخر، أو يؤمن به ولكنه غافل عنه، طبيعته الغفلة والإعراض وعدم التأثر بما يتلى عليه من آيات الله، واللعب واللهو، وإنك إذا تأملت أحوال أكثر المسلمين اليوم – بله غيرهم – وجدت أنهم يتصفون بهذا الصفات بعيدين عن صفات من يؤمن باليوم الآخر ولا يغفل عنه. إنهم في غفلة عن الله وإعراض، قد طغى عليهم اللعب والهزل واللهو، فأخلدوا إلى الأرض، وناموا عن المجد، فأذلّهم الله دلاً لا فكاك لهم منه، إلا بالعودة إلى الله، وتزكية أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح.

 

وأنذر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة والبعث والجزاء، من وقت نفخ الصور إلى أن يدخل أهل الجنة وأهل النار النار، فقال تعالى: ((ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين، وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين))  [الزمر: 68-74].

 

إن المسلم الذي يربى على السعي في أسباب الأمن من هذا اليوم العظيم، هو الذي يتحقق به الأمن في الدنيا، وإن الذي لا يخاف هذا اليوم، ولا يسعى في أسباب الأمن من أهواله، لهو الجدير بالإخلال بالأمن في الدنيا، لأن الذي لا يخاف هذا اليوم العظيم، لا يتورع عن أي فعل تتوق له نفسه، مهما كانت فيه من الضرر على سواه.

 

وإن الذي يطلب من الناس أن يحققوا الأمن في الدنيا، ولم يربهم على الإيمان باليوم الآخر، ولا على السعي في أسباب الأمن من أهواله، إن الذي يطلب من الناس تحقيق الأمن على هذه الصفة، مهما بلغ من القوة المادية يعد كراقم على الماء، بل لا يصدق في دعواه ورغبته في أمن الناس، لعدم سعيه حقاً في تحقيق الأمن باتخاذ وسائله المحققة له، فهو يدعي أنه يريد تحقيق مصالحهم وحمايتهم من الخوف والقلق في الدنيا، ولكنه لا يقيم على دعواه ما يصدقها بحمايتهم من الخوف الحقيقي الذي سيلاقونه يوم الدين، والحماية من هذا الخوف هي حماية من خوف الدنيا لو كانوا يعقلون.

 

فالساعي لتحقيق الأمن في الآخرة هو الساعي للأمن الحقيقي، وهو الذي يأمنه الناس في الدنيا على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وهو الذي يستحق البشرى بالأمن الذي اجتهد في تحقيقه عندما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة.

 

كما قال تعالى: ((إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور رحيم، ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين))  [فصلت: 30-33].

وهل يتحقق الأمن الحق إلا لمن كان الله وليه في الدنيا والآخرة؟

 

وقد تطابق الكتاب والسنة على أن التربية باليوم الآخر تحقق الأمن، لذلك تجد تحريم الاعتداء مقروناً بجزاء اليوم الآخر وعقابه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء منه، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) [البخاري (3/99)].

 

وفي حديث أبي هريرة – أيضاً – رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس(؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إن المفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) [مسلم (4/1997)].

 

وفي حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أراضين) [مسلم (3/1230)].

 

وفي حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: "هذه غدرة فلان") [مسلم (3/1360)].

 

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة فيقال: ألا هذه غدرة فلان) [البخاري (4/72) ومسلم (3/1360) واللفظ له.

 

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة، يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) [مسلم (3/1361)].

 

ترى هل يقدم الذي تربى على الإيمان باليوم الآخر وعَلِمَه حق العلم، على الغدر بالناس وأخذ حقوقهم وسفك دمائهم، حتى لو خلا عن أعين الناس، وهو يعلم أن غدره سيشهر أمام الأشهاد يوم الدين، ينصب له لواء وينادى باسمه، ويقال: هذه غدرة فلان؟.

 

إن المالك الحق – مالك يوم الدين – يقتص للسيد من مملوكيه، كما يقتص لمملوكيه منه سواء بسواء، بلا ظلم ولا محاباة، كما يفعل ذلك كثيرٌ من ملوك الأرض، يحابون القوي ويظلمون الضعيف.

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل فقعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني، ويخوّفونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا فيهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إيّاهم، فإن كان عقابك إيّاهم بقدر ذنوبهم، كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إيّاهم دون ذنوبهم، كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل) فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تقرأ قوله تعالى: ((ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين))  [الأنبياء: 47].

فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم. أشهدك أنهم كلهم أحرار"  [الترمذي (5/320-321) وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن ابن غزوان].

 

وقد روى ابن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان راوي هذا الحديث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بعتقهم، وإنما أجابه على سؤاله بأن العدل الإلهي يقتضي أن يحاسب هو على ما جنى، وأن يحاسبوا هم على ما جنوا، ويقتص للمظلوم من ظالمه، ولمّا كان إيمان هذا السائل باليوم الآخر وبالحساب العادل فيه إيماناً متيقناً، وزاده جواب الرسول صلى الله عليه وسلم علماً به وبالعدل الإلهي فيه، خاف على نفسه لأنه هو السيد، وخصماؤه هم العبيد، والسيد أقوى من عبده في الدنيا، وقد يكون ظلمه لهم أكثر من ظلمهم له، فما وجد مخلصاً لنفسه من ذلك إلا مفارقتهم بعتقهم، ليكسب بذلك أمرين:

الأمر الأول: وقاية نفسه من مزيد الإثم بظلمهم ماداموا بين يديه.

الأمر الثاني: كسب الأجر بعتقهم الذي قد يغفر الله له ذنوبه التي اقترفها معهم ويبقى له المزيد من الثواب.

 

وقد قارن أبو الأعلى المودودي رحمه الله، بين الإيمان بالآخرة وعدم الإيمان به، وبَيَّن ما يترتب على كلا الأمرين، فقال: "فالإسلام يثبت هذه العقيدة – أي عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر – في قلب الإنسان، فكأنه  بذلك يلقي في روعه حارساً من الشرطة الخلقية يدفعه إلى العمل، ويحثه على الائتمار بأوامر الله جل وعلا، سواء عليه أكان في الخارج من الشرطة والمحكمة والسجن ما يحمله على القيام بها أم لا، وهذا الحارس الداخلي وهذا الوازع النفسي هو الذي يشد عضد قانون الإسلام الخلقي، ويجعله نافذاً بين الناس في حقيقة الأمر، وإن كان مع ذلك من تأييد الحكم والرأي العام ما يسهل تنفيذه، فذلك أجدى وأزكى، وإلا فالحقيقة أن هذا الإيمان وحده يضمن هداية الفرد المسلم والأمة المسلمة إلى سواء الطريق، إذا كانت خالطت بشاشته قلوبهم وتغلغلت هذه العقيدة في نفوسهم تغلغلاً..." [نظام الحياة ص: 16].

 

وقال في موضع آخر: "فإن إنكار الإنسان للحياة الآخرة أو إقراره بها، له تأثير بعيد في حياته، فإن الذي فطر عليه الإنسان أن لا يصبو إلى عمل، أو يعرض عنه، إلا على قد ما يرى فيه لنفسه من فائدة أو ضرر، فأنى للذي لا يعدو نظره فائدة هذه العاجلة وضررها، أن ينشط لعمل صالح لا يرجو منه فائدة في هذه الدنيا، أو يجتنب عملاً سيئاً لا يخاف منه على نفسه ضرراً في هذه الدنيا؟

 أما الذي ينفذ بصره إلى نتائج الأعمال ولا يقف عند ظواهرها، فلا يرى نفع هذه العاجلة أو ضررها إلا شيئاً عارضاً، فيؤثر الحق على الباطل، والخير على الشر، نظراً  إلى فائدة الآخرة أو مضرتها الأبدية، ولو كان الخير يرجع إلى نفسه بأفدح ضرر، والسيئة بأعظم منفعة في هذه الدنيا.

 

فانظر إلى ما بين هذين الرجلين من الفرق العظيم والبون الشاسع، فالخير في نظر الأول ما يحصل نفعه في هذه الدنيا الفانية... والشر عنده ما ينتج أو يخشى أن ينتج شيئاً مكروهاً في هذه الدنيا... بينما الخير في نظر الرجل الثاني ما يرضي الله، والشر ما يسخطه، وهو يرى أن الخير خيرٌ في كل حال، وإن لم ينفعه في هذه لحياة الدنيا، وابتلاه بكل ضرر فيها، ويستيقن أن الله سيعطيه نفعاً أبدياً عنده في الآخرة، وأن الشر شرٌ في كل حال، وإن لم يذقه أو لم يخف أن يذوق وباله في هذه الحياة الدنيا ووجد فيها المنفعة كل المنفعة، ويعلم علم اليقين  أنه إن فاته العقاب على أعماله السيئة في هذه الدنيا، فلا مفر له منه في الآخرة..." [مبادئ الإسلام ص:115-117].

 

فأي الرجلين أحق بالأمن وتحقيقه في الدنيا والآخرة الأول أم الثاني؟

ألا ما أطول الطريق على طالب الأمن من غير هذا السبيل! بل ما أصعب الوصول إليه من سواه! وما أفدح الأخطار النازلة به! وما أقصر الطريق لطالبي الأمن من هذا السبيل وأعظم مكاسبهم! فياليت قومي يعلمون!.

 

المبحث السادس: العلم بالملائكة ووظائفهم.

 

إن الذي يعلم أن لله تعالى مخلوقات ملأت السماوات، وأحاطت بالعرش، وانتشرت في الكون كله تنفذ أمر الله ولا تعصي له أمراً، وأن من وظائفها العناية بهذا الإنسان والاهتمام به منذ أن أراد الله خلقه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بل إنهم ليتلقونه في الآخرة، وهم الذين يفتحون لأهل الجنة أبوابها، ولأهل النار أبوابها، وخزنة الجنة ملائكة وخزنة النار ملائكة.

 

إن الذي يعرف ذلك إجمالا،ً ليكاد ترتعد فرائصه من شدة الخوف من هؤلاء الذين يلازمونه في كل أحواله، ويكتبون كل أعماله وحركاته، فيلقى كل ما يكتبونه محضراً عند لقاء ربه، فكيف إذا عرف ذلك بالتفصيل الذي أذن الله به؟

 

ويكفي أن نذكر شيئاً من وظائفهم المتعلقة بهذا الإنسان مع النصوص الدالة عليها باختصار، لنرى الأثر الذي يحدثه العلم بالملائكة والإيمان بهم في نفس المؤمن.

 

أولاً: دوام عبادتهم وعدم عصيانهم مطلقاً، كما قال تعالى: ((فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون))  [فصلت: 38]. 

وقال تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون))  [التحريم: 6].

 

جُمع في هذه الآية بين ثلاثة أمور في الملائكة:

الأمر الأول: أن منهم مَن وظيفته القيام على شئون النار.

الأمر الثاني: أن هؤلاء القائمين على جهنم متصفون بما يناسبها، وهو الغلظة والشدة.

الأمر الثالث: كمال طاعتهم لربهم وعدم عصيانه، ولهذا حذّر الله المؤمنين وأمرهم بوقاية أنفسهم من هذه النار التي عليها هؤلاء الملائكة الذين هذه صفاتهم، فإنهم لا يمكن أن توجد في قلوبهم رحمة لمن أمرهم الله بحبسه في نار جهنم.

 

وإن هذه الصفة التي هي عدم المعصية، والطاعة الكاملة لله سبحانه وتعالى، من أعظم ما يبعث في نفس المؤمن محاولة الارتقاء بنفسه في طاعة الله إلى أعلى مستوى يقدر عليه، وإن لم يكن تكوينه مثل تكوين الملائكة في العصمة، إلا أن الاقتداء في الاجتهاد في الطاعة حسب طاقته، يرفعه إلى أعلى ما يطيقه البشر، وفي ذلك كفاية بالنسبة للإنسان.

 

ثانياً: أن الملائكة لشدة حرصهم على طاعة الله وكونهم جبلوا على ذلك، يحبون أن يكون الكون كله معموراً بطاعة الله، بحيث لا يشذّ عنها أحد من الخلق، ويكرهون أن يوجد في الكون السفلي ما يخالف الكون العلوي، بوجود عصاة وفساد، لذلك أبدوا شفقتهم وخوفهم من أن تكون هذه الأرض محل فساد من بين سائر الكواكب والسماوات، من اعتداءٍ وسفك دماءٍ وظلم، وغير ذلك. 

 

كما قال تعالى: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون))  [البقرة: 30].

 

إنهم لشدة حرصهم على طهارة الكون من الشرك والظلم والاعتداء، ومحبتهم للتوحيد والطاعة والعدل والأمن والاستقرار، يودون أن يكون العالم السفلي (الأرض) مثل العالم العلوي، بأن تكون مقراً لهم يعمرونها بعبادة الله وطاعته، ولكن لحكمةٍ يعلمها الله، وقدرٍ أراده، وعلم محيط بالمصالح والمفاسد، أراد تعالى أن يكون سكان هذه الأرض من جنس آخر: جنس خَلَقَه الله من قبضة من طين ونفخة من روح، جنس يكون تكليفه اختياراً، ولا تكون العبادة والطاعة سجية له كالملائكة، بحيث لا يقدر على الخروج من فلك الطاعة في كل أحيانه، بل يكون من طبيعته أن القدرة على الطاعة والقدرة على المعصية، ونوع اختيار، ويكفي أن يبعث الله إليه الرسل وينزل عليه الكتب لهدايته، والملائكة ترافق هذا الإنسان من وقت علوقه برحم أمه إلى أن يدخل الجنة أو النار.

 

ثالثاً: ولعل في جعل الله تعالى سفيره إلى رسله الهداة من البشر حبريل، عليه السلام أمينه على وحيه، تكريماً منه تعالى لملائكته الحريصين على وجود الصلاح في هذه الأرض، كما قال تعالى: ((إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين))  [التكوير: 19-21]. 

وهم بذلك يقيمون الحجة على البشر، بأنهم قد أتوهم بالهدى من عند الله الذي فيه صلاحهم، وبيان ما يجب عليهم أن يجتنبوه من الفساد.

 

رابعاً: ولهذا جعلهم الله تعالى حراساً على البشر، يراقبون نشاطهم وأفعالهم ويكتبونها عليهم في سجلات تنشر عليهم يوم القيامة، كما قال سبحانه وتعالى: ((وإن عليكم لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون))  [الانفطار: 10-12]. 

وقال تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد))  [ق: 16-18].

 

إن الإنسان المؤمن الذي يعلم أن حراساً أمناء كَتَبَةً، يعلمون ما يفعل، ويكتبون أعماله كلها في سجلاتهم في كل لحظة من لحظات حياته، لا فرق بين خلوته وجلوته، لا بد أن يسعى جاهداً في عمل كل صلاح يقدر عليه، وفي البعد عن كل فسادٍ أو شرٍ.

 

خامساً: ومن وظائفهم توفي الأرواح ونزعها، وهم طائفتان: ملائكة رحمة تنزع نفس المؤمن نزعاً خفيفاً، وملائكة عذاب تنزع روح الكافر نزعاً شديداً عنيفاً، كما قال تعالى: ((قل يتوفاكم ملك الموت  الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون))  [السجدة: 11]. 

وقال تعالى:  ((وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون))  [الأنعام: 61].

 

وقال تعالى: ((ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون))  [الأنعام: 93].

وقال تعالى: ((ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق))  [الأنفال: 50].

 

إن المؤمن الذي يعلم أن من وظائف الملائكة نزع روحه، وأنه إذا حاد عن الجادة تولت نزع روحه ملائكة العذاب، لَيَجتهد كل الاجتهاد في السعي إلى ما يرضي ربه سبحانه وتعالى، ليكون الموكلون به عند زهوق روحه في آخر حياته ملائكة الرحمة لا ملائكة العذاب.

 

سادساً: والملائكة هم الذين يمتحنون الميت في قبره، كما في حديث البراء بن عازب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت))  قال: نزلت في عذاب القبر، فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فذاك قوله عزّ وجلّ: ((يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة))  [مسلم (4/2201) والآية في سورة إبراهيم: 27]. 

 

وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بيان من يسأل الميت، وصفته وتفصيل سؤاله، وأقسام المسئولين وأجوبة كل قسم، وما يترتب على تلك الأجوبة في البرزخ. فقد روى رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قُبِرَ الميت - أو قال أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله،  فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم يُنَوَّر له فيه،  ثم يقال له: نم،  فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله  من مضجعه ذلك.

 

وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه  ذلك)  [الترمذي (3/374-375) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وقال: لم يخرّجه من أهل السنة سوى الترمذي. وقال الترمذي: حديث حسن غريب].

 

وعلم الإنسان بهذا الامتحان من ملائكته المقربين الذين لا يعصون ربهم ويفعلون ما يؤمرون، يجعله يعدّ له عدته ويعيش مشفقاً على نفسه طول حياته، فلا يعتدي على حقوق الله ولا على حقوق عباده، وهذا هو الذي يؤتمن على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم.

 

سابعاً: ومن وظائف الملائكة أن طائفة منهم تكون خزنة للجنة، وطائفة أخرى تكون خزنة لجهنم، وهم الذين يفتحون أبواب الجنة للمؤمنين، وأبواب جهنم للكافرين، يستقبلون المؤمنين بالتبشير، ويستقبلون الكافرين بالتبكيت والتوبيخ والإهانة. 

 

كما قال سبحانه وتعالى: ((ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون. ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون، وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين))  [الزمر: 68-73].

 

إن رحلة الإنسان من  وقت خلقه في بطن أمه إلى أن يدخل الجنة أو النار، وملائكة الله معه لا تفارقه، لممَّا يقوي العزم على طاعة الله والبعد عن معصيته وإضرار عباده، وإن عدم تربية الإنسان على هذا الباب، من أعظم المصائب والكوارث التي تجني ثمارها البشرية من الظلم والاعتداء والإخلال بالأمن.

 

وللملائكة وظائف أخرى لم نتعرض لها هنا، واكتفينا بما ذكر لقوة صلته بهذا الإنسان.

 

المبحث السابع: العلم بوجوب محبة الله ورسوله

 

إن الذي يفقد محبة الله ورسوله من قلبه، لا يكون مؤمناً بالله ورسوله، لأن محبة الله هي لب عبادة الله وركنها، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم  تابعة لمحبة الله، فهي أيضاً من لب العبادة لله.

ويجب أن يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمن من نفسه وماله وولده والناس أجمعين.

 

والذي تكون قرابته وزوجه وماله وتجارته، أحب إليه من الله ورسوله،  فليس من أهل الهدى ودين الحق، وإنما هو من الفاسقين، كما قال تعالى: ((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين))  [التوبة: 24].

 

والإنسان إذا كان الله ورسوله أحب إليه من هذه الأمور المشتملة على أنواع المحاب الدنيوية، فإنه لا يُقدّم ما يحبه طبعاً أو يهواه على ما يحبه الله ورسوله شرعاً، وهذا هو منبع الأمن، لأنه لا يمكن أن يعتدي على حقوق الآخرين، لا لنفسه ولا لمن يحبه طبعاً، لعلمه أن ذلك مما يسخط الله ويجعله في عداد الفاسقين، ولأنه يقدّم محبة ما يحب الله ورسوله على ما تحبه نفسه أو يحبه أقاربه الذين يحبهم.

 

وهذه جملة من الأحاديث الواردة في محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله.

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر – بعد أن أنقذه الله منه – كما يكره أن يلقى في النار) [البخاري (1/9-10) ومسلم (1/66)].

 

وفي حديث أنس – أيضاً – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) [البخاري (1/9)].

 

تأمل صيغتي نفي الإيمان في حديثي أنس الأخيرين، إنهما بعبارة واحدة: (لا يؤمن أحدكم)، إلا أنه في الأول قال: (حتى أكون أحب إليه من والده وولده...) وفي الثاني قال: (حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ومعنى هذا أنه إذا لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده..

 

ومن أضرّ الناس واعتدى على حقوقهم ولم يأمنوه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فإنه لا يكون محباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم المحبة الشرعية التي أرادها الله تعالى منه.

 

وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الذي يحب الله على الحقيقة – ويحب رسول الله كذلك – لا بد أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم))  [آل عمران: 31].

 

والذي يحقق محبة الله ورسوله باتباعه لرسوله صلى الله عليه وسلم، هو الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأن ذلك كله مما يحبه الله ورسوله، ويجب عليه اتباعه حتى تتحقق له محبة الله ورسوله، باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم.

 

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على محبته أكثر من محبتهم لأنفسهم، ليقدموا محاب الله ومحاب رسوله على محاب أنفسهم، كما في حديث عبد الله بن هشام، رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر:"يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا نفسي" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال عمر: "والله لأنت أحب إلى من نفسي" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر) [البخاري (7/218)].

 

فعلى الذين ينشدون في مجتمعاتهم أمن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وسائر حقوقهم، حاكمين ومحكومين، أن يربّوا أفرادهم وأسرهم على محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة كل ما يحبه الله ورسوله، حتى يقدموا محاب الله ورسوله على محاب كل أحد سوى الله ورسوله، حتى ولو كانت أنفسهم.

 

أما تربية الناس على حب غير الله ورسوله حبا يتعارض مع مقتضى حب الله ورسوله، فإن في ذلك الدمار والهلاك وعدم الأمن والاستقرار، لأن الذي يربي الناس على حب نفسه لا يلبث الناس أن ينقلبوا أعداء له، لأن حب غير الله لا يدوم في نفوس الناس، بسبب أنهم جبلوا أن لا يحبوا أحدا غير الله إلا لمصالح مادية تعود عليهم، فإذا وجدوا مصالح مادية عند غير محبوبهم الأول أكثر،  مالوا إلى هذا ووقفوا معه ضد ذاك، وهذا ما يشاهد في هذه الحياة.

 

أمّا إذا حبّ الناس أحداً لله واستقام على طاعة ربه، فإن حبهم له لا يتغير غالباً، لأنه تابع لمحبة الله، ومحبة الله ثابتة في قلب المؤمن، وكذلك محبة من يحبه الله.

 

المبحث الثامن: العلم بأن الله واهب الحياة والرزق.

 

إن أعظم ما يحرص عليه الإنسان في الدنيا أمران:

الأمر الأول: الحياة وطول الأجل.

الأمر الثاني: الرزق، وهو شامل لكل ما ينتفع به ويتمتع من مال وأهل وسكن وجاه ومنصب ومكانة وغيرها.

وإن أعظم ما يخاف منه هو انقطاع الأجل وانقطاع الرزق أو ما يؤثر على الحياة والرزق.

 

والذي لا يؤمن بالله واليوم والآخر إيماناً حقاً كما أراد الله، تجده أشد الناس حرصاً على الحياة والرزق، وأكثر الناس شراهة لتناول الشهوات، أياً كان مصدرها، حرصاً على تمتعه بأكبر قدر متاح قبل مفارقة الحياة، وإذا فاز في الحصول على الرزق الذي ينشده، وسلم مؤقتاً من انقطاع الأجل، اشتد هلعه لطلب المزيد، واشتد خوفه من أن يصاب بما ينغّص حياته أو ينقص رزقه.

 

أما الذي يؤمن بالله وباليوم الآخر، فإنه بفطرته البشرية يحب الحياة ويحب الرزق، ويسعى لحصول الرزق، ودفع ما يضرّه أو يقطع أجله، وهو مأمور بذلك شرعاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدّرَ الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) [مسلم (4/2052)].

 

إلا أنه يعلم يقيناً أن الذي يهب له الحياة ويمد له في العمر، هو الله وأن الذي ينزع منه هذه الحياة هو الله، وأن سعيه للرزق محكوم بمشيئة الله تعالى، يبسط له ما يشاء ويقدر له ما يشاء. قد يجعله من أكبر الأغنياء، وقد يجعله كفافاً، وقد يجعله فقيراً على الرغم من كدحه وسعيه، لهذا تجد المؤمن يسعى في دفع الأذى عن حياته ولجلب رزقه، وهو مطمئن بأن أجله مقدرٌ، لا يقدمه أحد غير الله ولا يؤخره، وأن رزقه لا يأتيه منه إلا ما كتب الله له.

 

فالله سبحانه وتعالى هو واهب الحياة والموت، وخالق الإنسان من تراب ثم من نطفة مهينة، وهو الذي يميته إذا شاء في أجله المحدود، كما قال عز وجل: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور))  [الملك: 2].

وقال تعالى: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق))  [العلق:1ـ2].

 

وقال تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون)) [الحجر: 26].

وقال تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين))  [المؤمنون: 12-14].

وقال تعالى: ((قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره))  [عبس: 17-19].

 

فالله هو الذي خلق الإنسان ووهبه الحياة ابتداء،ً ولا يقدر أحدٌ سواه تعالى أن يخلق أو يهب الحياة.

 

وكذلك هو الذي يميت من وهب له الحياة في أجل مقدر لا يزيد ولا ينقص، وقد ردّ الله زعم من ظنّ أن أحداً  أو شيئاً مّا يقدم الأجل أو يؤخره، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير))  [آل عمران: 156].

 

ونفى سبحانه وتعالى أن تموت نفس بدون إذنه فقال: ((وما كان لننفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً))  [آل عمران: 145].

وأخبر تعالى أن التحصينات المادية، من حصون وقلاع وجيوش وأسلحة، لا ترد الموت عمن تم أجله، كما قال تعالى: ((أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة))  [النساء: 78].

 

وأخبر تعالى أنه هو الذي يحيي ويميت كما أنه هو مالك السماوات والأرض، فقال: ((ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون، هو يحيي ويميت وإليه ترجعون))  [يونس: 55-56].

وقال تعالى: ((إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير))  [التوبة: 116].

 

والرزق كالأجل مكتوب لصاحبه لا يقدر أحد على إعطائه أو منعه إلاّ بإذن الله، وقد دلّ على هذا المعنى نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وشهد به – كما شهدت بالذي قبله – الواقع الذي لا يجحده إلا مكابر.

 

فالخالق هو الرازق، كما قال تعالى: ((الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم))  [الروم: 40].

 

تأمل كيف جمع الله في هذه الآية بين الخلق والرزق والأجل، فالذي يخلق هو الذي يرزق، وهو الذي يحيي ويميت وقال تعالى: ((قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون))  [يونس: 31].

 

من يوجد الماء الذي تحيابه الأرض فتنبت، و من خلق الخصائص التي اشتملت عليها تربة الأرض فكانت صالحة لإنبات الزروع المختلفة؟ ومن خلق الهواء والشمس اللذين لا نبات بدونهما؟ إلى غير ذلك.

 

ومن خلق الحيوانات وجعل منها الأليف المأكول أو المركوب؟ ومن أوجد الآلات الصالحة للصناعات والمساكن والسلاح؟ ومن خلق العقول المدبرة لذلك كله؟ إنه الله.

 

من الذي يوسع الرزق لهذا ويضيقه على ذاك؟ بل يوسّعه لشخص في وقت، ويضيّقه عليه في وقت آخر، قال تعالى: ((الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر))  [الرعد: 26]، ((أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون))  [الروم: 37].

 

وقال سبحانه وتعالى، مسوياً بين الإنسان وغيره من الحيوانات العجماء، التي لا تملك ما يملكه الإنسان من العقل والتدبير وحمل الرزق وخزنه، في أن رزق الجميع من الله الخالق: ((وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم))  [العنكبوت: 60].

 

وأمر سبحانه عباده بطلب الرزق عنده وشكره على رزقه إياهم، فقال: ((فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون))  [العنكبوت: 17].

 

وقال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين))  [الذاريات: 56-58].

 

ومن أعظم ما يحرص عليه ذوو المطامع والأهواء من الأرزاق، الْمُلك الذي يكون وسيلة للوصول إلى المال وغيره من مُتَعِ الحياة وبسط النفوذ والجاه، وفرض احترام الناس وتقديرهم، حيث يكون صاحب الملك هو الآمر الناهي، يقدر على فعل ما لا يقدر عليه غيره، يصبح بالملك عزيزاً وقد كان قبله ذليلاً، ويصبح أعزة الناس أذلة له، هذا الملك الذي هذه صفته، ويحرص عليه الناس حرصاً شديداً، هو بيد الله تعالى، كغيره من الأرزاق، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، يمسي الإنسان ذليلاً مهيناً خادماً لذي السلطان، فيصبح ملكاً عزيزاً مخدوماً، ويمسي ملكاً عزيزاً مخدوماً فيصبح ذليلاً مهاناً خادماً.

 

كما قال تعالى: ((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب))  [آل عمران: 26-27].

 

 

هذا، وقد دلت نصوص السنة – كما دلت نصوص الكتاب – أن الأجل والرزق مقدران من الخالق الرازق، لا قدرة لأحد على التحكم فيهما بتقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان، فالْمَلَك يكتب رزق كل إنسان وأجله وسعادته وشقاءه وهو في بطن أمه.

 

كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، قال: (إن أحدكم يجمع خلق في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة في ذلك مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربعة كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي وسعيد...) [البخاري (4/78-79) ومسلم (4/2036) واللفظ له].

 

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لطول أمل الإنسان في طول أجله وسعة رزقه وزيادته، وللأجل المقدر الذي يقطع ذلك الأمل الطويل.

كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "خطّ النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخطّ خطاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ  خططاً صغاراً  إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)" [المسند (1/385) والبخاري (7/171) وابن ماجة (2/1414)].

 

ونبّه الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه أم حبيبه بنت أبي سفيان التي سألت الله أن يمتّعها به وبأبيها وأخيها، نبّهها أن للأجل أيامه المعدودة التي لا تزيد ولا تنقص، وأن الرزق مقسوم لا يزيد ولا ينقص،كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة، لن يعجّل شيئا قبل أجله، أو يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من النار أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل) [أحمد (1/390) ومسلم (4/2050-2051)].

 

وفي هذا الحديث تنبيه على أن يهتم المسلم بالعمل الصالح ويلحّ في الدعاء أن يوقفه الله، وأن يعيذه من النار وعذاب القبر، وأمّا الأجل والرزق فإنهما قد كتبا ولا بد منهما كما كتبا، وإن كان يشرع الدعاء بطلب العافية وتيسير الأمور وقضاء الحاجات.

 

ولما كان الخوف من انقطاع الأجل والرزق، قد يمنع الإنسان من قول كلمة الحق خوفاً على نفسه من ولاة الجور الظلمة الذين بأيديهم القوة والمال والأمر والنهي، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يمنعه ذلك الخوف من قول الحق، معللاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقربان من أَجَل ولا يبعدان من رزق، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يقرب من أجلٍ ويباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم) [أحمد (3/50)].

 

وعندما دنا أجل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثت إليه ليحضره – ولا شك أنها كانت متأثرة لوفاة ابنها – أرسل إليها رسولاً يقول لها: (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌ عنده بأجل مسمى) [البخاري (2/80) ومسلم (2/635-636)].

 

وقد يظن بعض الناس أن التعرض للقتال والمبارزة ينقص الأجل، وذلك ظنّ المنافقين الكاذب، فإن الأجل محدود، والذي يقتل إنما يقتل لانقضاء أجله، كالذي يموت بأي سبب ظاهر أو في أي مكان آخر، الأجل هو الأجل وإن تعددت أسبابه.

 

قال ابن حزم رحمه الله تعالى: "ولا يموت أحدٌ قبل أجله، مقتولاً أو غير مقتول، قال الله عز وجل: ((وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً))  [آل عمران: 145] وقال تعالى: ((فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون))  [الأعراف: 34] ((قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم))  [آل عمران: 154] وحتى يستوفي رزقه ويعمل بما يسر له...)) [المحلى (1/37) وراجع منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب (2/71)]>

 

واقع الناس يطابق نصوص القرآن والسنة

 

هذا، وإذا تأمل الإنسان أحوال الناس، وقلّب صحائف التأريخ وجد الواقع المشاهد في كل زمان، بل في كل يوم، مطابقاً لهذه النصوص التي سقيت من القرآن والسنة للدلالة على أن الأجل والرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يستطيع أحد في الأرض ولا في السماء أن يقدم فيها أحداً أو يؤخره أو يزيده أو ينقصه إلا بإذن الله.

 

 

فكم من الناس من يسعى سعياً حثيثاً ليكون غنياً ويطرق كل باب يتاح له طرقه، ولكنه يعيش كل  حياته في تعب وكد ونصب، وفقر مدقع لا يجد إلا الضروري من الرزق! وكم من الناس من يسعى سعيه أو أقل منه، فيصبح غنياً ممتلئة خزائنه من رزق الله تعالى! وكم من غني أمسى يرفل في نعيم غناه، فأصبح فقيراً يستحق نصيبه من صدقات الأغنياء! وكم من شركة تجارية صغيرة أصبحت أم الشركات، وكم من شركات كبيرة افتقرت!

 

وكم من عزيز تخضع له الرقاب وتحنوا له الجبابرة لاعتلائه عرش الملك أصبح، يتمنى أن يكون له حق العيش في بلده كبقية الأفراد، فلم يجد إلا النفي إن سلم من الإهانة والإذلال! وكم من صعلوك كان يكدح في الحياة سعياً وراء لقمة العيش يحمل للناس الأثقال على ظهره في الأسواق بالأجر الزهيد، أصبح آمراً وناهياً لقوم كانوا قادة شعوب.

 

((قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب))  [آل عمران: 26-27].

 

والفائدة من علم هذا المعنى، وهو أن الله واهب الحياة والرزق، أن العالم بذلك المؤمن به يتقيد في سعيه لوقاية نفسه من الأخطار، أو الحصول على الأرزاق بأوامر الله الشرعية، فلا يتعدى على حقوق الله ولا على حقوق خلقه، لعلمه بأن أجله ورزقه مربوطان بأمر الله الكوني القدري.

 

فلا يمكن أن يحصل في سعيه إلا ما قد قدره الله له أو عليه، ولذلك لا يضرّ الناس ولا يؤذيهم طمعاً في رزق أو زيادة حياة، مهما كان هذا الرزق، ولو كان ملك الدنيا بحذافيرها، ومهما كانت هذه الحياة، ولو كانت دائمة السرور من أول عمره إلى آخره لا تكدّرها المكدّرات.

وبذلك يأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حقوقهم، سواء كان ملكاً آمراً وناهياً أم خادماً مأموراً منهياً.

 

لا بد من الأخذ بالأسباب:

 

ولا بد هنا من التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن الجاهل عندما يعلم هذه المعاني التي شرحت في هذا المبحث والنصوص الدالة عليها، والواقع المشاهد الذي يدعمهما، قد يظن أن العمل لحفظ الحياة وصيانتها والحصول على الرزق يعتبر عبثاً، ما دام أن الأجل بيد الله، لا يقدمه أحد لحظة ولا يؤخره أخرى، وما دام أن الرزق من عنده، لا يمنعه أحد ولا يعطيه – أي أن الله وحده واهب الحياة والرزق-.

 

وقد تبادر هذا المعنى إلى ذهن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه الرسول صلى اله عليه وسلم بأن الإيمان بالقدر شيء ووجوب العمل والسعي شيء آخر، فالقدر بالنسبة للإنسان مجهول لا يدري ماذا قدر عليه، والعمل مشروع كلفه الله إياه، فلا يجوز ترك العمل اتكالاً على القدر الذي سبق في علم الله.

 

كما في حديث علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة[المخصرة عصا أو قضيب يتوكأ عليه، أو يشير به الخطيب] فنكس، فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: (ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة). فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: (أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة) ثم قرأ: ((فأما من أعطى واتقى...))  الآية [البخاري 2/99) ومسلم (4/2039)].

 

فالقدر المجهول لا يمنع من السعي المشروع، ولا يجوز لتارك العمل المشروع الاحتجاج بمضي القدر، ولهذا كان الذي يُقتَل دون نفسه شهيداً، مع أن أجله قد قضى أن يقتله ذلك القاتل المعتدي الذي حاول المقتول أن يدفعه عن القتل، وأمر الله تعالى الإنسان بكسب رزقه والسعي له.

كما قال تعالى: ((وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور))  [الملك: 15].

 

فعلى الإنسان أن يبذل طاقته في تحصيل مصالحه، ودرء المفاسد عنه، ولكن لا يركن إلى سعيه ذلك ويعتقد أنه ينشئ النتيجة ولا بد، بل يعتقد أنه يعمل السبب المشروع، وأن الله هو خالق السبب والمسبب معاً، ولا قدرة لأحد على دفع ما أراد الله تعالى وقوعه.

 

قال ابن حجر رحمه الله في شرح حديث عمران بن حصين الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كل يعمل لما خلق  له، أو لما يسر له) [البخاري (7/210)]: "وفي الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلف، فعليه أن يجتهد في عمل ما أمر به، فإن عمله أمارة إلى ما يؤل إليه أمرره غالباً، وإن كان بعضهم قد يختم له بغير ذلك" [الفتح (11/493)].

 

وهذا هو معنى التوكل على الله الذي دل عليه القرآن والسنة، فليس من التوكل ترك الأسباب، وإنما هو الاعتماد على الله، وعمل السعي المشروع، وعدم اعتقاد أن السعي ينشئ النتيجة، بل المنشئ هو الله تعالى، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جمع بين الاعتماد على الله، مع فعل السبب المشروع.

 

كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) [الترمذي (4/573) وقال: قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. وراجع كتاب جامع العلوم والحكم في شرح الحديث ص:379-385 لابن رجب، طبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده].

 

والشاهد في الحديث أنه شبه لمتوكلين على الله حق توكله، بالطير ووصفها بوصفين.

الأول: أنها تغدو خماصاً، أي تغدوا من أوكارها لطلب الرزق وهي جائعة.

والثاني: أنها تروح بطاناً، أي تعود إلى مقارها وهي مملوءة البطون، ومعنى هذا أن المتوكل على الله يسعى لكسب رزقه مع اعتماده على الله، ولا يتكل على القدر.

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

تربية الفرد المسلم بالعمل الصالح

 

وفيه تمهيد وثلاثة مباحث.

تمهيد: في معنى العمل الصالح.

المبحث الأول: في الحض على طاعة الله ورسوله.

المبحث الثاني: اكتساب الحرية الحقة.

المبحث الثالث: نماذج تطبيقية لأثر التربية الإسلامية.

 

تمهيد: في معنى العمل الصالح.

 

الصلاح ضد الفساد، والعمل الصالح ضد العمل الفاسد، ولكن من الذي يحدد العمل الصالح و العمل الفاسد؟ من الذي له حق الحكم عل عملٍ مَّا بأنه صالح أو فاسد؟ أهم بشر؟ مَن مِن البشر؟ إنه لو أعطى هذا الحق للبشر لتباينت آراؤهم وأحكامهم، ولحكم بعضهم على عملٍ مَّا بأنه صالح، وحكم آخرون على نفس العمل بأنه فاسد، ومن الذي يفصل في نزاع الفريقين؟

 

لذلك ترى أنواعاً من السلوك وأنماطاً من النشاطات، تعد جرائم عند قوم، يعاقَب عليها مرتكبها عندهم، وتجد نفس تلك الأنواع والأنماط حلالاً ومزايا، يدعى إليها ويثنى على فاعلها عند قوم آخرين، والأرض مملوءة بذلك.

 

ولنضرب لذلك مثالاً واحداً يتضح به المطلوب:

الحرية الفردية في الاقتصاد، التي هي أساس في معسكر الدول الغربية: الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوروبا،  كل فرد له الحق أن يملك ما يشاء من الأموال فأباحوا الملكية الفردية إباحة مطلقة، فله أن يملك ما ينتفع به من ملابس وأوانٍ وأثاث منزلي وغيرها مما يحتاج إليه الفرد لنفسه، وله أيضاً أن يملك ما يشاء من المرافق والوسائل التي تنتج الأشياء المستهلكة، ليبيعها لغيره، كالآلات والأراضي والمواد الخام بدون استثناء.

 

 وهو حر في سعيه لجمع المال بوسائله، ينتج ما يشاء ويبيع بالسعر الذي يريده، يتفق مع المشتري والأجير بكامل حريتهم، وفائدته الذاتية هي الدافع المحرك الأول له في الإنتاج والسعي، دون التفات إلى منافع غيره، وذلك كفيل عندهم أن تنال الجماعة مصالحها من خدمة الأفراد الذين أعطيت لهم تلك الحرية... وهم يتنافسون فيما بينهم، وليس للدولة أن تتدخل في حرية تجارة الأفراد وسبل إنتاجهم وأساليب تعاملهم مع غيرهم.

 

هذه الحرية في الملكية الفردية هي منشأ جميع الشرور والمفاسد في الأرض عند ذوي المعسكر الشرقي الاشتراكي، كروسيا - قبل انهيار الاتحاد السوفييتي - والصين ومن في فلكهم، فلم يبيحوا للفرد إلا ما يحتاجه لمنافعه الشخصية، كالأواني والملابس وأثاث المنزل ونحوها. وما عدى ذلك من الأرض والآلات وغيرها مما تنتج الثروات فلا حق للأفراد فيها، لأن الفرد إذا تمكن من ذلك استعبد غيره من الكادحين، لذلك يجب أن تتدخل الدولة في ذلك وتعتبره جريمة وفساداً يجب أن يستأصل من الأرض... [راجع الأسس الاقتصادية للمودودي] فالملكية الفردية في المعسكر الرأسمالي صلاح يجب أن يحمى، وفي المعسكر الشرقي فساد يجب أن يستأصل.

 

وإذا تأملنا تاريخ البشرية وجدنا كل أمة أو كل قوم يدعون أنهم مصلحون، ويصفون من يخالفهم بالفساد في كل النشاطات الإنسانية: العقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. الشرك هو الحق عند أكثر الأمم في الأرض، والتوحيد بدعة يجب أن تحارب:

((أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب))  [ص: 5]

((قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد))  [هود: 87].

((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد))  [غافر: 26]

((قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)) [غافر: 29].

((قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى))  [طه: 63]

 

((ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون))  [الأعراف: 80-82]

((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون))  [البقرة: 11-12].

 

وهكذا تجد الناس في تخبط واضطراب وتباين، كل قوم يدعون أنهم هم المصلحون وغيرهم مفسدون.

فمن الذي يحدد العمل الصالح، ويكون صالحاً فعلاً في كل زمان ومكان، ولكل قوم في هذه الأرض؟

إنه الله سبحانه وتعالى، وقد حدد الأعمال الصالحة في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في العقيدة والعبادة والسلوك وفي كل مجال من مجالات الحياة، وبيّن سبحانه أن كل من حاد عمّا أمر به ودعا إليه، فهو خاسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))  [العصر].

 

وقد أجمل الله سبحانه وتعالى أصول الإيمان والعمل الصالح على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، في حديث جبريل المشهور، واستنبط العلماء نصوص الكتاب والسنة للعمل الصالح، شرطين:

الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى، كما قال تعالى: ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء))  [البينة: 5]

 

والنصوص الواردة في الإخلاص من الكتاب والسنة كثيرة جداً [راجع على سبيل المثال أول باب في كتاب رياض الصالحين للإمام النووي].

 

والشرط الثاني: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث يكون العمل مطابقاً لما جاء به من عند الله وليس مخالفاً له، كما قال تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم))  [آل عمران: 31].

والنصوص الواردة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً أيضاً في الكتاب والسنة، فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان مراداً به وجه الله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

والعمل الصالح هو كل ما يرضي الله تعالى من أعمال القلب واللسان والجوارح، كالعبادة [راجع المبحث الثاني من الفصل الأول في معنى العبادة]، وكل ما  لا يرضي الله تعالى فهو عمل فاسد. فالميزان إذاً للعمل، أهو صالح أم فاسدٌ، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

المبحث الأول:

في الحض على طاعة الله ورسوله.

 

إن الغاية التي أنزل الله من أجلها كتبه وبعث لها رسله، هي رضاه سبحانه الذي لا وسيلة للوصول إليه، إلا طاعته وطاعة رسله وتقواه سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله))  [النساء: 64].

ولهذا قرنت الطاعة بتقوى الله في دعوة رسله، كما قال تعالى، على لسان نوح وغيره: ((فاتقوا الله وأطيعون))  [الشعراء: 108 وما بعدها].

 

وقد تكرر الحضّ على طاعة الله ورسوله في القرآن الكريم كثيراً، كما تكرر التحذير من طاعة غير الله في معصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

ومن أمثلة الحض على طاعة الله ورسوله: قول الله عز وجل: ((يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا))  [النساء: 59].

وقوله تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا))  [النساء: 69].

 

وقوله سبحانه: ((من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا))  [النساء: 80].

وقوله عز وجل: ((قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين))  [آل عمران: 32].

وقال تعالى: ((وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون))  [آل عمران: 132]

وقال تعالى: ((وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين))  [المائدة: 92].

 

وقال تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم))  [التوبة: 71].

وقال تعالى: ((إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون))  [النور: 51-52].

 

وقال عز من قائل: ((قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين))  [النور: 54].

وقال تعالى: ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون))  [النور: 56].

وقال تعالى: ((ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) [الأحزاب: 71].

 

وقال تعالى: ((ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم))  [محمد:33].

وقال تعالى: ((... ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما))  [الفتح: 17].

وقال تعالى: ((وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين))  [التغابن: 12].

 

وإن التأمل في هذه الآيات التي وردت الطاعة فيها منصوصاً عليها بلفظها، وغيرها كثيرٌ لم يذكر هنا، إن التأمل في ذلك ليدل على مدى الاهتمام بتربية المسلم على طاعة الله ورسوله التي لا إسلام بدونها ولا نجاة.

 

فما أرسل الله الرسل إلا ليطيعهم البشر، وما أرسل من رسول إلا دعا قومه إلى الطاعة التي هي مفتاح تقوى الله، وما يحصل نزاع بين المسلمين حاكمين ومحكومين، إلا وجب عليهم رد ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله، ليحققوا الطاعة لتي أُمروا بها، ولا هداية لصراط الله المستقيم ولا مرافقة لعباد الله الصالحين، إلا بالطاعة لله ولرسوله، ولا رحمة ولا إيمان ولا فلاح ولا فوز ولا هداية بدون طاعة الله ورسوله.

 

أما إذا أراد القارئ أن يتأمل زيادة على هذه النصوص التي حضت على الطاعة بلفظها وغيرها مما لم يذكر هنا، إذا أراد أن يتأمل ما ورد في القرآن من الحضّ على الطاعة بمعناها وليس بذكر لفظها، فإنه يصعب عليه إحصاء ذلك وحصره، فما من ترغيب، أو ذكر ثواب على عمل صالح، أو على ترك عمل سيئ، إلا كان امتثالاً لأمرٍ أو اجتناباً لنهي، وهو معنى الطاعة.

 

وما من ترهيب و عقاب يذكران على ترك أو فعل، إلاّ كان على ترك أمرٍ أو فعل نهي، وهو ما يضاد الطاعة.

فالتربية على طاعة الله ورسوله، هبي التي تؤدي إلى العمل الصالح، وترك العمل السيئ، وفي ذلك يكمن الأمن الحقيقي.

 

التحذير من طاعة غير الله فيما يخالف أمره:

 

ومن أمثلة النوع الثاني – وهو التحذير من طاعة من خالف أمر الله ورسوله، سواء كان صادراً عن العدو الداخلي، وهو الهوى والنفس والشيطان، أم العدو الخارجي وهم الكفرة ومحبو الفسوق والعصيان – قول الله تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين))  [آل عمران: 100].

وقال تعالى: ((وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله))  [الأنعام: 116].

وقال تعالى: ((... وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون))  [الأنعام: 121].

 

وقال تعالى: ((... ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا))  [الكهف: 28].

وقال تعالى: ((فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً))  [الفرقان: 52]

وقال تعالى: ((ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون))  [العنكبوت: 8].

 

وقال تعالى عن الكافرين الذين عصوا الله ورسوله: ((يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا))  [الأحزاب: 66-67]

وقال تعالى: ((فلا تطع المكذبين، ودوا لو تدهن فيدهنون، ولا تطع كل حلاف مهين))  [القلم: 8-10].

وقال تعالى: ((فاصبر لحكم  ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً))  [الإنسان: 24]

 

وبهذا يعلم أن في طاعة غير الله ورسوله فيما خالف أمر الله ورسوله، يكون الكفر والضلال والشرك والعذاب الأليم، والبعد عن ذلك يحتاج إلى صبر وتوكل على الله سبحانه وتعالى.

 

وعلى هاتين القاعدتين: - طاعة الله ورسوله، وعدم طاعة من خالف أمر الله ورسوله - ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكان عصرهم خير العصور في الأرض، وذلك ما يجب أن يسلكه كل من أراد أن يربّي أمة مسلمة يتحقق بتربيتها الخير والسعادة والأمن في الأرض.

 

فإن التربية على طاعة الله ورسوله تجعل من رُبِّي عليها يلتزم بأوامر الله ورسوله، وأوامر من اتبع شرع الله ورسوله، في كل حال من الأحوال في السر والعلانية.

وكل أمر أو نهي لا يكون نابعاً من طاعة الله ورسوله، فإن التمرد عليها سهل يسير، إذا غاب المتمرد عن العين المادّية التي تراقب أو خلا عن سطوة القانون البشري.

 

أما طاعة الله فإنها لا تفارق صاحبها في كل لحظة من لحظات حياته، فلا يخون ولا يغش، ولا ينفض عهداً، ولا ينتهك عرضاً، ولا يسرق مالاً، ولا يغتصب أرضاً، ولا يتناول شيئاً ممّا حرم الله عليه، ورقيبه في ذلك كله هو الله الذي تجب طاعته التي التزم بها وتربّى عليها، وبغض معصيته التي حذّر منها وتربّى على البعد عنها وعن أهلها، فهو يحب طاعة الله ويسعى لتحقيقها ويكره معصية الله ويهرب من الوقوع ففيها.

 

فإذا فعل خيراً  يعود على غيره من البشر، إنما يفعله لأنه طاعة لله ولرسوله، وإذا ترك شراً يعود ضرر فعله على الناس، فإنما تركه لأنه معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك لا يخاف منه خصمه أذى ولا يطمع منه صديقه محاباة وعمل منكر، وهذا هو الذي يأمنه الناس على أنفسهم  وأعراضهم وأموالهم وسائر حقوقهم.

 

وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين، ولم ينل هذا الفضل غيرهم، ممن يعبدون أهواءهم ويفضّلون المعصية على الطاعة، وقد امتن الله على عباده المؤمنين بهذا الفضل العظيم، فقال عز من قائل: ((واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم))  [الحجرات: 7-8].

 

المبحث الثاني:
اكتساب الحرية الحقة

 

إن الذي يرزقه الله العلم النافع، وهو هُدَى الله، والعمل الصالح، وهو الدين الحق، أي تطبيق علمه بسلوكه العملي، يُغرَسُ في قلبه أمران عظيمان:

 

الأمر الأول: العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى، بحيث لا يتحرك ولا يسكن إلا في عبادة ربه وطاعته، تحقيقاً لقوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))  [الذاريات: 56] وقوله تعالى: ((قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين))  [الأنعام: 162-163].

 

والأمر الثاني: الحرية الكاملة من عبودية غير الله، من هوى ونفس وشيطان وملذات وطغاة، فإذا تمكنت عبوديته لله من قلبه، وتحرر من عبودية غير الله، كان أهلاً لأن يأمنه الناس على كل شيء، لأنه لا يستجيب لرغبة، ولا يخضع لرهبة، ولا يقوده إغراء ولا شهوة، ولا يتبع هوى، وإنما يستجيب لأمر الله، وأمر الله لا يوجد فيه إلا عمل الخير الذي فيه غاية الأمن لكل البشر.

 

والذي يعتدي على حقوق الله أو حقوق عباده، إنما يفعل ذلك بسبب استرقاق الشهوات لقلبه الذي لم تتمكن من عبودية الله منه، وإنما تمكنت منه عبودية غيره، فهو أسير شهواته وهواه ولو كان في ظاهر أمره ملكاً للناس.

 

وقد دل القرآن الكريم على أن الذي يحقق عبودية الله في نفسه، يسلم من عبودية غيره، والذي لا يحقق عبودية الله في نفسه، يكون عبداً لشتى مخلوقاته، فالحرية الحقة هي عبودية الله الواحد، والعبودية المذِّلة هي الخضوع لغير الله، قال تعالى: ((ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون))  [الزمر: 29].

 

والمثل مضروب لتقريب المعنى للأفهام، فالذي يكون مملوكاً لعدد من الناس يلقى عنتاً ومشقة في إرضائهم، ولا يجد منهم رأفة به ولا إعانة على مصالحه، بخلاف من كان مملوكاً لمالك واحد، فإنه يرضيه بطاعته ولا يجد من يعارضه في ذلك، ويثيبه مالكه على عمله ويعرفه له، فالذي يعبد الله وحده هو الحر الذي لا تستعبده آلهة شتى، والذي لا يعبد الله وحده يكون مسترقاً لتلك الآلهة المتعددة: آلهة الطواغيت التي تأمره بالمنكر فيفعله، وتنهاه عن المعروف فيتركه، وآلهة الشهوات التي تدعوه إلى الوقوع فيها والاعتداء على حقوق الناس، وهذا هو العبد الذليل الحقير لهواه وشهواته، فَقَدَ العزّة التي تنال بعبادة الله، فأبدله بها الذل لغيره.

 

وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة [الخميصة كساء مخطط جميل]، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). هذا هو الذي لم تتمكن العبودية الحقة من قلبه، فأصبح عبداً لكل شيء.

 

أما من تمكنت عبودية الله من قلبه فقد عناه النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث بقوله: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع) [البخاري (3/223)].

 

إن عبد الله حر عزيز، ولو لم يكن له ذكر بين الناس ولا جاه ولا منصب ولا هيئة تجعل الناس يلتفتون إليه، قد تقفل أبواب الناس في وجهه، ولكن باب الله مفتوح له، وإذا شفع عند أحد ردّت شفاعته، ولكن شفاعته عند الله مقبولة.

أما صاحب الجاه والمنصب والغني والهيئة، إذا لم يحقق عبوديته لله، فإنه عبدٌ لجاهه ومنصبه وغناه وهيئته ولا قيمة له عند الله.

 

هذا، ولابن تيمية رحمه الله كلام جميل بديع في معنى الحرية في غاية من الدقة والعمق، فهو لا يعتبر من غلبته شهوته وهواه حراً في عرف الشرع، ولو كان سيداً مطاعاً في الأرض، وإنما يعتبر الحر من تحققت فيه العبودية لله، وتخلص من عبوديته لغير الله.

 

قال رحمه الله: "فإن أسْر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق وأُسِر، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب – الذي هو ملك الجسم – رقيقاً مستَعبَداً متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسْر المحض، والعبودية الذليلة لما استُعبد القلبُ، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافرٌ أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات... أما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس، فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب...". [من كتاب العبودية ص:96-97 طبع المكتب الإسلامي.

وراجع كتاب منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب (1/270) والعدالة الاجتماعية لسيد قطب، ص:37-51].

 

والمقصود من هذا المبحث، أن الذي يُرَبّى على عبودية الله وحبه، والخوف منه، واتباع شرعه، والبعد عن معصيته، والتوكل عليه وحده، وعدم الخوف من غيره أن يقرب أجلاً أو يقطع رزقاً، إن الذي يربّى هذه التربية يصبح حراً من اتباع الأهواء والشهوات وطغاة الباطل، فلا يقدم على معصية لربه أو ما يضر الناس، وهنا يكون الأمن والطمأنينة، بخلاف من أسر لشهوته وهواه أو لطاغية، فإنه يقدم على المعاصي والجرائم ولا يبالي ضرر الناس وأذاهم.

 

ولما كان معنى الحرية عند كثير من الناس هو الانطلاق الكامل في الاستمتاع بما يقدر عليه الفرد،  ترتب على ذلك الاعتداء على المحرمات، واصطدمت الرغبات ونجم النزاع، ونتج عن ذلك اختلال الأمن في أرجاء المعمورة على الضرورات التي لا حياة بدون حفظها [راجع كتاب: الإسلام وضرورات الحياة للمؤلف].

 

قال سيد قطب رحمه الله: "لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى غير حدٍ ولا مدى، يغذيه الشعور بالتحرر الوجداني المطلق من كل ضغط، وبالمساواة المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط، فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم المجتمع، كما يحطم الفرد ذاته، وللمجتمع مصلحة عليا لا بدّ أن تنتهي عندها حرية الأفراد، وللفرد ذاته مصلحة خاصة في أن يقف عند حدود معينة في استمتاعه بحريته، لكي لا يذهب مع غرائزه وشهواته ولذائذه إلى الحد المردي.

 

ثم لكي لا تصطدم حريته بحرية الآخرين، فتقوم المنازعات التي لا تنتهي، وتستحيل الحرية جحيماً ونكالاً، ويقف نمو الحياة وكمالها عند حدود المصالح الفردية القريبة الآماد، وذلك كالذي حدث في حرية النظام الرأسمالي وما صاحبه من نظريات الحرية الحيوانية للشهوات.

 

والإسلام الذي يمنح الحرية الفردية في أجمل صورها، والمساواة الإنسانية في أدق معانيها، ولكنه لا يتركهما فوضى، فللمجتمع حسابه، وللإنسانية اعتبارها، وللأهداف العليا للدين قيمتها، لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية، ويقرر إلى جانبها مبدأ التبعية الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها، وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي" [العدالة الاجتماعية ص: 62-63].

 

المبحث الثالث:

نماذج تطبيقية لأثر التربية الإسلامية

 

لقد أثرت التربية الإسلامية في المسلمين تأثيراً ما كان أحد يتوقع حدوثه في الأرض، لم يتوقعه أحد ممن لم يذق طعم الإسلام وما يحدثه في النفوس من تغيير، وسلوك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مدى ذلك التأثير.

ونضرب لذلك ببعض الأمثلة:

 

المثال الأول: سرعة التنفيذ اختياراً وامتثالاً.

 

إن الأمور التي يعتادها الناس لمدة طويلة وهي مما تشتهيه النفوس، يصعب على تلك النفوس أن تتركها، وإذا حاول القليل أن يتركها تشبّث بها أكثر الناس، ولكن النفوس المؤمنة التي تربت على طاعة الله ورسوله، لا يصعب عليها الإقلاع عمّا ألفت إذا أراد الله منها ذلك الإقلاع؛ وإنما يصعب عليها أن تبقى على ما ألفت حياء من الله وخوفاً من سخطه.

 

فقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، مازالوا يشربون الخمر في المدينة، قبل أن ينزل تحريمها صريحاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما نزل تحريمها سارعوا إلى اجتنابها مسارعة الراغب في رضا الله تعالى، الذي في يده الكأس لم يرفعها إلى فيه، والذي قد أخذ جرعة في فمه لم يستسغ إنزالها إلى جوفه، بل مجّها من فوره، والذي قد شرب منها شيئاً حاول أن يستقيئ، ليطهر جوفه من الرجس الذي حرمه الله، وجرت سكك المدينة بالخمور التي أهرقوها من دنانها، حتى لا يبقى شيء منها أمام أعينهم.

 

كما روى أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: "كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر، في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفصيخ [خليط من البسر والرطب أو من أحدهما ينبذ في الماء ويشرب] والبسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها.." [البخاري (6/241-242) ومسلم (3/1570) واللفظ له، وغيرهما من أهل السنن.

 

رجل واحد ينادي بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر، فيسرع الناس بإهراق القلال المملوءة به – كما ورد في بعض روايات أنس: "أهرق هذه القلال" – في شوارع المدينة حتى تجري فيها لكثرتها، ولم يتردّدوا في ذلك مع ما عرف من صعوبة إقلاع شاربي الخمر عنها، ثم لم يراجعوها بعد ذلك ولا سألوا عنها، ولم يكن ذلك لقوة السلطة المادية من المطاردة، وفتح السجون والغرامات وغيرها، وإنما كان بسبب التقوى الربانية – أي القوة الإيمانية المغروسة في النفوس – إنه امتثال أمر الله ورسوله عن رضا واطمئنان.

 

مثال للمقارنة

وينبغي – هنا – أن نذكّر بقصة إصدار أكبر دولة مادية في العصر الحديث، قانونا بحظر الخمر والعقاب عليها، وتجنيد هذه الدولة كل قواها البشرية والمالية، ووسائل إعلامها، وفتح سجونها على مصراعيها لملئها بالجناة الذين لم يستجيبوا لتطبيق القانون الذي صدر في 16 يناير عام 1919م على أن ينفذ عام 1920م، وسبق المنع حملة واسعة من التوعية في جميع وسائل الإعلام، وفي المدارس والمصانع، وصار تدريس أضرار الخمر جزئاً من المواد الدراسية التي يدرسها الطلبة في الابتدائي والثانوي والجامعة.

 

وبذلت جهود جبارة في التوعية، حتى لقد سودت تسعة ملايين صفحة تبين أضرار الخمر الطبية، والاجتماعية، والأخلاقية، وبلغت تكاليف الحملة الإعلامية في ذلك العام فقط خمسة وستين مليون دولار (عام 1920م، قيمتها اليوم أكثر من 650 مليون دولاراً) ولكن لم يكن يمضي على إغلاق الحانات ومصانع الخمر أيام قلائل إلا وابتدأت تنتشر آلاف الحانات السرية..

 

وفي غضون أشهر قليلة زاد شاربو الخمر عمّا كانوا عليه قبل المنع.. وقدّم إلى المحاكمة ملايين الأشخاص.. وسجن ما بين 1920 و1933 نصف مليون شخص، لإدانتهم بشرب الخمور والاتجار بها أو حيازتها، وقدِّم إلى القضاء في تلك الفترة مجرمون عتاة ارتكبوا جرائم مروعة بسبب الخمر، وقد أدانت المحاكم الكثير منهم، وحكمت على مائتين من عتاة المجرمين بالقتل...لجرائم متعلقة بالخمور، كما قامت الحكومة بمصادرة أملاك ومصانع الخمر السرية، وبلغ قيمة الأموال المصادرة عندئذ أربعمائة مليون دولار.

ومع هذا فقد انتشرت العصابات الإجرامية... وأفلت كثير منها من قبضة القانون. تلك الدولة هي الحكومة الأمريكية!

 

وممّا ذكرنا يبدوا أن الحكومات الأمريكية المتعاقبة في الولايات المتحدة في فترة المنع، وهي ما بين 1920 و 1933م، كانت جادة في تطبيق القانون، فقد بذلت في ذلك جهوداً جبارة، ولكن تلك الجهود المضنية باءت بالفشل، وصار من المحتم على الحكومة الأمريكية والكونغرس الأمريكي أن يعيدا النظر في قرار المنع ذلك، إذ وجدت الحكومة الأمريكية أن ملايين الأمريكيين قد أقبلوا على شرب الخمور السرية الرديئة، وزاد الإقبال عليها خاصة بين الشباب...

 

وقد انتشرت إحصائيات مرعبة عن الوفيات الناتجة عن شرب تلك الخمور الرديئة، ففي عام 1927م فقط هلك من استعمال تلك السموم الناقعة سبعة آلاف وخمسمائة شخص، كما أصيب بأمراض وبيلة من جراء شربها أحد عشر ألف شخص في ذلك العام، وازدادت نسبة الجرائم كلها من هتك للأعراض، من سرقة، وقتل، وتضاعف عدد المجرمين ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل المنع، وصرح الكولونيل موسى رئيس المجلس الوطني للجريمة... في ذلك الوقت، بقوله: إن واحداً من كل ثلاثة أمريكيين يتعاطون الخمر، وإن الجرائم قد ازدادت بنسبة ثلاثمائة بالمائة عما كانت عليه قبل...

 

وبذلك عادت الولايات المتحدة إلى السماح بصناعة الخمور وبيعها والاتجار بها والإعلان عنها... [الخمر بين الطب والفقه، لمؤلفه الدكتور محمد بن علي البار ص: 100-103 مع شيء يسير من التصرف والاختصار، وراجع كتاب التشريع الجنائي الإسلامي (2/496-497) لعبد القادر عودة، وراجع ضرورة حفظ العقل في كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة].

 

 

قارن بين نداء رجل واحد: إن الله قد حرم الخمر واستجابة أهل المدينة كلهم لندائه، وإهراق ما عندهم من الخمور حتى جرت في سكك المدينة، ومن ثم لم يعودوا لشربها، وبين ما جرى من دولة ذات قوة وإمكانات مادية لتطبيق القانون الذي حرّمت به الخمر قهراً، ثم استسلامها لجماهير الإجرام والشهوة العارمة، بعد أحد عشر عاماً من الزمن، وافهم السبب الذي جعل الناس يستجيبون في الأول، والسبب الذي دعا إلى التمرد في الثاني!

 

إن التربية الإسلامية هي السبب في استجابة المسلمين لداعي التحريم في الأول، وعدم تلك التربية، وهو البعد عن الله هو السبب في الثاني.

 

المثال الثاني: سرعة تنفيذ النساء المؤمنات أمرهن بالحجاب.

 

إنه من الصعوبة بمكان أن يتحول المرء من عادة ألفها فترة طويلة من حياته إلى عادة أخرى لم يألفها، ولكن الإيمان والتربية الإسلامية تجعله يتحول بسرعة، -راضياً مطمئنا-ً من عادته الأولى إلى الثانية. وهذا ما حصل من النساء المؤمنات عندما علمن أن الله أمرهن بالحجاب، فقد استبطأن أن تعد كل واحدة منهن خماراً لذلك، فشققن مروطهن واختمرن بها.

 

كما في حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل لما نزل ((وليضربن بخمرهن على جيوبهن))  الآية، شققن مروطهن فاختمرن بها" [البخاري (6/13) والآية في سورة النور: 31].

 

 

المثال الثالث: سهولة إثبات الجريمة بإقرار الجاني خوفاً من الله تعالى، ولو أدى إقراره إلى حرمانه الحياة أو حرمان أقرب المقربين إليه.

 

ونسوق لهذا المثال حديثين:

الحديث الأول: "عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما، قالا:  

جاء أعرابي، فقال يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله. فقام خصمه فقال: صدق اقض بيننا بكتاب الله فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس – لرجل - فاغد على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت" [البخاري (8/24) ومسلم (3/1324)].

 

تأمل كيف يسعى من له علاقة بالمعصية، للعثور على حكم الله فيها وتطبيقه على قريبته، من الاتصال بأهل العلم وسؤالهم، وكيف يأخذ الابنَ أبوه إلى من ينفذ فيه حكم الله، ويقرّ الزوج على امرأته بالزنى، وفيه ما فيه من العار وسوء السمعة عليه، وكيف يعترف العاصي بمعصيته، وإن كان في اعترافه مفارقة الحياة، كل ذلك للحرص على البعد عن سخط الله، وطلب رضاه الذي هو هدفه الأول في هذه الحياة، بسبب التربية الإسلامية التي تدور كلها حوله.

 

 

الحديث الثاني: "عن وائل بن حجر رضي الله عنه: أن امرأة خرجت على عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم، تريد الصلاة فتلقاها رجل فتجللها[غشيها وجامعها] فقضى حاجته منها فصاحت، فانطلق ومر عليها رجل، فقالت: إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها، وأتوها فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمر به ليرجم، قام صاحبها الذي وقع عليها، فقال يا رسول الله أنا صاحبها.  

 

فقال لها: (اذهبي فقد غفر الله لك) وقال للرجل قولا حسناً، وقال للرجل الذي وقع عليها: (ارجموه) وقال:  لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم" [أبو داود (4/541-432) والترمذي (4/56) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.

 

قال العظيم أبادي رحمه الله قوله: "فلما أمر به ليرجم" ولا يخفى أنه بظاهره مشكل، إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا يصلح بينة، بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فلعل المراد فلما قارب أن يأمر به، وذلك قاله الراوي نظراً إلى ظاهر الأمر حيث إنهم أحضروه في المحكمة عند الإمام، والإمام اشتغل في التفتيش عن حاله، والله أعلم، عون المعبود (12/42-43) الطبعة السلفية].

 

إن الرجل جنى واختفى، واتُّهِم غيره، وكاد يطبق العقاب على المتهم، وهو الرجم إلى الموت، ولو أراد الجاني أن يستمر في الاختفاء لفعل، ولكن خوف الله ساقه سوقاً لإنقاذ حياة بريء، وتقديم نفسه للموت، فكانت توبة لو تابها أهل المدينة لقبل الله منهم.

 

قال أبو زهرة رحمه الله، وهو يعدّد فوائد يقظة الضمير الديني – أي بالتربية الإسلامية -: "الثاني: أن إيقاظ الضمير يسهّل الإثبات، لأن الجرائم لا تقع إلا في كِنٍّ من الظلام، مستترة غير ظاهرة، فإذا أحس الذين عاينوا وشاهدوا أن عليهم واجباً دينياً أن يبلغوا فإنهم يبلغون، تنفيذاً لحكم ربهم.

 

وذلك لقوله تعالى: ((يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا))  [النساء: 135].

 

ولقد بلغ من قوة الضمير أن الرجل يأخذ ولده إلى الرسول عليه السلام، فيقيم عليه الحد إذا وجب.." ثم ذكر حديث أبي هريرة وزيد بن خالد المتقدم [الجريمة والعقوبة (1/13)].

 

المثال الرابع: رفض الإغراء واحتمال المكاره رغبة فيما عند الله وخوفاً من عقابه.

 

كما في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة: قال: وكانت امرأة بغي بمكة  يقال لها عناق، وكانت صديقة له، وإنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إلَيَّ عرفتني فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد، فقالت: مرحبا وأهلا، هلم فبت عندنا الليلة، قال: قلت: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم.

 

قال فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة [جبل من جبال مكة] فانتهيت إلى كهف، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي، فبالوا فطل بولهم على رأسي وأعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي، فحملته وكان رجلاً ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أكباله، فجعلت أحمله ويعينني حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله  صلى الله عليه وسلم،  فقلت يا رسول الله أنكح عناقاً؟

 

فأمسك رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فلم يرد علي شيئا حتى نزلت ((الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك))  فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: يا مرثد ((الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك))  فلا تنكحها" [أبو داود (2/542) والنسائي (6/54) والترمذي (5/328) وقال: قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال المحشي على جامع الأصول (2/245) وإسناده حسن... وصححه الحاكم].

 

لقد حمل مرثداً رضي الله عنه إيمانُه وتربيته الإسلامية على إنقاذ إخوانه المسلمين من الأسر وتأمينهم، فكان يقطع المسافات الطويلة بين مكة والمدينة ذهابا وإيابا، يحمل الأسير وهو مكبل بالقيود، حتى يخرجه من مكة، فيفك قيوده ويعينه حتى يصل مأمنه بين إخوانه المسلمين بالمدينة.

 

وجد مرثد تلك البغي التي كان له معها علاقة في الجاهلية، وهو في وقت حرج يخاف على نفسه من أن يكتشف من قبل قريش، الذين كان يأخذ أسراهم خفية منهم، فدعته تلك البغي إلى الرواح معها والنزول في بيتها وهو يتدسس، فلم يتردد في أن يذكر لها حكم الله في تلك العلاقة السيئة، وهو يعرض بذلك نفسه للخطر، لأنها كانت، كما يبدوا من سياق الحديث تعرف حمله الأسرى، وهو يعلم أنها ستؤلب عليه إن لم يستجب لها، ولذلك صاحت بالناس محرشة عليه، فتبعوه.. ونجّاه الله منهم، فرجع لتنفيذ أمره.

 

والذي يظهر من استئذان مرثد النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج من عناق أنه كان يحبها، وكانت نفسه البشرية تتوق إليها، ولكنه صبر عنها رافضاً الإغراء، ومتحملاً الأخطار في ذات الله عز وجل، وتلك هي التربية الإسلامية العظيمة.

 

ويشبه ذلك رفض العبيد الضعفاء، أوامر السادة الأقوياء التي فيها معصية الله تعالى، بل إن هذا لأشد، لأن للسيد سلطة على عبده، والعبد مضطر إلى مخالطة سيده والبقاء عنده متعرضاً لأذاه كل حين.

 

كما في قصة عبد الله بن أبيّ بن سلول مع جاريته، ومحاولته إكراهها على البغاء، ورفضها أمره: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ: ((ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيم))  [النور: 33].

 

وفي رواية: إن جارية لعبد الله بن أبيّ يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها أميمة، كان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ((ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء))  - إلى قوله - ((غفور رحيم))  [مسلم (3/2320)].

 

يحاول المجرمون نشر الإجرام بكل الوسائل المتاحة لهم، كما أراد ابن أبيّ ذلك لجواريه، لأنه يملكهن، ولكن التربية الإسلامية تقف لهم بالمرصاد، فيقف الضعيف طبْعاً، القوي إيماناً، ضد رغبة القوي طبعاً الضعيف إيماناً.

 

ولو أن المسلمين في كل زمان رُبُّوا هذه التربية الإيمانية، لما قدر دعاة الفساد وناشروه، وإن كانوا أقوياء، أن يشيعوا فيهم الفاحشة والمنكر.

ولو أتيح للمجرمين والمنحلين ومحبي الفاحشة، أن يربوا على الإيمان بالتربية الإسلامية لتابوا إلى الله ورفضوا كل فحشاء ومنكر.

 

المثال الخامس: الورع العالي.

ومن أمثلته تقيؤ أبي بكر رضي الله عنه ما أكله عندما علم أنه من كسب حرام.

"عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي اختلفا منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه" [البخاري (4/236)].

 

تأمل صنيع أبي بكر هذا، أكل لقمة من سعي غلامه، وهو جائع قبل أن يسأل عن مصدر الكسب، والظاهر من الأثر أنه كان من عادته أن يسأل قبل أن يأكل احتياطاً، فلمّا أخبره الغلام بسبب كسبه وعرف أنه غير مشروع لم يطق أن يختلط غذاؤه بتلك اللقمة الخبيثة بدمه، فاستقاء ليخرجها وما اختلطت به في بطنه، وما كان رضي الله عنه مكلفاً أن يفعل ذلك، وقد أكلها دون أن يعلم أنها من كسب خبيث، ولكن التزكية الإسلامية التي تلقّاها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي التي أوصلته إلى ذلك الورع العالي، الذي لا يصل إليه إلا من بلغ درجة المتقين الذين يدَعُون ما لا بأسس به خشية مما به بأس، أليس كان يكفي أبا بكر أن يستغفر الله ويتوب إليه ويدع ما بقي من ذلك الكسب غير المشروع؟ بلى ولكن الورع العالي لم يدعه يكتفي بذلك.

 

إن الذي لم بُربّ التربية الإسلامية على طاعة الله لَيَلتَمس الحصول على ما ليس له فيه حق، ليسطو عليه في غفلة عن صاحبه، وإن كثيراً ممن ولاهم الله أمور الناس ليسلكون سبلاً شتى في الاعتداء على حقوق الناس، مستغلين قوتهم وسلطانهم، ولكن سلطان الله يسلك بأهله سبيلاً آخر وهو تقوى الله وعدم إضرار الناس.

 

فأين هذا الورع العالي الذي ضرب له أبو بكر رضي الله عنه أروع مثال، بإخراج لقمة الرزق الخبيث مع ما اختلطت به من الرزق الحلال، وكان أكلها وهو جائع ولا علم له بها؟ أين هذا من جباة الحرام وطالبي الاعتداء على حقوق الناس؟!.

 

هذا وليعلم أن تربية الفرد بالعلم النافع والعمل الصالح، لتستغرق كل أوقات حياته بأصول الإيمان وما تفرع عنها، وأصول الإسلام وما تفرع عنها، وكل أصل من أصول الإيمان وفروعه، وكل أصل من أصول الإسلام وفروعه، له أثره العظيم على حياة الفرد، إذا جاء به على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، يجعل ذلك الفرد صالحاً مصلحاً، يحب الصلاح والمصلحين، ويكره الفساد والمفسدين، ويسعى قدر طاقته أن يزداد الصالحون صلاحاً، وأن يقلع المفسدون عن فسادهم ويكونوا مع الصالحين.

 

ومن تتبع منهاج حياة المسلم الذي شرعه الله تعالى له سواء فيما يتعلق بصلته بربه أم صلته بالآخرين، وجد أنه لا يوجد للمسلم فراغ يرتكب فيه ما حرم الله أو يترك ما أمر الله به. [راجع إن شئت قسم الجهاد المعنوي في الفصل الثاني من الباب الأول من كتاب للمؤلف بعنوان: الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته (1/274-437) الطبعة الأولى، نشر دار المنار في جدة]

 

ويشمل ذلك قلب الإنسان وعقله وجسمه [راجع بحث ضرورة حفظ العقل في كتاب المؤلف "الإسلام وضرورات الحياة" وكذلك الجهاد في سبيل الله – حقيقته وغايته (1/438- 473)].

 

الباب الثاني

في

تربية الأسرة

 

 
وفي هذا الباب فصلان:

 

الفصل الأول: ضرورة وجود الأسرة المسلمة وأساس بنائها

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: ضرورة وجود الأسرة المسلمة

المبحث الثاني: أساس بناء الأسرة المسلمة

 

الفصل الثاني: قيام أفراد الأسرة بحقوق بعضهم على بعض

وفي هذا الفصل مقدمة وسبعة مباحث:

المقدمة

المبحث الأول: حقوق الوالدين على الأولاد

المبحث الثاني: حقوق الزوج على زوجه

المبحث الثالث: حقوق المرأة على الزوج

المبحث الرابع: حقوق الأولاد على الآباء

المبحث الخامس: حقوق السادة على العبيد

المبحث السادس: حقوق العبيد والخدم على السادة والمخدومين

المبحث السابع: العدل الأسري

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول:

 

ضرورة وجود الأسرة المسلمة وأساس بنائها

 

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: ضرورة وجود الأسرة المسلمة

المبحث الثاني: أساس بناء الأسرة المسلمة

 

المبحث الأول:
ضرورة وجود الأسرة المسلمة
 
إن النظام الأسري قانون فطري عام في جميع المخلوقات، فالحيوانات العجماء تقوم حياتها على نظام أسري غريزي، فطرها الله تعالى عليه، ولهذا تجد الأنثى من الحيوان تحبس نفسها على ولدها الجديد، تحرسه وتغذيه بالوسيلة التي فطرها الله عليها وأتاحها لها، وتنظف جسمه كذلك، وإذا كان في حاجة إلى مكان أمين يحتمي به من العاديات، صنعت له ذلك صنعا عجيبا يناسبه،كالعش الذي تستمر الطيور-إناثا وذكورا-زمنا غير يسير تجمع مواده وتحكم بناءه، وقد يكون المناسب له جحرا في الأرض، أو ثقبا في خشب، أو شقا في صخر، فتجد كل حيوان يصنع لأولاده المنزل الآمن الذي يناسبه، مع شدة حراسته والعناية بتغذيته.

 

وهكذا تجد الحيوانات تسير في الأرض أسرا وجماعات، تتكون من تلك الأسر، قد تتصارع فيما بينها، ولكنها تكون يدا واحدة على ما يعتدي عليها من غير جنسها، وهذا أمر فطري يدركه الإنسان في الحيوانات، أليفة كانت أم متوحشة، في الطيور والوحوش وغيرها.

 

والنظام الأسري أشد ضرورة للبشر من سائر الحيوانات، وبخاصة في رعاية الطفل الذي تطول مدة طفولته أكثر من أي حيوان آخر، وحاجته إلى الرعاية والعناية أعظم من أي حيوان، لما يترتب عليها من عمارة الأرض عمارة خير و صلاح، كما أن الإنسان لا تستقيم حياته بدون أسرة، يعرف فيه الأبَ والأمَ والأقرباءَ، من ابن وأخ وجد وغيرهم، ليحصل بينهم التكافل.

 

ولهذا كان حفظ النسب من الضرورات التي اتفقت عليها أمم الأرض، وإن خرج بعضها على ذلك شذوذا وحنوحا.

 

وإذا كان قد وجد في الأناسي من شذ عن هذه الفطرة، بوضع تصور يدعو فيه إلى عدم اعتبار ضرورة الأسرة-كما هو الحال عند الشيوعيين- فإن ذلك لا يؤثر فيما تواطأت عليه فطرة الأمم والأجيال. وفساد فطر بعض من اجتالتهم الشياطين وشذوذهم عن تلك الأمم، يجعل هذا الشذوذ وهذا الخلل محصورا فيهم، لفساد فطرهم.

 

والحقيقة أن هذا الشذوذ لم يكن طبيعيا-أي لم تختره الأسر اختيارا- وإنما جاء بوضع قوانين من سلطة انحرفت عن الفطرة، بل عن غريزة الحيوان، وأكرهت الناس إكراها على تنفيذ قوانينها الفاسدة الشاذة

وإذا كان نظام الأسرة وقانونها ضرورة للبشر كلهم، فإنه أشد ضرورة للمسلمين، لأن الإسلام جاء لتثبيت ما فطر الله الخلق عليه وتأصيله ورعايته.

 

وقد بني على نظام الأسرة أحكام وتشريعات حاسمة لا يجوز التفريط فيها، بل إن في التفريط فيها اختلالا في حياة الأسرة والمجتمع كله، ولا يمكن تطبيق تلك الأحكام إلا بوجود الأسرة ورعايتها، وفقا لشريعة  الله الخاتمة، التي وضعت قواعد معينة محكمة لقيام الأسرة ورعايتها.

 

وكثير من أبواب الفقه الإسلامي وضع للعناية بأحكام الأسرة من أجل حمايتها وإحكام بنائها، كالنكاح، والطلاق، والرجعة، والعدة، والحضانة، والرضاعة، والولاية، والنسب، والنفقة، وغيرها. فوجود الأسرة ضرورة شرعية، وحاجة فطرية.

 

 

ولهذا تجد في القرآن الكريم سورا تكثر فيها أحكام الأسرة وآدابها، كما في سورة البقرة، والنساء، والنور، والأحزاب، والمجادلة، والطلاق، وغيرها من السور التي يذكر فيها شيء ما مما يتعلق بالأسرة، من ذكر أب، وأم، وأخ، وزوج، وامرأة...

 

قال سيد قطب رحمه الله: [وهو يتفيأ في ظلال آيات سورة البقرة، من آية 221 إلى 242] "نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة، جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي، هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية، جهدا كبيرا، نراه متناثرا في سور شتى من القرآن، محيطا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى....

 

وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة وقاعدة التكوين الأولى للأحياء جميعا، وللمخلوقات كافة، تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى: ((ومن كل شيء خلقتا زوجين لعلكم تذكرون))  [سورة الذاريات: 49].

 

ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان، فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان، ثم الذرية، ثم البشرية جمعاء: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا))  [النساء: 1]

 ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)) [سورة الحجرات: 13]

 

والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وأرواحها، وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل... والطفل الإنسان هو أطول الأحياء طفولة، تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للأحياء الأخرى، وذلك أن مرحلة الطفولة، هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب، للدور المطلوب من كل حي باقي حياته.

 

ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور، امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل، من ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر، وكانت الأسرة المستقرة الهادئة، ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان تكوينه ودوره في هذه الحياة.

 

وقد أثبتت التجارب العلمية أن أي جهاز آخر غير الأسرة، لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة، لتكوين الطفل وتربيته..." [في ظلال القرآن 2/234-235]

 

قلت: وفي العناية الربانية بنظام الأسرة في سور شتى من القرآن العظيم، الدلالة الواضحة على أن الأسرة في الإسلام، هي أصل المجتمع الإسلامي وجذره، وأنه لا يقوم هذا المجتمع بدونها. [راجع مطالب حفظ النسل من كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة]

 

 
المبحث الثاني:
الأساس في بناء الأسرة المسلمة

 

إن الأسرة المسلمة الصالحة، هي التي يتربى أفرادها تربية إسلامية، تثمر في نفوسهم الأمن والاطمئنان والسكينة والحب، ولا سبيل إلي إلى ذلك إلا بوجود زوجين صالحين تربى كل منهما على العلم النافع، والعمل الصالح.

 

ولهذا كان الواجب الأول عند إرادة الزواج، أن يبحث الزوج الصالح عن المرأة الصالحة ذات الدين الحق، وأن يختار ولي الأمر للمرأة الصالحة الزوج الصالح، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر، وتتحقق بينهما المودة والرحمة، وتنشأ ذريتهما على التقوى والخلق الحسن، تحقيقا لقول الله عز وجل: ((ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) [سورة الروم: 21].

 

وإذا كانت هذه المعاني قد توجد بين زوجين مسلمين أو غير مسلمين، لالتقائهما على الفطرة التي اقتضتها حكمة الله في الذكر والأنثى، فإنها لا توجد بحدها الأعلى إلا في الزوجين المسلمين الصالحين، لاجتماع الفطرة الغريزية، والتوجيه الشرعي الرباني فيهما.

 

ومن أعظم صفات المرأة المسلمة الصلاح وما يشمله، من عبادة الله، وحفظ حقوق الزوج، وحقوق الأولاد، قال تعالى: ((فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)) [سورة النساء:34]

 

وقد أجمل الله تعالى صفات المرأة الصالحة في أعلى صورها في هذه الآيات التي وجه إليها نساء نبيه صلى الله عليه وسلم، وهن قدوة نساء المؤمنين، قال تعالى: ((يا أيها النبي قل لأزواجك إن كن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما. يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين، وكان ذلك على الله يسيرا. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين، وأعتدنا لها رزقا كريما. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفا خبيرا. إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقات والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما)) [سورة الأحزاب: 28-35]

 

إن صفات الخير التي وجه الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات، هي مطلوبة من نساء المؤمنين كلهن، وإن كان لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصية في مضاعفة الثواب لهن على طاعتهن، ومضاعفة العقاب لهن على معصيتهن، لمكانهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ينزل عليه الوحي في بيوتهن وفي جوارهن، وهو يعلمهن ويزكيهن مباشرة، بما يوحيه الله تعالى عليه من الآيات والحكمة، كما أن ما يؤمرن به من الطاعة آكد من أمر غيرهن، وما ينهين عنه من المعصية، آكد من نهي غيرهن، ولكنهن قدوة لبقية نساء المؤمنين في فعل صفات الخير، وترك فعل الشر.

 

وإن الآية الأخيرة قد جمعت الصفات الأساسية لجميع المسلمين، رجالا ونساء، وهي تبين أصول الصلاح المطلوب في الفرد المسلم والأسرة المسلمة، وكذا المجتمع المسلم.

 

ومما يدل على هذا الأساس نهي الله تعالى المسلمَ أن ينكح المشركة، ونهي المسلمة أن تنكح المشرك، حرصا على بناء الأسرة المسلمة الصالحة، لأن المشركين من أهل النار ويدعون إليها صدا عن سبيل الله، والمسلمين من أهل الجنة ويدعون إليها، تحقيقا لدعوة الله.

 

وأباح سبحنه وتعالى عند الضرورة – أو الحاجة القريبة منها - أن يتزوج المسلمُ الحرُ أمةً مؤمنةً، وإن كان في ذلك رقُّ أولاده منها، فهي مفسدة تهون في جانب مفسدة الزواج بمشركة، لأن رق الأولاد –بسبب الزواج بأمة مؤمنة-هو رق حسي، لأنهم في عبوديتهم الحقة لربهم أحرار من عبودية غيره، بخلاف أولاد المشركة، فقد يكونون أحرارا حسا، أرقاء في واقع الأمر رقا مذلا لغير الله تعالى، إذا ما هي أفسدتهم بالشرك بالله.

 

كما أباح سبحانه زواج المرأة المسلمة الحرة بالعبد المؤمن، إذا لم تجد مؤمنا حرا، قال تعالى: ((ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم، أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آيات للناس لعلهم يتذكرون)) [سورة البقرة: 221]

 

ولهذا رجح بعض الفقهاء والمفسرين عدم جواز نكاح المسلم العفيف المسلمة الزانية، إلا إذا أظهرت توبتها من ذلك، مستدلين بقوله تعالى: ((الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين)) [سورة النور: 30] وهذا هو الراجح من مذهب الحنابلة. [راجع المغني لابن قدامة 7/140-142]

 

ويرى الأئمة الثلاثة – أبو حنيفة ومالك والشافعي - رحمهم الله جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وحملوا النكاح المنهي عنه في الآية على أن المراد به الوطء بزنا..." [المرجع السابق 7/141، والتفسير الكبير للرازي 23/151 ورجح ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره: 18/75]

 

والذي يظهر من قواعد الشريعة ونصوصها، أنه لا يجوز نكاح الزانية قبل التوبة من الفاحشة "لأنها إذا كانت مقيمة على الزنا، لم يؤمن أن تلحق به ولد غيره وتفسد فراشه. [المغني: 7/141]

 

ومهما يكن الخلاف في هذه المسألة، فإن السنة قد أكدت اختيار المرأة الصالحة، وهي ذات الدين، وإذا أطلق هذا اللفظ: "الدين" في الشرع، فالمراد به التقوى والصلاح والورع والإحسان الذي يجعل صاحبه يعبد ربه كأنه يراه.

 

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) [البخاري (6/123) ومسلم (2/1086)].

 

وجعل صلى الله عليه وسلم المرأة الصالحة خير متاع الدنيا، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) [مسلم (2/1090)].

وأهل الفطر السليمة والعفة لا يرغبون في نكاح الزواني الفاسقات، ويتركون الصالحات [راجع التفسير الكبير للرازي (23/150)].

 

والمرأة الصالحة خير كنز للمرء، لما فيها من صفات الخير العائدة عليه بالبركة في حياته، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفيه: (ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته) [أبو داود (2/305-306)].

 

ثلاث صفات في المرأة الصالحة جمعت خصال الخير التي تدوم بها المودة وحسن العشرة بين الزوج وامرأته، وهي خير ما يكنز في حياته:

الخصلة الأولى: تجملها له وتزينها وظهورها أمامه بمنظر حسن يسره النظر إليها، وهي خصلة تدل على شدة حرصها على إدخال السرور عليه والعناية به، وقد لا تكون مفرطة في الجمال، ولكن تزينها له وحسن هندامها يجعلها أمامه خيراً من المفرطات في الجمال اللاتي لا يعتنين بأزواجهن مثلها.

 

الخصلة الثانية: المسارعة في طاعة زوجها وتنفيذ رغباته المشروعة، والمؤمن الصالح لا يأمر زوجته بما فيه معصية لله تعالى، ولا شك أن المرأة التي تطيع زوجها ولا تعصيه كنزٌ ثمين غال لا يحصل عليه إلا من أسعده الله به.

 

 

الخصلة الثالثة: حفظ حقوقه في غيبته: في نفسها وأولادها وماله وغيرها، وهذه الخصلة أهم الخصال وأفضلها، لأنها لا توجد إلا في ذات الدين التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالظفر بها.

 

فهي المرأة الأمينة على نفسها التي يطمئن الزوج عليها في تربية أولاده، فلا تربيهم إلا على طاعة الله وطاعة الوالدين في غير معصية الله، وتربيتهم على الصدق والأمانة وحَسَن الأخلاق، كما يأمنها على نفسها، فلا ترتكب محرماً في غيبته عنها ولا تفتح بابه لمن يكره، ولا تدخل في نسبه من ليس منه، ويأمنها على ماله فلا تنفقه فيما حرم الله ولا تبذر بشيء منه.

 

أي كنز يوازي هذا الكنز من متاع الدنيا، وأي أمن يوازي هذا الأمن لمصاحب للإنسان في حياته كلها في منزله الذي لا يفارقه إلا ليعود إليه؟ "إنه خير ما يكنز" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

قال ابن قدامة رحمه الله: "ويستحب لمن أراد التزوج أن يختار ذات الدين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه. ويختار الجميلة، لأنه أسكن لنفسه، وأغض لبصره، وأدوم لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح.." [الكافي (2/659)].

 

وإذا اجتمع الرجل الصالح بالمرأة الصالحة على سنة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله، بدأ بهما تَكَوُّن الأسرة الصالحة التي هي نواة المجتمع الصالح، حيث ينجب الأولاد ويعنى بتربيتهم جسمياً وعقلياً وروحياً، على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقدوة التي ينشأ فيها الطفل هي التي تحدد نشاطه وتصرفاته واتجاهاته في مستقبل حياته في الأعم الأغلب، لأن ما ينبت في نفسه وهو صغير، وينمو معه في منزله من أبويه، يصبح عادة متمكنة يصعب تغييرها بعد كبره.

 

لهذا كان الواجب على الولدين أن تكون تصرفاتهما كلها قدوة حسنة لأولادهما، مع التوجيه النظري والتعليم، فإن التعليم لا ينفع إذا كانت القدوة سيئة، فإن الفعل يتمكن في النفس أكثر من القول، لاسيما إذا كان الفعل عادة يشاهدها الطفل في أبويه باستمرار، وتتعاون القدوة السيئة في المنزل، مع الأفعال السيئة التي شاهدها الولد في خارج المنزل، فينشأ محباً للشر مبغضاً للخير.

 

وقد ذكّر الله المسلمين بأهمية القدوة الحسنة بنبيهم صلى الله عليه وسلم فقال: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً..))  [الأحزاب: 21].

 

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه أن يقتدوا بأفعاله في أهم الأعمال وأفضلها، كقوله لهم في الصلاة: (صلوا كما رأيتموني أصلي..) [البخاري (1/155)] وكان يعلّمهم الصلاة بالفعل مع القول. وقال لهم في الحج: (لتأخذوا عني مناسككم) [مسلم (2/943)].

وعندما أمرهم بالإحلال في الحديبية، إذ صدهم المشركون عن الطواف بالبيت، لم تطب نفوسهم حتى أحلّ هو  صلى الله عليه وسلم فتبعوه [البخاري (3/182)].

 

وإذا كانت القدوة مؤثرة في الكبار، فإنها في الصغار أشد تأثيراً، ومن هنا كان واجب الوالدين عظيماً في أن يهتما بأن تكون تصرفاتهما إسلامية ينشأ عليها ولدهما، وإلا كانا سبباً رئيساً في انحرافه بانحرافهما أو انحراف أحدهما، وبخاصة الأم التي لا يفارقها الطفل في أغلب أحيانه.

 

قال محمد قطب وفقهه الله: "ومرة واحدة من القدوة السيئة تكفي، مرة واحدة يجد أمه تكذب على أبيه، وأباه يكذب على أمه، أو أحدهما يكذب على الجيران.. مرة واحدة تكفي في تدمّر قيمة الصدق في نفسه، ولو أخذ كل يوم وساعة يرددان على سمعه النصائح والمواعظ والتوصيات بالصدق، مرة واحدة يجد أمه وأباه يغش أحدهما الآخر، أو يغشان الناس في قول أو فعل..

 

مرة واحدة كفيلة بأن تدمر قيمة الاستقامة في نفسه، ولو انهالت على سمعه التعليمات، مرة واحدة يجد في هؤلاء المقربين إليه نموذجاً من السرقة كفيلة بأن تدمر في نفسه قيمة الأمانة، وهكذا في كل القيم والمبادئ التي تقوم عليها الحياة الإنسانية السوية.

 

وقد يغفر الطفل للآخرين أن يكذبوا ويخدعوا ويسرقوا ويغشوا ويخونوا... أو لا يتأثر به كثيراً، أو لا يتأثر به على الإطلاق، إذا كان يأوي إلى ركن ركين من القيم والمبادئ متمثلة في أبويه، وخاصة حين يبيّن له أبواه بالقدر الكافي من الإبانة والتوضيح أن تلك نماذج سيئة لا ينبغي له أن يحاكيها، مستندين إلى النموذج الطيب الذي يقدمانه هما لطفلهما.

 

ولكنه لا يغفر لأبويه أبداً شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يمر شيء منه بغير تأثر عميق في نفسه، وقد يبقى بقية العمر كله لا يتغير.

 

ومن هنا كان حرص الإسلام الشديد على أن يكون الأبوان في ذاتهما مسلمين، أي ممارسين لحقائق الإسلام وقيمه ومبادئه، وحرصه على تربية الناس على منهج الإسلام، لكي يكونوا هم القدوة المباشرة لأبنائهما في الفترة التي ينحصر عالم الطفل بهم، فتتكون في نفوس الأطفال – بالالتقاط والمحاكاة – تلك القيم والمبادئ الإسلامية بغير جهد يذكر، وتنشأ في نفوسهم منذ الصغر،  فتكون عميقة الجذور، ثم يزيدها التعليم رسوخاً، ويزيدها المجتمع الإسلامي قوة، حتى يكبر الطفل، فيتلقى التعليم، ثم يكبر أكثر فيحتك بالمجتمع، ويأخذ منه ويعطي.

 

ومن هنا كذلك كان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توصية الرجل وهو يتزوج أن يظفر بذات الدين، فيقول له: (تنكح المرأة لأربع...) [الحديث، وقد سبق تخريجه.]

 

"فذات الدين هي الركن الركين في إقامة لبيت المسلم والأسرة المسلمة، وفي تنشئة الأطفال بالقدوة قبل التلقين على قيم الإسلام ومبادئه منذ نعومة أظفارهم، فتصبح عادة لهم وطبيعة، وتصبح جزئاً من كيانهم، ليس من السهل أن يحيدوا عنه، حين تحاول أن تلويهم الأعاصير، وحين توجد القدوة الحسنة متمثلة في الأب المسلم والأم ذات الدين.

 

فإن كثيراً من الجهد الذي يبذل في تنشئة الطفل على الإسلام، يكون جهداً ميسراً وقريب الثمرة في ذات الوقت، لأن الطفل سيتشرب القيم الإسلامية من الجو المحيط به تشرباً تلقائياً، وستكون تصرفات الأم والأب أمامه في مختلف المواقف مع بعضهما البعض ومع الآخرين، نماذج يحتذيها ويتصرف على منوالها..." [منهاج التربية الإسلامية لمحمد قطب (2/118)]. إن هذا هو أساس الأسرة المسلمة: الزوجان المسلمان.

 

الفصل الثاني:

حقوق أفراد الأسرة بعضهم على بعض

وفيه مقدمة وسبعة مباحث.

المبحث الأول: حقوق الوالدين على الأولاد.

المبحث الثاني: حقوق الزوج على المرأة.

المبحث الثالث: حقوق المرأة على الزوج.

المبحث الرابع: حقوق الأولاد على الآباء.

المبحث الخامس: حقوق السادة على العبيد والخدم.

المبحث السادس: حقوق العبيد والخدم.

المبحث السابع: العدل الأسري.

 

المقدمة:

 

إن الأسرة في المنزل صورة مصغرة للمجتمع، فيها أفراد لهم حاجات وحقوق، وعليهم واجبات، وفيها الكبير الذي يعتبر أميرا، والصغير الذي يعتبر مأمورا، وفيهم من له فضل على غيره ويد على من سواه، وفيها القوي القادر، والضعيف الحاسر، وفيها العالم البصير، والجاهل الضرير، وفيها القدوة الحسنة السابق في أعمال الصالحين، والفاجر القاعد في ركب المتخلفين، وفيها المقتصد الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المحرمات، ويكسل عن المندوبات، وينشط في تناول المكروهات، وفيها العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، والظالم الذي ا يختلط الحلال والحرام في رزقه، وفيها القنوع الذي يكفيه اليسير، والجشع الذي لا يشبعه الكثير.
 
لهذا كانت عناية الخالق العليم الحكيم سبحانه، بشئون الأسرة في كتابه الكريم، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عناية فائقة، كما وفق الله علماء الشريعة الإسلامية للعناية بالأسرة، فانبثق عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعناية العلماء مؤلفات كثيرة في شئون الأسرة، إما في كتب مستقلة بها، أو ببعض أحكامها، كالزواج، والطلاق، والرضاع، والحضانة، والنفقة، وحقوق الأزواج والزوجات، وحقوق الآباء، وحقوق الأولاد، وأحكام الجنين، والميراث، وإما في أبواب وفصول ضمن كتب الحديث وكتب الفقه في المذاهب الفقهية، إضافة إلى تفصيل المفسرين لما ورد عن الأسرة في كتاب الله.
 
وقد تحتاج الأسرة إلى من يعينها في الخدمة، فينضم إليها الأجير الذي يحتك بها، وقد يكون لبعض الأسر عبيد-عندما يكون الرق مشروعا-فيكون للأسرة على خدمها وعبيدها حقوق، ويكون للخدم والعبيد على مخدوميهم وأسيادهم حقوق. كل ذلك قد عنيت به الشريعة الإسلامية غاية العناية.

 

ولو أخذت الأسر المسلمة تلك الأحكام والتوجيهات التي عنيت بها الشريعة الإسلامية، مأخذ الجد وطبقتها حق التطبيق، لَتَكَوَّن منها المجتمع الإسلامي الآمن تلقائيا، بدون عناء ولا مشقة من خارج الأسر، إلا التوجيه العام الذي يتلقاه الجميع بالترحاب والتنفيذ.

 

وما أصعب أن يُتِمَّ كاتب – مثلي - الغرض في هذه الأبواب، وهو يريد الإشارة إلى موضوعات منها، كل موضوع جدير بمؤلف خاص به!

 

ولكنني أرجو أن يتحقق أمن الأسرة والمجتمع بما يُسَجَّلُ في هذا الكتاب، ما اجتهدوا في العمل بما فيه من الآداب والسلوك والأحكام، وبما يحققون من الولاء الذي شرعه الله له ولرسوله وللمؤمنين. وبالله التوفيق.

 

حقوق الوالدين:

 

إن الوالدين هما السبب المادي المباشر في وجود الولد، والذي يكون سبباً في وجودك يكون حقه عليك أعظم من حق غيره.

ولعلّ ذلك يظهر شيئاً من الحكمة في أن الله تعالى قرن حق الوالدين بحقه تعالى في القرآن العظيم، كما قال تعالى: ((وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا...))  [البقرة: 83]

وقال تعالى: ((واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً))  [النساء: 36]

وقال عـز وجل: ((قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا...))  [الأنعام: 151]

وقال جـل وعلا: ((وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا))  [الإسراء: 23-24].

 

فقد أمر الله تعالى بحقه وهو عبادته، ونهى عما يضاده، وهو الشرك به كما أمر بحقوق الوالدين، وهو برّهما، ونهى عما يضاده، وهو عقوقهما، وبدأ تعالى بحقه لأنه الإله الخالق الذي أوجد السبب والمسبّب، ثم ذكر حقوق الوالدين، لأنهما السبب الذي أوجده الله ليكون مصدراً للأولاد.

 

وقد أشار سبحانه وتعالى في آيات أخرى إلى بعض معاناة الوالدين وقيامهما على الأولاد، وأن على الولد أن يشكر الله عل ما هيأه له من تحمل الوالدين مشاق القيام بحقه في صغره، ويشكرهما كذلك، وأن يجزيهما على تعبهما، قال تعالى: ((ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير))  [لقمان: 14]

 

وقال تعالى: ((ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين، أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك ءامن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين، أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين))  [الأحقاف: 15-18].

 

فتعب الوالدة بحمله ورضاعه، والسهر على راحته والعناية به. وقيام الأب بتربيته وتعليمه وجلب رزقه وغير ذلك مما يقومان به، يوجب عليه أن يشكرهما وأن يؤدي حقهما من البر والصلة والخدمة والرحمة وإظهار الفرح والسرور بهما، لاسيما إذا كانا في حاجة إلى خدمته وعنايته بهما في كبرهما، فإنهما قد يصلان إلى حاجة من العجز في الكبر تشبه حالته عندما كان صغيراً، وقد قاما بحقه وقت عجزه، فعليه أن يقوم بحقهما بدون تضجّر ولا تأفّف ولا تقذّر، وبدون طلب منهما، بل يبادر هو بذلك.

 

كما كانا هما لا يتقذران من أوساخه: بوله وغائطه وبصاقه وقيئه وغير ذلك، عليه أن يتذكر ذلك فيردّ الجميل إليهما على أكمل وجه وبعلم أن القيام بحقوقهما عبادة لله، ولو لم يقوما بشيء من العناية به في صغره، فكيف وقد اجتمع لهما ردّ الجميل وواجب أداء الحق الذي أمر الله تعالى به.

 

ولما كان جهد الأم وتعبها على الولد أكثر من تعب الأب، كان حقها عليه أعظم، كما أشارت إلى ذلك آيات لقمان والأحقاف السابقتان: ((حملته أمه وهن على وهن))  ((حملته أمه كرهاً ووضعته كرها)).

 

وفسّر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أمك) قال: ثم من؟ قال: (أبوك) [البخاري (7/69) ومسلم (4/1974)].

 

ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من أدرك والديه، فلم يبرهما براً يدخله الجنة، كما في حديث أبي هريرة عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (رغم أنف  ثم رغم أنف ثم رغم أنف)  قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة ) [مسلم (4/1978)].

 

ولعظم حق الوالدين جعل صلى الله عليه وسلم ولد الرجل من كسبه، وجعله هو وماله لأبيه، بياناً لعظم حقه عليه، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولداً، وإن والدي يحتاج مالي [أي يأتي عليه ويستأصله] قال: (أنت ومالك لوالدك، وإن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم) [أبو داود (3/801-802) وابن ماجة (2/769) قال المحشي على جامع الأصول (1/399): "وأخرجه أحمد.. وإسناده حسن.. وصححه البوصيري وابن القطان، وقال ابن المنذر: رجاله ثقات.. إلى أن قال: قال الحافظ في الفتح: فمجموع طرقه لا تحطه عن القوة وجواز الاحتجاج به] أ.هـ.

لكن بعض العلماء قيّد أخذ الوالد ما شاء من مال ولده، بأن لا يجحف بولده ويدعه محتاجاً.

 

قال ابن قدامه رحمه الله: "وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء، مع غناه وحاجته بشرطين:

أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يأخذ ما تعلقت به حاجته.

الثاني: أن لا يأخذ من مال أحد ولديه فيعطيه لآخر، لأن تفضيل أحد الولدين غير جائز، فمع تخصيص الآخر بالأخذ منه أولى. فإذا وجد الشرطان جاز الأخذ" [الكافي (2/471)].

 

ولعظم حق الوالدين قدّم تعالى برّهما على الجهاد في سبيل الله – إذا لم يتعين - كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: جار رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، قال: (أحيّ والداك(؟ قال: نعم قال: (ففيهما فجاهد) [البخاري (7/69) ومسلم (4/1975)].

 

وحمل العلماء النهي عن جهاد الابن بدون إذن أبويه، على ما إذا كان الجهاد فرض كفاية – أي قام به من يكفي – أما إذا كان فرض عين فعليه أن يجاهد أذنا له أو لم يأذنا، كغيره من ذوي الأعذار، مثل العبد والمرأة ونحوهما، وفي المسألة تفصيل ليس هذا موضعه [راجع بدائع الصنائع للكاساني (9/4300) وتكملة المجموع (18/57) وحاشية الدسوقي (2/75) وراجع كتابنا الجهاد في سبيل الله، حقيقته وغايته (1/90-92)].

 

لكن ابن حزم رحمه الله قيّد مشروعية جهاد الابن بدون إذن والديه إذا كان الجهاد فرض عين، بما إذا لم يكن في ذلك ضياع لهما، فإن كان فيه ضياع لهما لم يجز له الجهاد ولو كان فرض عين، قال: "إلا أن يضيعا أو أحدهما، فلا يحل له ترك من يضيع منهما" [المحلى (7/292)].

 

ومما ينافي برّ الوالدين أن يدعهما أو أحدهما، يُمتهنان في خدمة الناس للحصول على نفقتهما، ولو كانا قادرين، مادام يستطيع الإنفاق عليهما وعزهما، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فليس من بر الوالدين أن يدع الرجل أباه يكنس الكنف، ويكاري على الحمر، ويوقد في أتّون الحمام، ويحمل الناس على رأسه ما يتقوّت بأجرته، وهو في غاية الغنى واليسار وسعة ذات اليد، وليس من بر أمه أن يدعها تخدم الناس وتغسل ثيابهم وتسقي لهم الماء ونحو ذلك، ولا يصونها بما ينفقه عليها، ويقول: الأبوان مكتسبان صحيحان، وليسا بزمنين ولا أعميين، فيا لله العجب! أين شرط الله ورسوله في بر الوالدين وصلة الرحم أن يكون أحدهما زمناً أو أعمى؟ وليست صلة الرحم ولا برّ الوالدين موقوفة على ذلك شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً.." [زاد المعاد (5/551)].

 

وفي إيجاب الله تعالى بر الوالدين وإعطائهما هذه الحقوق على الأولاد، أمن لكل أب أو أم لهما ولد، بأن يعيشا عيشة طيبة تحت رعايته لهما، ويزيد من أمنهما واطمئنانهما أن ذلك ليس من باب التطوع من الولد عليهما، بل هو واجب مفروض عليه من الله سبحانه وتعالى، فلا منّة له عليهما بما يقوم به من برّهما.

 

وإن الذي يقارن بين هذا الحق الذي شرعه الله تعالى للوالدين في الإسلام – ولو كانا كافرين، فإن على ولدهما المسلم أن يبرهما ويحسن إليهما كالأبوين المسلمين [ما لم يأمراه بمعصية، فإن أمراه بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق]- إن الذي يقارن بين هذا، وبين ما يعانيه الآباء والأمهات في دول الكفر، من العقوق والإهمال في جميع الحقوق، لاسيما حالة ضعف الوالدين، يرى رحمه الله وحكمته ومحاسن شريعته، فأي الفريقين أحق بالأمن؟!.

 

ولقد شرع الله في بر الوالدين ما لم يخطر على بال واضعي الأنظمة البشرية، لقد جعل من أبر بر الوالدين، صلة من له قرابة بصديقهما بعد موتهما، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، إنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروّح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، إذ مرّ به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، فقال: اركب هذا، والعمامة، وقال: اشدد بها رأسك.

 

فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيت هذا الأعرابي حماراً تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي، وإن أباه كان وداً لعمر) [مسلم (4/1979)].

 

 

 

 

المبحث الثاني:

حقوق الزوج على المرأة

 

وفيه اثنا عشر مطلباً:

المطلب الأول: تعظيم حقه عليها

المطلب الثاني: وجوب طاعتها له في غير معصية

المطلب الثالث: وجوب ابتعادها عما يؤذيه

المطلب الرابع: وجوب قرارها في بيته وعدم خروجها بدون إذنه

المطلب الخامس: عدم إذنها لأحد في بيته بدون رضاه

المطلب السادس: عدم صومها تطوعاً بدون إذنه

المطلب السابع: تربية أولاده تربية إسلامية

المطلب الثامن: اعترافها بإحسانه وعدم إنكار نعمته

المطلب التاسع: حفظ ماله وعدم التفريط فيه

المطلب العاشر: عدم تمكينها أجنبياً من الخلوة بها

المطلب الحادي عشر: مواساته وإدخال السرور عليه

المطلب الثاني عشر: تسليمها بإمرته للأسرة في حدود ما شرعه الله

 

تمهيد

 

لقد جمع رسول الله صلة الله عليه وسلم المسئولين كلهم في حديث واحد من جوامع كلمه، بحيث ذكر أعظم مسئول في المجتمع الإسلامي، وأصغر مسئول فيه، وما بينهما.

 

ففي حديث عيد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته) [البخاري (8/104) ومسلم (3/1459)].

 

فقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم المسئوليات العامة والخاصة في هذا الحديث، فذكر أعلى أصناف الناس في أول من ذكر، وأدناهم في آخر من ذكر، وأوسطهم فيما بين ذلك، فالمقصود من الحديث استغراق كل أفراد المسلمين بذكر أعلاهم وأوسطهم وأدناهم [راجع رسالة للمؤلف بعنوان: المسئولية في الإسلام، الطبعة الثانية].

والمقصود هنا ذكر بعض الحقوق التي يجب أن يرعاها كل فرد من أفراد الأسرة لمن هو مسئول عنه.

 

 
المطلب الأول:

تعظيم حق الزوج على زوجته

 

وقد ورد في ذلك نصوص كثيرة، منها حديث قيس بن سعد رضي الله عنه قال: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحق أن يسجد لك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له(؟ فقلت: لا، فقال: (لا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لم جعل الله لهم عليهن من حق) [أبو داود (2/604-605)].

 

ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها) [الترمذي (3/456) وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه، وذكر أن تسعة من الصحابة رووه بهذا المعنى غير أبي هريرة. وقال المحشي على جامع الأصول (6/494) على حديث قيس: يشهد له الأحاديث التي قبله فهو حديث حسن.. وقال في حديث أبي هريرة: حديث صحيح له شواهد بمعناه].

 

ففي هذين الحديثين الشريفين وما جاء في معناهما، بيان عظيم لحق الزوج على المرأة، وأنها يجب أن تجتهد في أداء حقوقه بكل ما تقدر عليه، وأن تسعى لرضاه فيما لا معصية لله فيه، ومنه ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ممثلاً له بأفحش الذنوب، وهو عبادة غير الله، لأن السجود لا يجوز إلا له سبحانه، إلا أنه لو فرض أنه يجوز أن يؤدى لأحد، لكان الزوج جديراً به من قبل امرأته، لما له عليها من حق عظيم.

 

وذلك لأن الزوج يعفّ امرأته ويكرمها ويجعلها ربة لبيته، لها منزلتها في الأسرة، يأتمنها على ماله وولده وعرضه، ويسعى في جلب الرزق لها ولأولادها، ويدفع عنها وعنهم العوادي التي  يقدر على دفعها، وغير ذلك مما تشعر معه المرأة بالراحة والأمن والاطمئنان.

 

المطلب الثاني:

طاعتها له في غير معصية الله تعالى.

 

ويدل على ذلك الحديثان السابقان وغيرهما، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره) [النسائي (6/56) قال المحشي على جامع الأصول (6/498): ورواه أحمد، وإسناده حسن].

 

 

تنبيه: حكم تصرف المرأة في مالها بدون إذن زوجها.

قوله في حديث أبي هريرة السابق: (ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره)

قد يفهم منه أن المرأة لا تتصدق من مالها، إلا إذا رضي الزوج بتصرفها، وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، ونوجز آراءهم وأدلتهم فيما يأتي:

 

الرأي الأول: أنه لا يجوز لها التصرف في مالها مطلقا، إلا بإذن من زوجها، وعلى هذا الرأي الليث وطاووس، رحمهما الله، واستدل لهذا الرأي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يجوز لامرأة عطية، إلا بإذن زوجها) [سنن البيهقي الكبرى (660) وله صيغ متعدد] وقال في سبل السلام: "رواه أحمد وأصحاب السنن، إلا الترمذي، وصححه الحاكم.

 

وبحديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا، إلا بإذن زوجها، إذا ملك عصمتها) [قال في مجمع الزوائد (4/315): "رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم]

 

ورويت في ذلك أحاديث أخرى تدل على نفس المعنى، منها ما  روي عن رجل من ولد كعب ابن مالك، عن أبيه عن جده، "أن جدته "خيرة" امرأة كعب بن مالك، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحلي لها، فقالت: إني تصدقت بهذا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجوز للمرأة في مالها، إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت كعبا)؟ قالت: نعم. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك زوجها، فقال: (هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها)؟ فقال: نعم. فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها" [رواه ابن ماجه (2/798]

 

الرأي الثاني: أنه يجوز لها التصدق من مالها قل أو كثر، لزوجها خاصة، أما تصدقها لغير زوجها فلا يجوز بدون إذنه، إذا زاد عن الثلث، وعلى هذا الرأي الإمام مالك رحمه الله، وقد فصل مذهبه في المدونة، ويستدل لجواز إعطائها زوجها ما تشاء، بحديث: (تنكح المرأة لأربع- وإحدى الأربع-: لمالها) أما التقييد بالثلث فمادون  لغير الزوج، فلم أجد له دليلا خاصا يدل عليه، ولكن جرت عادة المالكية، الاستدلال بحديث: (الثلث والثلث كثير) على كثير من الأحكام التي يقيدونها بالثلث، لأنهم يعتبرون الثلث كثير، وما فوقه أكثر، فيغتفرون الثلث فما دونه، لذلك استثنوا هنا الثلث فما دونه من الحظر الذي دلت عليه أدلة أهل الرأي الأول.

 

 الرأي الثالث: جواز تصدق المرأة في مالها وتصرفها فيه، بدون إذن من زوجها، ولا فرق بينها وبين الرجل في ذلك.

وعلى هذا جماهير أهل العلم، ولهم في ذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة.

 

أما أدلتهم من القرآن، فهي ثلاثة أقسام:

القسم الأول: دخول المرأة في أي خطاب أو وصف أو حكم يوجه إلى الناس، أو إلى المؤمنين بصيغة التذكير، مثل قوله: ((يا أيها الذين آمنوا)) ((يا أيها الناس)) و ((كونوا قوامين)) ((أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة)) ((هدى للمتقين)) و((قد أفلح المؤمنون..)) ((وما تقدموا لأنفسكم من خير)) و غيرها مما لا يحصى في الكتاب والسنة... وأبواب الشريعة الإسلامية كلها: أمور الإيمان والأخلاق والمعاملات.

 سواء قيل بدخول النساء مجازا أو تغليبا، فالنتيجة واحدة، وهي أنهن داخلات في العرف الشرعي، ولا تخرج النساء عن أي حكم يخاطب به الرجال إلا بدليل خاص، كقوله تعالى: (اقتلوا المشركين)) استثني النساء المشركات غير المقاتلات بما ورد من النهي في السنة عن قتلهن.

 

القسم الثاني: صيغ العموم المعروفة، مثل أسماء الشرط، والأسماء الموصولة، والمعرف بـ"أل" الاستغراقية، مثل قوله تعالى: ((إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) ومثل قوله تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره))

 

وقد فصل ذلك علماء أصول الفقه: "( وَ ) لأصَحُّ ( أَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ تَتَنَاوَلُ لإِناثَ ) وَقِيلَ تَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ نَظَرَتْ امْرَأَةٌ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيٍّ جَازَ رَمْيُهَا  عَلَى الْأَصَحِّ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ { مَنْ تَطَلَّعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ } وَقِيلَ لا يَجُوزُ لأنَّ الْمَرْأَةَ لا يُسْتَتَرُ مِنْهَا ( وَ ) لأصَحُّ ( أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ ) كَالْمُسْلِمِينَ ( لا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ ظَاهِرًا ) وَإِنَّمَا يَدْخُلْنَ بِقَرِينَةٍ تَغْلِيبًا لِلذُّكُور،ِ وَقِيلَ يَدْخُلْنَ فِيهِ ظَاهِرًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي الشَّرْعِ مُشَارَكَتُهُنَّ لِلذُّكُورِ فِي الْأَحْكَامِ، لا يَقْصِدُ الشَّارِعُ بِخِطَابِ الذُّكُورِ قَصْرَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ"  [حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع]

 

 

القسم الثالث: مساواة المرأة بالرجل في غالب الأحكام، ومنها التصدق، 

 ((فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)) [آل عمران 195]

((ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا)) [النساء (124)]

((من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)) [النحل(97)]

 ((ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب)) [غافر(40)]

ومن العمل الصالح إنفاق المال فيما يرضي الله.

 

أما أدلة أهل الرأي الثالث من السنة، فقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، تدل دلالة واضحة، على مشروعية تصدق المرأة من مالها، بدون إذن زوجها.

 

منها قصة إعتاق ميمون زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وليدتها بدون علمه، بدون علمه، وإقراره لها على ذلك، قالت ميمونة بنت الحارث، رضي الله عنها: إنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله  صلى الله عليه وسلم،  فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم،  فقال: (لو أعطيتها أخوالك  كان أعظم لأجرك)  [صحيح البخاري (2/)915  وصحيح مسلم2 (/)694]

 

ومنها قصة أم الفضل بنت الحارث، قالت: "إن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله  صلى الله عليه وسلم،  فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم، فأرسلت إليه، بقدح لبن، وهو واقف على بعيره بعرفة، فشربه" [صحيح البخاري (2/701)و مسلم(2/791)]

 

فقد تصرفت أم الفضل في هذا اللبن، وهو من مالها، فأرسلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقرها وشربه، ولو كان تصرفها غير شرعي، لبين ذلك.

قال النووي رحمه الله – وهو يعدد بعض فوائد هذا الحدبث-  "ومنها أن   تصرف المرأة في مالها  جائز، ولا يشترط إذن الزوج، سواء تصرفت  في  الثلث أو أكثر، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك: لا تتصرف فيما فوق الثلث، إلا بإذنه، وهو موضع الدلالة من الحديث أنه  صلى الله عليه وسلم، لم يسأل: هل هو من مالها  ويخرج من الثلث، أو بإذن الزوج أم لا؟ ولو اختلف الحكم لسأل [شرح النووي على صحيح مسلم (8/3)]

 

ومن الأحاديث الواضحة الدلالة على حق المرأة في تصرفها في مالها، بدون إذن زوجها، حث الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة، واستجابتهن لذلك، وتصدقهن بحليهن، كما روى ذلك جابر رضي الله عنه، قال: "إن النبي  صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر، فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله  صلى الله عليه وسلم، نزل وأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، و بلال باسط ثوبه، يلقين النساء صدقة، قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قال: لا ولكن صدقة يتصدقن بها حينئذ، تلقي المرأة فتخها ويلقين" [صحيح مسلم (2/603) وروى البخاري نحوه من حدبث ابن عباس البخاري (2/525)] ويراجع شرح النووي على صحيح مسلم (6/173)]

 

وأجاب أهل الرأي الثالث عن أدلة أهل الرأيين الأول والثاني، بأربعة أجوبة:

الجواب الأول: ضعف الأحاديث الواردة في منع المرأة من التصرف في مالها، بخلاف أدلتهم التي لا مطعن في ثبوتها ولا دلالتها.

 

الجواب الثاني: أنه لو فرض أن الأحاديث الواردة في المنع صالح للاستلال، لا يمكن أن تعارض الأدلة المبيحة، لقوتها ثبوتا ودلالة، والقاعدة أنه إذا تعارض دليلان ولم يمكن الجمع بينهما قدم أقواهما، واجتماع دلالة القرآن والسنة الصحيحة على حق المرأة في التصرف في مالها، لا بقوى على معارضتها أحاديث ضعيفة، أو مختلف في ثبوتها.

 

الجواب الثالث: حمل أحاديث المنع – لو صحت – على أحد أمرين:

الأمر الأول: أن ذلك محمول الأدب والاختيار، و حسن العشرة واستطابة نفس الزوج، وليس على سبيل التحريم.

 

الجواب الرابع: حمل المنع على المرأة السفيهة، التي تتصرف في مالها تصرف السفهاء، فتكون محجورا عليها حجر سفه، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة على الصحيح من أقوال العلماء، لأن السفه هو علة الحجر، عملا بقوله تعالى: ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا)) [النساء (5)]

 

ولقوله تعالى في اليتامى: ((وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)) [النساء (6)] فقد أمر الله باختبار اليتيم بعد بلوغه، وقيد دفع المال إليه برشده، ومعنى هذا أن غير الرشيد، لا يدفع ماله إليه، ولو كان جاوز سن البلوغ [يراجع كلام المفسرين لهذه الآيات، كتفسير القرطبي وابن كثير وغيرهما، وكذا كتاب الحجر في كتب الحديث وكتب الفقه]

 

واختار هذا المعنى الإمام البخاري رحمه الله، فقال في صحيحه: "باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها، إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز، قال الله تعالى ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)) [وساق الأحاديث الصحيحة الدالة على مشروعية تصرف المرأة في مالها البخاري (2/915) ويراجع فتح الباري فتح الباري (5/218)]

 

وأشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى ضعف أحاديث المنع، أو حملها عن صحت على معنى حسن الأدب والعشرة، قال البيهقي رحمه الله بعد أن ساق أحاديث المنع: .... أنبأ الربيع قال: قال الشافعي: "يعني في هذا الحديث سمعناه، وليس بثابت فيلزمنا نقول به، والقرآن يدل على خلافه، ثم السنة، ثم الأثر، ثم المعقول" وقال في مختصر البويطي والربيع: "قد يمكن أن يكون هذا في موضع الاختيار كما قيل ليس لها أن تصوم يوما وزوجها حاضر إلا  بإذنه، فإن فعلت فصومها جائز، وإن خرجت بغير إذنه فباعت فجائز، وقد أعتقت ميمونة رضي الله عنها قبل أن يعلم النبي  صلى الله عليه وسلم، فلم يعب ذلك عليها".[سنن البيهقي الكبرى[ 6/60]

وبهذا يعلم أن للمرأة الحق في تصرفها في مالها، مالم تكن سفيهة، وأنه لا فرق بين المرأة والرجل في ذلك.

ويتأكد وجوب طاعته في دعوته إياها إلى فراشه، حتى إن الملائكة لتلعنها ليلتها إذا بات زوجها غاضباً عليها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح) [البخاري (6/150) ومسلم (2/1059)].

 

المطلب الثالث:
وجوب ابتعادها عما يؤذيه.

 

ويكفي أن نذكر في هذا المطلب حديثين واضحي الدلالة على خسارة المرأة التي تؤذي زوجها وتغضبه:

 

الحديث الأول: عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه، قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا) [الترمذي (3/467-468) وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه].

 

الحديث الثاني: عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم، العبد الأبق، حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون) [الترمذي (2/193) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وعلّق عليه أحمد محمد شاكر، فقال: بل هو حديث صحيح].

 

ويجب على الزوج –كذلك - أن يبتعد عما يؤذي زوجته، فللنساء على الرجال مثل الذي عليهن، كما قال تعالى: ((ولهن مثل الذي عليهن)).

 

المطلب الرابع:

وجوب قرارها في بيته وعدم خروجها بدون إذنه.

 

سبق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والمرأة راعية على أهل بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) في التمهيد الذي سبق المطلب الأول من هذا المبحث: وفي الحديث إشارة إلى ما تقرر في نصوص الشريعة من أن الأصل في حق المرأة القرار في البيت، والخروج منه خلاف ذلك الأصل، يباح عند الحاجة بقدرها، فإذا انتهت الحاجة رجعت إلى ما هوا الأصل في حقها، وهو القرار في البيت.

 

وقد أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرار في بيوتهن، وجعل ذلك من وسائل تطهيرهن من الذنوب والمعاصي، والأصل في الأحكام المتعلقة بالنساء أن تستوي فيها كل النساء، من غير فرق بين نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين، إلا إذا دل دليل خاص على اختصاصهن بحكم معين، مثل كونهن أمهات المؤمنين في حرمة الزواج بهن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وأيضاً فإن الطهر والعفة والمغفرة مطلوبة لكل النساء، وقد جعل الله قرارهن في البيوت من وسائل الطهر، وأيضاً فقد نهاهن الله تعال عن التلبس بصفات نساء الجاهلية الأولى كالتبرج، وهو أمر لا يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل المسلمين منهيون – نساءً ورجالاً – عن الاتصاف بصفات الجاهلية.

قال تعالى: ((وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى))  [الأحزاب: 33، وراجع كتابنا: المسئولية في الإسلام ص: 125-126] وأتبع ذلك بما لا يختلف فيه اثنان أنه ليس من خصائصهن، وهو الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله...

 

فقال تعالى: ((وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً))  [الأحزاب: 33، وراجع كتابنا: المسئولية في الإسلام ص: 125-126].

 

وإذا كان الأصل في المرأة أن تقر في بيتها، فإنها إضافة إلى ذلك لا يجوز لها الخروج منه إلا بإذن زوجها، وقد دل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم الرجال أن يأذنوا للنساء في الخروج لصلاة الجماعة في المسجد، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) [البخاري (6/160) ومسلم (1/326-327)].

 

ولو كان للمرأة الحق في الخروج بدون إذن زوجها، لما كانت هناك حاجة لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن منعها إذا هي استأذنت، بل لا حاجة لاستئذانها، وإذا كان خروجها للعبادة لابد أن تستأذن فيه، فإن خروجها للأمور المباحة أولى بالاستئذان.

 

المطلب الخامس:

عدم إذنها لأحد في بيته بدون رضاه.

 

ولا يجوز للمرأة أن تأذن لأحد في دخول بيت زوجها بدون رضاه، سواء كان من أقربائها أو أقرباء الزوج، ولو كانوا محارمها، ما عدا أباه، فقد مضى أن ولده من كسبه، وأنه يأخذ من ماله ما شاء – مع الشروط التي ذكرها بعض العلماء – وليس من الجائز له ولا لها منعه من دخول بيت والده، إلا إذا كانت هناك ضرورة شرعية معينة تصدر بها فتوى، وهي – إن حصلت – نادرة.

 

فقد روى الأحوص رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوانٍ عندكم، ليس تملكون لهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) [الترمذي (3/458) وقال: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة (1/594)].

 

قال الحافظ المباركفوري في قوله: (فلا يوطئن فراشكم من تكرهون): "قال الطيبي: أي لا يأذن لأحد أن يدخل منازل الأزواج" وقال في قوله: ((إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)): "كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف" [تحفة الأحوذي (4/326) نشر المكتبة السلفية في المدينة المنورة].

 

قلت: وإذا تقيدت المرأة المسلمة بهذه التوجيهات النبوية فلم توطئ فراش زوجها ولم تدخل أحداً يكره منزله، مع الحقوق الأخرى التي يجب أن تؤديها له، فإنها تسهم بذلك في الأمن الأسري إسهاما عظيما.

 

 

المطلب السادس:

عدم صوم المرأة تطوعاً بدون إذنه

 
إن خدمة المرأة زوجها، وقيامها بقضاء حاجاته، أولى من قيامها بأداء بعض العبادات تطوعا، كالصوم والحج ونحوهما. وقد دل على ذلك – وعلى ما جاء في المطلب الخامس أيضا - حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم-فذكر أحاديث ومنها -: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره، فإن نصف أجره له) [البخاري (6/150) مسلم (2/711)

 

المطلب السابع:

تربية المرأة أولاد زوجها تربية إسلامية والقيام على شؤونهم.

 

وهذا المطلب من أهم وظائف المرأة في بيت زوجها، فلا تقوم الحياة الأسرية الآمنة المطمئنة بدون هذه الوظيفة، ونصيب الأم في هذه الوظيفة أعظم من نصيب الأب، وقد أشار إلى ذلك حديث ابن عمر المتقدم [انظر التمهيد في أول هذا المبحث].

 

في رواية البخاري، قال صلى الله عليه وسلم:

(والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده). ولا شك أن أو جب الرعاية وأهمها هي التربية الإيمانية السلوكية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتبع ذلك الرعاية الجسمية، صحة وغذاء ونظافة، وغيرها.

 

ويدخل في ذلك أن تعين زوجها على تربية أولاده من غيرها، إذا ماتت أمهم، أو طلقت، وهم في سن يحتاجون فيها إلى الرعاية، وكذلك إخوانه الصغار، إذا كانوا بلا أم.

 

وقد شمل ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده) كما يدخل فيه بعض أقاربه الذين يجب أن يسعى هو في رعايتهم، كأمه العجوز وأبيه.

ومما يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، وفيه: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تزوجت بكرا أم ثيبا(؟ قلت: تزوجت ثيباً. فقال: (هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك(؟ قلت: يا رسول الله، توفي والدي، أو استشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن، فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيبا لتقوم عليهم وتؤدبهن..." [البخاري (4/9-10) ومسلم (2/1087]

 

نعم. لا يجب على المرأة أن تقوم على أبناء زوجها من غيره، أو بعض أقاربه، إلا إذا كان شرط ذلك عليها وقبلت الشرط، ولكن ينبغي أن تقوم بذلك تطوعا واختيارا، فإن لها في نساء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، في الصبر على خدمة أزواجهن التي قد تعاني المرأة منها شيئا من المشقة، وهي تنال بذلك فائدتين:

الفائدة الأولى: إرضاء ربها في خدمة زوجها وإعانته.

الفائدة الثانية: إدخال الأمن والطمأنينة والراحة، والسرور والرضا على نفسه، وجلب ما يزيد المودة بينها وبينه.

 

فقد حفظ علي رضي الله عنه لزوجه وبنت عمه، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيامها بخدمته، وما عانت من تعب ومشقة في خدمته، فحكى ذلك للناس بعد وفاتها، كما روى أبو الورد بن ثمامة، قال: قال علي لابن أعبد: "ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أحب أهله إليه، وكانت عندي؟" قلت: بلى. قال:" إنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خدم، فقلت: لو أتيتِ أباك فسألته خادما؟ فأتته فوجدت عنده حداثا، فرجعت.

 

فأتاها من الغد، فقال: (ماكان حاجتك(؟ وسكتت، فقلت: "أنا أحدثك يا رسول الله، جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاء الخدم أمرتها أن تأتيك، فتستخدمك خادما يقيها حر ما هي فيه. قال: (اتقي الله يا فاطمة، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك، وإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين، فتلك مائة، فهي خير لك من خادم.) قالت: رضيت عن الله وعن رسوله. [البخاري (6/192-193) ومسلم (4/2091) والترمذي (5/477) وأبو داود (3/394)].

 

ويؤخذ من هذا الحديث – زيادة على ما ذكر من دلالته على قيام المرأة بخدمة زوجها - ذلك التوجيه النبوي العظيم، لولاة أمور المسلمين الذين تقع خزائن بيت المال تحت أيديهم، بأن لا يرخوا العنان ويفلتوا الزمام لقراباتهم، في الاستمتاع الذي يصل إلى حد الترف والاستئثار بأموال الأمة، التي قد لا يجد كثير من أفرادها وأسرها القوت الضروري الذي يبقي على حياتهم، ولا يجدون السكن ولا المركب.

 

فقد بلغ التوجيه النبوي أن يصبر أهله على ما يعانون من مشقة وشظف العيش، والاستعانة على ذلك الصبر بالإكثار من ذكر الله وعبادته، مع إيثار غيرهم من عامة الناس عليهم.

 

فأين هذا المعنى الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لولاة الأمر من بعده، مما يلصقه أعداء الله وأعداء دينه بالإسلام من أنه يخدر الشعوب والكادحين، ليستمتع بخيرات الأرض ومرافق الدولة وكدح الكادحين الزعماء والملوك باسم هذا الدين؟!

 

نعم يستغل الإسلام كثير من الزعماء، ولكن استغلالهم شيء، والإسلام شيء آخر.

فلا يجوز أن ينسب إلى الإسلام سوء تصرفات من يستغله، وهو من ذلك براء. فالعبرة بما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة، وما جرى عليه عمل خلفائه الراشدين ومن تبعهم بإحسان.

 
المطلب الثامن

اعتراف المرأة بإحسان الزوج وعدم إنكار نعمته

 

إن ما يقوم به الزوج من اكتساب الرزق في خارج البيت، وما يعانيه من الإشراف على الأسرة داخل البيت، ومحاولة التوفيق بين رغبات الأسرة المتنوعة، وكفاية المرأة في كثير من أمور الحياة، التي لو غاب عنها لأرهقتها وكلفتها شططا، وكذلك ما يقدمه من الإحسان إليها، إن ذلك كله جدير بشكرها له واعترافها بنعمته.

 

واعتراف المحسَن إليه بنعمة المحسِن، يدخل عليه السرور، ويجعله يشعر بأن ما يبذله من خير يقع في مكانه اللائق به، وجحد النعمة يسيء إليه ويفقده الأمل في أن تثمر نعمته وإحسانه، وينزل به الغم، لأنه يشعر أن إحسانه مجحود، ونعمته منكرة، فهي لم توضع في المكان اللائق بها.

 

ومع ذلك فيشرع في حقه الاستمرار في بذل الإحسان والنعمة، و جزاؤه عند ربه وينبغي أن يقصد بذلك وجه الله ويطلب منه الثواب، ويصبر على ما يلقاه من جحود امرأته إحسانه ونعمته، وهي ستلقى جزاءها عند ربها.

 

ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم النساء من كفران نعم أزواجهن، وذكر لهن الوعيد الشديد الذي ينلنه على ذلك، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: "ما رأيت منك خيرا قط." [البخاري (1/13) ومسلم (2/626)].

 
المطلب التاسع:
حفظ مال الزوج وعدم التفريط فيه.

 

إن من أولى الناس بائتمان الزوج على ماله أهل بيته، فإذا كانت امرأته حريصة على حفظ ماله اطمأن على كل ما عنده، وأمن الإسراف والتبذير والإنفاق في غير ما يحتاج إليه، وإذا لم تكن كذلك، بأن أسرفت في الإنفاق، أو فرطت في المال، هو يجمعه بكده من هنا، وهي تبدده بسفاهتها هناك، أصيب بخيمة أمل، ولازمه الخوف على ماله في أولى الأماكن التي يجب أن تكون أكثر أمنا له واطمئنانا.

 

ولهذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على نساء قريش بخصال، منها: حنوهن على الولد، ورعاية ذات اليد-أي حفظ المال-كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش" وفي رواية: صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده." [البخاري (6/193)]

 

المطلب العاشر:

عدم تمكينها أجنبيا من الخلوة بها

 

لا يجوز للمرأة أن تمكن غير محارمها الأمناء عليها الحريصين على عرضها وشرفها الخلوة بها، وبخاصة أقاربها وأقارب زوجها الذين ليسوا محارم لها، لما في ذلك من الريبة والذريعة إلى الفساد والمنكر، وهذا – مع كونه يؤذي أهل المرأة كلهم - من أشد ما يتأذى به الزوج من تصرفات امرأته، وبخاصة المسلم الغيور الذي يؤذيه تدنيس عرضه.

 

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) [البخاري (6/159) مسلم (4/1711)] والحمو يشمل أقارب الزوج – وكذلك أقارب الزوجة - الذين ليسوا محارم للمرأة.

 

وإن تشبيه الحمو بالموت، يدل على أن دخوله على النساء أشد خطرا من دخول غيره من الأجانب، لأن الناس يتساهلون في دخول أقربائهم بيوتهم، فيصبح دخولهم وخروجهم مألوفا في كل الأحوال، فلا يكون مستنكرا، وذلك من وسائل الدخول على النساء في حال الخلوة، وهو قد يجر إلى المنكر، بخلاف الأجنبي، فإن الغالب عدم التساهل في دخوله بيوت من لا قرابة بينه وبينهم.

 

المطلب الحادي عشر:

مواساة الزوج وإدخال السرور عليه.

 

إن الرجل يتعرض للمتاعب والمعاناة، والاحتكاك بالناس، خارج المنزل، وقد يواجه مصاعب في أعماله، وعقبات في سبيله، فيغضب ويحزن، ويعود إلى البيت وهو مرهق –وقد يكون مكتئبا- فينبغي أن تستقبله المرأة ببشاشة وحنان، وأن تواسيه في مصائبه ومشكلاته، وأن تعينه على ما يحقق له الراحة والهدوء في منزله، ليظفر بالسكن والمودة والرحمة، وأن تعامله بالأسلوب المناسب لكل حالة من حالاته، كما فعلت خديجة رضي الله عنها مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواساته، منذ بدأ الوحي ينزل عليه، إلى أن فارقت الحياة.

 

فقد روت عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فاجأه الوحي: "فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فقال: (زملوني، زملوني) حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: - وأخبرها الخبر -: (لقد خشيت على نفسي) فقالت خديجة: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق..." ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فطمأنه صلى الله عليه وسلم" [البخاري: 1/3-4، ومسلم: 1/139-142]

 

ومن أروع الأمثلة على مواساة المرأة لزوجها ورعايتها له، ما صنعته أم سليم رضي الله عنها، مع زوجها أبي طلحة الأنصاري، رضي الله عنه، عندما مات ابن لهما. وهذه قصتهما، كما رواها أنس رضي الله عنه:

 

قال:"مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه، حتى أكون أنا أحدثه. قال: فجاء، فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب، قال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أن قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك.

فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني! فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما..)" [البخاري: 2/84، ومسلم: 4/1909]

 

 

المطلب الثاني عشر:

رضاها بقوامته على الأسرة في حدود ما شرع الله.

 

إن كل جماعة يرتبط بعضها ببعض، يحتاج أفرادها إلى من يتولى أمرهم، بالرجوع إليه فيما يطرأ لهم مما يحتاجون فيه إلى الاستشارة والتوجيه، أو حل النزاع بينهم، عندما يختلفون، حتى لا تستحكم فيهم الفوضى، ويتأصل الخلاف بينهم، فلا يستقيم لهم أمر:

لا يصلح الناس فوضى لا سَراةَ لهم،،،،،،،،،،،، ولا سراة إذا جهالهم سادوا

لذلك اقتضت الضرورة أو الحاجة، وجود الإمرة على الأفراد، لتنظيم حياتهم، في حضرهم وسفرهم.

 

وإذا كان المسافرون يحتاجون إلى الإمرة، ولو كانوا ثلاثة، فإن الأسرة أشد حاجة إلى أمير يرجع أفرادها إليه عند الحاجة، لملازمة أفرادها بعضهم بعضا في منزل واحد لمدة طويلة.

ولا بد من تقسيم وظائف الأسرة علىكبارها، حسب الأهلية والطاقة وإجادة العمل.

 

ولما كان الرجل يتميز بخصائص قد لا توجد في المرأة، أو يقل وجودها فيها غالبا، وكانت المرأة تتميز عن الرجل بخلال لا توجد في الرجل، أو تقل فيه غالبا، فقد اقتضت حكمة الله أن ينزل كل واحد منهما المنزلة اللائقة به، ويسند إليه ما هو كفء له.

 

فالمرأة هي الأرض الخصبة للنسل والإنجاب-وهما مطلوبان شرعا وعادة-وهي الظل الوارف الذي تستظل به الأسرة والذرية، والمحضن الأمين الذي يتربى فيه النشء، وهي الأم الحنون ذات العاطفة السريعة الاستجابة لحاجات الصغار والكبار في المنزل، وهي المعدة –في الأصل- للبقاء في البيت، للإشراف على تنظيفه وترتيبه، وتهيئة ما يريح أهله كلهم، فكانت وظيفتها تناسبها، وهي الحمل والوضع والرضاع، وتربية الأولاد، والقيام بمصالحهم، وتدبير أمور المنزل المتنوعة، من تنظيف وإعداد طعام، وتمريض، وغير ذلك، بالتعاون مع بقية الأسرة.

 

ومعلوم أن إمكاناتها العقلية والعاطفية والجسدية، صالحة – غالبا - لهذه الوظائف، وما أشبهها، ولذا غلب عليها لقب: "ربة البيت"

 

أما الرجل، فقد هيئ للقيام بوظائف أخرى، حيث زوده الله بقوة جسدية، وعقلية، مع الصبر على المشاق، ومقارعة الأعداء، وحماية الأهل، وإجابة داعي العشيرة، وتحمل متاعب السفر والمشي في مناكب الأرض، فاقتضت حكمة الله أن يكلف ما يناسبه، من تولي جلب حاجات الأسرة، من خارج البيت، من السعي في اكتساب الرزق، بوسائل حراثة الأرض، وصناعة الأدوات، والصفق في الأسواق للتجارة والبيع والشراء، وبناء المسكن، وصون أدواته ومرافقه... وغير ذلك مما فيه مشقة في الغالب.

 

ولما كانت للمرأة خصائصها، في الغالب، وللرجل خصائصه في الغالب، فقد منح الله الرجل رئاسة الأسرة وتوجيهها العام، لأنه أقدر على ذلك من المرأة، وأكثر هيبة في نفوس الأسرة، فهو الذي كلف الإنفاق عليها، ومراقبة تصرفاتها في الإنفاق الذي ينبغي أن يراعى فيه مقدار الدخل، وعدم الإسراف والتبذير، وهو الذي يأمر أو ينهى عند الحاجة إلى الأمر أو النهي، وهو الذي يأذن بالدخول أو الخروج من المنزل، وهو الذي يأخذ على يد من تعدى حدوده شرعا أو عرفا، وليس قيامه بهذه الأمور مبنيا على تسلط أو هوى.

قال تعالى: ((الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)) [النساء: 34]

 

ولا يفهم من هذه الإمرة أو القوامة، أن يكون الرجل في رئاسته للأسرة جبارا متسلطا مستبدا بالأمر، مكبلا حركات غيره من الأسرة، وبخاصة المرأة في نشاطها في المنزل، وإنما هو موجه توجيها عاما، وهي وإن كانت مرؤوسة له، ينبغي أن يكون لها رأيها الذي لا بد أن يسمعه، ويتشاور معها في مصالح الأسرة، ويتعاون معها على الوصول إلى ذلك بالحكمة، ولا يتدخل في كل شأن من شئون عملها، وعليها هي أن ترضى بقوامته في هذه الحدود.

 

قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "والمراد بالقيام هنا، هو الرئاسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة، لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيما على آخر، هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه، أي ملاحظته في أعماله وتربيته، ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته، ولو لنحو زيارة أولي قربى، إلا في الأوقات والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى. أقول: ومنها مسألة النفقة، لأن الأمر فيها للرجل، فهو يقدر للمرأة تقديرا إجماليا، يوما يوما، أو شهرا شهرا، أو سنة سنة، وهي تنفذ ما يقدره على الوجه الذي ترى أنه يرضيه، ويناسب حاله من السعة والضيق." [تفسير المنار: 5/68 وراجع كتاب في ظلال القرآن: 5/650 وما بعدها]

 

فإذا سار الرجل والمرأة في حياتهما على هذا المنهج، استقامت حياة الأسرة، وسلمت من النزاع المؤدي إلى الشقاق والتفكك.

أما إذا تنافس الزوجان على رئاسة الأسرة، أو تدخل أحدهما في شئون الآخر بدون حق، فإن ذلك يحدث من التصدع والنفور والفوضى والاضطراب، ما الله به عليم.

هذا إذا كان التنافس في الرئاسة، مع الاتفاق على الأهداف التي ينبغي تحقيقها، والوسائل التي تحقق تلك الأهداف.

 

أما إذا حصل بينهما التنافس على الرئاسة، مع اختلافهما في الاتجاهات والأهداف والوسائل، فهناك يكون التحطيم الكامل والتفكك والانفصام النكد للأسرة، وبخاصة إذا كان محل التنافس هو تربية الأولاد، فإن ذلك أعظم خطرا، وأشد شرا.

 

قال الأستاذ محمد قطب: "كما ينبغي أن تكون سياسة الأبوين موحدة أو متقاربة، تجاه الطفل، بحيث لا يشعر أن هناك فارقا ملحوظا بين معاملة كل منهما له، وبالذات لا ينبغي أن يقف الأبوان موقفين متعارضين – أمام الطفل - تجاه عمل قام به، أحدهما – مثلا - يطالب بعقابه، والآخر يعارض في توقيع العقوبة عليه، فإن هذا يفسد الموازين في حسه، ويشعره بأن الأمور ليس لها ضابط محدد، ولا معيار معين يلتزم به، وأن في إمكانه أن يخالف تعاليم أحد الوالدين، ويجد من يدافع عنه من طريق آخر...." منهج التربية الإسلامية: 2/115]

 

إن اختلاف الأبوين المتناقض في شأن تصرفات الأولاد في المنزل، معناه وجود حزبين متصارعين، ينضم فيه الأولاد إلى من يرون أنه يحقق لهم رغباتهم، ويؤيد ميولهم، وفي ذلك كارثة على الأسرة كلها، وهدم لكيانها، فليعلم الأبوان ذلك، وليتلافياه قبل فوات الأوان.

 

هذه بعض الأمور التي ينبغي أن تعلمها المرأة، من حقوق زوجها، ليكون تعاملها معه، ومع أفراد أسرتها، مترتبا عليها، وهي إذاما اتبعتها وطبقتها في حدود طاقتها، كفيلة بأمن زوجها واستقراره وشعوره بالسكن والمودة والرحمة، وتلك بداية أمن الأسرة كلها، فإن الرجل يأمن على نفسه وولده وماله وعرضه، وكفى بذلك أمنا.

 

المبحث الثالث

في حقوق المرأة على الزوج والولي

 

وفيه تمهيد وأربعة مطالب:

المطلب الأول: حقوق المرأة قبل الزواج.

المطلب الثاني: حقوق المرأة عند البناء بها.

المطلب الثالث: حقوق المرأة في فترة الحياة الزوجية.

المطلب الرابع: حقوق المرأة بعد الفراق.

 

 

تمهيد

 

إن الذي يتأمل الحقوق التي شرعها الله في هذا الدين لكل واحد من الزوجين، يرى فيها كمال علم الله وحكمته، وكمال عدله ورحمته، وأنه سبحانه وتعالى قد منح كلاً منهما من الحقوق ما تقوم به الحياة الزوجية على أكمل وجه، والحياة الأسرية على أتم حال.

 

وإن الذي يطالع حقوق الزوج مستقلة يظن أنه قد منح من الحقوق، ما لم تنل الزوجة مثلها، فإذا طالع حقوق الزوجة مستقلة ظن أنها منحت من الحقوق ما لم ينل الزوج مثلها، ولكنه إذا نظر إلى هذه وتلك، ظهر له كمال العناية الربانية بالجانبين، ولما كان من الصعب هنا التفصيل في حقوق الزوجة، كما هو الحال في حقوق الزوج، فقد سلكنا في حقوقها مسلكنا في حقوق الزوج من الاختصار، حسب المطالب الأربعة، وفي كل مطلب فروع تذكر فيه:

 

 

المطلب الأول: حقوق المرأة قبل الزواج.

وفي هذا المطلب خمسة فروع:

 

الفرع الأول: التحقق من رضاها بالزواج منه.

 

لا يجوز إجبار المرأة على الزواج بشخص لا ترضاه، لما في إجبارها من فقد الحياة المطمئنة والراحة النفسية والمودة والسكن والرحمة، وتلك من أهم أهداف الزواج في الشريعة الإسلامية، فلا بد من استئذانها في الزواج.

 

وإذن البكر يدل عليه سكوتها، لأنها تستحي في الغالب أن تصرح بالقول، أما إذن الثيب فلا بد أن يكون بالقول الصريح بقبول الزوج الخاطب، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن " قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت " [البخاري (6/135) ومسلم (2/1036)].

 

وفي حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: "نعم" قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي، فتسكت، قال: "سكاتها إذنها" [البخاري (8/57) ومسلم (2/1037)].

فإذا زوج الولي المرأة البالغة بدون إذنها، بكراً كانت أم ثيباً، فلها فسخ النكاح إذا لم ترضه، كما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن جارية بكراً أتت سول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم [أحمد (1/364) وأبو داود (2/576)، وابن ماجة (1/602)، قال الشوكاني في نيل الأوطار (6/138): قال الحافظ: ورجاله ثقات، ثم أجاب الشوكاني على من أعل الحديث بالإرسال، ورجح وصله، وقال المحشي على سنن أبي داود: وقد صححه الشيخ أحمد شاكر].

وقد أثبتت إحدى الصحابيات هذا الحكم بالسنة النبوية، قاصدة بذلك سد الباب في وجه الأولياء المستبدين بالأمر مخالفين بذلك شرع الله، في إكراه المرأة على زوج لا ترضاه.

 

فقد روى بريدة، عن عائشة، رضي الله عنها قالت: جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء "[أحمد (6/136)، والنسائي (6/71)، وابن ماجة (1/602ـ603) وقال محققه، محمد فؤاد عبد الباقي: في الزوائد: إسناده صحيح، وقد رواه غير المصنف من حديث عائشة وغيرها. اهـ قلت: هو في سنن ابن ماجة: عن بريدة عن أبيه].

 

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر استشارة المرأة من تثق به وترى أن يشير عليها بما ينفعها، عندما ذكرت له فاطمة بنت قيس، رضي الله عنها أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد) فكرهته، ثم قال: "انكحي أسامة بن زيد" فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت " [مسلم (2/1114)].

 

ومع ذلك فان المرأة ليست مطلقة الحرية في استبدادها بزواج نفسها ممن تشاء، كما أن وليها ليس مطلق الحرية في تزويجها بمن يشاء، بل يجب عليها أن تعود إلى وليها ليلي عقد نكاحها، وقد اشترط الجمهور الولي في النكاح، إلا إذا عضلها عن النكاح بغير حق، فإن الولاية تنتزع منه وتعود إلى الحاكم، حتى لا يضر الأولياء قريباتهم بالعضل، وقد وردت نصوص كثيرة تؤيد رأي الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله [راجع المغني لابن قدامة (7/6)].

 

لأن المصلحة وان كانت تعود إلى المرأة بالدرجة الأولى وكذلك المضرة، فإن وليها وأسرتها تعود إليهم مصلحتها ومضرتها أيضا، لأنها قد تزوج نفسها من غير كفء، فيكون ذلك عاراً على أسرتها كلهم [راجع الولاية على النفس لأبي زهرة ص125].

 

وللولي أن يزوج الصغيرة إذا وجد الكفء الصالح الذي يخشى فواته، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في تزويج بنته عائشة رضي الله عنها، برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين، وإن كان لم يدخل بها إلا وهي بنت تسع [البخاري (6/134) ومسلم (2/1038)].

 

وبما تضمنه هذا الفرع تأمن المرأة على حياتها الزوجية، فلا يملك عصمتها من لا ترضاه زوجاً لها.

 

الفرع الثاني:

من حق المرأة على وليها أن يبحث لها عن زوج صالح، وأن يعرضها عليه.

وهذا أمر مشروع، وقد عرض الرجل الصالح إحدى ابنتيه على موسى، عندما توسم فيه الصلاح كما قال تعالى: ((قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج)) [سورة القصص: 26،27].

 

وطبق ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، كما عرض عمر بن الخطاب، رضي الله عنه بنته حفصة حين تأيمت على عثمان فاعتذر، ثم عرضها على أبي بكر فسكت، ثم خطبها رسول الله، وعلم عمر أن سبب اعتذار عثمان وسكوت أبي بكر، لعلمهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها. [راجع القصة في صحيح البخاري: 6/130].

 

الفرع الثالث:

عدم جواز عضلها إذا طلبها الكفء

 

ولا يجوز للولي أن يمنع المرأة من الزواج، إذا كان الزوج المتقدم كفؤاً لها، وهي راضية به، سواء أكان متقدماً لها ابتداء ـ أي لم يسبق له أن تزوجها، أم كان زوجاً لها فطلقها، وأراد خطبتها بعد انقضاء عدتها، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن عضلها نهياً صريحاً، فقال تعالى: ((وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) [سورة البقرة: 232].

وقال سبحانه وتعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن)) [سورة النساء: 19].

 

قال القرطبي رحمه الله على قوله: ((فلا تعضلوهن)): "روى معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البداح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها، فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها، وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه، فنزلت الآية، قال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً، فقال: (إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح" فقال: آمنت بالله وزوجها منه، وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها، فخطبها، فأبى معقل فنزلت: (فلا تعضلوهن أن ينحكن أزواجهن) [الجامع لأحكام القرآن: 3/158].

 

وقالت عائشة، رضي الله عنها في قوله تعالى: ((يستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن)) إلى آخر الآية، قالت: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله، فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها غيره، فيدخل عليه في ماله، فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك. [البخاري: 6/134].

 

فالواجب تزويج المرأة إذا خطبها الكفء وعدم عضلها بسبب مال أو منصب ونحوهما، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن الكفاءة، ولكن الكفاءة في الدين هي الدعامة الأولى [راجع نيل الأوطار: 6/144].

 

وبما تضمنه هذا الفرع تأمن المرأة من منعها بالزواج من الكفء الذي ترضاه، كما أنها بما تضمنه الفرع الأول تأمن من إكراهها على الزواج بمن لا ترضاه.

 

 

الفرع الرابع:

أن لا يقدم الخاطب على الزواج بها إلا بعد التحقق من رغبته فيها.

 

لئلا تفاجأ بعد الزواج بكرهها، فتعيش معه حياة غير مرضية، وقد يصل به الأمر إلى فراقها، وفي ذلك إساءة إليها، وإدخال الحزن إلى قلبها، وحرمانها من حياة تاقت لها في مقتبل عمرها، ولأن المقصود من الزواج هو دوام العشرة واستمرارها.

 

ولهذا شرع أن يخطبها وينظر إليها قبل الزواج، ليرى إن كانت تعجبه، ويقدم على الزواج بها، وإن كانت لا تعجبه تركها ليرزقها الله غيره ويرزقه غيرها.

وقد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التي وهبت له نفسها، فلم تعجبه، فتركها بأسلوب مناسب، كما في حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه، (أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئاً جلست...) [البخاري: 6/131].

 

وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنظرت إليها(؟ قال: لا، قال: (فاذهب فانظر إليها فإن في عيون الأنصار شيئاً) [مسلم: 2/1140، وراجع المغني لابن قدامة: 7/96].

 

فقد ثبت هذا الحكم من فعله صلى الله عليه وسلم ومن قوله، وقد يظهر بادئ ذي بدء أن هذا الأمر من حقوق الزوج، والواقع أن للزوجة حقاً كبيراً فيه، كما ذكرت.

وفي حديث أبي هريرة هذا تنبيه من الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل، أن ينظر إلى ما يخشى أن يكون سبباً في كرهه للمرأة إذا تزوجها ولم يره من قبل، لقوله: "فإن في عيون الأنصار شيئا" لأن من المصلحة رؤية العين قبل الزواج، حتى يتزوجها وهو راضٍ بما فيها من عيب أو يدعها، بخلاف ما إذا فوجئ به بعد الزواج، فإن مفسدة ذلك أكبر من مفسدة تركها قبل الزواج.

 

وهذا الفرع يتضمن أمن الرجل والمرأة معاً، من الزواج الذي قد يفاجأ أحدهما بعيب أو عيوب خلقية في الآخر، لم يرها قبل الزواج، فيندم وقد يترتب على ذلك عدم استمرار الحياة الزوجية بينهما.

 

الفرع الخامس:

إعطاؤها المهر المتيسر 

ولا بد للمرأة من مهر يعطيه الزوج لها، ولكن ينبغي عدم المغالاة فيه.

قال ابن قدامة، رحمه الله: "الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين)) [النساء: 24].

وقوله تعالى: ((وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)) [النساء: 4]. قال أبو عبيد: يعني عن طيب نفس بالفريضة التي فرض الله تعالى".

 

ويجوز أن يكون كثيراً إذا كان الزوج موسراً، كما قال تعالى: ((وآتيتم إحداهن قنطارا)) [النساء: 20].

إلا أنه لا يجوز أن تكون المغالاة في المهور سببا لمنع الشبان والشابات من الزواج، كما هو الواقع في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وحيل بين الشاب والشابة أن يتزوجا على سنة الله ورسوله، بسبب غلاء المهور وكثرة ما يطلب منه من الحلي

والملابس وأنواع الزينة والأثاث، والولائم المبالغ في إنفاق الأموال إلى حد التبذير والإسراف فيها، حتى أصبح الزواج عند كثير من الشباب لا يطاق بسبب ذلك، فكثرت العوانس وكثر العزاب وانتشر الفساد.

 

والواجب على ولاة أمور المسلمين من العلماء والحكام والعقلاء في البلدان الإسلامية، وكذلك تجارهم أن يوجدوا حلا لهذا الأمر الخطير، حتى يتمكن الشبان والشابات من الزواج المشروع، وهو من أسس تخفيف الشرور التي تحصل في الأقطار الإسلامية، التي تكاد تصل إلى ما وصلت إليه دول الكفر من الفسوق والفواحش والمنكرات، ومن أهم الحلول أن يكون الأغنياء والزعماء قدوة لغيرهم في التخفيف من المهر والولائم وغيرها حتى يقتدي بهم غيرهم.

 

ومن أهم الحلول أن تكون هناك صناديق تبرعات كافية، للذين لا يجدون ما يمكنهم من إقامة حياة زوجية سعيدة، وينبغي أن يعود أغنياء المسلمين إلى الجود بإيقاف بعض أموالهم على المشروعات الخيرية، ومنها زواج الفقراء [راجع في مقدار المهر، فتح الباري (9/204ـ217) والمغني لابن قدامة (7/210ـ212)].

 

وعلى حكام الشعوب الإسلامية أن يعنوا بهذا الأمر، ويسعوا إلى تزويج الشباب بإيجاد وسائل ذلك، من الزكوات والتبرعات، أو أي مورد مشروع لبيت أموال المسلمين، فإن المصالح التي تترتب على تزويج الشباب عظيمة جداً، كما أن المفاسد التي تترتب على عدم تزويجه خطيرة جدا.

 

وإذا كان مهر أغلب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة درهم، أي أن مهر الواحدة لم يزد على اثنتي عشرة أوقية فهل غيرهن أفضل منهن؟

 

وقد استنكر النبي صلى الله عليه وسلم كونَ رجلٍ أصدق امرأته أربع أواق، وقد جاء إليه ليصيب إعانة منه صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، فبعث بعثا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم " [مسلم (2/1040)].

 

وقال الشوكاني رحمه الله: "فيه - أي أحد أحاديث الباب - دليل على أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه، لأن المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب النكاح من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيراً فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير متزوجين، فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم"[نيل الأوطار (6/190ـ191)].

 

قد يتعجب القارئ من دعوتي في هذا الفرع إلى التقليل من المهر، مع أنه في حق المرأة التي تستفيد من كثرته، ولكن التعجب يزول إذا علم المرء أن عوانس كثيرات يتململن من تمسك أوليائهن بغلاء مهورهن، الذي يكون سببا في عدم استطاعة الراغبين فيهن التقدم لخطبتهن، وكثيرات منهن يشكون من ذلك فالشابات في أمس الحاجة إلى تخفيف مهورهن، ليستطيع من يرغب فيهن ويرغبن فيه أن يتزوجهن.

 

وبهذا الفرع تأمن المرأة على أخذ ما فرض الله لها من صداق، وعلى عدم جعل المغالاة في المهور سدا في طريق زواجها.

 

 

المطلب الثاني:

حقوق المرأة عند البناء بها.

وفيه ثلاثة فروع:

 

الفرع الأول:  إظهار الزواج للناس.

 

ويكون ذلك بإظهار أسرتي الزوجين وجيرانهم الفرح والسرور.

ومن مظاهر ذلك الضرب بالدفوف، وفعل شيء من الطرب واللهو غير المنكر، كما في القصة التي رواها خالد بن ذكوان، عن الربيع بنت معوذ قالت: دخل علي النبي  صلى الله عليه وسلم غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن مَن قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية:   وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا، وقولي   ما  كنت تقولين) [4/1469 ورقم الحديث: 3779]

 

فقد أقر صلى الله عليه وسلم ضرب الدفوف، وذكر محاسن آباء الفتيات اللاتي يحتفلن بزواج أختهن المسلمة، وأنكر الغلو الذى ظهر من إحداهن.

 

وسأل صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، بعد أن زفت امرأة من الأنصار، عما إذا كان حصل في هذا الزفاف شيء من اللهو؟ وعلل ذلك بأن الأنصار يعجبهم اللهو، قالت عائشة، رضي الله عنها: إنها زفت امرأة من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو [البخاري (6/140)].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يفرح عندما يرى النساء والأطفال ذاهبين إلى الزفاف أو راجعين منه، كما روى أنس بن مالك، رضى الله عنه، قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساءً وصبياناً مقبلين من عرس، فقام ممتناً، فقال: "أللهم أنتم من أحب الناس إلي" [البخاري (6/144)].

 

وفي هذا الفرع مشروعية إعلان النكاح والفرح به، لما فيه من تحقيق سنة اللقاء المشروع بين الرجل والمرأة، اللذين ليسا في حاجة إلى التدسس بلقائهما، لأنه لقاء مشروع يجب أن يعلمه الناس، ليأمن الزوجان من القيل والقال، اللذين لا يسلم منهما من التقيا على غير سنة الله ورسوله، وفيه قضاء على الفواحش والمنكرات التي تحدث سراً بدون زواج.

 

الفرع الثاني:

إقامة الزوج الوليمة المتيسرة.

 

وهي مشروعة لزيادة إعلان النكاح، وإظهار السرور به والشكر لله الذي حض عليه ويسره، وتطبيقا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن الوليمة سنة وليست واجبة، وذهب بعض أصحاب الشافعي أنها واجبة استنادا إلى ظاهر الأمر بها، عندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف الذي تزوج امرأة من الأنصار: (كم أصدقتها(؟ قال: "وزن نواة من ذهب.. فقال له صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة)  [البخاري (6/142].

 

وكان هو صلى الله عليه وسلم إذا تزوج امرأة أولم بما يتيسر له، قال أنس رضي الله عنه - وقد ذكر عنده تزويج زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم عليها، أولم بشاة.) [البخاري (6/143)].

وقالت صفية بنت شيبة: "أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير" [البخاري (6/143)].

 

الفرع الثالث:

تخصيصها عند البناء بمدة معينة يقيمها عندها.

 

ومن حق المرأة التي تزف إلى زوجها، أن يقيم عندها سبعا إن كانت بكراً، وثلاثا إن كانت ثيباَ، ثم يقسم لبقية نسائه بعد ذلك ما جرت به عادته.

قال أنس رضي الله عنه: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا. ثم قسم." قال أبو قلابة: "ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم". [البخاري (6/154)].

 

وسبب هذا التخصيص، والله أعلم، أن المرأة الجديدة في حاجة إلى إيناسها من وحشة الانتقال من بيت أهلها إلى بيت الزوج، وكذلك في بقائه عندها هذه المدة إشباع لرغبتها فيه، وهو أيضا ينال رغبته منها، وخصت البكر بزيادة على الثيب، لأنها أحوج إلى ذلك الإيناس وتلك الرغبة، حتى تألف الزوج والزوج يألفها.

 

 

المطلب الثالث

حقوق المرأة في فترة الحياة الزوجية

 

والحقوق التي تدخل في هذا المطلب كثيرة جدا، ومهمة كذلك، وهي التي تمتد بها الحياة الزوجية السعيدة والأمن الأسري، إن تحققت أو يحصل بفقدها الشقاء والقلق والنزاع والتمزق، إن لم تؤد كما أمر الله سبحانه وتعالى: أداء من قبل الزوج، وقبولا من قبل المرأة.

 

ولنجمل ما تيسر من هذه الحقوق في اثني عشر فرعا:

 

الفرع الأول: تعليمها أمور دينها، وتربيتها عليها، فيما يتعلق بحياتهما الزوجية والأسرية، من حقوق وواجبات، ويشمل ذلك حقوق الأولاد وواجباتهم، وحقوق الأقارب من الجانبين، وغير ذلك من حقوق الجيران...مما ينبغي أن تعلمه، وبهذا التعليم تعرف واجباتها وحقوقها، فلا تقصر في أداء واجب ولا تطمع في غير حق، إلا على سبيل التعاون والإيثار من الطرفين.

 

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم نساءه دينهن، حتى كن من كثرة ما يتلقين عنه صلى الله عليه وسلم العلم من الكتاب والسنة، من المفتيات لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وقد أمرهن الله سبحانه وتعالى أن يذكرن تلك النعمة التي ساقها الله إليهن مباشرة، من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن، فقال تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا). [الأحزاب:34].

 

 

والواجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم نساء المؤمنين، كما كان صلى الله عليه وسلم يعلم نساءه وغيرهن، ولا يقي الإنسان نفسه من عذاب الله إن لم يحاول وقاية أهله منه، كما يحاول وقاية نفسه بتعليمهم ما يجب عليهم.

 

وتعليم المرأة هو أساس تعليم أفراد الأسرة، لأنها إذا تعلمت علمت أبناءها وغيرهم بالقول والقدوة الحسنة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). [التحريم:6].

وقال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة وأصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى). [طه:132].

 

وسبق حديث: "كلكم راع ومسئول عن رعيته ". [في أول المبحث الثاني من هذا الفصل].

ومن أعظم رعاية الرجل امرأته تعليمها أمور دينها وما تتحقق به مصالح الأسرة، فإن المرأة الجاهلة تسيء إلى زوجها وأولادها، بل وعلى نفسها بتصرفاتها، وهي لا تدري عن النتائج المترتبة على ذلك.

 

ويجب أن يعلم أن المرأة قد تكون متعلمة مثل الرجل، وقد تكون أكثر علما منه، وعلى هذا ينبغي أن يتعاونا على التفقه في الدين، وأن يستفيد كل منهما من الآخر، وأن يتلقى الأقل منهما علما من الأكثر علما، لأن المقصود هو التفقه في دين الله، ولا فرق بين أن يُتُلَقَّى من قبل رجل أو امرأة.

 

الفرع الثاني

معاشرتها معاشرة حسنة والتلطف بها وعدم العنف معها

 

إن معاشرة الزوج امرأته معاشرة حسنة، وتلطفه بها وتحسين أخلاقه معها، يقوي بينه وبينها المودة والمحبة والألفة، وذلك يثمر التعاون على راحة الأسرة وهدوء بالها واطمئنانها.

 

ولما كان الزوج وامرأته لصيقين يكثر احتكاك بعضهما ببعض، وينبني على ذلك وجود مشكلات بينهما، وقد تختلف وجهات نظرهما، كان لا بد من صبر بعضهما على بعض وتحمل بعضهما أخطاء بعض، وعدم المشاحة في الحقوق، لأن في ذلك من تلافيا للشقاق والنزاع المستمرين استمرار الحياة الزوجية.

 

وإذا كانت المرأة قد أمرت بطاعة زوجها والقيام بحقوقه، وعدم التساهل فيها وتعظيم حقه عليها، فإن الزوج أيضاً مأمور بأداء حقوق زوجه وعدم التساهل فيها، بل مأمور بالتساهل في حقوقه الخاصة، وإذا رأى منها خلالاً لا تعجبه، فليذكر فيها صفات أخرى تعجبه، ويجعل الأخلاق الحسنة بمنزلة الماء والصفات السيئة بمنزلة النار، وليطفئ بالأولى الثانية.

 

روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضِلَعٍ أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء.) [البخاري (6/145) ومسلم (2/1090)].

 

روى أبو هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر) [مسلم (2/1091)].

 

ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميزان التفاضل في الخلق، عشرة الرجل الحسنة لنسائه، ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خلقا). [الترمذي (3/457) وقال: حديث أبو هريرة هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود (5/60)].

 

ولعل من الحكمة في جعل ميزان التفاضل في الخلق السبق في العشرة الحسنة للنساء، هو ما ذكر أولا من أن المرأة فيها اعوجاج، يحتاج زوجها معه إلى صبر، وكثرة احتكاكه بها، فصبره عليها مع اعوجاجها وطول عشرته معها، يدل على قوة تحمله وحسن خلقه، لأنه إذا كان أحسن خلقاً امرأته، فسيكون أحسن خلقاً مع غيرها من الناس، فهو يفضل في خلقه مع الناس، من هو أقل خلقا مع امرأته.

 

قال الشوكاني، رحمه الله: (خيركم خيركم لأهله): في ذلك تنبيه على أعلى الناس رتبة في الخير وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك، فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك، فهو في الجانب الآخر من الشر.

 

وكثيرا ما يقع الناس في هذه الورطة، فترى الرجل إذا لقي أهله، كان أسوأ الناس أخلاقاً وأشجعهم نفسا وأقلهم خيراً، وإذ لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره، ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق، زائغ عن سواء الطريق. [نيل الأوطار (6/233)].

 

قلت: ولا بد أن تكون تلك الأخلاق التي ظاهرها الحسن مع غير الأهل، ممن هو سيء الأخلاق مع الأهل، متكلفة ليست من طبعه، لأنه لم يستقم على الميزان النبوي للأخلاق الحسنة: (وخياركم خياركم لنسائهم خلقا).

 

الفرع الثالث

بذل ما تحتاجه من النفقة والكسوة مما يكفي أمثالها

 

ونفقة المرأة الكافية لها، وكسوتها التي جرت بها العادة لأمثالها واجبة، وينبغي للزوج إذا كان موسراً أن يوسع على أهله، ولا يبخل عليهم بشيء ما لم يكن إسرافاً أو ينفق في معصية، فإنه حينئذ لا يجوز.

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ المرء في النفقة بمن يعول، ولا شك أن الزوجة من أولى الناس بذلك.

 

روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول). [البخاري (6/190)].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يحبس نفقة عياله لسنة، كما في حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم". [البخاري (6/190)].

وجعل صلى الله عليه وسلم الإنفاق على الأهل، مع كونه واجباً صدقة إذا احتسبه المنفق عند الله، كما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة). [البخاري (1/20) ومسلم (2/695)].

 

كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق على الأهل أعظم أجراً من الإنفاق على غيرهم، حتى ما أنفق في سبيل الله. روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك). [مسلم (2/692)].

 

وفي حديث حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه رضي الله عنه، قال:

قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت). [أبو داود (2/606) وقال المحشي على جامع الأصول (6/505) وإسناده حسن، ومعنى هجرها في البيت: في المضجع وهي في بيتها].

 

الفرع الرابع

الإذن لها بالخروج من بيتها لقضاء حوائجها

 

سبق أن المرأة يجب أن تلزم بيت زوجها، ولا تخرج منه إلا أن يأذن لها. [المطلب الرابع من المبحث الثاني من هذا الفصل].

وقد أذن الله سبحانه وتعالى للنساء أن يخرجن لقضاء حوائجهن، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أزواجهن أن يأذنوا لهن، ودل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك.

 

روت عائشة، رضى الله عنها، قالت: "خرجت سودة بنت زمعة ليلاً، فرآها عمر، فعرفها، فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، وهو في حجرتي يتعشى، وإن في يده لعرقاً، فأنزل عليه، فرفع عنه وهو يقول: (قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن). [البخاري (6/195)].

 

فهذا إذن عام من الله سبحانه وتعالى للنساء أن يخرجن لحوائجهن، ولكن عليها أن تستأذن زوجها في خروجها لحاجتها، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأزواج بالإذن لهن، ونهى عن منعهن من حضور الصلاة في المساجد. [المطلب الرابع المذكور آنفاً].

 

وقد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه، يخرجن معهم في الغزو للقيام بالسقي والتمريض ونقل الجرحى وغيرها من أنواع الخدمة، كما هو معروف في كتب السيرة النبوية والحديث والفقه. [راجع صحيح البخاري (3/220) وما بعدها..].

ويدخل في ذلك زيارة أقاربها وشراء حاجاتها من السوق إذا غاب عنها زوجها أو لم تجد من يحضرها لها.

 

الفرع الخامس

أن لا يطرقها ليلاً إذا أطال الغيبة

 

إذا طالت غيبة الزوج عن أهله، فالسنة أن لا يفاجئ امرأته بدخول الدار دون أن يكون عندها علم سابق بقدومه، لما في ذلك من المحاذير، كوجودها على حالة غير مرضية من التهيؤ له واستقباله على حالة لائقة، ونحو ذلك.

 

قال الإمام البخاري، رحمه الله: "باب لا يطرق أهله ليلا إذا طال الغيبة مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم.. "

وقال بعد ذلك: "باب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة".

وساق في كلا البابين حديث جابر، رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة... إلى أن قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال": (أمهلوا حتى تدخلوا ليلا - أي عشاء - لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة. [البخاري (6/161)].

 

والمقصود أن تتهيأ المرأة لاستقبال زوجها الذي طالت غيبته، وأن يدخل عليها وهي على حالة تسره، فإذا علم أنها على علم بوقت وصوله ولو طالت غيبته، فلا ضرر في دخوله في أي وقت، وهذا الأمر متيسر في هذا الزمان، لوجود وسائل الاتصال السريعة، كالهاتف والفاكس والإنترنت، والبرق والبريد.

 

وعلى كل حال فإن مِن أمْن الأسرة، عدم طروق الزوج أهله ليلاً، إذا طالت غيبته إلا إذا علموا وقت قدومه بوقت كاف.

 

الفرع السادس

عدم هجرها أو ضربها لغير سبب مشروع

 

لما كان المقصود من الزواج دوام العشرة الحسنة والمودة والسكن والرحمة، فإنه لا ينبغي للزوج أن يهجر امرأته ولا للمرأة أن تهجر زوجها، مهما جرى بينهما من خلاف، لما في الهجر من القطيعة التي تؤثر على الأسرة كلها، وكذلك لا يجوز له أن يضربها بدون سبب مشروع.

 

وقد ورد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء صريحاً، مع بيان قبحه وبشاعته، حيث يضربها ثم يجامعها، كما روى عبد الله بن زمعة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم). [البخاري (6/153)].

 

وقد أباح الله تعالى الهجر والضرب في حالة نشوز المرأة - أي عدم طاعتها زوجها فيما أوجب الله عليها فيه طاعته، كما قال سبحانه وتعالى: (واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً). [النساء:34].

 

فالواجب على الزوج إذا عصته امرأته أن يبدأ بوعظها، فإن لم تستجب هجرها في المضجع، أي يبتعد عنها فلا يضاجعها، فإن نفع الهجر وإلا انتقل إلى تأديبها بالضرب غير المبرح.

 

 

قال القرطبي، رحمه الله: "أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا، ثم بالهجر، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له، ويحملها على توفية حقه.

والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير".

 

وفي صحيح مسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح...) الحديث، أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج، [مسلم (2/889ـ890)]. أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب.

 

وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي، وصححه عن عمر بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، فقال: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.

 

ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن. قال: هذا حديث حسن صحيح. [الترمذي (3/458)].

 

فقوله: "بفاحشة مبينة" يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم، وليس المراد بذلك الزنى فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد". [الجامع لأحكام القرآن (5/170ـ173)].

 

وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم من شكا النساء من ضربه لهن، كما في حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا إماء الله) فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذئرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن.

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) ومعنى: "ذئرن": نشزن واجترأن على أزواجهن؟ [أبو داود (2/608)، قال المحشي على جامع الأصول: وقد أورد الحافظ بن حجر هذا الحديث في الإصابة في ترجمة إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، وصحح إسناده. جامع الأصول (6/506ـ507)].

 

وسبق حديث حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: (ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت). [آخر الفرع الثالث من هذا المطلب].

 

وفي ترتيب ما شرعه الله تعالى في الآية الكريمة ((واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً)) من تأديب الزوج زوجه، ما يظهر حكمة الحكيم العليم، في علاج ما يطرأ من زوجته من عصيان ونشوز، لأن النساء أصناف، كل صنف منهن تناسبها مرتبة من المراتب التي ذكرت في الآية الكريمة.

 

فالمرتبة الأولى: هي مرتبة الموعظة، وهي الترغيب في ثواب الله إذا تراجعت عن عصيان زوجها وأطاعته، والترهيب بعقاب الله إذا أصرت على استمرارها في المعصية، وكذلك إنذارها بالعواقب الأسرية الوخيمة التي لا تكون في مصلحتها، ولا مصلحة زوجها وأولادها وأهلها، والمرأة العاقلة التي يتخذ معها زوجها هذا العلاج يرجى أن تسرع إلى التوبة من العصيان، والاستجابة للموعظة، وتندم على ما بدر منها، لأن الوعظ الصادر من الزوج، يعيد إليها عاطفة الحب والسكن، ويذكرها بالفضل الذي كان بينه وبينها.

 

المرتبة: الثانية هجر ها في المضجع، بأن يوليها في المبيت ظهره، ولا يعاشرها المعاشرة الحسنة التي كانت تلقاها منه، وهذه المرتبة يثقل على المرأة تحملها، ولا بد أن تحدث عندها التفكير في عواقب عصيانها، ويجعلها تثوب إلى رشدها، وتفيء إلى أمر الله في طاعة زوجها...

 

المرتبة الثالثة: هي مرتبة الضرب، وهذه المرتبة لا يحتاج إليها الزوج إلا مع صنف سيء الخلق من النساء، لا ينجع معها الترغيب في ثواب الله، ولا الترهيب من عقابه، ولا الحرص على مصلحتها ومصلحة أسرتها، ولم يردعها الهجر الذي يعد من أشد العقاب وقعا على نفس المرأة، فلم يبق أمام الزوج إلا أن يمسها بعقاب بدني شرعه الله، ليكون آخر وصفة علاجية لصلاح هذا الصنف من النساء، وضربها أقل مفسدة من طلاقها، فإذا لم يردعها هذا العقاب، لم تعد صالحة لأن تكون زوجة تبنى بها مع زوجها أسرة صالحة، وآخر الدواء الكي: "الطلاق"

وسبق أن الضرب المشروع يجب ألا يكون مبرحا، لأن المقصود منه التأديب، وليس النكال و التعذيب... حتى رأى بعض العلماء، أنه يضربها بمثل السواك ونحوه...

 

ويجب أن يعلم بأن ما يصدر من بعض الأزواج من الاعتداء على نسائهم بالضرب المبرح، سواء كان ذلك بسبب أو بدون سبب، لا يبيحه شرع الله، وأنه لا يصدر إلا من زوج ظالم سيء الخلق، فالأصل في الحياة الزوجية السكن والمودة والرحمة، فإذا فقدت هذه الأمور، وحل محلها العداوة والبغضاء والشحناء، ولم تنجع في إزالتها الأسباب المشروعة، فالواجب عمل ما شرعه الله، وهو التسريح بإحسان.

 

أما استغلال الزوج قوته، وضعف امرأته، وعدوانه عليها بغير حق مشروع، فهو دليل على عدم خوفه من الله تعالى الذي سيحاسبه على عدوانه،

 

  وليتأمل المسلم الآية الكريمة السابقة التي شرع الله تعالى فيها تأديب المرأة الناشز، كيف ختم الآية باسمين عظيمين من أسمائه ((عليا كبيرا)) يُذَكِّر الله تعالى بهما، الزوج الذي شرع له تأديب امرأته، بأنه إذا بغي عليها وظلمها، بسبب قوته وضعفها، فإن الله تعالى أقوى منه، وفي ذلك تهديد وزجر له عن الاعتداء. فالمخلوق مهما علا وتجبر فالله أقوى منه، قال تعالى: ((واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا)).النساء:34.

 

 

الفرع السابع

عدم إفشاء سرها

 

ومن حقوق المرأة أن لا يفشي الزوج سرها، ومما لا شك فيه أنه يطلع منها على ما لم يطلع عليه أقرب المقربين إليها، فلا يجوز أن يتخذ ذلك وسيلة لكشف أسرارها، وكذلك هي أيضا لا يجوز لها كشف سر زوجها فإن الحكم واحد، روى أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها). [مسلم (2/1060ـ1061)].

 

الفرع الثامن

أن يبقيها في عصمته بدون قَسْمٍ إذا طلبت منه ذلك

بسبب كرهه لها وأرادته طلاقها

 

إن الرجل قد يكره المرأة ولا يطيق الاستمرار معها، والمشروع إمساكها بالمعروف أو تسريحها بالمعروف، والإمساك بالمعروف مع الكراهة صعب، وقد يريد الزواج بغيرها لكبر سنها وعدم صلاحها للاستمتاع أو لمرض طرأ عليها ثم طال فأصبح مزمناً، أو لسوء خلق فيها أو غير ذلك من الأسباب، وقد تكون هي راغبة في بقاء عقدة نكاحها بيده، فتطلب منه إمساكها وتعفيه من القسم لها، فينبغي للرجل أن يقبل طلبها، لما في ذلك من تطييب خاطرها وعدم نسيان المعروف معها، ولا ضرر عليه في ذلك.

 

وقد نزل في مثل ذلك قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). [النساء:128].

 

وقد روت عائشة رضي الله عنها أن الآية الكريمة نزلت في مثل هذا، قالت: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا": قالت هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، يريد طلاقها ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، فأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي، فذلك قوله تعالى: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) [البخاري (6/153)].

 

وقد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينها صلحا والصلح خير) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، كأنه من قول ابن عباس" [الترمذي (5/249) وقال: هذا حديث حسن غريب].

 

قال القرطبي في تفسير الآية، بعد أن ذكر حديث الترمذي هذا: "روى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب، أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبراً وإما غيره، فأراد أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك، ونزلت: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) - إلى أن قال -: في هذه الآية من الفقه الرد على بعض الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها" [الجامع لأحكام القرآن (5/403ـ405)].

 

وذكر القرطبي صوراً عديدة مما يدخل في هذا الصلح، فراجعه إن شئت. [الجامع لأحكام القرآن (5/403ـ405)] وفي الآية الكريمة ذم الشح والحث على التقوى والإحسان من الجانبين.

 

الفرع التاسع

حفظ يمينه عن هجرها وعدم إتيانها

 

ولا ينبغي له أن يحلف على هجرها وعدم غشيانها، فإن فعل فعليه أن يعود إليها خلال أربعة أشهر، ولا يجوز أن يتجاوزها، فإن أصر على التجاوز فلها الحق في مطالبته بالطلاق، فإن طلق وإلا تولى أمر طلاقها الحاكم.

 

وقد نزل في هذا الحكم، وهو ما يسمى بالإيلاء، قوله سبحانه وتعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فان فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم). [البقرة:226ـ227].

 

والإيلاء هو الحلف، وذلك أن يحلف الزوج أن لا يقرب امرأته أو نساءه مدة معينة، فإذا حلف على مدة لا تزيد عن أربعة أشهر فلا إشكال، وإن حلف أن لا يقربها أكثر من أربعة أشهر أو مطلقا، فله أن ينتظر أربعة أشهر، ويجب عليه في نهايتها الرجوع إلى امرأته، فإن أصر على الاستمرار فإنه يلزمه الطلاق، إذ لا يجوز له أن يمسكها بلا معاشرة وقسم.

 

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله للآية الكريمة، وأورد في الباب ما يلي: "عن أنس ابن مالك، يقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائه، وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة له تسعا وعشرين، ثم نزل فقالوا: يا رسول لقد آليت شهرا، فقال: (الشهر تسع وعشرون). [البخاري (6/173ـ174) وراجع تفسير القرطبي للآية، وأقوال العلماء في تفاصيل أحكام الإيلاء (3/102)].

 

وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمي الله: "لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم على الطلاق، كما أمر الله عـز وجل..." وعنه: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق، ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". [المصدر السابق]. وبهذا تأمن المرأة من المضارة والحبس العاري عن المعاشرة الزوجية.

 

الفرع العاشر

عدم جواز مضارتها ليكرهها على الافتداء منه، إذا كان راغباً عنها.

 

إذا كره الرجل امرأته، ولم يعد يرغب في بقائها معه فإن عليه أن يطلقها، ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئا، لأن الكراهية صادرة منه، ولا يجوز له - كذلك - أن يضارها ويضايقها، حتى تطلب هي منه الطلاق، ليطلب منها رد الصداق أو أكثر منه أو أقل.

 

وفي هذا المعنى قال تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون). [البقرة: 229].

 

دلت الآية الكريمة على أن الزوجين إذا علما أنهما يقيمان حدود الله في العشرة بينهما، وأداء كل واحد منهما حق الآخر، فعليهما الاستمرار في حياتهما الزوجية والمعاشرة بالمعروف، وإن ظهر للزوج أنه لا يقيم حدود الله في العشرة الحسنة مع امرأته وأداء حقوقها عليه، فإن عليه أن يطلقها ويفارقها بإحسان، ولا يجوز له أن يضارها لتفتدي منه وهو الذي كرهها.

 

وإن علمت الزوجة أنها لا قدرة لها على إقامة حدود الله مع زوجها، أي لا تطيق البقاء معه مع القيام بحقوقه، فإن عليها أن تفتدي منه ليفارقها، لأن الكره جاء منها له.

 

قال القرطبي رحمه الله: "والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز، وأجمعوا على تحذير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها... - إلى أن قال -: قوله تعالى: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله). حرم الله تعالى في هذه الآية أن لا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه، حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ…" [الجامع لأحكام القرآن (3/137)]. 

 

 

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يقبل مالا افتدت به امرأته منه، لكراهتها البقاء معه وخوفها من الإثم بعدم إقامتها حدود الله في حقه.

كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما اعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) [البخاري (6/170)]. 

 

وبهذا تأمن المرأة من إكراهها على البقاء مع زوجها الذي تكرهه، كما يأمن هو من إكراهه على بقائه مع زوجته التي يكرهها، فإن له أن يطلقها متى شاء.

ولا يكرهان أو أحدهما على بقاء رابطة النكاح،  وهذا هو الحكم المناسب للفطرة والعيش باطمئنان، بخلاف ما في بعض الأديان من إيجاب بقاء هذه الرابطة، مع كراهة كل من الزوجين أو بعضهما للآخر، بحجة أنها رابطة مقدسة، لما في ذلك من العنت والمشقة، وما يترتب عليه من آثار سيئة، قد تصل إلى قتل أحد الزوجين الآخر، ليفتك من رابطة لا طاقة له بها.

 

فإن لم يظهر النشوز من أحدهما واختلفا، فإن الواجب على أهلهما أو على الحاكم، أن يبعثوا لهما حكما من أهل المرأة، وحكما من أهل الرجل، ممن يتوسم فيهما الصلاح والعدل وحب الإصلاح، ليقوما بالصلح بينهما، فإن استطاعا التوفيق بينهما، على أن يقوم كل منهما بما يجب عليه لصاحبه فذاك، وإلا حكما على من تبين لهما نشوزه من الآخر.

 

فإن كان النشوز من الزوج حكما عليه بالطلاق، وإن كان من المرأة حكما عليها أن تفتدي منه، كما قال تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا). [النساء:35، وراجع الجامع لأحكام القرآن (5/174)].

 

 

الفرع الحادي عشر

أن يطلقها لعدتها المشروعة إذا أراد طلاقها.

 

الطلاق من الأحكام المكروهة في شرع الله، لما فيه من انحلال عقدة النكاح الذي يحبه الله ورسوله، وهو - أي النكاح - ضرورة من ضرورات الحياة، وقد رغب الله تعالى فيه وحذر من العزوف عنه. [راجع الفصل الثالث حفظ النسل من كتابنا الإسلام وضرورات الحياة].

 

فالمقصود بالنكاح الاستدامة لتحقيق أهدافه، والطلاق مضاد لذلك، وقد وردت نصوص دالة على كراهته، منها حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أبغض الحلال إلى الله عـز وجل الطلاق). [أبو داود (2/631ـ632) وابن ماجة (1/650) والحديث، وإن كان ضعيفاً كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (6/248) والألباني في إرواء الغليل (7/106) فإن مقصود النكاح يؤيد معناه].

 

والمقصود هنا بيان أن من عزم على الطلاق، فالواجب أن يطلق امرأته في الوقت الذي حدده الشارع، ليكون بداية عدتها من زوجها، وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه، أو أن تكون المرأة حاملاً قد استبان حملها، لأنه في الأول يعرف براءة رحمها، ويحسب الطهر الذي طلقها فيه من عدتها، فلا تظلم بطول مدة العدة، وفي الثاني تكون العدة معروفة بوضع الحمل، وقد عرف ما اشتمل عليه رحمها.

 

فإذا طلقها وهي حائض طالت مدتها، لأن وقت الحيض الذي طلقها فيه لا يحسب من عدتها، لأنها تعتد بالأطهار وليس بالحيض  [على ما رجحه كثير من العلماء]. فيحسب الطهر الذي يلي تلك الحيضة، كما أنه إذا طلقها في طهر جامعها فيه، لم تعلم براءة رحمها منه.

 

لذلك أمر الله تعالى أن تطلق المرأة لعدتها، وأمر بحفظ عدتها، لما في ذلك من حفظ حق الزوج وحق المرأة معاً، قال تعالى: ((يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)).

 

قال القرطبي رحمه الله: "لعدتهن ": أي في عدتهن، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه… - إلى أن قال -: قوله تعالى: ((وأحصوا العدة)): معناه احفظوها، أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق….  [الطلاق:1]. 

 

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من طلق امرأته وهي حائض أن يراجعها، ثم يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما في حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها، حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).

 

ولو طلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها، جاز عند بعض العلماء، ولعل من الحكمة في الأمر بإمساكها إلى الطهر الثاني طول بقائها عند زوجها، لعله يذهب عنه كرهها ويرغب في بقائها، فلا يطلقها. [الجامع لأحكام القرآن (18/153)].

 

الفرع الثاني عشر

وجوب الإنفاق والسكنى لها إذا كان طلاقها رجعيا.

 

المطلقة التي يحق لزوجها أن يراجعها قبل انقضاء عدتها، لا تزال زوجة له، أي لم يحصل الفراق الشرعي بينهما، لذلك يجب على زوجها أن ينفق عليها ويسكنها حتى تنتهي عدتها.

 

كما قال سبحانه وتعالى: ((يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن  بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)). [الطلاق: 1ـ3].

 

فقد أمر الله سبحانه أن تطلق المرأة لعدتها، أي في أول المدة التي تصلح لعدتها، كما مضى قريباً، وأمر بإحصاء العدة، أي ضبطها وحفظها ليعلم الزوج والزوجة حقوقهما وواجباتهما، فالزوج يعلم الوقت الذي له فيه حق الرجعة، ويعلم الوقت الذي لا تلزمه فيه النفقة والسكنى لها، ويعلم ما يلحقه منها من نسب، وهي تشترك معه في ذلك كله، وتعلم الوقت الذي يحق لها فيه أن تستعد لخاطب غير زوجها الذي طلقها. [راجع الجامع لأحكام القرآن (18/154)].

 

فقد شرع الله للمرأة المطلقة الرجعية، أن ينفق عليها زوجها، حتى تبين منه بانتهاء عدتها، فإذا انتهت عدتها جعل الله لها مخرجاً ورزقها من حيث لا تحتسب.

 

 أما إذا كانت المطلقة ليست رجعية، وهي التي تبين منه بمجرد طلاقه إياها، كالتي لم يدخل بها وهي لا عدة لها، والتي استكملت ثلاث تطليقات، أو طلقت ثلاثاً دفعة واحدة عند من يعتبر الثلاث في وقت واحد مبينة للمرأة، فلا نفقة لها ولا سكنى، إلا إذا كانت حاملاً، كما قال تعالى: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن). [الطلاق:6].

 

وهذا ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما وأحمد بن حنبل، وهو الذي روته فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: "إن أبا عمر بن حفص طلقها البتة، وفي رواية: ثلاثاً، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك عليه نفقة) فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك…

 

وفي رواية: (لا نفقة لك ولا سكنى) وقد خالفها في ذلك عمر رضي الله عنه، فقال: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة".

 

قال الله عـز وجل: ((لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)) وكذلك خالفها مروان، فقال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، قال الله عـز وجل: ((لا تخرجوهن من بيوتهن)) الآية.

 

قالت – أي فاطمة رداً على من خالفها -: هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث، تشير بذلك إلى قوله تعالى: ((لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)) أي في مراجعة الزوج المرأة، وإذا لم يكن له حق المراجعة، فأي أمر يحدث؟ وكذلك أنكرت عليها عائشة، رضي الله عنها هذا الحديث، وذهب إلى ما ذهب إليه عمر وعائشة ومروان، أبو حنيفة رحمه الله، فرأى لها السكنى والنفقة، وذهب مالك والشافعي إلى أن لها السكنى دون النفقة.

 

ولعل في قوله تعالى: ((فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف)) ما يؤيد ما روته فاطمة بنت قيس. ورجح ابن القيم رحمه الله أنها لا سكنى لها ولا نفقة، وأطال الرد على من خالف فاطمة بنت قيس في هذا.

[انظر قصة فاطمة بنت قيس في البخاري (6/183) ومسلم (2/1114 وما بعدها) وراجع أقوال العلماء ووجه دليل كل منهم، في شرح النووي على مسلم (10/95) وفتح الباري (9/477ـ481) والمغني لابن قدامة (8/232) وزاد المعاد (5/522ـ542)].

 

 

المطلب الرابع

في حقوق المرأة بعد الفراق

وفي هذا المطلب ثلاثة فروع:

 

الفرع الأول:حقها في رضاع ولدها منه.

 

لأنها أحن وأرق على ولدها من غيرها، ويجب أن يعطيها أجراً على رضاعه، كما ينبغي أن يحسن إليها ولا يبخل عليها بمزيد من الفضل، مراعاة للعشرة السابقة من جهة، ولقيامها برضاع ولده ورعايته من جهة.

 

قال تعالى في سياق عدة المطلقات: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)). [الطلاق:6].

قال القرطبي، رحمه الله: قوله تعالى: ((فإن أرضعن لكم)) - يعني المطلقات - أولادكم منهن، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن، وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية… [الجامع لأحكام القرآن (18/168)].

 

وقال تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير)). [البقرة:233].

 

وهذه الآية شاملة للوالدات اللاتي ما زلن في عصمة الزوج، والمطلقات.

قال الخرقي رحمه الله: "وعلى الأب أن يسترضع لولده، إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فتكون أحق به من غيرها، سواء كانت في حبال الزوج أم مطلقة". [المغني لابن قدامة (8/250)].

 

الفرع الثاني:

حقها في حضانة ولدها ما لم تتزوج.

 

إن الخلاف الذي ينشأ بين الزوجين، يجر وراءه مشكلات أسرية تهز الأسرة هزاً، وأكثر من يتضرر بذلك بعد الزوجين أولادهما كباراً وصغاراً، وإن كان تضرر الصغار أشد، وإذا اشتد الخلاف بين الزوجين وبلغ مبلغه لجآ إلى الفراق الذي هو آخر الدواء.

 

وعندئذ يتشاكسان في الأولاد: الأب يريد إبقاءهم عنده بالقوة، إما حرصاً على مصلحتهم، لاعتقاده أن الأم غير صالحة لتربيتهم، وقد يكون محقاً، وقد يكون غير محق، وإما لإرادته النكاية بها والإضرار، والأم تستصرخ وتستغيث وقد تلجأ إلى وليها لينجدها.

 

وهنا ينتشر الشقاق بين أسرتي الأب والأم، فما الحكم في هذه المسألة التي يكون مرجعها القاضي في نهاية المطاف؟

إن الأطفال الصغار في حاجة إلى الرعاية بالغذاء والتنظيف والتمريض، وفي حاجة إلى الحنو والحنان والحب والعاطفة، ولا شك أن هذه الأمور لا توجد مكتملة إلا عند الأم، ثم عند من هي أقرب إليها من النساء، وأن الأب مهما بلغ حبه وحنانه واجتهاده في مصالح ولده لا يبلغ ما يجده الولد عند أمه.

 

وللأم المطلقة التي تطالب بكفالة ولدها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تكون خالية، ليست متزوجة، وهي في هذه الحالة أحق به، بنص رسول الله، صلى الله عليه وسلم المنطوق، كما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عبد الله بن عمر - أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي". [أبو داود (2/707ـ708) وأحمد (2/182)، وقال شيخنا الألباني: "وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وإنما هو حسن فقط، للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" إرواء الغليل (7/244)].

 

والذي يظهر أنه لا خلاف في هذا الحكم، إذا كانت الأم صالحة للتربية.

قال ابن قدامة - بعد أن ذكر بعض العلماء الذين ذهبوا إلى ما ذكر في الحديث -:

"ولا نعلم من خالفهم". [المغني (8/238)].

 

ويروى أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه طلق زوجة له من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر، فجاء عمر إلى قباء، فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: "ابني " وقالت المرأة: "ابني" فقال أبو بكر الصديق: خل بينها وبينه، فما راجعه عمر في الكلام.

 

ويذكر أن أبا بكر قال لعمر، رضي الله عنهما: "ريحها وشمها ولطفها خير له منك". [انظر جامع الأصول (3/614)].

 

الحالة الثانية: أن تكون قد تزوجت من له قرابة بالزوج الأول وهو - أي زوجها السابق راض للأم بكفالة ابنها.

 

والذي يفهم من حديث عمرو بن شعيب السابق أن الأم في هذه الحالة ليست بأحق به، بل الأب أحق به منها، لأنها نكحت، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جعل الأم أحق ما لم تنكح، ولكن جاء في حديث البراء، رضي الله عنه ما يعارض هذا المفهوم، وفيه: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها على، وقال لفاطمة عليها السلام: "دونك ابنة عمك احمليها" فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: (الخالة بمنزلة الأم). [المغني (8/238ـ239)].

 

 

فقد اختصم في الجارية ابنا عم أبيها، وهما بمنزلة الأب، لعدم وجود من يطالب بها ممن هو أقرب منهما، وكان تحت أحدهما خالة الجارية، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقوله في الخالة إنها (بمنزلة الأم ) وهي متزوجة، دليل على أنها أحق بها من أبيها لو كان حياً، إذا كان زوج الأم قريبا للولد، راضياً لها بحضانة ابنها.

 

قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضونة لا تسقط حضانتها، إذا كانت المحضونة أنثى، أخذاً بظاهر الحديث، قاله أحمد، وعنه: لا فرق بين الأنثى والذكر، ولا يشترط كونه محرماً، لكن يشترط أن يكون مأمونا، وأن الصغيرة لا تشتهى، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي..." [[7/507]

 

فالذي يظهر رجحانه أنه إذا تزوجت الحاضنة من هو من أقارب الولد المحضون، ورضي لها زوجها بحضانته، أن حضانتها لا تسقط، بشرط تحقق مصلحة المحضون.

 

الحالة الثالثة: أن تتزوج بأجنبي. والذي يدل عليه حديث عمرو بن شعيب أن كفالتها تسقط، وتنتقل إلى الأب أو من هو أولى به بعد الأم. [فتح الباري (7/507) وراجع المغني لابن قدامة (8/243ـ244) ونيل الأوطار (6/368)].

 

وعلى هذا جمهور العلماء، ولا يعلم فيه خلاف إلا ما حكي عن الحسن أن حقها في الكفالة لا يسقط بالتزويج، وهو قول شاذ إن صح عنه، وما نقل في رواية عن أحمد أنها لا تسقط حضانتها بالنسبة للجارية وتسقط بالنسبة للصبي، وهي رواية مرجوحة. [راجع لمعرفة الأولى: زاد المعاد (5/438وما بعدها..].

 

قال ابن القيم رحمه الله: "والذي دل عليه هذا الحكم النبوي أن الأم أحق بالطفل ما لم يوجد منها النكاح، فإذا نكحت زال ذلك الاستحقاق، وانتقل الحق إلى غيرها، فأما إذا طلبه من له الحق وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع أجرى الحاكم عليه، وإن أسقط حقه، أو لم يطالب به بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة مستفادة من غير هذا الحديث – يعني حديث عمرو بن شعيب-  [راجع المغني (8/243)، وزاد المعاد (5/454) وما بعدها..].

 

هذا بالنسبة للولد الصغير الذي لم يميز، أما المميز، وهو في الغالب من بلغ سبعاً، فقد ورد ما يدل أنه يخير بين أمه وبين أبيه، فأيهما اختار كان أحق بحضانته، فإن لم يختر أحدهما أجريت بينهما القرعة، فيكون مع من كانت القرعة بجانبه.

 

يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، جاءته امرأة فارسية معها ابن لها، فادعياه وقد طلقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة، ورطنت له بالفارسية: زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال أبو هريرة: استهما عليه، ورطن لها بذلك، فجاء زوجها، فقال: من يحاقني في ولدي؟ فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استهما عليه" فقال: من يحاقني في ولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد من شئت فأخذ أمه فانطلقت به". [أبو داود (2/708ـ709) وأورده الترمذي (3/631) مختصراً، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح].

 

وقال الترمذي – بعد أن ساق الحديث -: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، قالوا: يخير الغلام بين أبويه، إذا وقعت بينهما المنازعة في الولد، وهو قول أحمد وإسحاق، وقالا: ما كان الولد صغيراً فالأم أحق به، فإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه". 

 

وسرد ابن القيم رحمه الله ما نقل عن السلف مما يؤيد هذا، فنقل عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي هريرة رضي الله عنهم القول بالتخيير، وقال: "فهذا ما ظفرت به عن الصحابة" [زاد المعاد (5/464ـ 466)].

 

ثم ذكر أقوال الأئمة في ذلك، وذكر عن شيخه ابن تيمية رحمه الله أن قواعد الإسلام تقضي بأن الاستهام أو التخيير، إنما يكونان عندما لا يكون أحد الأبوين مفسداً لأخلاق الصبي، فإذا كان أحدهما مفسداً لأخلاقه فلا تخيير.

 

قال رحمه الله: "وسمعت شيخنا، رحمه الله يقول: تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام، فخيره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه: سله لأي شيء يختار أباه؟ فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم، قال: أنت أحق به".

 

قال شيخنا: "وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب، إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان"

 

قال شيخنا: "وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء، سواء كان الوارث فاسقا أم صالحا، بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به وفعله بحسب الإمكان" قال: "فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة هنا للأم قطعاً، قال: ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقا،ً والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً، بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن" [زاد المعاد (5/475)].

 

 

وخلاصة القول: أنه يقرع بين الأبوين، أو يخير الولد بينهما عندما يكونان متقاربين في مصلحة الولد، أما إذا كان أحدهما مصلحاً له والآخر مفسداً، فإن الواجب تقديم المصلح على المفسد.

 

وقد فرق بين هذا وبين عدم اشتراط عدالة الحاضن - أي أن العدالة ليست شرطاً، ولكن الإصلاح شرط - فإن اشتراط العدالة فيه ضياع لأطفال العالم.

كما قال ابن القيم رحمه الله، "لأن أكثر الناس بعيدون عنها، ولكن كثيراً من الفساق لا يحاولون إفساد محضونيهم، وإنما يرغبون في صلاح المحضون، ولو كانوا هم أنفسهم فساقاً. [راجع زاد المعاد (5/461)].

 

الفرع الثالث:

تمتيع المطلقة التي لم يدخل بها أو لم يسم لها صداق

 

قال تعالى: ((لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين)). [البقرة: 236]

 

فالمطلقة التي لم يسم لها صداق، ولم يدخل بها الزوج، لها حق التمتيع بحسب قدرة الزوج، والظاهر أن الذي يحدد به المقدار هو العرف، لقوله تعالى: (متاعا بالمعروف) كما أن الظاهر من الأمر الوجوب، وإن قال بعضهم: إنه للندب، ورجح كونه للوجوب القرطبي في تفسيره. [تفسير الآية سورة البقرة: 236].

 

ولعل المطلع على هذه الحقوق التي شرعها الله للمرأة، قبل الزواج وأثناءه، وبعد الفراق، يتضح له أن في تطبيقها كما أراد الله، يجعل المرأة في غاية من الأمن والسعادة للعناية الربانية بها، وأن نساء الأمم الكافرة ليتمنين أن يحصلن على شيء يسير من تلك الحقوق، التي تنالها المرأة المسلمة بتنظيم إلهي وأمر شرعي، إن لم يعطها من لها عليه الحق، أعطاها القائم على تنفيذ شرع الله.

 

وهذه الأمور التي ذكرت هنا هي أصول لحقوق المرأة بمنزلة الفهرس العام، أما جزئيات تلك الحقوق وتفريعاتها فقد احتوتها أسفار ومجلدات لعلماء الإسلام. وبتحقيق، هذه المطالب وما تفرع عنها يتحقق للركن الثاني من أركان الأسرة، وهي الزوجة، الأمن وعلى الركنين تقوم الأسرة الآمنة المطمئنة.

 

المبحث الرابع

حقوق الأولاد

 

وفيه تمهيد وثلاثة عشر مطلباً:

المطلب الأول: السعي في تحصينهم من الشيطان قبل وجودهم.

المطلب الثاني: العناية بهم في أرحام الأمهات

المطلب الثالث: إظهار السرور بهم عند ولادتهم

المطلب الرابع: ذكر الله في آذانهم عند ولادتهم

المطلب الخامس: إشعارهم بالعناية بهم بغذائهم وتمرينهم عليه

المطلب السادس: اختيار الأسماء الحسنة لهم

المطلب السابع: إظهار شكر الله على وجودهم بالذبح عنهم والاحتفاء بهم.

المطلب الثامن: العناية بتنظيفهم وإزالة الأذى عنهم

المطلب التاسع: وجوب إرضاعهم حتى يستغنوا عن اللبن وكفالتهم حق يكبروا

المطلب العاشر: تعليمهم العلم النافع وتربيتهم على العمل الصالح

المطلب الحادي عشر: مراعاة أحوالهم واستعداداتهم وتوجيههم إلى ما يرغبون

المطلب الثاني عشر: تمرينهم على الحركة والعمل وتجنيبهم البطالة والكسل

المطلب الثالث عشر: إعفافهم بالنكاح عند الحاجة والمقدرة

 

تمهيد

 

 إن حفظ النسل ضرورة من الضرورات التي اتفقت عليها الأمم، وعنيت بها الشريعة الإسلامية عناية فائقة، فرغبت في النكاح، وحذرت من الإعراض عنه والزهد فيه، وأحب الرسول صلى الله عليه وسلم تكثير النسل، وحرم الإجهاض وقتل الأولاد، وحددت عقوبة في الاعتداء على الأجنة في أرحام الأمهات.

 

وبين ما يعود على الآباء من الخير من أولادهم في الدنيا والآخرة، وذلك كله وغيره دليل على مدى الاهتمام بالأولاد ومحبتهم، والاحتفاء بهم، ويترتب على ذلك العناية بهم روحياً وعقلياً وبدنياً.

 

وقد فصل ذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة، كما فصل في كتب الفقه في أبواب خاصة، وأفردت له مؤلفات في القديم والحديث. [راجع الفصل الثالث من كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة].

 

والمقصود هنا الإشارة إجمالاً إلى حقوق الأولاد، التي يكونون بها أعضاء آمنين مأمونين يستقيم بهم كيان الأسرة وتقوى آصرتها، ويكونون لبنات متماسكة في بناء الأمة الإسلامية الكبيرة.

 

 

المطلب الأول:

السعي في تحصينهم من الشيطان قبل ولادتهم.

 

إن عداوة إبليس لابن آدم ممتدة، من حين حسد أبا البشر آدم عليه السلام، وتسبب في إخراجه هو وزوجه حواء من الجنة، وهي مستمرة إلى أن تقوم الساعة، ولا يجد أي منفذ يلج منه لإغواء الإنسان إلا ولجه.

 

لذلك أمر الله سبحانه وتعالى الناس بالحذر منه والالتجاء إلى الله من خطراته، قال تعالى عن إصرار الشيطان على إغواء الإنسان بكل طريق: ((قال فأنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين، قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين). [الأعراف:14ـ17].

 

وأخبر سبحانه وتعالى أن الشيطان لا سلطان له إلا على من اتبعه ولم يعتصم بالله منه، أما من اعتصم بالله منه، فإن الله يحصنه منه، قال تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون). [النحل:98ـ100، وراجع خطر الشيطان على الإنسان ووسائل مجاهدته في كتابنا: الجهاد في سبيل الله: حقيقته وغايته (1/392ـ421)].

 

ومن فضل الله تعالى على المسلم أن بين له وسائل الاعتصام من الشيطان في الكتاب والسنة، في كل مجال من مجالات حياته: في مأكله ومشربه، ونومه ويقظته، ودخوله وخروجه وكل تصرفاته، وأهم وسيلة لوقاية المؤمن من الشيطان، هي ذكر الله تعالى، كما قال تعالى: ((إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)) [الأعراف(201)] والمراد بالتذكر أن يذكر أن الله تعالى معه مطلع على كل ما يأتي ويذر، ويرغب في عفوه ومغفرته وهدايته وثوابه، ويرهب جبروته وقهره وعقابه...

 

ومن السباب التي يتخذها المؤمن لوقاية ذريته من الشيطان، ما أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إليه الرجل إذا أراد أن يجامع أهله، أن يسمي الله ويستعيذ بالله من الشيطان، ويطلب من الله أن لا يجعل له سبيلاً إلى ما يرزقه الله من ولد في ذلك الجماع، وهي عناية من الله تعالى بالإنسان قبل خلقه أرشد إليها أباه حتى يُخلَق مولوداً سوياً سليماً من آفات الجسد وآفات القلب، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله، وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولداً لم يضره الشيطان. [البخاري (4/91) ومسلم (2/1058)].

 

فعلى المسلم أن يبدأ في السعي في تحصين ولده من هذا الوقت المبكر، الذي لا يدري أيرزق فيه ولداً أم لا، وهو دليل على أن العناية بالولد من قبل الوالدين تسبق وجوده.

 

 

المطلب الثاني:

العناية بالأولاد في أرحام أمهاتهم.

 

إن المرأة التي يطلقها زوجها ثلاثاً تبين منه، وتصبح أجنبية عنه، لا تجب لها عليه نفقة ولا سكنى، على القول الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله، إلا إذا كانت حاملاً فإنها تجب لها النفقة بالإجماع. [راجع المغني لابن قدامة (8/232ـ233)].

قال تعالى: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)). [الطلاق:6].

وإنما وجبت على الزوج النفقة للحامل التي بانت منه من أجل ولده الذي لا سبيل إلى الإنفاق عليه إلا عن طريق الإنفاق على أمه التي يتغذى منها.

 

قال ابن قدامة، رحمه الله: "ولأن الحمل ولده، فيلزمه الإنفاق عليه، ولا يمكنه النفقة عليه إلا بالإنفاق عليها، فوجب كما وجبت أجرة الرضاع…" [المغني، كما مضى، وراجع الجامع لأحكام القرآن (18/166ـ167)]. هذا في العناية به من حيث النفقة.

 

ومن العناية به وقايته مما قد يؤثر على صحته، وهو في رحم أمه، ولذا أبيح للحامل إذا خافت على جنينها أن تفطر في رمضان، كالمريض والمسافر، وقد أعفاها بعض العلماء من الكفارة دون المرضع، قالوا: "لأن الحمل متصل بالحامل فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها". أما المرضع فـ"يمكنها أن تسترضع لولدها" [المغني (3/149ـ150)]. وأدخلوها في قوله تعالى: ((وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)) [البقرة:184].

 

وقال ابن قدامة، رحمه الله، مؤيداً رأي من رأى أن عليها الكفارة كغيرها من ذوي الأعذار: "ولنا قوله تعالى: ((وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين))، وهما - أي الحامل والمرضع - داخلتان في عموم الآية. قال ابن عباس: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا" رواه أبو داود وروى ذلك عن ابن عمر، ولا مخالف لهما من الصحابة... ".  [المغني (6/150) والجامع لأحكام القرآن (2/288)].

 

ومن العناية بالطفل وهو في رحم أمه تأجيل العقوبة التي تستحقها إذا كان ذلك قد يؤثر على الولد أو تحقق أن العقوبة ستقضي عليه. فقد روى عمران بن حصين، رضي الله عنه، أن امرأة من جهينة، أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهي – حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله أصبت حداً، فأقمه علي، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: (أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها…).  [مسلم (3/1334)].

 

وفي حديث آخر- في قصة الغامدية التي اعترفت بالزنى، وطلبت منه أن يقيم عليها الحد -قال لها: (فاذهبي حتى تلدي) فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه) فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها… ".  [مسلم (3/1323) وراجع كتاب: الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور، ص165ـ214ـ232].

 

المطلب الثالث:

طلبهم وإظهار السرور بهم.

 

إن الأولاد نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، يهبها -كغيرها من النعم - لمن يشاء ويمسكها عمن يشاء، ولولا إرادته تعالى وجُودُه، لما رُزق ذلك أحد، فإن الأسباب لا تنشئ مسبباتها استقلالا.

قال تعالى: ((لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً، ويجعل من يشاء عقيماً، إنه عليم قدير)). [الشورى:49ـ50].

 

ولما كان الأولاد من نعم الله التي تسر الوالدين، بشر بهم رسلُ الله من الملائكة رسلَ الله من البشر، قال تعالى: ((ولقد جاءت رسلنا إبراهيم قالوا سلاماً، قال سلام، فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، قالت يا ويلتا ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد)). [هود:69ـ73].

 

وقال تعالى: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً، قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون، قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين، قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون). [الحجر: 51ـ56].

 

واستغاث نبي الله زكريا عليه السلام، أن يرزقه من يرثه فبشره الله بغلام، كما قال تعالى: ((قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا، يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا، قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا)). [مريم: 4ـ9].

 

تأمل كيف يتطلع عباد الله الصالحون من الأنبياء والرسل وأهلوهم إلى نعمة الأولاد، وكيف ينزل رسل الله من الملائكة بالتبشير بهم ويسمي الله بعضهم من عنده: ((اسمه يحيى)).

 

ومن هنا كان الاستبشار بالولد والتبشير به من السنن الإلهية، ولا زال الناس - إلا من فسدت فطرهم - يستبشرون بالأولاد ويسرون بهم،والتبشير إنما يكون بما يسر، فمن حق الولد أن يسر به أبواه وأسرته، فهو ضيف عزيز جدير بالاحتفاء والترحيب، وفرق بعيد بين ضيف يسر به ويحتفى به، وضيف يحس أهل الدار أنه ثقيل عليهم مكروه عندهم، يتمنون عدم نزوله بهم، فإذا نزل تمنوا رحيله عنهم.

 

ولهذا ذم الله تعالى من تبرم من الأنثى واستثقلها، لأنه تعالى هو الذي وهبها، كما وهب الذكر، والحياة لا تستمر إلا بالذكر والأنثى معاً، كما سبق في قوله سبحانه وتعالى: ((يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما)). [سبقت قريباً في هذا المطلب].

 

قال تعالى: ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون)). [النحل: 58،59].

 

قال ابن القيم رحمه الله: "فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تعرضا لمقته، أن يتسخط ما وهبه، وبدأ سبحانه بذكر الإناث فقيل جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن.

وقيل - وهو أحسن -:إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان، فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان.

 

وعندي وجه آخر، وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية في الذكر، وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث، وعرف الذكور؟ فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنويه، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم. ثم لما ذكر الصنفين معا، قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد من ذلك.

 

 والمقصود أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية، الذين ذمهم الله تعالى في قوله: ((وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون)) [النحل 58،59]

وقال ((وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم)) [الزخرف 17 تحفة المودود في أحكام المولود صفحة:20 -21]

 

ومن دعاء عباد الرحمن الذين أثنى الله عليهم بعدة صفات: ((والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)) [الفرقان:74]. فإذا كان واهب الولد هو الله إنعاما على أبويه به، وإذا كان رسل الله في السماء يبشرون به رسله في الأرض فيفرحون ويستبشرون، وإذا كان عباد الله الصالحون يتطلعون إلى أن يهب الله لهم الأولاد والذرية ويدعون بذلك، وإذا كان لا يكتئب من بعض الأولاد - وهن الإناث - إلا أهل الجاهلية قديماً وحديثاً، فإن هذا كله يثبت انشراح الصدور وابتهاجها وسرورها، عند أولياء الله المؤمنين بما يهب لهم من الأولاد نعمة منه وتفضلا.

وعلى هذا فإن الولد الجديد يولد في أمن وطمأنينة، لأنه يقدم على أسرته وهم به مسرورون مستبشرون، فيعنَوْنَ به غاية العناية.

 

المطلب الرابع

ذكر الله في آذانهم عند ولادتهم.

 

شرع الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكون أول صوت يقرع آذان الأولاد عند ولادتهم، هو ذكر الله الذي يغيظ عدو الله إبليس ويحصنهم منه، ويطمئنهم أن الذي خلقهم في أرحام أمهاتهم وحفظهم فيها بالغذاء وغيره وهو الله تعالى، هو معهم يرعاهم ويحفظهم، وهو أكبر من كل شيء وهو الإله الحق الذي لا يعبد سواه.

 

فالسنة أن يؤذن في آذانهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن بنته الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فقد روى أبو رافع رضي الله عنه، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة" [أبو داود (5/333) أحمد (6/9) والترمذي 4/97) وقال: هذا حديث حسن صحيح].

 

قال ابن القيم، رحمه الله: "وسر التأذين، والله أعلم، أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته [أي كلمات الأذان] المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها.

 

وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد، فيقارنه للمحنة التي قدرها وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به. وفيه معنى آخر، وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دين الإسلام وإلى عبادته، سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها، سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من  الحكم) [تحفة المودود في أحكام المولود ص16].

 

قلت: وقد صح أن الشيطان يهرب من الأذان، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضِيَ النداء أقبل، حتى إذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: "اذكر كذا، اذكر كذا" لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى) [البخاري (1/151) ومسلم (1/291)].

 

وقد مضى أنه يشرع للرجل إذا أتى أهله، أن يذكر الله ويدعوه، ليجنبهما الشيطان، ويجنب الشيطان ما رزقهما، وأن ذلك لا يضره أبداً. [راجع المطلب الأول من هذا المبحث].

 

المطلب الخامس

إشعارهم باستمرار العناية بغذائهم وتمرينهم عليه

 

إن الولد لما كان في رحم أمه، كان يأتيه غذاؤه في دمائها عن طريق الحبل السري، وما كان في حاجة إلى شيء يدخل في جوفه من فمه، وإذا خرج من رحم أمه انقطع عنه هذا الطريق السهل المنظم بالتنظيم الدقيق بقدرة خالقه، فأصبح في حاجة إلى وسيلة أخرى غير الحبل السري، الذي يقطع من سرته فور خروجه من رحم أمه.

 

والوسيلة الجديدة هي عن طريق فمه، ولهذا يتحول غذاؤه إلى ثديي أمه اللذين هيأهما الله له تهيئة تناسب مصهما بفمه.

وليس المقصود هنا بيان هذا الأمر، وإنما المقصود ما شرع الله تعالى بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم من تحنيك الطفل عند ولادته بشيء من التمر بعد مضغه وترطيبه، ولعل في ذلك -مع كونه سنة – ما يطمئن الطفل ويجعله آمنا على استمرار غذائه، والعناية به، وبخاصة تحنيكه بالتمر الذي ترتفع فيه نسبة الحلاوة التي يتلذذ بها الطفل، وفيه كذلك تمرين له على استعمال وسيلة غذائه الجديدة، وهي المص بالفم ليألفها.

 

روت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها حملت بعبد الله ابن الزبير بمكة، قالت: فخرجت وأنا متم، فأتيت المدينة فنزلت قباء، فولدت -بقباء، ثم أتيت به رسول الله رسوله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه، ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له وبرَّك عليه. [البخاري (6/216) ومسلم (3/1690)].

وكذلك حنك صلى الله عليه وسلم غلاماً لأبي طلحة، وسماه عبد الله  [البخاري (6/216) ومسلم (3/1689)].

 

قال الحافظ بن حجر، رحمه الله: "والتحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي، ودَلْك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه) [الفتح (9/588)].

 

 

المطلب السادس

اختيار الاسم الحسن له

 

إن اللفظ الحسن ترتاح له النفس ويستسيغه السمع، واللفظ السيئ لا يحب الإنسان أن يطرق سمعه ولا أن ينطق به، وإن الاسم الذي يختاره أبو المولود وأسرته له يلتصق به، ويصبح علماً عليه، وقد يصعب تغييره في كبره.

 

فإن كان الاسم حسناً محبباً، سر به المسمى عند كبره وأحب أن يدعى به، وسر به غيره – أيضا - ممن يناديه به أو يسمعه، وإن كان قبيحاً ساءه سماعه حين يدعى به، وساء من يدعوه ومن يسمع النداء به، والمسمى لا ذنب له في ذلك، لأنه لم يختره لنفسه، لذلك كان المشروع أن يختار له أهله الاسم الحسن الذي يسره ويسر غيره، وقد ظهر ذلك في عناية الله بتسمية بعض أنبيائه، وفي اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسمية بعض الأطفال عند ولادتهم، أو تغيير بعض الأسماء المكروهة.

 

قال تعالى لزكريا عليه السلام: ((إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا)) [راجع المطلب الثالث من هذا المبحث].

وسمى الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم "أحمد" وبشر به عيسى عليه السلام بهذا الاسم، كما قال تعالى: ((وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقٌ لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)) [الصف:6].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء إليه بالمولود، فيحنكه ويدعو له ويسميه ويسأل عن اسمه، فإن رآه حسناً تركه، وإن لم يعجبه سماه، كما كان يغير أسماء الكبار إذا كانت قبيحة.

فقد ولدت أسماء بنت أبي بكر، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنها وحنكه، وصلى عليه (أي دعا له) وسماه عبد الله  [راجع صحيح مسلم (3/1690) وما بعدها..].

وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم بابن أبي طلحة رضي الله عنهما، حنكه وسماه عبد الله  [سبق قريباً في آخر المطلب الخامس].

 

وجاء أبو أسيد رضي الله عنه بمولود له إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما اسمه؟" قال: فلان، قال: "ولكن اسمه المنذر" [البخاري (7/117) ومسلم (3/1692)].

 

وقدم جد سعيد بن المسيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ما اسمك؟" قال: اسمي حَزْن، قال: (بل أنت سهل) قال: ما أنا بمغير اسماً سمَّانيه أبي، قال ابن المسيب: فما زالت فينا الحزونة بعد" [البخاري (7/117) (و) وغير اسم "عاصية" إلى جميلة" [راجع صحيح مسلم (3/1686)].

 

وأمر بعض أصحابه أن يسمي ابنه عبد الرحمن  [البخاري (7/116ـ117) ومسلم (3/1684)]. وروى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن " [مسلم (3/1682) والترمذي (5/132)].

 

وروى أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم"  [أبو داود (5/236) وحسنه ابن القيم في تحفة المودود في أحكام المولود ص66 وقد بسط في هذا الكتاب الكلام في هذا الباب فراجعه في ص 66ـ87].

 

 

المطلب السابع:

إظهار شكر الله على هبتهم بالذبح عنهم والاحتفاء بهم

 

جرت عادة الناس أن يحتفوا بالضيف، وكلما كان أكرم عندهم وأحب إليهم، زادوا في إكرامه، وهي سنة قديمة، ظهرت في كرم إبراهيم عليه السلام حين قدَّم عجله المحنوذ السمين لضيفه.

كما قال تعالى: ((هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما، قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهلة فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون)) [الذاريات: 24ـ27].

وقال تعالى: ((ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام، فما لبث أن جاء بعجل حنيذ)) [هود:69].

 

وجاء في نصوص كثيرة، الحث على إكرام الضيف، بل منها ما دل على وجوب الضيافة، وما زال الناس يثنون على الكريم المضياف  [راجع كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة، الفصل الخامس  ـ المبحث السابع: المثال الخامس: حق الضيافة].

 

وإن هذا الطفل الذي مر برحلة طويلة في عالم الرحم، في ظلمات ثلاث لا يرى نور الشمس، ولا يرى أمه، وهو في بطنها، ولا يرى أحد من أسرته، وهم كذلك يعيش بينهم ويأكل من طعامهم، ويشرب من شرابهم، وهم لا يرونه، لمدة تسعة أشهر في الغالب وقد تزيد وقد تنقص.

 

إن مجيئه لينضم إلى الأسرة التي طال انتظارها له، لأحق بالإكرام من غيره من الضيف الزائر ين الذين قد ألفوا الحياة وألفتهم، لأنه جاء ليكثر سواد الأسرة ويكون لبنة في بنائها، يقويها ويتعاون معها على تحقيق أهدافها، التي من أهمها تكثير النسل الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

 

وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إكرام هذا الضيف، شكرا لله على قدومه، كما في حديث سلمان بن عامر الضبي، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى" [البخاري (6/217) وأبو داود (3/261)، والترمذي (4/97ـ97)].

 

وعن يوسف بن ماهك، أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن، فسألوها عن العقيقة؟ فأخبرتهم أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" [الترمذي (4/96ـ97) وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح].

 

وعن أم كرز الكعبية، رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة) [أبو داود (3/257) والترمذي (4/98) وقال: هذا حديث حسن صحيح].

 

وعن سمرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الغلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويسمى، ويحلق رأسه) [الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (3/259ـ260)]. وقد استدل بهذا الحديث من يرى وجوب الذبح عن الطفل.

 

 

قال ابن القيم، رحمه الله: "فالذبح عن الولد فيه معنى القربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام، عند حوادث السرور العظام، شكراً لله وإظهاراً لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح، فإذا شرع الإطعام للنكاح الذي هو وسيلة إلى حصول هذه النعمة، فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة، أولى وأحرى، وشرع بوصف الذبح المتضمن لما ذكرناه من الحكم.

 

فلا أحسن ولا أحلى في القلوب من مثل هذه الشريعة في المولود، وعلى نحو هذا جرت سنة الولائم في المناكح وغيرها، فإنها إظهار للفرح والسرور، بإقامة شرائع الإسلام، وخروج نسمة مسلمة يكاثر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة، تعبد الله ويراغم عدوه " [تحفة المودود في أحكام المولود ص40 وهو بيان لما ظهر له رحمه الله من حكمة الشارع في الأمر بالذبح عن الطفل].

 

المطلب الثامن:

العناية بتنظيفهم وإزالة الأذى عنهم.

 

شرع أن يحلق رأس الطفل يوم سابعه، إيذانا بالعناية به وإزالة ما يؤذيه، بل وشرع التصدق عنه بوزن شعر رأسه ذهباً أو فضة [راجع تحفة المودود ص57ـ59]، وكأن في ذلك إشارة إلى فدائه بالمال وعدم التفريط فيه، وأن شعر رأسه الذي يؤذيه بقاؤه فيحلقونه ليس رخيصاً عند أسرته، بل يوزن بالذهب الذي يحرص عليه الناس. كما شرع ختانه، وهو من خصال الفطرة التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

 

قال ابن القيم، رحمه الله - بعد أن ذكر نصوص خصال الفطرة: "وقد اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة وأخذ الفضلات المستقذرة، التي يألفها الشيطان ويجاورها من بني آدم، وله بالغرلة اتصال واختصاص" [تحفة المودود ص94].

 

وقال في موضع آخر- بعد أن بين أن الختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله لعباده -: "هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزيين، وتحسين الخلقة وتعديل الشهوة، التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإن عدمت بالكلية ألحقته بالجمادات، فالختان يعدلها، ولهذا تجد الأقلف من الرجال، والقلفاء من النساء، لا يشبع من الجماع... ولايخفى على ذي الحس السليم قبح الغرلة، وما في إزالتها من التحسين والتنظيف والتزيين " [المرجع السابق ص111، والمراد بالغرلة: غلفة الذكر من الجلدة التي تغطي الحشفة].

 

وفي هذا إشارة إلى العناية بنظافة الصبي وإزالة كل الأقذار والفضلات المؤذية له، ما دام غير قادر على قيامه بإزالته بنفسه، وبهذا يأمن الطفل من الأوساخ وما ينتج عنها من أوبئة وأمراض قد تودي بحياته.

 

 

المطلب التاسع

وجوب إرضاعه وكفالته حتى يستغني بنفسه.

 

قال تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لا تكلف نفس إلا وسعها، لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده، وعلى الوارث مثل ذلك، فان أرادا فصالا عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف، واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) [البقرة: 233].

 

لقد كان غذاء الطفل في رحم أمه يأتيه بلا اختيار منها ولا اختيار منه، عن طريق سرته التي ربط الله له بها حبلا يوصل إليه به ذلك الغذاء، وإذا كان على أمه حق له في فترة الحمل، فهو أن تتناول الغذاء المناسب ولا تهمل نفسها إهمالاً يؤدي إلى الإضرار به. كما أن على أبيه أن ينفق عليها نفقة تكفيها.

 

ولكنه عندما يتيسر سبيله، فيخرج من رحلة الرحم ليبدأ رحلة الأرض، ينقطع عنه ذلك الغذاء الاضطراري، ويجب على أبويه أن يقوما بإرضاعه: الأم ترضعه من لبنها الذي حوله الله إلى ثدييها، ليسهل على الطفل تناوله، والأب ينفق عليها ويكفيها بما تحتاج إليه، فإن فقد أبويه أو أحدهما، وجب ذلك على من يقوم مقامهما، إما من الأقارب، وإما من ولاة أمور المسلمين.

 

قال ابن حزم، رحمه الله: "والواجب على كل والدة، حرة كانت أو أمة، في عصمة زوج أو في ملك سيد، أو كانت خلواً منهما، لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم يلحق، أن ترضع ولدها، أحبت أم كرهت، ولو أنها بنت الخليفة، وتجبر على ذلك، إلا أن تكون مطلقة.

 

فإن كانت مطلقة، لم تجبر على إرضاع ولدها من الذي طلقها، إلا أن تشاء هي، فلها ذلك، أحب أبوه أم كره، أحب الذي تزوجها بعده أم كره، فإن تعاسرت هي وأبو الرضيع، أمر الوالد أن يسترضع لولده امرأة ولا بد، إلا أن لا يقبل الطفل غير ثديها، فتجبر حينئذ أحبت أم كرهت، أحب زوجها - إن كان لها - أم كره، فإن مات أبو الرضيع أو أفلس، أو غاب بحيث لا يقدر عليه، أجبرت الأم على إرضاعه، إلا أن لا يكون لها لبن، أو كان لها لبن يضر به، فإنه يسترضع له غيرها ويتبع الأب بذلك إن كان حياً وله مال... " [المحلى (1/335) وما بعدها، وقد أطال في ذكر مذاهب الأئمة في وجوب رضاع الطفل على الأم، وبين أوجه استدلالهم، ورد ما خالف ما ذهب إليه..].

 

وتجب كفالة الطفل حتى يبلغ أشده ويقدر على القيام بمصالحه، قال ابن قدامة، رحمه الله: "كفالة الطفل وحضانته واجبة، لأنه يهلك بتركه، فيجب حفظه عن الهلاك، كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك " [المغني (8/237)].

 

المطلب العاشر

تعليمهم العلم النافع، وتربيتهم على العمل الصالح.

 

سبق في مباحث الفصل الأول، والفصل الثاني من الباب الأول، ما يغني عن إعادة مباحث العلم النافع والعمل الصالح، وهي صالحة لهذا المطلب، فليراجعها من أراد.

لكننا هنا نشير إلى بعض الخلال التي يجب الحرص عليها في تربية الأطفال، إضافة إلى ما مضى.

 فمن ذلك تمرينه الدائم ومتابعته المستمرة على اختبار الجليس الصالح وملازمته، وبعده عن جليس السوء ومخالطته، لما في صحبة الصالحين من قدوة حسنة تجعله يزداد حباً للخير وتعاطيه، ونفوراً عن إتيان الشر ومقاربته، ولما في مجالسة أهل السوء من محبتهم وتقليدهم في شرهم وفسقهم، والعادة جارية على سرعة التأثر بأهل الشر أكثر من التأثر بأهل الخير، وبخاصة الأطفال، فإنهم سرعان ما يحاكون من هو أكثر منهم في الشر.

وقد بين الله سبحانه وتعالى شدة ندم من يجالسون أهل السوء ومخالطتهم ويسيرون في ركابهم، ويتركون مجالسة أهل الخير والسير في صراطهم المستقيم.

قال سبحانه وتعالى: ((ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، ويا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً، لقد أضلني عن الذكر بعد أن جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً) [الفرقان: 27- 29].

 

وذكر سبحانه وتعالى أن رؤساء الضلال والإضلال، يتبرأون يوم القيامة من أتباعهم، وأن أتباعهم يتمنون لو يعودون إلى الحياة الدنيا، فيتبرأون من رؤسائهم الذين أضلوهم، كما تبرأ رؤساؤهم منهم.

قال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتَّبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) [البقرة: 166-167].

 

وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا، للجليس الصالح وجليس السوء، للحث على مجالسة الصالحين، والتحذير من مجالسة أهل الشر، كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة". [البخاري (6/231) ومسلم (4/2026)].

 

ومن ذلك العناية بتعليمهم قراءة القرآن الكريم، وتحفيظهم إياه كله إن كانوا قادرين على ذلك، وإلا فما تيسر منه، وترغيبهم في المداومة على قراءته وتدبره وحبه، وأنه كلام الله تعالى يجب امتثال أوامره واجتناب زواجره، والعمل بما فيه والإيمان بما أخبر به من الغيب في الماضي والمستقبل، وأن ما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل.

 

وكذلك يعنى بتعليمهم سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتحبيبها إليهم، وأن سنته صلى الله عليه وسلم كالقرآن، يجب الإيمان بما أخبرت به والعمل بما شرعته، وأن كل رأي خالفها فهو باطل، وأن الكتاب والسنة معصومان عن الزلل، بعيدان عن الزيغ  والضلال.

 

وأن الأئمة المجتهدين قاموا بخدمة هذا الدين، علماً وعملاً ودعوة وتعليماً وجهاداً، وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين يجب حبهم واحترامهم وبغض من أبغضهم، وأنه لا يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهل الزيغ والضلال.

 

وهكذا أتباع الصحابة من أئمة الإسلام الذين نصروا هذا الدين وحفظوه، بتعلمه وتعليمه، والدعوة إليه، والذب عن سنته، ونشرها صحيحة نقية من طعن الطاعنين وكذب المفترين، يجب حبهم وموالاتهم، والاستعانة بعلومهم ومؤلفاتهم، على فهم مراد الله ورسوله، وأن صوابهم يغمر ما قد يحصل منهم من خطأ قليل، وهم مثابون على كل حال: على الصواب لهم أجران، وعلى اجتهادهم الذي أخطأوا فيه أجر.

 

ومن أهم ما يجب أن يعنى به في تربية الأولاد: تعويدهم على الصدق في القول، واجتناب الكذب، فإن الصدق يؤمن صاحبه، والكذب يلقي من اتصف به في المهالك، ولا يؤتمن على كبير أو حقير، وكيف يأمن الناس الكاذب وفيه خصلة من خصال النفاق؟!

 

ويجب أن يبين لهم مزايا الصدق وفضائله في الدنيا والآخرة، كما يبين لهم مضار الكذب كذلك في الدنيا والآخرة.

 

وقد روى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا) [البخاري (7/95) ومسلم (4/2012)].

 

وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) [البخاري (7/95) ومسلم (1/78)].

 

ومن ذلك تمرينهم على أداء الشعائر التعبدية من صغرهم، حتى ينشأوا عليها ويعتادوها، فلا يكونون مقصرين فيها إذا بلغوا رشدهم، وأصبحوا مكلفين بالخطاب مباشرة يعاقبون على تركها.

فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولي الصبي أن يعلمه الصلاة لسبع، ويضربه عليها لعشر، كما روى عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر" [الترمذي (2/259) وقال:… حديث حسن صحيح، وأبو داود (1/332ـ333) وقال المحشي عليه: "وفي المجموع النووي (3/10): حديث سبرة صحيح.."].

 

وقد رفعت امرأة صبياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم، ولك أجر) [مسلم (2/974) وراجع التمهيد لابن عبد البر (1/94)].

 

وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرنون أبناءهم على الصوم وهم صغار، كما في حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء، قالت: "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: (من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتم بقية يومه)

فكنا بعد ذلك نصوم ونصوِّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار"وفي رواية: "ونضع لهم اللعبة من العهن فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم " [مسلم (2/798) والرواية الثانية تبين المعنى المراد من الأولى، أي أعطيناهم يلهون بها حتى يحين الإفطار].

 

ولا شك أن تنشئة الصبي بالتعليم والتربية الإيمانية والعبادية، تعده ليكون إنسانا صالحا يقوم بحق الله وحق نفسه وحقوق أسرته وحقوق المجتمع كله، وبذلك يأمنه الناس على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأن نشأته على طاعة الله وطاعة رسوله، وقيامه بالعبادات التي يقدر على أدائها من صغره تورثه التقوى، والتقوى هي سبيل الأمن.

 

ومن ذلك تدريبه خلال الكمال، كالإيثار، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه من الخير، وأن يعطي ولا يأخذ، وأن يستشعر مسؤوليته في تصرفاته، بحيث يجعله ذلك يقدم على ما ينفعه أو ينفع غيره، ويحجم عما يضره أو يضر غيره.

 

ولو أن الأسر اهتمت بتربية أبنائها وتعليمهم وتنشئتهم على طاعة الله وطاعة رسوله، مع الإخلاص والتجرد لله، لكان لأولاد المسلمين شأن في نشر الخير والطمأنينة بين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، كما كان لأسلافهم في العصور المفضلة.

 

المطلب الحادي عشر:

مراعاة أحوالهم واستعداداتهم وتوجيههم إلى ما يرغبون فيه

من أوجه الاكتساب والأعمال المباحة.

 

إن الواجب الأساسي الذي لا يجوز التفريط فيه، هو تعليم الأولاد أولاً فروض العين التي لا يعذر أحد بتركها، وتلك هي أصول الإيمان وأركان الإسلام، وواجباته، كالطهارة والصلاة والصيام والحج وبر الوالدين ونحوها.

 

فإذا ما علم الصبي ذلك وربي عليه، نظر وليه في تصرفاته ورغباته، فإن وجده مقبلاً على علوم الإسلام راغباً في حفظها والتضلع منها، فعليه أن يهيئ له الفرصة بالمعلم الكفء والكتاب، والكفاية لكل حاجاته، ليفرغه لهذا الغرض العظيم، حتى يصبح من علماء الإسلام ودعاة الحق.

 

وإن وجده مقبلاً على غير ذلك من الصناعات والمهن الأخرى المباحة غير الدنيئة، وجهه إلى ما يراه  راغبا فيه وأعانه بسبلها التي يتمكن بها من تحصيلها، ولا ينبغي أن يجبره على علم لا رغبة له فيه ولا يرى عنده استعداداً له، فإن ذلك يعوقه ويحرمه من سلوك الطريق الذي خلق مهيئاً له.

قال ابن القيم، رحمه الله: "ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذونا فيه شرعا، فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له.

 

فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً، فهذه من علامات قبوله وتهيؤه للعلم، لينقشه في لوح قلبه، ما دام خالياً، فإنه يتمكن فيه ويستقر ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها، من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنها أنفع له وللمسلمين.

 

وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها.

هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك ميسر على كل أحد، لتقوم حجة الله على العبد، فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة [تحفة المودود ص144ـ145 وراجع كتاب تنظيم الإسلام للمجتمع، لأبي زهرة، ص182، طبع دار الفكر العربي.].

 

 

المطلب الثاني عشر:

تمرينهم على الحركة والعمل

وتجنيبهم البطالة والكسل.

 

إن خلو وقت الإنسان من الحركة النافعة والعمل المفيد من أعظم الخسران، إذ يضيع عمره أو جزء منه في غير ما خلق له، إما بعدم قيامه بشيء مفيد، كأن يخلد إلى الراحة دون حراك، وإما أن يتحرك فيما يعود عليه وعلى المجتمع بالضرر، وهذا هو الغالب، ولذا حذر الله تعالى من إضاعة العمر في غير فائدة، وأخبر تعالى عن غبن وندم من أضاع عمره في غير عمل صالح.

 

قال جل وعلا: ((والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير)) [فاطر: 36ـ37].

 

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيرا من الناس مغبونون في نعمتين عظيمتين إحداهما: الفراغ، روى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) [البخاري (7/170)].

 

كما أخبر صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يسأل ابن آدم عن عمره فيم أفناه يوم القيامة، كما في حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن - ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه " [الترمذي (4/612) وقال: هذا حديث حسن صحيح].

 

وقال ابن القيم رحمه الله: "ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل، فإن للكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة ندم، وللجد والتعب عواقب حميدة، إما في الدنيا، وإما في العقبى، وإما فيهما، فأرْوَح الناس أتعبُ الناس، وأتعب الناس أرْوح الناس، فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى

المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/59200

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك