مفهوم الخير بين أرسطو والإسلام

بقلم: محفوظ أبي يعلا 

 

يعبر خلق المفاهيم من طرف الفلاسفة عن مدى تمكنهم و قدرتهم على التّفلسف. والمفاهيم الّتي يبدعها الفلاسفة ترسم طريقهم الرئيسي في الفكر الفلسفي. فمن خلالها يتم التعبير عن الأفكار وبالتّالي إنتاج المعرفة. ثم إن تحديد المفاهيم من بين أهم مبادئ الفلسفة. ولذلك كانت المفاهيم تختلف من فيلسوف لآخر. ونحن، على سبيل المثال، إذا بحثنا عن تعريف لمفهوم الفلسفة لوجدنا أن هناك اختلافاً كبيراً بين الفلاسفة في تحديد تعريف لها. إذ إن الفلسفة مع الحكماء السبعة اتخذت معنّى البحث في الوجود، والبحث في ما هو طبيعي و في العنصر الذي ينبثق منه العالم. ثم بعد ذلك مع سقراط أصبحت الفلسفة تهتم بوجود الإنسان. فضلاً عن ذلك، نجد الفلسفة مع أفلاطون اتخذت معنّى القيم، فدرست الخير، الفضيلة، الجمال. .إلخ. و أمّا عند فلاسفة الإسلام، فنجد أن ابن رشد يعرف فعل الفلسفة بأنه النّظر في الموجودات و اعتبارها من جهة دلالتها على الصانع “[1]. وهي عند إخوان الصفاء: ” التّشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسيّة “[2].

 إننا، إذن، نلحظ اختلافاً كبيراً بين الفلاسفة في وضع تعريف لمفهوم الفلسفة، فما بالنا بالمفاهيم الأخرى التي تنبثق منها. 
 و كما قدمنا فإن أفلاطون اهتم بالقيم، و من بين هذه القيم التي اهتم بها قيمة الخير. و قد مضى تلميذه أرسطو في نفس طريقه هذا، فاهتم بدوره بمسألة القيم، و تناول بالبحث و الدراسة موضوع الخير في كتاب الأخلاق. 
 ونحن سنعمل في هذا المقال على توضيح علاقة مفهوم الخير بفلسفة أرسطو. كما أننا سنحاول توضيح علاقة نفس المفهوم بالإسلام. و لا يفوتنا أن ننبه إلى أن المفاهيم في الدّين الإسلاميّ أيضاً تختلف من تيار فكري إلى آخر. فالإسلام يتضمن بدوره نظريات و أحاكماً فلسفيّة و ميتافيزيقيّة. و ما قلناه عن المفاهيم الفلسفيّة يمكن قوله عن المفاهيم الدّينيّة. لأنّ المفاهيم الفلسفيّة و الدّينيّة هي نتاج للفكر. لذا فالمفهوم دائماً يظلّ محل إشكال. 
 وسنمهد لمقالتنا هذه من خلال الأسئلة التّاليّة التي سنحاول الإجابة عنها : ما هو مفهوم الخير؟ كيف يمكن أن نتحدّث عن موقف الإنسان منه؟ و هل هناك علاقة بين مفهوم أرسطو و مفهوم الإسلام للخير؟ 
 إن الخير، لغةً، هو الحسن لذاته، و لما يحققه من لذّة، أو نفع أو سعادة. و هو ضدّ الشّر. و تحمل كلـمة الخير في المعاجم اللّغويّة معاني كثيرة، لكننا نكتفي بذكر منها ما ذكرناه لما له ارتباط بموضوعنا. لأن كلمة الخيـر في مجال الفلسفة تطلق على اللّذة و السعادة، و أحياناً أخـرى على ما هو حسن و نافع. 
 لقد رأى مجموعة من الفلاسفة أن الخير هو القيمة العليا التي تعود إليها كلّ القيم كالسعادة و العدالة و الجمال. .إلخ. فأفلاطون، مثلاً، أدخل قيمة الجمال في مفهوم الخير، فقال : الجمال هو بهاء الخير. و نجد أن أرسطو لا يختلف كثيراً عن أستاذه أفلاطون، لذلك فإن الخير عنده هو ما تسعى إليه الأشياء جميعاً [3]. إلا أن أرسطو يرفض نظرية المُثل الأفلاطونيّة، و لذلك فلا يوجد عنده مثال للخير. بيد أنه يرى أن الخير في كلّ مظاهره مستمد من خيريّة الله. و يعلق برتراند راسل على هذه الأفكار الأرسطيّة القلقة بالقول أن أرسطو و إن بدا أنه يبتعد عن نظريّة المُثل الأفلاطونيّة، فإنه يرجع إليها من خلال فكرة خيريّة الله [4]. 
 و إذا كان أرسطو يرى أن الخير مستمد من خيرية الله، فكيف هو هذا الإله عند أرسطو؟ إنه، كما هو معلوم، مجرّد محرك أول يعطي للعالم الدفعة المحركة الأولى. و هذه هي مهمته الوحيدة، فليس لله عند أرسطو أي اهتمام إيجابي بالعالم بعد تحريكه إياه [5] . 
 أمّا عن الخير و الشرّ اللّذين يمارسهما البشر، فإن أرسطو يرى أن العقل البشري إرادي، إلا حيثُ يكون هناك قهر أو جهل. و على عكس سقراط، الذي كان يرى أن الإنسان يرتكب الشّر بسبب الجهل، فإن أرسطو يعتقد أن الإنسان قد يرتكب الشر عامداً. بمعنّى أنه قد يرتكبه و هو يعلم أنه شر، و ليس بسبب جهله بذلك [6] . و قد حل أرسطو الإشكال الذي أثاره سقراط حين قال : الفضيلة علم و الرذيلة جهل، بتمييزه بين عقلين، الأوّل نظري و الثاني عملي. ففي نظره أن الشر يرتكب نتيجة لغياب العقل أو الحكمة العمليّة. هذه الحكمة التي هي فضيلة تكتسب بالمران، لا بالحكمة النّظرية كما ظن سقراط [7] . يقول أرسطو :” لكن الأفعال التي تنتجها الفضائل ليست عادلة و معتدلة بسبب أنّها فقط على صورة ما، بل يلزم فوق ذلك أن يكون الفاعل في اللّحظة نفسها التي يفعل فيها على استعداد أخلاقي ما. فالشرط الأوّل أن يعلم ماذا يفعل. و الثاني أن يريده بالاختيار التام و أن يريد الأفعال التي ينتجها لذاتها. و أخيراً الثالث هو أنه عند الفعل يفعل بتصميم ثابت لا يتزعزع على أن لا يفعل خلافاً لذلك البتة. في الفنون الأخرى لا يحسب أي حساب لكل هذه الشروط إلا فيما يتعلق بالعلم حق العلم بما يفعل. على الضدّ من ذلك فيما يختص بالفضيلة، فإن العلم هو نقطة قليلة القيمة بل عديمتها. في حين أن الشرطين الآخرين [ الإرادة، و العمل ] ليس فيها قليل الأهميّة بل لهما أهميّة قصوى. لأن الإنسان لا يحصل الفضيلة إلا بالتكرار المستمر لأفعال العدل و الاعتدال إلخ “[8]. أنتهى كلام أرسطو. فضلاً عن ذلك، فإن الشر في نظره يرتكب بسبب الشهوة، فالشهوة من شأنها أن تجعل صاحبها كالمجنون أو السكران لأنها تدخل اضطراباً على النّفس، فيفعل الإنسان الشر ويظنه خيراً، ويكون حاله كحال المجنون الذي ينشد أشعاراً ولا يفقه لها معنى، وللشهوة عند أرسطو قياسها العملي الذي يعارض قياس الحكمة [9]. 
 لقد قدمنا أن أرسطو يعتقد أن جميع الأشياء تسعى إلى الخير. و نجد ابن سينا يقترب من رأي أرسطو الذي ذكرناه، فيقول : إن الخير بذاته معشوق، و كما قال أرسطو بأن الخير مستمد من خيرية الله، نجد ابن سينا يقول أيضاً أن العلّة الأولى مستوفيّة لجميع الخيريّة. .. فهي خيرٌ في ذاتها، و هي خير مطلق في جميع الوجوه [10] . فإذن نلحظ كيف أن ابن سينا يتفق مع أرسطو في كون العلة الأولى خيريّة. 
 و إذا كان أرسطو يرى أن بعض البشر يمارسون الشر عن عمد، فإن الإسلام يرى ذلك أيضاً، إذ إن الإنسان حسب ما ورد في السياق القرآني هو : ظلوم، جهول، هلوع. . إلخ. و بالتّالي، فإن ممارسته للشر جزء من طبيعته. غير أن هذه الطبيعة سيئة، حسب النصوص القرآنيّة، و على الإنسان أن يجاهد في سبيل القضاء عليها حتى يصبح إنساناً فاضلاً( سورة الشمس، الآية : 9 ) . ففعل الخير، في الإسلام، هو نتيجة كسب و سعي و مجاهدة و تزكية و إرادة، و هذه الأمور هي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات. و هكذا فإن الخير في الإسلام هو أيضاً فضيلة تكتسب بالمران، و هذا نفس ما قاله أرسطو حين ربط الخير بالعقل العملي. و القرآن، رغم تأكيده على طبيعة الإنسان الشريرة، فهو متفائل بانتصار الخير و غلبته، فقد جاء في سورة الرعد ما يلي :” فأمّا الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض " [11]. و لعلّ انتصار الخير مرتبط بمبدأ خيرية الله. ثم إن الشيطان يحضر في الإسلام، كما تحضر الشهوة في الفكر الأرسطي حول الشر. فالشيطان يوسوس للإنسان فيزين له الشر ليظنه خيراً. علاوة على أن للإنسان، وفقاُ للقرآن، نفساً تأمره بالسوء ( سورة يوسف، الآية : 53 ). 
 ختاماً، إن الإله الأرسطي كما ذكرنا هو مجرد محرك أول تنتهي مهمته بعد إعطاء الدفعة الأولى للعالم، و بالتّالي فإن الحديث عن خيريته يبدو حديثاً غير مفهوم. فالإله الأرسطي إله فلسفيّ لا لون له و ليس لديه أي اهتمام ايجابي بالعالم [12] . ثم إن هذا الإله محدود، فهو لا يتحرك. أي أن قدرته محدودة، علاوة على ذلك فهو لا يعقل إلا ذاته و لا يعلم الجزئيات التي تحدث في العالم [13]. في حين نجد أن الإله في الإسلام ليس مجرد محرك أول، و لكنه دائم الاتصال بهذا العالم، فهو يحيط بكل شيء علماً، يعلم ما في البر و البحر و ما تسقط من ورقة إلا و يعلمها [14]. و لهذا فإن الإله في الإسلام يستطيع أن يكون خيراً محضاً بهذا المعنّى. بيد أننا قد نفترض أن الإله الأرسطي هو نفسه الإله الذي تحدث عنه أصحاب نظريّة الفيض الإلهي ، فيصبح وجوده بالفعل خيراً، إذ إن العالم متوقف عليه، فهو مسبب الحركة الأولى، لكن هل يصح هذا الافتراض؟ لا نظن ذلك، لأن الإله الأرسطي الذي له فضل الدفعة الأولى، يحرك العالم عن طريق العشق، و ليس عن طريق الفيض. يقول أرسطو في هذا الشأن ما مفاده أن العلـة الأولى إنّما تحرّك كما يحرّك المـعشوق، أي أن العالم يعشقـها و يحرص علـى التشبـه بها [15]، فهو إذن ذلك المعشوق المحرك الذي لا يتحرك. بينما في نظرية الفيض فوجود العالم عن الباري كوجود الكلام عن المتكلم الذي إن سكت بطل وجود الكلام [16]. بمعنى أن العالم منبثق منه، وأنه هو سبب وجوده، وليس سبب حركته فقط. 
 إن الإله الأرسطي لا يبدو لنا سوى كضرورة لتكوين نظرية الخير عند أرسطو. أو بعبارة أوضح : إن وجود الإله عند أرسطو مسألة تقتضيها النسقيّة الفكريّة الأرسطيّة، سواء في نظريته عن الطبيعة أو عن الأخلاق التي يتفرع منها مفهوم الخير. بينما الإله الإسلامي ليس مجرد محرك أول، كما سبق الذكر، وإنّما هو متصل بالعالم، ويعلم الكليات والجزئيات، وهو الذي يمسك الأرض والسموات أن تزول. .. إنه مبدع الكون وخالق كل شيء، هو العلة الأولى المستوفية لجميع الخيرية كما قال ابن سينا. ولكن، إذا كان الله بالفعل كذلك، فمن أين يأتي الشر؟ وأليس بمقدوره أن يمنعه مادام أنه خير وله القدرة على ذلك؟ هنا يظهر أنه يمكن تفهم وجود الشر مع الإله الأرسطي لأن قدرته على ممارسة الخير محدودة نظراً لطبيعته، كما أن الشر حسب تقسيم أرسطو للعالم متعلق بعالم ما تحت القمر، أي بعالم الكون والفساد، حيث يسود الاضطراب الشنيع بسبب بعد هذا العالم عن العلة الأولى. وهو نفس ما يقوله أصحاب نظرية الفيض إذ يربطون الاضطراب والفساد بالبعد عن مصدر الفيض. غير أن تفهم مسألة وجود الشر تصعب مع الإله الإسلامي الخير المحض الذي يعلم الجزئيات والكليات والذي خلق العالم. ولعلّ هذه المسألة هي التي دفعت ابن رشد إلى مناقشة فكرتي قدم العالم، وعلم الله بالجزئيات [17]. فاقترب مفهوم الإله الإسلامي، مع الفلسفة الرشدية، من مفهوم الإله الأرسطي، وأصبح وجود الشر في العالم مفهوماً وفق هذا التصور عن الإله. 
 

 هوامش : 
1 ـ ابن رشد، فصل المقال، دار المشرق ـ بيروت، ط : 2، ص : 27. 
2 ـ إخوان الصفاء، رسائل إخوان الصفاء و خلان الوفاء، المجلد الأول، دار صادر، ص : 225. 
3 ـ أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، الجزء الأوّل، نقله إلى العربية : أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية ـ القاهرة، ص : 189. 

4 ـ برتراند راسل، حكمة الغرب، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة، عدد :364، ص : 162. 
5 ـ مرجع نفسه، ص : 162. 
6 ـ نفسه، ص : 164. 
7 ـ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف و الترجمة و النشر، ص : 259. 
8 حين يقول أن العلم هو نقطة قليلة القيمة فهو ينتقد نظرية سقراط و أرسطو و هي أن الفضيلة ليست إلا العلم، انظر علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، مصدر سابق، ص : 238. 
9 ـ تاريخ الفلسفة اليونانيّة، مرجع سابق، ص : 258 ـ 259 
10 ـ ابن سينا، جامع البدائع ، رسالة في العشق، ص : 71، 78، 85
11 ـ سورة الرعد، الآية : 17
12 ـ حكمة الغرب، مرجع سابق، ص : 162
13 ـ فلسفة ابن رشد، فرح انطوان، ملحق بقلم : عبد الله إبراهيم، ابن رشد آخر الفلاسفة المسلمين، منتدى ابن يوسف، ط : مراكش 2006، ص : 20
14 ـ جاء في القرآن الكريم : و عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو و يعلم ما في البرّ و البحر و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها و لا حبّة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مّبين ( الأنعام، الآية : 59 ). 
15 ـ عـبد الرحمـن بدوي، الموسـوعة الفلسفيّة، الجـزء الأول، المؤسسـة العربيّة للدراســات و النـشــر، ط : 1، ص : 104
16 ـ رسائل إخوان الصفاء، مصدر سابق، مجلد : 3، ص : 337. 
17 ـ ابن رشد آخر الفلاسفة المسلمين، مرجع سابق، ص : 21

المصدر: http://www.alawan.org/article13628.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك