الحوار

منال عاطف محمد العمري

الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على إمام المرسلين و على آله و أصحابه الطيبين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد 

فمن نعم الباري العظيمة على الإنسان أن أقدره على النطق و البيان كما قال تعالى : ( خلق الإنسان * علمه البيان ) ( الرحمن : آية : 3 - 4 ) . فخلق له ما يتوصل به إلى النطق و الإبانة عما في نفسه ، كما قال تعالى : ( ألم نجعل له عينين* ولسانا وشفتين ). ( البلد : آية : 8 – 9 ) .
فصار الكلام سبيلا لتحصيل جميع المصالح ودرء المفاسد فهو كالعنوان لما تريده القلوب إذ هو المعبِّر عن مراد الإنسان كما قيل: 
رأيتُ لسان المرء رائدَ قلبه وعنوانَه فانظر بماذا تُعنونُ
فهو طريق لتحصيل مصالح الدارين، فما أكثر خيره و ما أعظم شره إلا لمن وقاه الله تعالى شره ، فإذا كان الكلام بهذه المنزلة فعلى العاقل التحفظ منه والخوف من مضرته، ومن أعظم أبواب الكلام التي يحتاجها الخلق باب الحوار ، فلا غنى لأحد عن محاورة غيره أو مناظرته أو مجادلته في وقت من الأوقات ، لأن الحوار طريق للمعرفة و العلم وسبيل لإقامة الحجة و البرهان، وطريق لإقامة علاقة (ما ) بين مختلِفَين في قضية من القضايا .
والحوار قد يكون بالكلام أو بما يقوم مقامه من كتابة على الورق أو على أجهزة الحاسوب أو حتى الإشارة المفهِمة.
و القضايا التي قد يختلف فيها الناس كثيرة جدا ، و من الخلاف خلاف لا يضر ولا يذهب للود قضية، كما يقولون ومنه ما قد يتسامح فيه وهو كثير، ومنه ما لا يصلح معه ود ولا تبقى معه صلة نافعة، ومِنه و مِنه ، فهو أنواع ودرجات ، فلما كان الاختلاف قضية لا بد من حدوثها وكان الحوار سبيلا للإقناع و إقامة الحجة، كان لا بد لهذا الحوار الذي سيقابل المسلم في بيته مع زوجه و أبنائه، وفي خارجه مع إخوانه و زملائه أو من يقابله من مسلم مؤمن بالله أو كافر جاحد للإسلام، أقول كان لا بد لهذا الحوار من آداب ، وقد جاء في الكتاب و السنة من ذلك شيء عظيم الفائدة كثير العائدة ، وبحثي هذا ليس في ذكر أمثلة لتلك الآداب المهمة، ولكن لبيان أهمية التأدب بآداب الحوار والمناظرة و الجدال بين المتحاورين والمتناظرين . 
فإن الحوار متى ما خلا من التأدُّب بآدابه كان أضر من التقاطع وترك الكلام لأنه يفسد أكثر مما يصلح و يوغر الصدور ولا ينقيها ويحمل على اللجاج ويؤدي للسباب والشتم ويفضي إلى التنازع و إلى زيادة الفرقة و أسبابها. 

خطة البحث:
قسمت بحثي هذا إلى خمسة مطالب .
المطلب الأول : في معنى الحوار و الجدال و المناظرة 
المطلب الثاني : ذكر بعض المصنفات في الحوار و المناظرة و الجدال.
المطلب الثالث : نبذة في أهم آداب الحوار.
المطلب الرابع: إباحة الجدال وذم المراء و الخصومة في الشرع لخلوهما من آداب الحوار.
المطلب الخامس : موجز في أهم المصالح المترتِّبة على مراعاة آداب الحوار. 

المطلب الأول : في معنى الحوار و الجدال و المناظرة.
سأعرض للمعنى من جهة اللغة ثم الاصطلاح المتعارف.
المناظرة : التنَّاظُرُ في اللغة: هو التَّراوُضُ فـي الأَمر. و نَظِيرُك: الذي يُراوِضُك 
و تُناظِرُهُ، و ناظَرَه من الـمُناظَرَة. و النَّظِيرُ: الـمِثْلُ، وقـيل: الـمثل فـي كل شيء. وفلان نَظِيرُك أَي مِثْلُك لأَنه إِذا نَظَر إِلـيهما النَّاظِرُ رآهما سواءً. ( ) 
والمناظرة من النظِير أو من النَّظَر بالبصيرة.
واصطلاحا هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا
للصواب. ( ) و الجدال لغة : من قولهم جادَلَهُ أي خاصمه مُجَادَلةً و جِدَالاً والاسم الجَدَلُ وهو شدة الخصومة . ( ) وفي لسان العرب : ( الـجَدَل: اللَّدَدُ فـي الـخُصومة والقدرةُ علـيها، وقد جادله مـجادلة وجدالاً. ورجل جَدِل و مِـجْدَل و مِـجْدال: شديد الـجَدَل. ويقال: جَادَلْت الرجل فَجَدَلته جَدْلاً أَي غلبته. ورجل جَدِل إِذا كان أَقوى فـي الـخِصام. و جادَلَه أَي خاصمه مُـجادلة و جِدالاً، والاسم الـجَدَل، وهو شدَّة الـخصومة.) اهـ ( ) . والحوار : المحاورة و الحوار لغة هي المرادَّة في الكلام، و منه التحاور : قال الله تعالى : ( و الله يسمع تحاوركما ) ( المجادلة – آية – 1 ) . ( ) و الحوار المحاورة : وهي المخاطبة بين اثنين فأكثر . ( ) 
قال الله تعالى : ( قال له صاحبه وهو يحاوره ) ( الكهف – آية 37 ) ، 
و معنى يحاوره يجاوبه ، ويراجعه الكلام. ( ) و الحوار في الاصطلاح هو: تفاعل بين اثنين أو اكثر من البشر.

المطلب الثاني : ذكر بعض المصنفات في الحوار و المناظرة و الجدال.

إن شدة حاجة الناس للتحاور دعتهم لكثرة التصنيف فيما يتعلق بذلك ، و هذه التصانيف منها ما كان لبيان آداب الجدل و المناظرة - وهما من الحوار – وفي ذلك كتبت كثير من المصنفات سواء التي صنفها علماء الأصول و الفقه و الكلام من علماء المسلمين، أو غيرهم، و قد تكلموا في هذه الكتب على أدب المناظرات و الجدل في مصنفات خاصة بذلك كما ذكروه في كتب أصول الفقه، و من هذه الكتب ما كان حكاية أو رواية لمناظرة جرت بين عالِمَين فقيهينِ أو متكلِّمَين أو غيرهما ممن كانا مختلفين في قضية ما.
فالتآليف كثيرة في ما يتعلق بالحوار وبآدابه ، وقد رأيتُ أن أذكر بعضها ، لأهمية ذلك .
- وقائع مناظرة الإمام الباقلاني للنصارى بحضرة ملكهم / محمد الطيب الباقلاني ؛ جمعها و نسقها محمد بن عبدالعزيز الخضيري ط1 . 1412هـ ، 1991م38 ص.
- حكاية المناظرة في القرآن مع بعض اهل البدعة / تصنيف عبدالله بن أحمد بن محمد المقدسي موفق الدين بن قدامة ؛ تحقيق عبدالله بن يوسف الجديع . 
ط1 
- أدب الحوار و المناظرة لعلي جريشة ط1 1410هـ ، 1989م 
163 ص.1409هـ ، 1989م 71 ص.
- مناظرة علمية بين سيدي أحمد بن ادريس وو هابية نجد / تعليق إبراهيم الرفاعي . لمحمد بن إدريس المغربي ت : 1253 هـ . 45 ص. 
- مناظرة أحمد بن ادريس مع فقهاء عسير : 1248 هـ ، 1832م / جمع الحسن بن أحمد عاكش الضمدي؛ حققها عبدالله بن محمد بن حسين ابو داهش . 
ط1 1407هـ ، 1987م 103 ص
- المناظرة الكبرى في مقارنة الأديان بين الشيخ ديدات و القس سويجارت / تقديم
و دراسة و تعليق محمود علي حماية ط2. 
- في أصول الحوار و تجديد علم الكلام / لطه عبدالرحمن . ط 1 
1407هـ ، 1987م 199 ص؛
- مناظرة مع قس نصراني / إبراهيم بن سليمان الجبهان . ط4 
1410هـ ، 1990م 19 ص؛
-مناظرة في الرد على النصارى / فخرالدين الرازي ابو عبدالله محمد بن عمر ؛ تقديم و تحقيق عبدالمجيد النجار . 1407هـ ، 1986م 
92 ص.
- المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمت الله و الدكتور فندر : مناظرة في مسألتي النسخ والتحريف / تحقيق و تعليق محمد عبدالقادر خليل . ط1 
1405هـ ، 1985م 537 ص
- ضوابط المعرفة و أصول الاستدلال و المناظرة : صياغة للمنطق و أصول البحث متمشية مع الفكر الاسلامي / تأليف عبدالرحمن حسن حنبكة الميداني . 
ط2 ، منقحة و مزيدة.1401هـ ، 1981م 479 ص؛
-مقامة في المفاخرة و المناظرة بين العلم و الجهل / محمد بن عبدالرحمن الديسي الحسني الجزائري ؛ اعداد و نشر محمد بدرالدين ابو صالح الحاروني . 
ط3 مقدمة 1397هـ ، 1977م 32 ص؛
-مناظرة لغوية أدبية / عبدالله البستاني ، عبدالقادر المغربي ، انستاس الكرملي . 1355هـ ، 1935م 96 ص؛
- مناظرات في الأدب / جمع و شرح ألفاظها عزت العطار . لابن نباتة المصري : ت : 768هـ 1354هـ ، 1934م 48 ص؛
- الرشيدية على الرسالة الشريفية في آداب البحث و المناظرة للسيد الشريف الجرجاني / شرح عبدالرشيد الجونغوري . 1350هـ ، 1931م 111 ص؛
- حاشية الصبان على شرح آداب البحث: للصبان محمد بن علي : ت : 1206هـ.
- المنتخب الجليل من تخجيل من صرف الانجيل ؛ مناظرة بين المؤلف وأحد علماء النصرانية / تأليف أبى الفضل المالكى المسعودى . و يليه السؤال العجيب فى الرد على أهل الصليب / لناظمه أحمد على المليجى 1322هـ ، 1904م 
186 ص.
- آداب البحث و المناظرة / محمد الامين الشنقيطي .
- المناظرة في الأدب العربي - الاسلامي / حسين الصديق . 
ط1.
- اثر الجدل في أصول الفقه : الحد و الموضوع - المبادي و المقدمات / اعده علي بن عبدالعزيز العميريني . مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية : مجلة علمية محكمة .- ع8 ( رجب 1413 ، يناير 1993 ) .- ص 191 – 294
- المناظرة بين مكة و المدينة ، لعلي بن يوسف الزرندي : ( ت 772 هـ ) ، تحقيق و تقديم سعيد عبدالفتاح / يحيى عبدالله المعلمي . 
عالم الكتب : مجلة متخصصة ... - مج16 ، ع1 ( رجب / شعبان 1415 ، يناير / فبراير 1995 ) .- ص 80 – 85
- مناظرة المسألة الزنبورية / محمد الباتل. مجلة جامعة الملك سعود . الآداب .- مج10 ، ع2 ( 1418 ، 1998 ) .- ص 283 – 318
- نموذج المحاضرة في أدب البحث و المناظرة / عبدالمتعال عطيه ابو الخير . 
ط1 1332هـ ، 1913 م 24 ص .
- المناظرة صفحة مضيئة من حوار العقل المسلم / إبراهيم نويري . 
المجلة العربية : مجلة شهرية ثقافية مصورة .- س 24 ، ع26 ( جمادى الاولى 1420 ، سسبتمبر 1999 ) .- ص 92 – 95
- تنقيح المناظرة في تصحيح المخابرة / تاليف محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة ؛ تحقيق ودراسة سلمان بن سالم بن رجاء السحيمي 
مجلة الجامعة الاسلامية .- س 27 ، ع103 - 104 ( 1416 / 1417 ) .- ص 295 – 391.
- الحوار في الكتاب و السنة : تأليف : د / يحيى زمزمي . ط . في مجلد .
- الحوار من منظور إسلامي عباس الحرازي ، 1420 هـ 
- الحوار في الأدب المصري القديم : بقلم : عبد العزيز حليم ، 1957هـ .
- حوار حول مشكلات حضارية : لمحمد سعيد البوطي ، 1405هـ .
- حوار بين الحق و الباطل : للشيخ: عبد كشك. 1407هـ .
- حوار المفكرين : عبد الله زكريا الأنصاري ، 1978هـ. 

المطلب الثالث نبذة في أهم آداب الحوار.

آداب الحوار كثيرة ومعرفة المتحاورين بآداب الحوار أساس مهم في إنجاح حوارهم وفي تحصيل الفوائد المرجوة من الحوار و الجدال.
ولو قيل إن كل ما يؤدي إلى الوصول للفائدة من الحوار و يؤدي إلى إقناع الآخر – الخصم – بقبول الحق فهو من آداب الحوار ، لكان ذلك قولا جامعا مجملا في آداب الحوار. 
و لما كان هداف الحوار: التواصل الإنساني وتبادل الأفكار والخبرات وتكاملهما . 
و كان ذلك نشاطا يوميا نمارسه في المنزل و المسجد والشارع والعمل والمدرسة والجامعة و في وسائل الإعلام. فعلينا أن نجعله حوار إيجابياً لتكون محصلته و نتيجته مثمرة في حياة الفرد وحياة الجماعة. ولا شك أنه بقدر ما يكون سلبيا فسيكون هداما لحياة الأمم و الأفراد . 
ومن آداب الحوار المهمة: 
- إخلاص القصد والنية لله ـ تعالى ـ و أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة لا مجرد الانتصار للمذهب و العصبية للرأي، فإن الحق ضالة المؤمن أنَّى وجده فهو أحق به، كما أنه ضالة كل عاقل يحترم نفسه، فيلزم من المحاور أن يكون صادقا مع الله تعالى وحسن المقصد ، فالحق أحق أن يتبع.
- البدء بمواضع الاتفاق والإجماع وبالمسلَّمات:
فمن مصلحة الحوار ألا يبدأ المحاور بقضية مختلف فيها؛ بل يبدأ بموضوع متفق عليه، أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، ثم يتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف. 
فممَّا يذكر عن سقراط -وهو أحد حكماء اليونان-، أنه كان يبدأ مع خصمه بنقاط الاتفاق بينهما، ويسأله أسئلة لا يملك الخصم أن يجيبه عليها إلا بنعم، ويظل ينقله إلى الجواب تلو الآخر، حتى يرى المناظر أنه أصبح يُقر بفكرة كان يرفضها من قبل. ( ) 
- حصر المرجعيات الأساسية في الأمر المختلف فيه فإذا كان الحوار في قضية من قضايا شريعتنا الإسلامية ، فالمرجعية ينبغي أن تكون للكتاب و السنة الصحيحة. فما لم يتفق المتحاوران على مرجعية موحدة فلن يكون هنالك اتفاق.
- الإصغاء وحسن الاستماع، وعدم مقاطعة المتكلم ، أو الاعتراض عليه أثناء حديثه.وهو مهم لفهم المخالف و فيه إنصاف للمخالف فكما ينبغي أن يسمعك و يفهم حجتك كذلك ينبغي أن تسمعه وتفهم حجته ووجهة نظره.
- أن يكون الكلام في حدود الموضوع المطروح ، وعدم الدخول في موضوعات أخرى.
- عدم المبالغة في رفع الصوت ، لأن فيه نوع إساءة وليس من دلائل قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار .
- ترك أساليب الاستهزاء و التنقص للمحاور بالكلام أو الإشارة لأن ذلك يوغر صدره وينقل الحديث من الكلام على الموضوعات و القضايا إلى التنقص للذوات والأشخاص. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا . ( ) . وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - "ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء" ( ) . وفي صفة المؤمنين ( و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ). ( الفرقان : آية : 63 ) ، قال الحسن البصري : ( إن جهل عليهم جاهل حلموا و لم يجهلوا ) . ( ) 
ثم إن الحوار الإيجابي هو الحوار الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت ، ويرى العقبات ويرى أيضا إمكانيات التغلب عليها ، وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي ويحترم الرأي الآخر ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر. 

يقول بعضهم :عن الحوار الإيجابي : ( هو حوار واقعي يتصل إيجابيا بالحياة اليومية الواقعية واتصاله هذا ليس اتصال قبول ورضوخ للأمر الواقع بل اتصال تفهم وتغيير وإصلاح وهو حوار موافقة حين تكون الموافقة هي الصواب ومخالفة حين تكون المخالفة هي الصواب فالهدف النهائي له هو إثبات الحقيقة حيث هي لا حيث نراها بأهوائنا وهو فوق كل هذا حوار تسوده المحبة والمسئولية والرعاية وإنكار الذات ). ( )
ويقال عن غايات الحوار "للحوار غايتان اِحداهما قريبة والأخرى بعيدة. أما غاية الحوار القريبة والتي تطلب لذاتها دون اعتبار آخر فهي محاولة فهم الآخرين . وأما الغاية البعيدة فهي إقناع الآخرين بوجهة نظر معينة. إن هذه الآداب وغيرها محفزات للتفاهم، وعدم رعايتها ربما يحفز في الطرف الآخر وتيرة الغضب فيثأر لكرامته أو لحقّه الذي أحس باهتضامه -ولو في نظره- .

المطلب الرابع: إباحة الجدال وذم المراء و الخصومة في الشرع لخلوهما من آداب الحوار.

الخلاف بين الخلق لا يمكن رفعه فهو فطرة وواقع موجود في كل زمان – وبكثرة - قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (سورة المائدة، الآية 48). و {الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} (سورة آل عمران، الآية 141). و{لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود، الآية 118). 
والجدال في القرآن بين الأنبياء و أقوامهم كثير وهو جدال لا مراء فالله تعالى يقول: {لكل وجهة هو موليها} (سورة البقرة، الآية 148). في إشارة واضحة إلى تعدد التوجهات يقول أيضاً: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض} (سورة البقرة، الآية 145). {إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سورة سبأ، الآية 24)
لقد تنزل الرسول صلى الله عليه وسلم في الحوار إلى مستوى من يحاور تاركاً الحكم لله تعالى.
وقال تعالى آمرا بمراعاة اللين في المخاطبة و المحاورة مع ظالم متجبر:{اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري* اذهبا إلى فرعون انه طغى* فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى }. (سورة طه، الآيات 44،43،42). فعلَّل اللين بأنه أدعى للتذكر والخشية .وأمر بإتباع الحكمة في الدعوة: {ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاًوقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالّتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (سورة فصلت، الآيتان 33-34). 
{ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم} (سورة الانعام، الآية 108).حتى إن قوم نوح قالوا له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]، فأكثر جدالهم حتى تبرَّموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار . 
وقال تعالى ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46. 
- وقال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125.] وأخبر تعالى عن مجادلة خليله إبراهيم للمرسلين، شفقة منه عليه السلام على قوم لوط: قال تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود:74 (.
وأما المناظرة و المحاورة في مسائل الفقه المختلف فيها وفي أصول الفقه وفي معاني كلام العرب والنحو والبلاغة وغير ذلك من العلوم المفيدة، لا شك أن المناظرة فيها بين المختلِفِين، أمر مفيد يلقِّح الأفهام وينبِّه على دقائق المعاني ويساعد في تقوية البديهة ، ولذا تناظر العلماء من السلف والخلف في الخلوات والمجامع ، وقرعوا الحجة بالحجة ، والفكرة بالفكرة ، وتذاكروا كذلك في الحديث وتناظروا في الأسانيد وحملتها والمتون ونقلتها ، ورأوا أن ذلك أدعى لحفظ العلم ، ومعرفة الصواب ، وفي كتب التراجم أخبار عن ذلك مفيدة وفي كتب الفروع الفقهية وكتب الخلاف بين المذاهب والمطولات من كتب الأصول الفقهية والرحلات ومجالس العلماء وأخبارهم نفائس مذكورة ، وفي كتب المنوعات والمجاميع ككتاب الفنون لابن عقيل ، شذرات حسنة .
وقد اعتنى بالمذاكرة الحفاظ من المحدثين وكان يقع في مذاكراتهم مناظرات في الرجال وفي تعليل الروايات ... ، فالمناظرة فن حسن له آداب ومنافع ....وأما جدال الكفار والملحدين فجائز بالتي  ( العنكبوت - 46 )، وكما(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن )هي أحسن :   ، ( النحل - 125 ) ، بل هو باب من أبواب(وجادلهم بالتي هي أحسن )قال تعالى  الدعوة إلى الله عندما تتوفر الدواعي وتنتفي الموانع .
وأما أن يَتصدَّرَ لمجادلة الملحِدين في الملأ من تَقِلُّ معرفته أو يضعُف بيانُه عند اللَّجاج و كثرة الحجاج ،فهذه مخاطرة تؤدِّي لإضعاف الحق لضعف العلم و البيان ، فكيف إذا كان ما يلقيه ، الخصم شبهة تَدِق ، فتحتاج إذ ذاك لمن يزيِّفها لا لمن يعنِّفها فقط.
غُمُوض الحق حين تذِب عنه ******* يقلِّل ناصر الخصــم المحق 
تَجِل عن الدقيق عقول قــوم ****** فتحكم للمُجِل على المُدِق 
فباب المخاطرة باب يغلقه العقلاء ، ويمنع منه الشرع وإن قيل إنه يمكن تلافيه فيما بعد .
توقِّ الداء خير من تصدٍّ ********* لأيسرِهِ وإن قرُبَ الطبيبُ 
ولهذا فما يوجد من تصدي بعض وسائل الإعلام لنقل المناظرات التي يكون فيها من ينصر الكفر أو يدعو إلى غير الإسلام لا يكون حسنا ولا مقبولا إلا إذا كان من يناظر من المسلمين معروفا بقوة العارضة وحسن الفهم وحضور البديهة مع التوغل في العلم .
وهكذا فكل مناضلة عن حق أو مناظرة لباطل أو مبطِل أو مخالف لا بد أن تكون متكافأة فمتى اختار المعِدُّ للمناظرة أو للبرنامج متناظرين أحدهما دون الآخر في الفهم والعلم وسرعة البديهة مع وجود من هو أقدر منه من أهل مذهبه فلم يعدل ولم ينصف . 
وكذا لو انحاز إلى أحدهما بأن مكنه من الكلام أكثر من الآخر أو أكثر من مقاطعة أحدهما دون صاحبه فقد أثر على المناظرة بمؤثر لا يجوز . ومن ذلك أن يكون بيده مداولة الكلام بينهما فيعطي لأحدهما وقتا أكثر من الآخر على حساب إيضاح الآخر لحجته وبيانه لوجهته . 
وقد ورد الذم للمراء و للخصومات في السنة لما ينتج عنها من فساد ذات البين و ما يكون فيها من البغي و الظلم فما ورد في ذلك .
ففي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَبْغَض الرِّجَال إِلَى اللَّه الْأَلَدّ الْخَصِم " ( ) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( كَثْرَة الْمُخَاصَمَة تُفْضِي غَالِبًا إِلَى مَا يُذَمّ صَاحِبه أَوْ يُخَصّ فِي حَقّ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِل وَيَشْهَد لِلْأَوَّلِ حَدِيث " كَفِي بِك إِثْمًا أَنْ لَا تَزَال مُخَاصِمًا " أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيف وَوَرَدَ التَّرْغِيب فِي تَرْك الْمُخَاصَمَة , فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق سُلَيْمَان بْن حَبِيب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ " أَنَا زَعِيم بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّة لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاء وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ( ) " وَلَهُ شَاهِد عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث مُعَاذ بْن جَبَل " وَالرَّبَض " بِفَتْحِ الرَّاء وَالْمُوَحَّدَة بَعْدَهَا ضَاد مُعْجَمَة " الْأَسْفَل " ) .اهـ . 
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا ). قال الترمذي رحمه الله : وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . ( ) ورواه ابن ماجه. ( ) وفي سنده ضعف فيه سلمة بن وردان ضعيف ( ) . 

المطلب الخامس : موجز في أهم المصالح المترتِّبة على مراعاة آداب الحوار.
مراعاة المتحاورين لآداب الحوار تحقق المصالح المتوخاة من الحوار و الجدال بالحكمة ومتى خلا الحوار من مراعاة هذه الآداب و الحقوق فسيقع بسببه من الأضرار بحسب ما نقص من آداب الحوار ، وذلك لأن الله تعالى خلق في طبيعة الإنسان الانتفاع بالكلام الحكيم إذا سيق على وجه نافع مفيد و بالحكمة .
ومتى ما أردنا تحقيق المصالح المترتبة على الحوار فلا مناص لنا من الأخذ بآداب الحوار . ومن المصالح المهمة التي تترتب على مراعاة آداب الحوار ما يلي : 
- إشاعة روح المحبة و تقوية أواصر الأخوة ومراعاة الحقوق التي تجب للمسلمين على بعضهم وذلك لأن الذين يراعون آداب الحوار و أخلاقه لا تفسد موادتهم و إن اختلف آرائهم و توجهاتهم ، لأنهم بمراعاتهم لآداب الحوار يتفهم كل منهم وجهة نظر الآخر فلا يشدِّد عليه حين يخالفه في فهم أو في ترجيح بل يُبقِي الحوارُ الحكيم الطُّرُق و الأبواب مفتوحة لقضاء الحقوق الواجبة وتحقيق الألفة الإيمانية.
- أن ذلك يقوِّي الأُمة لأنه يفتح أبواب التعاون أكثر فأكثر فتعانق الفكرةُ الفكرةَ ويسدد الرأي الرأي، لأن مراعاة آداب الحوار يمنع من الاستبداد بالآراء كما ينبِّه على وجه الصواب و الخطأ.
- أن مراعاة آداب الحوار تحفظ أوقات المتحاورين وتبعدهم عن المراء المذموم واللَّجاج الذي لا فائدة منه . عنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ من علماء التابعين :قَالَ: قَالَ :سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام لابْنِهِ: ( دَعْ الْمِرَاءَ فَإِنَّ نَفْعَهُ قَلِيلٌ وَهُوَ يُهَيِّجُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْإِخْوَانِ ). رواه الدارمي. ( ) 
- أن مراعاة آداب الحوار من المتحاورين تجعلهم أبعد عن انتشار العداواة والضغائن لأن مراعاة آداب الحوار يفسح المجال لإبدء الرأي، و يمنع من تحقير الغير و لقد كان من أسباب العداواة و البغضاء بين الأمم السابقة ثم بين )هذه الأمة وبين بعضها ما أثاره كثرة الجدال و الخصومات بغير حكمة ، قال تعالى :   ( المائدة - 14 )قال إبراهيم النخعي رحمه الله:(فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء  (الخصومات والجدال في الدين ) اهـ .( ) 
- أن مراعاة آداب الحوار من المتحاورين تفسح المجال لفهم الآخر فهم جيدا غير مغلوط ، وذلك في غاية الأهمية لبناء العلاقات المفيدة.
- أن مراعاة آداب الحوار من المتحاورين تمكن من إقناع المخطئين بخطئهم فيرجعون عنه أو يرجع بعضهم و يقل التأثر بأخطائهم .
- أن مراعاة آداب الحوار من المتحاورين تفيدهما جميعا علما جديدا أو رأيا سديدا يضاف لمعارفهم وعلومهم و خبراتهم.
- أن مراعاة آداب الحوار من المتحاورين ، تبعدهما عن الأخلاق الذميمة كالاستهزاء بالغير و لو كان مخطأ فإن الاستهزاء لا خير فيه. إذ ليس من صفات أهل الإيمان أن يأمنوا مكر الله أو يسخروا بعباده الضالين، فإن الذي أضلهم بعدله ، قادر سبحانه أن يضل من يهزأ بهم ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( لو سخرت من كلب لخشيت أن يجعلني الله كلبا ) اهـ . . رواه ابن أبي شيبة في المصنف في كتاب الأدب 6 / 115 من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله به ومراسيل إبراهيم عن عبد الله بن مسعود صحاح . ورواه ابن المبارك في الزهد من طريق الأعمش عن أصحابه عن عبد الله بن مسعود ( برقم ( 741 ) ، 256 - 257 ) وزاد فيه : ( وإني لأكره أن أرى الرجل فارغا ليس في عمل دنيا ولا آخره ) ، وذكره الإمام الذهبي في سير النبلاء ( 1 /496 ) بدون الزيادة . 

وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( لو رأيت رجلا يرضع شاة في الطريق فسخرت منه خفت أن لا أموت حتى أرضعها ) .( مصنف ابن أبي شيبة 6 / 115 ) ولأن في السخرية بالتصريح أو التلميح بالآخر نوع تعظيم للنفس كما كان الأوزاعي رحمه الله تعالى يقول : ( إذا رأيت رجلا يقع في آخر فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه ) اهـ . (جامع بيان العلم وفضله 2 /36)

ولا يقال لأحد إذا رأيتَ من يفعل المنكر والغلط العجيب فلا تنكره ، ولكن لا تزد على الإنكار بالسخرية ، ولا تتشاغل عن عيوبك بالاستهزاء بمن حرم التوفيق من عباد الله. 
فهذا كان إيجازا لأهم المصالح المترتبة على مراعاة آداب الحوار وهي مصالح عظيمة. 

المراجع 
لسان العرب ج: 5 ص: 219 - ج: 11 ص: 105
قواعد الفقه ج: 1 ص: 509
مختار الصحاح : 1 / 41 
المفردات للراغب : صـ 135 
 الغريبين لأبي عبيد الهروي : 2 / 508 
تفسير الواحدي – الوسيط - : 3 / 148 و تفسير البغوي : 3 / 162 و تفسير القرطبي : 10 / 403 و تفسير الرازي: 21 / 107 
 قصة سقراط اقتبستها من أدب الحوار : للشيخ سلمان العودة .
مقال للدكتور/ عبد الله حمدنا الله (جريدة المسلمون - عدد 337-8 المحرم 1412): 
صحيح البخاري : تفسير القرآن ، باب و هو ألد الخصام( ح 4161 ) وصحيح مسلم : العلم ، باب في الألد الخصم. ( ح 4821 )
سنن الترمذي : كتاب البر و الصلة، باب ما جاء في المراء ( ح 1916 ).

الحوار لغة : المحاورة في اللغة هي المجاوبة والتحاور التجاوب، ويقال : كلَّمته فما أحار جواباً ! أي ما رد جواباً وتحاور القوم أي تراجعوا الكلام بينهم .
ويتضح من هذه ا لإلماحات السريعة أن المقصود بالمحاورة والتحاور هو تراجع الكلام مخاطبةً وجواباً ؛ فهناك كلام وجواب بمعنى أنه قد يكون سؤالاً وجواباً أو رأي أو إعتراض فأخذ ورد، ويكون هذا بين الأطراف المتعددة، قد يكون هناك اثنين يتحاوران أو أكثر من اثنين، والله جل وعلا قد قص علينا من القرآن الكريم كثيراً من القصص التي أورد فيها الحوار وذكرت الآيات القول ورده والسؤال وجوابه، كما قال جل وعلا في سورة الكهف في قصة الرجلين : { قال له صاحبه وهو يحاوره {
قال أهل التفسير أي يخاطبه ويكلمه، فهذا بيان معنى المحاورة أي أنها هي المخاطبة والتكليم
 .

أسباب الحوار وبواعثه
الباعث الأول : أنموذج الحوار المنطقي
يعتبر الحوار في القرآن والسنة أنموذج نستقي منه ونعرج عليه، وقد قص الله علينا في قصص الأنبياء و المرسلينكثيراً من المحاورات التي وقعت بين الرسل والأنبياء وبين أقوامهم أو بين المعارضين لهم من الكبراء والطغاة، فقد قص الله جل وعلا علينا قصة إبراهيم عليه السلام خليل الله { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ... {
وذكر لنا أسلوب الحوار والرد الرائع ، والأدب الجم ، والحجة القوية ، والوصول إلى إحقاق الحق ، وإبطال الباطل في بضع آيات وقع الحديث عنها بين إبراهيم عليه السلام وبين هذا النمروذ - بالذال أو بالدال كما ذكر ابن كثير وغيره من المفسرين - وأيضاً قص الله جل وعلا في القرآن الكريم قصص كثيرة في حوار موسى عليه السلام مع فرعون ، وأيضاً في حواره مع قومه، وليس المقام هنا مقام ذكر هذه الآيات والتطويل فيها وإنما إشارة إلىورودها وذكرها، ونعلم ذلك الحوار الذي جرى بين موسى وفرعون لما قال : { وما رب العالمين {
وتواصل الحوار حتى لجأ فرعون إلى حيلة العاجز واستعمال الأساليب التي تتخذ حينما يصل المحاور درجة العجز حيث قال : { لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين {
فهنا لم تعد محاورة وإنما صارت صراع ، وانتهى الحوار ، وجاء منطق آخر غير علمي ولا منطقي ، ولا نافع للأطراف التي قد تختلف في الرأي بصورة أو بأخرى .

وقصة نوح ذكر الله جل وعلا في ثناياها أن قومه قالوا : { يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا {
والمجادلة والمناظرة معاني قريبة من المحاورة، فالمجادلة مشتقة من الجدل، جدل الحبل أي فتله والمراد ان المجادل يريد أن يجدل صاحبه وأن يفتل مجادِله ليأخذه إلى رأيه وليقنعه بفكرته، والمناظرة هو النظر في الأمر بين اثنين رغبة في أن يكون نظر أحدهم هو الذي يقدَّم عند الآخر أو يقبل عند الآخر، والمجادلة والمحاورة أيضاً بمعنى قريب من هذا، وفي السنة وردت محاورات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها يطول أيضاً، لكن أذكر - على سبيل المثال - مثالاً واحداً عارضاً في قصة الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غلام أسود وقال : إنامرأتي جاءت بهذا لغلام السواد .
فهو كان في نفسه من ذلك ريبة وكأنه يخشى أن يكون هذا الولد ليس منه، وليس فيه ولا في زوجته ولا بعض أهله من له هذا اللون، فأدار النبي عليه الصلاة والسلام حواراً جميلاً مقنعاً ومطيِّباً للنفوس ومقيماً للحجة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أليس لك إبل ؟ قال : بلى، قال : فما لونها ؟ ، قال : حمراء ، قال : هل فيها من أورق ؟ ، قال : نعم، قال فمن أين جاء ؟  ، قال : لعله نزعه عرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فلعله أي فلعل ابنك هذا نزعه عرق .
وهذا معلوم في علم الوراثة يُعلم أن الصفات الوراثية قد تختفي جيلاً ، وتظهر في جيل آخر، فانظر إلى هذا الحوار اللطيف وإلى هذا الأخذ والرد والسؤال والجواب والإقناع الذي يحصل به قناعة العقل وطيبة النفس ومحبة القلب معاً، فهذا من الأسباب والبواعث للحوار، ما دام الله جل وعلا قد قص علينا والنبي صلى الله عليه وسلم قد قام بهذا الحوار وأجراه بينه وبين الناس من معاند ومخالف ومن موافق ومخالف، فلماذا لا نتعلم وننتفع بهذا الحوار .

الباعث الثاني : الحوار بين الإستحباب والفرض
أن أهل العلم ذكروا في حكم المناظرة أنه في كثير من الأحوال مستحبة ، وفي بعض الأحوال يتأكد إستحبابها بل فرضيته - على سبيل الكفاية - عند حصول المخالفة والمعاندة لدين الإسلام، يلزم أن يكون من أهل الإسلاممن يقيم الحجة ويناظر أهل الكفر والباطل ويدحض حجتهم ويندد بشبهتهم، ولذا قال الشنقيطي رحمة الله عليه، في شأن المناظرة، قال : 
أقل مراتب حكمها الجواز إن كانت على الوجه المطلوب، وقال بعضهم بإستحبابه، وقيل : إن القدْر الذي يلزم لإبطال شبهة خصوم الحق فرض كفاية " .
وليس ببعيد أي لا يبعد أن يكون هذا فرض كفاية لأنه مما تحتاج إليه الأمة .

الباعث الثالث : وجود الإختلاف في الآراء وفي الطباع
وهذا أمر فطري بشري وهذا من إعجاز خلق الله سبحانه وتعالى، لا تجد إنسان يتطابق مع إنسان آخر في كل شي ء بل لا يتحقق ذلك في الإخوة الأشقاء بل لا يتحقق حتى في التوأم الذين يغلب عليهم صفات كثيرة من الشبه ؛ حتى إن بعض الناس لا يفرق بينهم لكنك تجد هذا حليماً متأداً أي ذا تؤدة وذلك سريع الغضب منفعلاً وتجد إختلاف في طريقة التفكير وفي سعة الذاكرة وفي توقد الذهن وفي سرعة الفهم .
ولذلك الله عز وجل خلق الناس مختلفين في أفهامهم وفي مداركهم وتصوراتهم وعقولهم ؛ وهذا بالتالي ينتج عنه إختلاف بين الناس ومادام وُجد الإختلاف فلا بد من وجود التحاور ، ولا بد من الأخذ و الرد ، وإقامة الحجة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد قال الله عز وجل : { وجادلهم بالتي هي أحسن {
وهذا الإختلاف قال الله عز وجل عنه : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم .
فلا يمكن مهما كان بيني وبينك من ود وألفة ومهما كان بيني وبينك من اشتراك في طلب العلم ومعايشةً في بيئة واحدة إلا أن الله جل وعلا قد جعل هذه فطرة بشرية في إختلاف آراء الناس يترتب عليها الإحتياج إلى مثل هذا الحوار
 .

 

الباعث الرابع : طبيعة بعض النصوص الشرعية
وقبولها لإختلاف الأفهام والأنظار، فنصوص الشرع ليست كلها قطعية بل فيها نصوص ظنية تحتمل معاني متعددة وتختلف فيها الأفهام وتتعدد فيها الإجتهادات، ومن ثم وجد أيضاً إختلاف في بعض المسائل والأحكام الشرعية في الأبواب التي يسوغ فيها الإجتهاد ولمن كان مؤهلاً وفق الضوابط الشرعية للاجتهاد الذي ذكرها أهل العلم، وهذا كما قال الشاطبي من رحمة الله عز وجل وحكمته، يقول الشاطبي في الإعتصام :
إن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار، ومجالاً للظنون - لا يفهم من معنى الظنون أي الظن الفاسد يعني المسائل الظنية -، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات 
وحسبنا أن نضرب مثلاً واحداً في مسألة من مسائل الإختلاف التي يظهر فيها أن هناك ما يسوغ مثل هذا الإختلاف :
الله جل وعلا قال في شأن المطلقات { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {.
والقرء هو من الأضداد اللغوية يطلق على الحيض ويطلق على الطهر، فقائل بأن المقصود هي أن العدة هي ثلاث حيضات وقائل ثلاث أطهار، وهذا القول في الواقع العمل الذي يترتب عليه غير العمل الذي يترتب على القول الآخر، وهناك أسباب كثيرة ذكرها أهل العلم ولخصها وأوجزها شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام عندما ذكر أسباب الإختلاف من ذلك : " أنه قد لا يبلغه النص أو قد يبلغه النص ، ويختلف الإجتهاد في التصحيح والتضعيف ،أو قد يتفق الإثنان على التصحيح لنص ما لكن يختلفان في دلالته ! وثالث أو رابع قد يتفقان في الدلالة ولكن يظن بعضهم أن بهذا النص ناسخ .. إلى غير ذلك لما ورد ووقع فيه الإختلاف في الآراء
" .

الباعث الخامس : واقع الحوار 
إن واقع الحوار غير مرضي وغير متطابق مع الضوابط الشرعية وآداب الإسلام في كثير من الأحوال، وكما قلت كثيراً ما ينقلب الحوار إلى مجادلة وقد تتحول المجادلة إلى مخاصمة ، وقد تنتقل المخاصمة إلى مضاربة أو مصارعة وأحياناً تجد اثنين قد اختلفا في أمر من الأمور فجاءا ليتفهما فلم تلبث إلا جزيئة أو جزء من الدقيقة ، فإذا بك تسمع صوتاً محتداً وكلمات متبادلة واتهامات تطير من هنا وهناك، وهذا الواقع لا شك أنه لا يليق بالمسلمين من بذاءة في الألفاظ أو قذف بالإتهامات أو وجود لإضمار السوء بالنوايا أو نحو ذلك .

فلما وجدت بعض هذه الصور التي فيها خلل وخطل و خطأ كان من المناسب أن يكون مثل الحديث، وأظن أنه قد سلف أحاديث بعضها يمس هذا الموضوع من قريب أو بصورة غير مباشرة، وأحسب أن هناك من الأحاديث والمحاضرات في هذه الموضوع ما هو جدير بأن يستفاد منه ويحرص عليه، لماذا نتحاور ؟ لوجود هذه الأسباب .
 

 

فوائد الحوار 
الفائدة الأولى : وسيلة ناجعة وناجحة
من الوسائل الناجحة في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو من وسائل تبليغ الحق ونصرته وزهق الباطل وهزيمته، وقد مر بنا ان القصص القرآني الذي ذكر الله عز وجل فيه هذا الحوار ظهر لنا في آخره إنتصار الحق وعلو رايته وظهرت لنا إقامة الحجة، فهذا لا شك أنه أمرٌ مهمٌ جداً ؛ فإن المخالف قد يكون مخطئاً في الفهم ، وإن العاصي قد يكون متأولاً في معصيته، فإذا لم يكن بيننا وبينهم حوار فلا تتحقق الثمرة المرجوة، نحن جميعاً نرجو للكافر دخوله في الإسلام وللعاصي التوبة والإستغفار وللطائع المزيد من الخير.
نحن قومٌ علمنا ديننا ان نحب الخير لكل الناس وحتى أن الجهاد والقتال وإقامة الحدود من حب الخير للناس { فمن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً { .

هذه المعاني يجب ان نستحضرها وأن تكون أيضاً وردت في الأذهان، ويدخل في ضمن ذلك أن الحوار قاطع لدابر الشبهات ومفند لزيغ أهل الأهواء والضلالات، وإن بعض الناس قد تروج عليهم هذه الشبهات وتتسرب إلى عقولهم الأهواء والبدع والضلالات، فعندما تحصل المحاورة تنحسم هذه المادة ويرى الناس نور الحق كيف يبدل ظلمات الباطل ويرى الناس كيف يكون الدليل الساطع الناصع مبطلٌ للوهم والشبهة المدخولة المغلوطة .

وأذكر في ذلك مثالاً لطيفاً، ذُكر في ترجمة الباقلاني في البداية والنهاية عن الحافظ ابن كثير : 
لقيَ الباقلاني - وهو من أهل العلم ، ومن أهل الذكاء بل هو من أذكياء أهل الإسلام - لقيه بعض النصارى ، وأرادوا ان يُعرِّضوا بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالوا له سؤالاً يقصدون به إحراجه ، وحتى ينحصر - كما يقولون - في زاوية ولا يستطيع أن يتكلم ويقولون عنه أُفحم أو كما يقولون أُسكت أو نحو ذلك، قالوا : ما فعلت زوجة نبيكم - والسؤال فيه خبث ودهاء ، ليس فيه غير ذلك - كأنهم لم يتهموا ولم يقولوا شيئاً ، وإنما أرادوا أن يشيروا إلى قصة الإفك التي قالها أهل النفاق في شأن عائشة رضي الله عنها، فأجابهم الباقلاني على البديهة مباشرة جواباً مفعماً مقنِعاً قاطعاً لشبهتهم ومخرساً لأهل الباطل، قال : هما إمرأتان ذكرهم الناس بسوء : إحداهما لا زوج لها وجاءت بولد، والثانية لها زوج ولم تأتي بولد، وقد برأهما الله عز وجل " .
يعني بالأولى مريم عليها السلام اتهمها أهل الكتاب من اليهود والنصارى، طبعاً اليهود منهم خرجت أصل التهمة ، وبعد ذلك تابعهم النصارى لما جاءت بعيسى عليه السلام قالوا لها : { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً { .
اتهمهوها بالزنا .. قال هي إمرأة ليس لها زوج وجاءت بولد ، وأما عائشة رضي الله عنها لها زوج ولم تأتي بولد ! أيهما أكثر شبهة وريبة الأمر الأول، فقال في بقية القصة : " إن كنتم تريدون تلمزوا على أهل الإسلام ، فأنتمالأحق باللمز وإن كان الأمر أن كلاهما قد ورد فيهما القول الفصل والحق من الله سبحانه وتعالى
 " .

الفائدة الثانية : كشف الخطأ وبيان وجه القصور
نحن كلنا ذاك الرجل الخطّاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل ابن آدم خطاء وخير الخطاؤون التوابون .
إذا كنت وحدك منعزلاً لا تكلم أحداً ولا يكلمك أحداً ولا تستفي عالماً ، ولا يستفتيك أحد ولا تراجع أحداً ولا يراجعك أحد ؛ فإنه لا بد لك أن تعرف خطأً وقعت فيه أو علماً وهمت فيه أو دليلاً لم يكن في محل إستشهاده أو نحو ذلك، إذ هذه المحاورة سبيل من سبل تقويم ذواتنا وتقليل قصورنا، وحتى إن الفطن اللبيب قد يحمد أعدائه في بعض الأحيان لماذا ؟ لأن الأعداء أعينهم بك متربصة وفرحهم بأخطائك كبير فهم قد هيأهم الله عز وجل لكي ينبهوك على أقل خطأ تقع فيه وفي وقت وقوعه، فكلما وقعت في خطأ نبهوك عليه لا من حسن نيتهم ولا من حسن قصدهم لك، وإنما هكذا جعل الله عز وجل المنافع والفوائد لعبده المؤمن .
ولذا قال القائل :
عداتي لهم فضل عليّ ومنة *** فلا أبعد الرحمن عني الأعادي
هم بحثوا عن سؤتي فاجتنتبها *** وهم نافسوني فاكتسبت المعالي

فهذا أيضاً أمرٌ نستفيده من هذه النواحي، وبلال بن سعد أحد أئمة السلف رضوان الله عليهم يقول :
أخٌ لك كل ما لقيته ذكَّرك بنصيبك من الله ، وأخبرك بعيب فيك أحب إليك وخير لك من أخ كل ما لقيكوضع في يدك ديناراً " .
ما معنى هذا أيها الأحبه المعنى أن الأخ الناقد المحاور الناصح إذا جاء وفق الضوابط الشرعية وبالأسلوب الحسن ؛ فإنه يكون قد قدم لك خيراً كثيراً خيرٌ لك من أن تُنقَد النَقْد وتُعطى المال.

الفائدة الثالثة : تلاقح الآراء مظنة الصواب
تلاقح الآراء عند المحاورة والمراجعة، فأنت عندما تختلف مع إنسان وتتناظر معه في أمر من الأمور تبدي له دليلك ويبدي لك دليله، ثم يكون بينكما من النظر في هذا الأمر ما جعل نظر الإثنين أرجح من نظر الواحد، ولو اُجتمع على المسألة من أهل العلم أو اجتمع عليه عدد من الذي تناقشوا فيها وتحاوروا حولها لكان رأيهم في ذلك أقرب إلى الصواب ما داموا آخذين بالمنهج الشرعي في الحوار .

كيف نتحاور ؟
أولاً : أسس الحوار وضوابطه العامة
ثانياً : آداب تطبيقية 

أسس الحوار وضوابطه:
الأساس الأول : النية الخالصة والمقصد الحسن
ماذا تقصد بمحاورتك و مناظرتك، إن كنت تقصد الإنتصار للنفس ، أو حصول الغلبة لك أو قهر خصمك أو إرتفاع شأنك أو أي شيء من هذه المقاصد كلها ، فاعلم أنك قد ضيَّعت نفسك وأحبطت كثيراً من أجرك وعملك، المقصد الأساسي الأهم هو أن يكون مقصدك رضى الله وإصابة الحق رضى الله عز وجل وإصابة الحق، فحيث ما كان الحق فأنت معه، وأينما ورد الصواب فأنت أمامه وخلفه، وعلى أي لسان ظهرت الحجة فأنت بها مُقِر ولها مسلِّم، ورحم الله الشافعي إذ قال في مقالته المشهورة المعروفة : " إني لأحب أن يُظهر الله الحق على لسان مخالفي " .

وكان بعض السلف يقول : " لا أبالي أظهر الحق على لساني أم على لسان خصمي " .
والخصم هنا ليس بالضرورة أن يكون متخاصما متشاجراً معه ؛ بل إنما خصومة الرأي والفكرة، قد يختلف شخص ما في رأي فيسمى خصماً من هذا الباب، وقد ساغ ذلك عند أهل العلم وأخذوا به وكتبوه في كتبهم، وعلىسبيل المثال الزيلعي الحافظ في كتابه [ نصب الراية ] إذا جاء بالحديث الذي في كتاب الهداية ثم خرَّجه، بعد ذلك يقول باب في أحاديث الخصوم يعني به أصحاب المذاهب الثلاثة غير مذهب أبي حنيفة لا يعني بهم خصوماً إنما مخالفين الخصومة هنا بمعنى المخالفة .

نعود إلى النية الخالصة التى في رضى الله عز وجل وطلب الحق، لا بد أن تنشأ عنها نفسية مهيئة لقبول الحق، مذللة له وتأتي من وراء ذلك أيضاً الكثير من الفوائد الأخرى، وقد علمنا الشرع أن الحق هو غاية المؤمن أنى وجده فهو أحق به من غيره .
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء - كما ورد في السنة الصحيحة - فلما سأل عن ذلك قالوا : ذلك يوم نجى الله فيه موسى ، فنحن نصومه تقرباً إلى الله عز وجل، قال : ( نحن أحق بموسى منهم ! صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده   .
وقصة أبو هريرة رضي الله عنه : لما كان إبليس يجيء فيسرق منه بعض الحبوب التي كانت عنده ولما كان هو حافظاً لها فيضبطه .. ثم الليلة الثالثة قال : اتركني، وأقول لك حرزاً إن قلته سلمت من الشيطان - فانظر إلى رغبة أبو هريره رضي الله عنه في الخير ورغبة الصحابة على الحق و الفائدة، رغم أنه أمسك به متلبساً شفع له هذا المدخل - قال : ما هو، قال: اقرأ آية الكرسي إذا أصبحت وإذا أمسيت فلا يزال عليك من الله حافظ، فأخبر أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال : أعلمت يا أبو هريره من الذي يأتيك منذ ثلاث، قال : من يا رسول الله، قال : ( هو إبليس صدقك وهو كذوب   .

قال ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث : " ومن الفوائد التي فيه : أخذ الحق من كل أحد " 
هذه نفسية لا بد أن ينطلق منها المحاور أو المناظر، ويقول حاتم الأصم :
ثلاث خصال أظهر بها على خصمي - وأريد أن نتأمل في هذه الخصال التي تظهر بها على خصمك قد ينصرف الذهن إلى أن تجوِّد علمك ، وأن ترفع صوتك ، وأن لا تترك لخصمك فرصة لا يتكلم فيـها بل لا يتنفس فيها .. ماذا قال حاتم رحمة الله عليه ؟ - قال : ثلاث خصال أظهر بها على خصمي، فلما سئل : ما هي ؟ قال : " أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ خصمي ، وأحفظ نفسي أن لا تتجاهل عليه " ، فبلغ ذلك الإمام أحمد رحمة الله عليه فقال : سبحان الله ما كان أعقله من رجل .

الأساس الثاني : العلم
فإن المناورة والمحاورة بغير علم نوعٌ من الحماقة وسفهٌ لا طائل ورائه، والجاهل هو الأحمق الذي لا علم عنده، وهو عدوٌ لنفسه قبل أن يكون عدوه غيره، وقال بعض أهل العلم : " ناظرت العلماء فغلبتهم وناظرت الجهلاء فغلبوني " .

فلم يغلبوه بالحجه وإنما غلبوه بجهلهم، كما قال الشاعر الجاهلي :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وإن قلت كلمة رد عليك عشراً ، وإن رفعت صوتك مقداراً زادك فوقه مقادير، تكلمه في الشرق فيأتيك من الغرب ، فلا تستطيع أن تكمل معه حواراً، ويُذكر في ذلك طرفة أو لطيفة من اللطائف ووقعت في مجلس أبي حنيفه أو غيره من أهل العلم، وهو أنه كان يحضر المجلس عددٌ من الناس لطلب العلم وكان من بينهم رجل صامت، لا يسأل ولايقرأ ولا يُبدي شيئاً لا سلباً ولا إيجاباً، فعجب منه فتوجه إليه الشيخ مرة فقال : ألا تتكلم ألا تسأل، قال : افعل إن شاء الله، فلما جاء اليوم الثاني وانتهى الدرس سأل قال : متى يفطر الصائم، فأجابه الشيخ قال : إذا غربت الشمس، فقال : وإذا لم تغرب، فقال : قد كنت ساكتاً فانطقناك فالحجة علينا لا عليك
فهذا الجاهل لا شك أنه يفسد من حيث يريد الإحسان !

و الله عز وجل قد ذم المجادلة بغير علم، وقال : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم { .
والعلم المطلوب هنا هو العلم الشرعي والعلم بالواقع والمسألة التي تتناظر فيها أو تتحاور فيها فلا تأتي في مسألة - على سبيل المثال - من مسائل البناء وفي مسائل تحتاج إلى معرفة المهندس والخبير فتأتي أنت لكونك من أهل الخير أو لكونك من أهل الصلاح ، أو لكونك من أهل الزهد فتناظر إلى ما يتعلق بجودة البناء أو متانة الأعمدة والأركان، هذا لا يصح ولا ينبغي أن يكون، والله جل وعلا قال : { ولاتقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً  

وأحياناً تدخُّل الجاهل أو غير العالم بالمسألة قد يضر ! ليت الضرر قد يقع عليه وحده إذاً لهان الأمر ! بل قد يقع الضرر عليه وعلى غيره، فإذا جاء محاور غير مكين في العلم ليحاور صاحب إبتداع أو صاحب هوىً ، ثم كان قليل البضاعة فعلت حجة الباطل على الحق، ووقع في نفس الناس من الباطل ما وقع وتزعزعت آرائهم أو وقعت لهم الريبة و الشك، وهذا لا شك أنه خطير إذا ذاع وشاع بين الناس ، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه : " وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة - يعني يُنهى الجهال عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف عن المقاتلة أن يقاتل علجاً من علوج الكفار ؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعته وهذه مسألة مهمة جداً ومن لطائف ما يقال في الباب :
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني *** أو كنت تعلم ما تقول عذرتك
لكن جهلت مقالتي فعذلتني *** وعلمت أنك جاهل فعذرتك

يقول : لو تفهم مقالي لعذرتني ، وفهمت أن قولي هو الحق ، ولو كنت تعلم ما تقول لعذرتك لكن كلامي غير مفهوم عندك ، وكلامك كلام جاهل فأعذرك لذلك، وهذا أساسٌ أيضاً مهم .
ويدخل ضمن ذلك الأساس طبعاً الضوابط العلمية كلها، سواء من التحري الدليل وصحة الدليل والتثبُّت في النقل في الوقائع ونحو ذلك، كله داخل في هذا البا ب والحديث كما قلت على سبيل الإيجاز 

 

الأساس الثالث : حسن الفهم 
وكما قال القائل : 
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

والآفة ليست في القول الصحيح وإنما في الفهم، وهذا يحصل كثيراً عندما تسمع بعض الإخوة أحياناً ينقل لك فتوى يقول الشيخ فلان قال كذا وكذا ، عجب من هذه الفتوى تقول له أنت سمعتها ؟ ول نعم، تذهب لتسمعها أو لتقرأها بنفسك فإذا هو قد فهم شرقاً وهي في الغرب ،وهذا من ضعف الفهم و الإدراك أو من سوءه .

فليس كل أحد أوتي من الفهم ما ينبغي أن يكون عليه، ولذلك لا بد من الفهم، والجواب قبل الفهم حمق اسمع إلى مناظرك وانصت إلى محاورك وافهم كلامه ولا تتعجل الرد ولا تسرع قبل أن ينتهى من كلامه، أحياناً يريد أن يبدأ ليتكلم فتقول له مفهوم هذا الدليل ولكنه ما كان يقصد هذا الدليل لو جعلته يتم كلامه لأتى بغير الذي أردت أو بغير الذي ظننت فلا بد أن تتأنى، ثم إذا لم تفهم فاستفهم ولا حرج عليك أن تستفهم لإنك إن أجبت من غير فهم كانت المغبة عليك أعظم من أن تستفهم فيكون ذلك داعياً أو مفصحاً عن إرادتك لطلب الحق ومنطقيتك في معرفة حجة الخصم، ولذلك جعل العلماء هذا من آداب المناظرة وأنه لا بد أن يستفهم، وقال ابن القيم رحمة الله عليه : 
أن أساس المحاورة ينبنى على أمرين بيان المتكلم وتمكن السامع من الفهم -المتكلم لا بد أن يأتي بكلام واضحبيِّن، لكن قد يبين وقد يفصل لكن الذي أمامه قاصر عن الفهم ، ذاً لم يتحقق الأساس الذي ينبي عليه الحوار والجدال، لذلك يقول : لا بد أن يبين المتكلم مراده بالألفاظ الدالة على مراده، فإذا حصل ذلك ولم يسمع السامع هذه الألفاظ لم يحصل له البيان، فلا بد من تمكن السامع من الفهم وحصول الإفهام من المتكلم .

الأساس الرابع : تحرير محل النزاع 
وهذه مسألة يذكرها العلماء في كتب الفقه - خاصة في الفقه المقارن - الذي يذكرون فيه الأدلة والأدلة المقابلة، ما معنى تحليل محل النزاع ؟ هو أن ننظر إلى موضع الإختلاف بالتحديد ما هو الخلاف في الرأي بيني وبينك، حتى ننظر فيه هل هو خلاف حقيقي أو خلاف لفظي وهناك بعض الخلافات اللفظية فلا تحتاج أصلاً إلى محاورة أو إلى مناظرة لأن قولي وقولك واحد، أضرب مثالاً من الأمثلة التفسيرية في القرآن : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم {
ما هو الصراط ؟ قالوا : الصراط المستقيم هو القرآن ! وقال بعضهم : هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه النبي وأصحابه .. هل هذه أقوال مختلفة نحتاج أن نتناقش فيها وأن نتحاور، الجواب لا، إذاً لا بد أن ننظر في حقيقة الأمر حتى ننظر إلى محل النزاع بالضبط، وقد نتفق إذاً في كثير من النقاط وتبقى نقاط يسيرة محدودة
 .

مثال أيضاً آخر في التفسير فيما يتعلق بقوله عز وجل { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله { .
قالوا الظالم لنفسه الذي لا يؤدي الفروض والمقتصد الذي يؤدي الفروض والسابق بالخيرات الذي يزيد مع الفروض النوافل، قال آخرون غير ذلك : الظالم لنفسه الذي لا يؤدي الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة والسابق بالخيرات الذي يؤدي الزكاة ويزيد في الصدقة، وهذه ليست أقوال مختلفة وإنما هي أمثلة لحقيقة واحدة، فينبغي أن ندرك هذا الأمر وكثير من الإختلافات هي إختلافات تنوع لا اختلافات تضاد
 .
وهذا قد بسط كثيراً في موضع كثيرة من كلام أهل العلم، أذكر منها [ إقتضاء الصراط المستقيم ] لشيخ الإسلام ابن تيمية فيه كثير من هذا الكلام .

الأساس الرابع : مرجع الحوار
لا بد أن يكون عندنا مرجع نرجع إليه إذا وقع الخلاف، وإذا لم نتفق على رأي فما رأيكم لو رجعنا إلى الأعرافوالتقاليد، أو رجعنا إلى العقول التي في رؤوسنا، لي عقل ولك عقل ولي فهم ولك فهم إذاً لن نلتقيَ مطلقاً، لكن المرجعية التي ذكرها الله عز وجل لنا وحفظها لنا وضمن لنا صدقها الدائم وصحتها التي لا شك فيها مطلقاً، وهذا في قوله سبحانه وتعالى { فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكخيرٌ وأحسن تأويلاً { .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم في النزاع الا كتاب منزِّلٌ من السماء، وإذا رُدُّوا إلى عقولهم فلكل واحدٍ منهم عقل" ، ويقول الإمام الشاطبي في هذه المسألة أيضاً كلاماً لطيفاً، يقول : " بيانه - أي بيان هذه المسألة - أن الخصمين إما أن يتفقا إلى أصل يرجعان إليه أولاً ؛ فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال " ، فإذا كلما اختلفنا وأتيتك بدليل فتقول هذه الأدلة ليست مقبولة عندي أو كذا أو هذا الكتاب أو هذا الشيخ غير معترف به عندي، إذاً لم ننتهي إلى نتيجة ولن تحصل ثمرة ولن تقع فائدة ؛ لو كانتالدعوة لا بد لها من دليل وكان الدليل عند الخصم متنازع فيه فليس عنده بدليل، فصار الإتيان به عبث لا يفيد بفائدة ولا يحصِّل مقصوداً .

ومقصود المناظرة هو رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه، الخصم السائل، لأن رده بغير ما يعرفه فيه تكليف ما لا يطاق، ولا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدِلّ، وعلى ذلك دلّ قول الله جل وعلا { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول { لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام، ومنهما الدليل والأصل الذي يرجع إليه في مسائل النزاع وهذه مسألة أيضاً مهمة .

وكان الصحابة رضوان الله عليهم قد استقر في حسهم هذا المقياس مقياس أنه لا قول مقدم ولا عمل يفعل إلا بعد الوقوف على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله { . 

وانظر إلى مثال واحد أسوقه وهو من الأمثلة اليسيرة التي يحسن تردادها لغير ما مقصد في الموضوعات المختلفة، زيد بن ثابت رضي الله عنه وقد كان من حملة كتاب الله عز وجل، ومن شباب الأنصار رضوان الله عليهم، لما تناظر أبو بكر وعمر في مسألة جمع القرآن وكان مناظرة قيمة، حتى شرح الله صدر عمر للذي شرح الله له صدر أبي بكر، استمع الشيخان أبو بكر وعمر السابقان إلى الإسلام المقدمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعظمان عند الصحابة وعند أمة الإسلام من بعدهما وهما أقدم سناً أي إسلاماً وهما أكثر علماً، وأقدم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدعيا زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال أبو بكر وهو خليفة المسلمين فيذلك الوقت، يخاطب زيد بن ثابت قائلاً : " إنك شابٌ عاقلٌ لا نتِّهمك ؛ كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم " وانظر إلى هذه التقدمة أو التوطئة .. إنك شاب فيك قوة وجلد وهمة وطموح وقدرة - بإذن الله عز وجل - عاقلٌ مستحضرٌ لكل شي مميز مدرك، لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما كان من القرآن فاجمعه " .

الخليفة هو الذي يتكلم ، وهو أيضاً الأعلم والأقدم والأعظم ومعه عمر رضي الله عنه حسبك بعمر إذا كان في أمر من الأمور، ومع ذلك كان مستقرٌ في تربية الصحابة أعظم من أن تأخذهم هيبة السلطان أو هيبة كثرةالمتكلمين بالأمر ، قال زيد بن ثابت : " كيف تفعلان شيئاً لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! " لم ينسى فضلهما ، و لم يغفل علمهما ، ولكنه عنده ميزان هو أعظم، فراجعه أبو بكر حتى شرح الله صدره ، وعرف أن هذا من مقتضى ما يدل عليه الكتاب والسنة، ولكن انظر فرد واحد شاب صغير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف استقرت عنده المرجعية التي يتحاكم فيها الجميع، وكل الناس أمامها سواء حاكم أو محكوم قوياً أو ضعيفا كبيراً أو صغيراً غنياً أو فقيراً، كلهم يرجعون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

 

الأساس الخامس : اتباع المنهجية الصحيحة 
وهذه إيجاز عن الكلام الذي سيأتي عن الآداب التطبيقية، لا بد أولاً من تحديد هدف الحوار، ما هو الهدف في هذه المسألة هل هدفنا أن نتفق أو هل هدفنا ان نزيل بعض أسباب الخلاف ما هي هذه المسألة ماهي أهميتها ما هي أهيمتها وأوليتها في الوقت الحاضر حتى نستطيع أن نعطيها الوقت الذي يناسبها والجهد الذي يناسبها، لا نجعل قضيةً سهلةً فرعيةً لا تتعلق بأصول الدين ولا تتعلق بمصالح المسلمين نجعلها هي قضيتنا التي نتحاور عليها ونتعقد من أجلها المناقشات واللقاءات، وكل ذلك قد لا يكون وراءه طائل .

ثم ولا بد - أيضاً - من التركيز في أثناء الحديث، والتركيز نعني به أيه الإخوة أن يحسن بيان المسألة وأن يتبعها بدليلها وأن يربط بين الدليل والمسألة، وأن يجعل ذلك منزَّل على الواقع في موضوع الحديث والحوار، ولا أن يتركالتشعُّب وهو أن يتحدث إلى صلب الموضوع ثم يخرج إلى مسألة فرعية، فيستطرد ثم إلى مسألة أخرى ، ويضيع منه رأس الموضوع ، ثم بعد فترة يقول : " في أي موضوع كنا نتحدث ؟ ما هي المسألة التي كنا أصلاً نتحدث فيها ؟ "

والآن نحن أدخلنا هذه المسألة وتلك ولم نخرج بفائدة ولا بنتيجة ولا بد أن يكون هناك تقديم الأصول علىالفروع، ما معنى ذلك أولاً أن نثبت الأصل، فالأصل عندنا ان نحتكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . هل في ذلك نزاع هل إذا صح الحديث ترجع عن قولك وإن كان مذهب لك أو إن كنت فيه متبع لشيخك، هذا الأصل إذا اتفقنا عليه ننتقل إلى نقطة أخرى، أما أن نبحث في مسألة تترتب عليها مسائل هي أكبر منها لم نتفق عليها لا يحصل المقصود والمطلوب كما ينبغي أن يكون .

ثم أيضاً لا بد من التدرج وهذا يعني اننا نحتاج إلى أن نأخذ بالأصول قبل الفروع وعلينا أن نراعي هذه المسائل التي يحتاج إليه، لذلك لا بد كما قال إمام الحرمين الجويني مقالة جميلة فيها بعض هذه المعاني بإيجاز يعني بالنسبة لمن يحاورك أو يجادلك قد يطول عليك الكلام ، وقد يأتيك بعبارت فخمة وضخمة، فإذا بك تتهيب أو تظن أنه قد أخذ عليك الجولة أو قد أصاب الأمر ، وأنت موقن بأنك على الحق لا تتهيب ولكن ركّز ، الكلام الذي ذكره قد يكون يتركز في نقطة واحدة ودليل واحد ثم هذه النقطة ودليلها ليس بصواب، فلا يغرنك كل هذا الكلام يقول : " وإن طوَّل عليك كلامه بعباراته الطويلة فلخِّص من جميعه موضع الحاجة إليه فتحصره عليه ثم تكلم فيه بم يليق فيه " ؛ لأنك إذا فعلت ذلك زال ما أوهم به الحاضرين من إيراد العلوم الكثيرة أهل الباطل كلام كثير وفلسفة ومصطلحات وعبارات معقدة وبيروقراطية وأسماءكثيرة حتى إذا سمع الناس قالوا : والله هذا رجل عجيب عنده علم غزير ومعرفة وخبرة وكذا وكل هذا الكلام يكون من الذكاء والتركيز بأن تقول يمكن أن نلخص كلام الأخ في أنه يقصد كذا وكذا، واستدل عليه بكذا وكذا، فأما هذه النقطة فليست بصحيحة لأنها كذا وكذا وهذا الدليل فيه ما فيه من الضعف أو فيه ما فيه من عدم صحة الإستدلال ونحو ذلك، وإذا لم تحصر عليه هذه الفائدة مله عليهم تقصيرك، هو تكلم هو نصف ساعة وتكلمت عشر دقائق لو كنت ممن يحسن هذا التركيز لضاعت عشرتك بثلاثين أو بأكثر من ذلك، لكن لو أوجزت من غير هذا التركيز لقالوا هذا تكلم وهذا حجته ضعيفة والعلم فيه قليل فعلى قدر حجته وعلمه جاء كلامه، ويقول لو أنك حصرت عليه في كلامه ألفاظه ومعانيه وأخذت إقراره في كل ذلك فقلت له ألست قلت كذا ومعناه كذا، ... مما يلزمه عليه من كلامك ولا الرجوع وإذا لم تفعل ذلك لربما نافرك عند الإلزام فتسد مواضع الخلل عند الإلزام .

الأساس السادس : فهم قضايا الإجتهاد والإختلاف
يفهم المحاور أن هناك أموراً قطعية ثبتت بنصوص صريحة صحيحة لا مجال فيها ؛ لأن هناك أصولاً مجمعاً عليها وإن هذه المسائل ليست مسائل حوار ولا نقاش بين أهل الإسلام حتى لا ندخل كما يقول المنادين بالحوار يريدون ان يأتي الوقت الذي يكون فيه كل شيء قابل للحوار، وهذه الكلمة كل شيء يدخل فيها الأحكام الشرعية والأدلة النقلية يفتحون على المسلمين باب شر للتشكيك في أمور دينهم وعقائدهم أقول لا بد أن ندرك أن هناك أموراً قطعية وأصولاً مجمعاً علهيا وإجماعاً انعقد من أهل العلم والفضل في أن هذه المسائل لا نقاش فيها، ثمت مسائل فيها إجتهاد سائغ وفيها أمور قد يقع فيها الخلاف وقد تتحاور مع إنسان في مسألة إجتهادية خلافية فلا تقتنع برأيه ولا يقتنع برأيك وكلاكما على خير، فالمصيب منكما له أجران أجر الإجتهاد وأجر الإصابة والمخطئ منكما له مغفرة الخطأ وله أجر الإجتهاد، نعلم الحديث الصحيح في ذلك إذا حكم الحاكم واجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وهذا يحيى بن سعيد يقول : " ما بال أهل الفتوى يختلفون، فيحل هذا ، ويحرم هذا ؛ فلا يرى المحرِّم المحل هلك لتحليله ، ولا يرى المحل المحرِّم هلك لتحريمه " .

إذا اجتهد المجتهد وخلفه مجتهد آخر تناظرا رغبة فيه الرجوع إلى الحق ، وكم تناظر متناظرون ورجع أحد هم عن قوله إلى قول أخيه ، وقد وقع ذلك بين السلف كثيراً .. بل قد رجع الواحد إلى قول نفسه ونحن نعلم أن للشافعي في مذهبه - كما يقولون قولين قديم وجديد - لمّا تبدّى له أدلة لم يكن قد اطلع عليها رجع عن ما سبق إليه وهذه هي النفسية التي نحتاج إليها في الرجوع إلى الحق .

وهذا سفيان الثوري يقول : " ما اختلف الفقهاء فيه فلا انهى أحداً من إخواني أن يأخذ به "
مسائل الإجتهاد - كما يقول أهل العلم - ليست من موجبات الإنكار بمعنى الإنكار الذي لا بد فيه أن يرجع إلى قولك، لكن هي من موجبات الأخذ والرد من موجبات المناقشة والحوار، علّك أن تبدي من دليلك ما يرجع إليه أو يظهر لك من دليله ما يرجعك إلى قوله .

الأساس الثامن : التفريق بين القول وقائله
وهذه مسألة مهمة حتى لا يحصل هناك لبس وهناك إتهام للناويا أو تعصب أو غضب ونحو ذلك، نحن نخطأ الأقوال و نكل القائلين بها إلى نياتهم إلا أن تقام عليهم حجاج وتنتفي عنهم الموانع، ونحن نعلم أن الفعل قد يشترك فيه أكثر من واحد، لكن أحكامهم تختلف فقد يرتكب المنكر اثنان : الأول مستحلٌّ له فاستحلاله كفر ، والثاني غير مستحلٌّ له ووقوعه فيه معصية و فسق، والأمر ينبغي أن يكون نظرنا فيه إلى القول وإلى تخطئة القول، فكل قائل به يكون مخطئاً به على هذا المعنى ، وإن قال به زيداً وعبيداً وهذا أدعى إلى التجرد وأدعى إلى حصول المقصود بإذن الله عز وجل، ويدخل في ذلك التجرد و الإنصاف بأن هذا مما يستلزمه أو ناتج عن هذا .

عندما يكون كلامك عن القول وليس عن القائل ، فلو كان القائل محبوباً عندك ، وهذا القول خطأ فلا حرج عندك في أن تخطِّئ القول ، وإن قال به من تحبه أو تجله فليس تخطئة القول جرح له ولا تسفيه له ولا انتقاص من قدره ؛ فإن الحق أحق أن يُتَّبع، وقد ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه في فتاواه قصة جميلة لأحدالعلماء، كان يكثر الزيارة للهند وفي تلك الأيام كانت هناك في بعض المناطق من الهند كانت هناك شائعات وشبهات كثيرة على دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وكان من ذلك - كما سيأتي معنا في بعض العوائق - سماع أخبار وما رأوا حقيقة وواقعاً ، وقد بلغ الأمر بهم من ذلك أنهم كانوا بعد كل صلاة يدعون وكان من دعائهم أنهم يلعنون محمد بن عبد الوهاب ويقولون بكفره، وكان يحضر معهم للصلاة هذا العالممن أهل الجزيرة، وكان إمام المسجد يزور هذا العالم، فيقول : كان يأتي عندي ويشرب الماء ويجلس معي ، وكنت متضائق من هذا المسألة - أي مسألة اللعن والدعاء على الإمام محمد بن عبد الوهاب – وقال : فجئت يوما بكتاب من كتب محمد بن عبد الوهاب ونزعت عنه غلافه وتركته، فلما دخل عندي إستاذنت حتى آتيه ببطيخة، لكي ينظر في هذا الكتاب فنظر فيه فأعجبه ما فيه ، فلما جئت سألني قال : لمن هذا الكتب ؛ فإنه كتاب جم المنافع وكذا ومدحه وأثنى عليه، قال : قلت لا علم لي به قم بنا نسأل فلان وذهب إلى شيخ آخر من أهل البلاد حتى لا يكون أيضاً تأثيرات أخرى، يريد التجرد من الحق فنظر فيه ذلك الرجل، فعرف الكتاب وقال كتاب كذا لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قال هذا الكافر الذي نقول فيه كذا، قال : نعم، ثم انتبه واستدرك قال فما غادرته إلا هو يدعو له بعد كل صلاة أو يذكره بخير .

هذا هو إزالة للأسماء وإزالة لما يتعلق بالبلاد، وهذا الأمور الذي تؤثر على الناس نحن نريد الحق ونريد التجرد له، والله عز وجل قد ساق لنا في القرآن ما هو أعظم تجردٍ وأكمل إنصاف { قل من يرزقكم من السماء والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين { .
إما نحن على هدى و أنتم على ضلال أو العكس، مع إن الرسول يعلم أنه هو على الهدى لكن هذا تجريد للمسألة ؛ حتى ينظر الناظر بالعقل وحتى يتحقق التجرد الكامل والإنصاف التام يقول الزمخشري في تفسيره معلقاً على هذا : " وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موافق أو مخالف يقال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك ، وأعطاك كامل الإنصاف والتجرد
 " .

ويقول صاحب الظلال تعليقاً على هذا : " وهذا غاية النصفة والإعتدال والأدب في الجدال " .
 

آداب 
الأدب الأول : إحسان الظن
وهذه مسألة مهمة مطلوبة لكل مسلم إتجاه كل المسلمين، فإذا خالفك أحدٌ وجاء ليناقشك فأحسن به الظن قلإنه يريد الحق قل إنه طالبٌ للعلم قل إنه لا يبتغي من وراء ذلك أي شيء من الأغراض والأهواء ؛ فان ذلك أدعى إلى تطييب نفسك له وتطييب نفسه لك، وأدعى إلى الوصول معا إلى الحق والخير بإذن الله تعالى عز وجل.

الأدب الثاني : تهيئة الجو المناسب 
واختيار الوقت المناسب، فلا تأتي تناقشه بعد خروجه من عمله و هو متعب فتأتيه بكلمة فيكون في غاية التعب فيرد عليك رداً عنيفاً أو يكون الوقت غير مناسب، أو تجد في بعض الأحيان من تهيئة الجو المناسب أن تبدأ بأمور جانبية تحرك كما يقولون جو الحديث، وقبل ذلك لا بد من التعارف إذا لم يكن هناك تعارف ويكون في هذا التعارف شيء من التحبب والتودد أنا أخوك في الله فلان أنا تلميذك فلان حتى تتطيِّب النفوس ويتهيئ الجو ومن لطافة ما استدله بعض أهل العلم في هذا أن الله جل وعلا لما دعا موسى عليه السلام إلى الطور إلى الوادي المقدس عند جبل الطور .. لماذا ؟ ليكلمه الله عز وجل وهذا موقف ليس هناك أعظم ولا أهيب منه قال الله جل وعلا : { وما تلك بيمينك يا موسى { .
هذا السؤال إنما هو لإزالة الوحشة وتخفيف الهيبة والرهبة، حتى يتهيأ الجو للحديث ؛ لأن المسألة عظيمة والنبوة أمر جلل فهذه التهيأة جاءت لهذا المعنى كما ذكر بعض أهل العلم
 .

وفي قصة الخليل إبراهيم عليه السلام يقول الله عز وجل : { ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى {
حتى ينزع الرعب الخوف الذي جاء في نفسه من وجود هؤلاء الملائكة الذين لا يأكلون الطعام، قال الله جل وعلا واصفاً حال إبراهيم بعدما ذهب عنه الروع : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط { .
ما تحرك وما سأل عن خطبهم وقصتهم الا بعد أن إطمان وسكنت نفسه وهدأت، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء ووقف على الصفا ودعا بطون قريش بطناً بطناً، قال : ( أرأيتم لو أخبرتكم بإن خيلاً في باطن هذاالواد تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟! ) قالوا : ما جربنا عليك كذباً ! قال : ( فإني لكم نذير بين يدي عذاب مبين ) ، قال أبو لهب : تباً لك ألهذا جمعتنا ؟
!
قد قامت الحجة عليهم في السؤال الأول وتهيأت نفوس الكثيرين بهذا المدخل الطيب .

الأدب الثالث : حسن الخلق 
وأهم الأخلاق في هذا التواضع والصبر وطول النفَس، التواضع لا تجعل خصمك أو مخالفك بأن يشعر بأنك متكبر عليه أو متعالٍ عليه، تريد أن تجعله تلميذاً وأنت الأستاذ .. بل اجعل الأمر بينك وبينه كأنكم سواء، وإنكنت أكثر منه علماً وتجربة أو أحكم منه بل اجعل هذا الأمر مدخلاً ومقصداً لقبوله للحق، وحسبك في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي من يسأله ومن يناقشه وهو أقل منه في كل شيء ومع ذلك يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ويعطي، والصبر وطول النفس وسعة الصدر وطول البال مهم جداً .

أما الذي عنده ضيق مجرد أن يأتيك فيقول لك : " يا أخي لا إنك أخطأت في هذا أنا أخطأت أنت الذي تخطئ ! أنت في هذه تنهي المحاورة مباشرة بدون أي نتيجة وتترتب عليها مفاسد ولا ينتج من وراءها مصالح .

الأدب الرابع : الهدوء 
وهو المقصود به ترك الغضب وترك الأسباب المثيرة، فعندما يكون الإنسان هادئاً ومتبسماً ولا بأس أن يكون في المجلس ماءٌ بارد أو شراب حلو أو بعض الطعام حتى يكون هناك بالفعل بعض الهدوء، ولذلك النبي صلى اللهعليه وسلم وجهنا بالغضب إذا كنت واقفا أن تجلس وإن كنت جالساً أن تضطجع وذلك لكي لا يكون أقدر على إنفاذ غضبه، فإذا كان واقفاً الرِجل سترفس ، واليد ستلكم ،واللسان سيشتم .. وكل شيء يتحرك أما الجالس فأقل وأما المضطجع فالأقل، وخذ بأسباب الهدوء حتى يكون ذلك أنفع إن شاء الله عز وجل .

الأدب الخامس : حسن العبارة 
وما من شيء أحسن من الكلام الطيب تستل به الضغائن وتجلب به المحبة ويستجلب به الموافقة في غالب الأحوال، وكم من قول طُليَ بحسن عبارة على معنىً باطل فراج به المعنى الباطل لأجل العبارة الحسنة، قصة يوسف عليه السلام كيف جاء إخوة يوسف إلى أبيهم : { قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون { .
كلام جميل توصلوا به إلى غاية سيئة ومقصد خبيث .. فأهل الحق أولى في أن يكسو مضامينهم ، وأن يكسو حقهم بأحسن العبارت وأحسنها، والنبي عليه الصلاة والسلام قد نبه إلى ذلك فقال في الحديث الصحيح : ( لا يقل أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست)

لقست يعني تضايقت أو شيء من هذا الكلام ، ولا يستخدم هذه العبارة ؛ لأن لها مدلولاً سيئاً .
قال ابن حجر : " يُؤخذ من الحديث استحباب مجانبة اللفظ القبيح أو الأسماء القبيحة ، والعدول عنها إلى ما لا قبح فيه ، وإن كان الاثنان يؤديان المعنى معاً " .

أيضاً من حسن العبارة حسن النداء وكنز الدعاء .. " يا أخي يا أبا فلان " عند فقرة من فقرات الحوار نادي هذا المخالف أو المحاوِر بأحسن الأسماء إليه

المصدر: https://uqu.edu.sa/sabakyt/ar/146540

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك