الحوار في القرآن الكريم آدابه وفضائله

الأستاذ/ خليل إبراهيم فرج

 

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه بإحسان إلى يوم الدين..

وبعد:

إن من الأعمال القيمة التي يقوم بها المسلم، ويعتني بها أيما اعتناء هو إسهامه بنشر العلوم الإسلامية المختلفة، وتوضيحها للمسلمين وتسهيلها عليهم، وقيامه بنشرها بأسلوب سلس سهل، حتى يتمكن المسلمون من الاستفادة من تلك الثروة الهائلة من العلوم الإسلامية التي تركها لنا علماء المسلمين في شتى ميادين الشريعة الإسلامية من تفسير وفقه وأصول فقه وعلوم الحديث.. إلخ، نتيجة لما بذلوه من جهود جبارة في سبيل تدوين تلك العلوم الإسلامية وتقعيد قواعدها وتسهيلها للمسلمين للاستفادة منها.

ومن الواجب أن يتعمق المسلمون في هذا التراث العلمي الهائل، وأن يقوموا بنشره بما يحقق الفائدة الكبرى للمسلمين، وبما يوجد حلولاً عدة لمشاكلهم الكثيرة.

جاء في كتاب الرسالة: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلاّ وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها"([1]).

ولعل من أجلِّ العلوم وأعظمها علم التفسير؛ وذلك الشرف ناله ذلك العلم لارتباطه بكتاب الله -عز وجل-، ذلك الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ذلك الكتاب الذي تقرر لدى المسلمين بما لا يدع مجالاً للشك بأنه عمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه([2]).

ذلك الكتاب الذي أفحم الفصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، ميسر للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى.

قال تعالى: }وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ{([3]). وقال -عز وجل-: }فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً{([4]).

ذلك الكتاب من حكم به عدل، ومن قال به صدق، ومن طلب الهداية في غيره فقد ضلّ سواء السبيل، ومن تبع هداه فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا!

قال الناظم([5]):

ومن لجلباب الحيا أزاحه

كمثل ما جاء به مسيلمة

ركيكة في لفظها والمعنى

... ... معارضاً له حوى افتضاحه

من ترهات باختلال معلمة

كقوله والطاحنات طحنا

ولقد اهتم العلماء كثيراً بكتاب الله -عز وجل- فنهلوا مما فيه من علوم شتى، واستفادوا منها وأفادوا المسلمين بنشرها، ولا يزال كتاب الله -عز وجل- هو مصدر العلوم المختلفة.

ومن ضمن تلك العلوم علم التفسير، فالواجب على العلماء أن يقوموا بالكشف عن معاني كلام الله -عز وجل-، وتفسير ذلك وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: }وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ{([6]).

وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{([7]).

فاستحق أهل الكتاب الذم لبعدهم عن كتاب الله المنزل عليهم وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله، فعلينا أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وتفهمه وتفهيمه([8]).

ولذا اهتم العلماء منذ عصر الصحابة بتفسير القرآن، ومن أجَلِّهم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- الحبر البحر ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترجمان القرآن ببركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل([9])

كما اهتم أكابر الصحابة، ثم تابعهم على ذلك العلماء. ولكن على ما أُوتي أولئك العلماء وخاصة من الصحابة والتابعين من الفصاحة، وتوقد الذهن، إلاّ أنهم كانوا يضعون قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار)([10]) نصب أعينهم، وهذا أبوبكر الصديق يقول -رضي الله عنه-: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)([11]). وكذلك وردت آثار بنفس المعنى عن التابعين([12]).

ولكن كان ذلك التفسير بغير علم، أما إن كانت له دراية في التفسير وعلومه المترابطة به فلا حرج في ذلك، بل نحن مأمورون به مصداقاً لقوله تعالى: }لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ{([13]).

وقد اشتغل العلماء بالقرآن وما فيه من علوم، فبعضهم اشتغل بتفسير ما فيه من آيات الأحكام، والتي تشتمل على أحكام شرعية، وبعضهم اشتغل بما فيه من البلاغة وعلوم النحو والصرف.. إلخ.

ومن الملاحظ للمستقرئ آيات القرآن الكريم أنه هناك في القرآن أسلوباً متميزاً، ألا وهو أسلوب الحوار، الذي يوجد منه الكثير في آيات هذا الكتاب العزيز، جاء القرآن ليعرض الحوار بشكل متميز يسترعي الانتباه ويلفت الأنظار، ويترك للعقول المجال الواسع لاستنباط العبر والعظات من تلك المحاورات العديدة التي حفل بها القرآن العظيم، والتي جاءت في سور عدة في القرآن الكريم، وجاءت تلك المحاورات لتتحدث عن مواضيع مختلفة تهم الناس كافة.

وقد جرت تلك المحاورات بين أطراف متعددة، كلها تعطي لنا دروساً كثيرة وجمة، وتشعرنا بأن هذا الأسلوب لم يأت به الله -عز وجل- منزل ذلك الكتاب عبثاً، بل لفائدة عظيمة جليلة، فنجد محاورات عدة في القرآن الكريم، منها محاورات كان أحد طرفيها الله -عز وجل- كما حاور رب العزة الملائكة وإبليس، وجرت تلك المحاورات في بعض الأحيان على ألسنة الرسل مع أقوامهم، وعلى ألسنة المؤمنين مع الطواغيت، وغير ذلك من تلك المحاورات.

فإن موضوع الحوار في القرآن الكريم من الموضوعات الهامة التي تدور أساساً على الإيمان بالله ورسله، وعلى وحدانيته وأحقيته بالعبادة دون غيره، والإيمان بالبعث والجزاء، وهذه العناصر الثلاثة من أهم قضايا القرآن الكريم، ولهذا كانت موضع جدل وحوار.

فالقرآن الكريم بشموليته لم يترك لنا باباً إلاّ وقد تناوله بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي حاج بها خصومه في صورة جلية واضحة يدركها الداني والقاصي، الجاهل والمتعلم، العام والخاص، معطلاً كل شبهة، بأسلوب واضح وتركيب سليم لا يحتاج إلى إعمال الذهن في المسألة المطروحة، لأنه يذكر لنا الحقائق ويقررها بوضوح فيلمسها الإنسان بنفسه دون عناء.

فالقرآن الكريم ما جاء في الحقيقة إلاّ لهداية الناس لكي يحتكموا إلى الصوات والحق، وإلى أن ينتهوا ويسلكوا الطريق السوي الصحيح، ألا وهو طريق الحوار العقلي المجرد عن اتباع الهوى؛ لأنه أقرب طريق يوصل إلى الحق ويبعدهم عن طريق التعصب واستخدام القوة في تسوية الخلافات العقائدية والاجتماعية.

فالقرآن الكريم وضع القواعد وأصَّل الأصول لحل جميع القضايا، ومن أهمها الحوار القائم على العقل لا على القوة كوسيلة إلى التعامل مع المخالفين مع أن القرآن يعترف بها كعقوبة للمصرين على الباطل بعد وضوح الحق وهي وسيلة نهايته لإعادتهم إليه.

وقد حكى لنا القرآن الكريم صوراً مختلفة للحوار، كحوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة والبشر وهو الجبار المنتقم ذو القوة المتين القادر على إنهاء الخلاف كما يجب وكما يريد، ولكنه سبحانه وتعالى حاورهم وتقبل منهم ما حاوروا فيه، وإن كان فيه ما يشبه الإنكار والاعتراض أحياناً على الله في ظاهر اللفظ.

كما في قول الملائكة لله سبحانه وتعالى: }أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ{([14])، وكان هذا رداً منهم على الله حينما قال لملائكته: }إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة{([15]).

وحواره سبحانه وتعالى مع إبراهيم -عليه السلام- حينما سأل ربه فقال: }رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى{([16]).

وكأنه غير متيقن تماماً من البعث كل اليقين، هل قال له ربه تأدب يا إبراهيم؟، هل استعمل معه القوة؟، لا بل حاوره حواراً علمياً مقنعاً، فقال له رب العزة: }أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي{.

وصورة أخرى في حواره سبحانه وتعالى مع نوح -عليه السلام- الذي ناجى ربه لينقذ ولده من الغرق، فحاوره الله -سبحانه وتعالى- لأجل أن يبين له الحق والصواب كما في قوله تعالى: }وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ{([17]). وحواره سبحانه وتعالى مع موسى -عليه السلام- عندما طلب من ربه بكل إلحاح: أن يأذن له برؤيته سبحانه وتعالى لأجل أن يزداد يقيناً وليحاج بما رأى قومه الذين قالوا له "أرنا الله جهرة".

فكيف كان الحوار هل ردَّ الله عليه مقولته وطلبه، بل حاوره الله ليملأ نفسه يقينا كما في قوله تعالى: }وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ{([18]).

وحوار الله سبحانه وتعالى مع إبليس العاصي اللعين المخالف المتحدي لأوامر الله سبحانه وتعالى، مع ذلك حاوره الله سبحانه وتعالى ليعلم الله الناس أن الطريق إلى إظهار الحق وإحقاقه لا يكون بالقوة وإنما طريق الحوار العقلاني البناء مهما كانت طبيعة الخلاف، ومن ثم فإن مسألة الحوار من المسائل المهمة في المنطق الإسلامي، كأسلوب متحرك عملي في الوصول إلى الحقيقة، وفي حركة الصراع في القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، لأنه الوسيلة المثلى التي يعبر فيها الإنسان عن فكره بطريقة خاصة سواء كان بالرفض أو بالإيجاب، أو قبوله لأفكار الآخرين.

أهمية الموضوع:

ترجع أهمية الموضوع إلى انه يتناول موضوعا متعلقا بكتاب الله عز وجل ويستعرض أسلوباً من أساليب القرآن ألا وهو أسلوب الحوار المتميز في كتاب الله عز وجل.

سبب اختيار الموضوع:

يرجع سبب اختياري لموضوع الحوار في القرآن الكريم إلى عدة أمور منها:

1- أهمية أسلوب الحوار في عرض الدعوة الإسلامية.

2- بيان هذا الأسلوب المتميز الذي اتبعه القرآن الكريم بشكل منهجي.

3- إن أسلوب الحوار من أنجع الأساليب وأمثلها لحل المشاكل بين الأفراد، حيث تدور المحاورات ويبدي كل منهم رأيه ووجهة نظره بعيدا عن الضغوط وبعيدا عن الأهواء الفاسدة.

4- تقسيم الحوار في القرآن الكريم إلى مناهج تربوية بأسلوب ميسر تمكن المسلم من تناولها فهما وتطبيقا.

مفهوم الحوار لغة واصطلاحا

أ- مفهوم الحوار في اللغة العربية:

إن كلمة الحوار في اللغة ترتبط ارتباطا وثيقاً بكلمتين هما الجدل والمناقشة ولذا قيل حاوره محاورة وحواراً: جادله

والمحاورة المجاوبة أو مراجعة النطق والكلام المخاطب والتحاور التجاوب، لذلك كان لابد في الحوار من وجود متكلم ومخاطب لما فيه من تبادل الكلام ومراجعته.

ب- الحوار في الإصلاح:

لقد عرف الأستاذ الدكتور/ شوقي ضيف بقوله (الجملة الحوارية) هي الجملة المجاب بها في حوار قصصي أو المردود بها على استفهام في كلام مفصل. وعرفه الدكتور/ محمد أحمد خلف الله بقوله: إن الحوار يكون عندما يضطرب الذهن ويصيح العقل في حيرة بين أمر نفسه وأمر قضية من القضايا أو مسألة من المسائل ويراد من الحوار أن يخرجه من كل ذلك. ومن ذلك يتبين مدى الارتباط بين المدلول اللغوي والمدلول الاصطلاحي لكلمة الحوار حيث إن كلاً منهما مرتبط بمراجعة الكلام والجواب عن الاستفهام. ولا بد لعملية الحوار من عناصر أربعة:

شخصية المتحاورين.

المناخ الحواري.

العلم بموضوع الحوار.

أسلوب الحوار.

ولعل ما أصاب الأمة اليوم من تراجع وتشاجر وخصام وتشتت وعدم تنبهم لهذا المنهج العظيم ألا وهو الحوار.

ولو استقرأنا تاريخنا الإسلامي العظيم لوجدنا أن هذا المنهج سيطر على عقول وأفعال علمائنا الأجلاء.

من قائل "كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب".

فمن قائل "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".

إنه المنهج الذي ينهل منه الجميع كيف لا وقد جاء القرآن الكريم بمناهج تربوية عدة من خلال الحوار بأسلوب ميسر يمكن المسلم من تناولها فهماً وتطبيقاً كما أسلفت ومن هذه المناهج:

أولا: الحوار منهج رباني:

لما كان هذا المنهج أسلوباً من أساليب القرآن الكريم الله جل في علاه أن يبين لنا هذا المنهج من خلال ذاته سبحانه ليعلم الناس طريق الحق والخير ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ليكون منهجاً في الحياة يتعلمون منه ويتعاملون به.

ولقد كانت محاورة الله سبحانه وتعالى مع الملائكة طرازاً يختلف عن سائر المحاورات القرآنية الأخرى، فهي نموذج أعلى للإرشاد والقدرة والتوجه، حيث جعل الله سبحانه وتعالى من ذاته معلماً ومثلاً أعلى يقتدى به في مثل هذه المحاورة حيث يقول:}وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...{.

"ففي هذه المحاورة بين" الله تعالى وملائكته نوعاً من التخيل بإبراز المعاني المنقولة بالصور المحسوسة تقريباً للأذهان وكما جاء في تفسير المنار: إن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه وتعالى للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال، وذلك لا يليق بالله سبحانه وتعالى أيضاً ولا بملائكته، ولا يوافقه ما جاء به الدين من وصف للملائكة بكونهم: }لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{.

ولكن القارئ والسامع لهذه الآيات قد يتبادر إلى ذهنه ثمة معارضة من الملائكة لله تعالى على خلقه وقراراته، والواقع ليس كذلك، بل هو مجرد اختلاف في الرأي مع الله سبحانه وتعالى، وما كان لهم أن يضعوا أنفسهم في هذا الموقف مع الخالق سبحانه، ولكن الله وضعهم فيه ليعطي من خلالهم لمخلوقاته دروساً في الشورى التي هي واجب على ولي الأمر، فجعل المولى عز وجل ذاته طرفاً في حوار يختلف فيه الرأي مع الملائكة في خلق آدم عليه السلام.

ومن الأمثلة الحوارية التي ضربها الله سبحانه وتعالى ليعلم الناس وخاصة ذوي الجاه والسلطان منهم ألا يضيقوا برأي مخالف بل ينبغي عليهم أن تتسع صورهم وعقولهم لاستيعاب ما يوجه إليهم من تساؤلات، وألا يعالجوا هذا الخلاف بمنطق الغضب من المخالفين ولا بمنطق السلطة والقوة في حوارهم معهم، بل يجب أن يكفلوا لكل ذي رأي مخالف حريته، ثم يعتمدوا على الحجة والمنطق، حتى يتضح الحق فيرجع المجانب عن رأيه ويتوب إلى الله.

كما جاء في قصة نوح عليه السلام بعدما دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم يؤمن إلا قليل وكان أمر الطوفان على الكافرين فلما رأى مصير ابنه مع الهالكين حيث وقع سيدنا نوح عليه السلام بين صراعين، صراع النبوة بكامل جلالها وعاطفة الأبوة بكل غريزتها فرجع إلى ربه محاوراً بعد أن غلبته الغريزة الأبوية }فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ{ وفي هذا تغليب المشاعر الأبوية على جوانب النبوة التي يجب أن تذوب على المشاعر والأحاسيس والعواطف في تعاملها. }قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ{.

أي أن سؤالك إياي يا نوح عنه وطلبك له النجاة عمل غير صالح مبيناً أنه عندما تتعارض رابطة النسب ورابطة العقيدة فإن رابطة العقيدة هي المقدمة وهي الأولى.

وكذلك حوار الله تعالى مع إبراهيم عليه السلام وعيسى عليه السلام وكثير من الأنبياء درس ثالث من الدروس الإلهية العظيمة، وهو يثبت لنا منهج الحوار، لكن هذه المرة يختلف اختلافاً جذرياً فالأول كان مع الملائكة الأطهار، والثاني الرسل الكرام، لكن الدرس الثالث منه تباين وتباين كبير.

إن طرفي الحوار هنا متميزان تميزاً كبيراً، فالأول هو الله سبحانه وتعالى علواً كبيراً ، والثاني هو أحط خلق الله منزلة، إنه إبليس اللعين.

لكن الله تعالى يسوي لنا هذا الحوار القرآني ليبين لنا من خلاله، أنه مهما كان الخصم وأياً كانت منزلته وشدة خصومته، ومهما كان عناده واستكباره، إلا أنه ما دام هناك قضية فلا بد من سماع دعوى الطرفين.

فهذا الدرس الإلهي ومن خلال الذات الإلهية في عليائها يعلمنا أنه لابد من سماع دعوى الطرف الآخر حيث يقول في هذه القضية الحوارية }وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ{.

وفي موضوع آخر }أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً{.

وبدأ القرآن يسرد القصة في أكثر من موقع قرآني لنستنير بكل قصة نوراً جديداً، وفهمها إيمانا يجدر في قلوبنا هذا المنهج الرباني في الحوار.

وظلم إبليس عليه اللعنة إن كانت مادته أفضل فصورته أفضل فهذا محل النزاع والبحث، لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة‍

ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، والنور من الظلمة، والظلمة من النور، وكذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى، لا بسبب فضل الأصل والجوهر، وأيضاً التكليف إنما يتناول بعد انتهائه إلا حد كما قال الفعل، فالمعتبر بما انتهى إليه لا بسبب المادة، ألا ترى أن الحبشي المؤمن فضل على القرشي الكافر.

ثانيا: الحوار دعوة إلى الإيمان:

تمهيد:

منهج آخر يبينه لنا القرآن الكريم، ألا وهو أن الحوار يدعو إلى الإيمان وقد بدأ هذا المنهج واضحا في كثير من آيات القرآن الكريم بغض النظر عن النتيجة من هذا الحوار، إلا أنه بداية يوجهنا نحو العقيدة الصحيحة نحو القضية الإيمانية ألا وهي: قضية التوحيد، وهذا ما نلحظه واضحاً في كثير من قصص الأنبياء في القرآن الكريم. فهذا يوسف عليه السلام وقد طرحت عليه الرؤى المنامية من صاحبيه في السجن إلا أنه يستغل هذا الموقف لصالح الدعوة إلى الإيمان الصحيح والتوجه الحقيقي نحو الإله الحق فيحدثنا القرآن بقوله:

}يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ*مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ{.

إذن فاستخدام الحوار في الدعوة إلى الإيمان منهج قرآني عظيم.

حيث إن القرآن الكريم عرض لنا نماذج واضحة لهذا المنهج من خلال:

1- حوار الأنبياء عليهم السلام مع الطواغيت مثل ما حدث في حوار شعيب عليه السلام مع قومه، حوار إبراهيم عليه السلام مع النمرود.

2- حوار المؤمنين مع الطواغيت وتتمثل في حوار مؤمن آل فرعون وكذلك حوار مؤمن أنطاكية في مشهدين عظيمين من القصص القرآني.

3- حوار أهل الكتاب:

وقد بين لنا القرآن الكريم منهاجاً حوارياً عظيماً من خلال حوار مع اليهود والحوار مع النصارى عبر آيات القرآن العظيمة.

ثالثاً : المنهج العقلاني في الحوار:

إن الحوار في القرآن الكريم بطرق متعددة ومناهج مختلفة لكي نستلهم من خلالها العبر والعظات التي تهدينا إلى الحق والتي تزرع في قلوبنا الإيمان وتوضح لنا كيفية التعامل مع الناس عبر الحوار البناء الناتج عن العقل الواعي المدرك الذي وهبه الله للناس كي يتفكروا ويعتبروا وقد جاء هذا المنهج من خلال:

حوار بلقيس مع سليمان عليه السلام، حوار السحرة مع فرعون، حوار صاحب الجنة في سورة الكهف.

رابعاً: المنهج الاستكباري في الحوار:

والذي تمثل في: المنهج الاستكباري في الحوار مع الأنبياء حيث ساق الله عز وجل لنا عدة محاورات تمت بين بعض أنبيائه ورسله مع أقوامهم المعاندين المستكبرين، ليبين تبارك وتعالى من خلال ما قوبل به هؤلاء الأنبياء والمرسلون من صلف وتبجح وعناد من أقوامهم، الذين لم يكن الهدف من تلك الدعوات إلا إصلاحهم وهدايتهم إلى طريق الرشاد!

كما بين الله عز وجل لنا الطريقة التي اتبعها الأنبياء والمرسلون عليهم السلام في محاورتهم مع أقوامهم باللين والرفق تارة، وبالترهيب تارة أخرى هدفهم من ذلك كله أن يستجيب أقوامهم بهم، وينجوا مما هم فيه من الشرك والبعد عن الطريق المستقيم ليوضح سبحانه ما واجه به المعاندون المشركون أنبياءهم ورسلهم بالتكذيب تارة، وبالتهديد تارةً أخرى وقد قمت باختيار نموذجين اثنين من تلك النماذج الحوارية وهما:

1-حوار قوم نوح مع نبيهم نوح عليه السلام.

2-حوار عاد مع نبيهم هود عليه السلام.

مبيناً من خلالهما المنهج الاستكباري الذي اتبعه الفريقان في محاورة نبيهما.

خامساً: الحوار في اليوم الآخر:

حيث إن الحوار نعمة من نعم الله في الآخرة وإن الحوار نوع من العذاب والحسرة والندم في الآخرة كما بينت كثير من آيات القرآن الكريم وكذلك حوار أصحاب الأعراف.

الخاتمة

إن الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنه خليفة الله في الأرض قال تعالى: }إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً{([19]).

وقد فضل الله تعالى الإنسان وكرمه كما قال تعالى: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{([20]).

وهذه الكرامة التي اختص الله بها الإنسان ذات أبعاد مختلفة، فهي حماية إلهية للإنسان، تنطوي على احترام حريته، وعقله، وفكره، وإرادته.

وهذه الكرامة تعني في النهاية، الحرية الحقيقة، وهي تلك الحرية الواعية المسئولة التي تدرك أهمية تحملها أمانة التكليف والمسئولية التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: }إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً{([21]).

وإذا كان الله قد اختص الإنسان بالتكريم، وجعله مكلفاً ومسئولاً، فإنه من ناحية أخرى قد خلق له هذا الكون بمن فيه ليمارس فيه نشاطاته المادية والروحية على السواء قال تعالى: }وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{([22]).

والتفكير الذي تنص عليه الآية هنا أمر جوهري لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان([23])، وقد قال سقراط: "إن العلم لا يعلم، ولا يدون في الكتب، بل يكشف بطريق الحوار"([24]).

ويذكر العلماء: أن قاعدة القواعد في النظام الكوني هي حوار الكائنات ليأخذ بعضها من بعض ويعطي بعضها بعضاً كما هي طبيعة الحاجة، فيكون الانسجام والشد والعقد والاستمرار.

فالحوار ليس قاصراً على الكلمات اللسانية المسموعة، إنما قد يتجاوز إلى الإشارة الموضحة والبسمة المشرقة، والحس الخافق، والدورة المقبلة والعمل الصالح، والموقف الصالح، حتى الصمت، لا يبعد أحياناً أن يتأتى حواراً.

ومن البداهة القول: بأن الإنسان كائن عاقل واجتماعي، كائن علاقة وحاجة.

ومن البداهة القول: إن هذه الأحوال من أحوج حاجاتها اللقاءات المتحاورة، ليكون المجتمع على بينة من أمر علاقاته، وعلى تناسق مؤتلف، وتفاهم واع، وترابط معقود، كما الكون بقوانينه وأنظمته التي تجعله يحفظ بعضه بعضاً، ويستمر بعضه ببعض([25]).

وليس من الشر في شيء أن يختلف الناس، ولكن الشر كل الشر أن يضلوا الطريق الصحيح إلى معالجة الخلاف، أما إن اختلافهم ليس من الشر، فذلك لأن كل ما في داخل نفوس الناس، وكل ما يحيط بهم من ظروف الحياة يدعو إلى اختلافهم، فاختلافهم إذن ليس غريباً ولكنه ينبع من طبيعة تكوينهم، ومن أحوال معيشتهم معاً.

وأما إن الشر في ضلالهم الطريق الصحيح إلى تسوية الخلاف، فلأن الطريق الصحيح هو طريق الاحتكام إلى الحق، وهو دائماً واضح نير، إذا صدقت النفوس في الاتجاه إليه، وأقرب طريق يوصل إليه هو الحوار العقلي المجرد عن اتباع الهوى.

ولكن البديل القريب لهذه الطريق هو البحث عن القوة، باعتبارها وسيلة سريعة وشاقة في تسوية الخلاف وحينئذٍ يكون هذا اللاجئ إلى القوة قد ضل الطريق وفي هذا الضلال كل الشر، وكل ما عانته وتعانيه البشرية من ويلات الحروب، ومن أنواع الصراع، وما تخلفه من الجوع والضر الذي يصيب الملايين الذين ليس لهم في هذا الصراع من ناقة ولا جمل في أغلب الأحيان، والذين قد لا يشعرون بأن بينهم وبين محاربيهم شيئاً قط من عداوة أو خصومة أو اختلاف، وإنما الخصومة والخلاف بين القادة والرؤساء، وقد ينحصر الخلاف كله بين اثنين ممن أتيح لهم احتلال قمم الشعوب، بالحكم والسيادة، فيتخذون من هذه القمم وسيلة لإبادة بعض هذه الشعوب بالحرب، وتعذيب الباقي بالجوع والعري والمرض وسائر ما تثمره الحروب، ولو احتكموا إلى الحق، لوجدوه واضحاً بيناً، وأقصى ما يحتاجونه إليه حينئذٍ هو الحوار بالمنطق والحجة ليكون الحوار طريقهم إلى الحق.

ولا شك أن اللسان والسيف كلاهما سلاح في الخصومة، ولكن إذا كان السيف أشد رهبة، وأصلب جسداً، فإن اللسان أنفذ طعناً، وأبعد أثراً، هذا عند الخصومة، وكذلك عند الغاية والنتيجة حين يحقق كل منهم هدفه، فإن اللسان حينئذٍ أشد سلطاناً على أتباعه، وهم أشد طواعية له من طاعتهم للسيف.

ولقد شاهدنا عبر التاريخ كيف أن من اتخذوا السيف وسيلة لهم لاحتلال البلاد واستعباد العباد بالقوة لم يمكثوا كثيراً في حكمهم، وسرعان ما زال هذا الملك وهذه الرياسة مثل فرعون والنمرود وبعض أنظمة العصر الحديث.

بينما بسجل التاريخ بأحرف من نور مسيرة الأنبياء عليهم السلام وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم.. هذه المسيرة التي لا زلنا نتفيأ ظلال الرحمة والاستمرارية فيها على مدار التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وذلك للأسباب التالية:

1-إن انقياد الناس لهؤلاء الطغاة إنما كان انقياداً قسرياً ورغماً عنها.. لأن هؤلاء الطغاة استعبدوهم بالقوة الجبرية...ويبقى انقيادهم لهم ما دامت القوة في أيديهم... في حين أن انقياد الناس للأنبياء والرسل عليهم السلام انقياداً ملؤه اليقين والإيمان بصدقهم، فمهما دار الزمان... ومات أو قتل من قتل من الأنبياء عليهم السلام فإن أتباعهم باقون على معتقداتهم لا يثنيهم عنها أحد.

2-إن سيطرة الطغاة بقوتهم على رقاب الناس إنما يكسبهم الأعداء... وإن كان الخاضعون لهم يظهرون الطاعة إلا أن نفوسهم مليئة بالحقد والكراهية لهؤلاء الطغاة.

أما أتباع الأنبياء والرسل عليهم السلام فقلوبهم مملوءة بالحب والخضوع والانقياد والإيمان لدعوة هذا النبي فلا حقد ولا ضغينة ولا حسد، ولنا في أصحاب رسول الله خير دليل، ولا زال المؤمنون بهذه العقيدة يبذلون الغالي والنفيس لنشرها والذود عنها من خلال الإيمان الصادق بها.

3-إن قوة الطغاة غالباً لا تؤثر في سلوك الأفراد الذين استعبدوهم، وإن تغير بعض من سلوكهم فإنما يتغير للضرورة التي تفرضها تلك الطغمة الفاسدة... ويكون ذلك التغيير مؤقتاً يزول بزوال القوة الحاكمة.

أما الانقياد التام للأنبياء والرسل عليهم السلام والدعاة المخلصين إنما يؤثر تأثيراً جذرياً في سلوكهم وفي عاداتهم وتقاليدهم لأن الانقياد انقياد طاعة وإيمان من خلال الحوار الإيماني الصادق.

ولقد كان انقياد المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي التي كانت تصدر عنه صلى الله عليه وسلم مثل امتناعهم المطلق عن شرب الخمر والميسر، بينما نجد كل القوانين الأرض الوضعية لا تثني الناس عن الابتعاد عن مظاهر الفساد المتنوعة.

4-إن المقارنة بين انتصار الطواغيت ونجاح الأنبياء عليهم السلام يرى بما لا يدع مجالاً للشك أن انتصار الطواغيت هو انتصار مؤقت يزول بزوال ملكهم وجبروتهم ويورث الأعداء الذين يتربصون بهم لحظة بلحظة لينقضوا عليهم... لأن هذا الانتصار يعد إذلالاً للآخرين.

أما نجاح أصحاب الدعوة الحقة فإنما يكون انتصاراً حقيقياً لأن اتباع الناس لهم يكون عن اقتناع وإيمان..ولهذا يحملون هم عبء الدعوة لتبليغها للآخرين فتكون ديمومة هذه الدعوة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها فيكون هذا هو الانتصار الحقيقي. لأن الدعاة هنا يكسبون حب المقتنعين بهم وإعجابهم.

فالقرآن الكريم يوضح لنا هذا الأمر فيضرب لنا مثلاً في قصة إبراهيم -عليه السلام- وصاحب القوة والنفوذ والسلطان حيث يقول: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{([26]).

وهكذا فالقرآن الكريم يهدي الناس فيما يهديهم إلى أن يحتكموا إلى الحق وإلى أن يسلكوا الطريق الصحيح إليه، وهو طريق المحاورة، حتى لا يضلوا فيسلكوا بادئ ذي بدء طريق القوة دون منطق، فيكونوا حينئذٍ قد سلكوا ذات الطريق التي سلكها سائر الحيوانات العجم حين تختلف، وهو طريق القوة البدنية دون منطق.

فيجعل القرآن كل قضاياه سبيلها الحوار، ويجعل كل خلافه مع أعدائه ومخالفيه قائماً على الحوار ولا يجعل من القوة سبيلاً قط إلى التعامل مع المخالفين، وإنما يجعلها عقوبة للمصرين على الباطل بعد سطوع الحق لتكون أيضاً وسيلة إلى إعادتهم إلى الحق كما مر علينا.

فمن هنا ندرك أهمية الحوار في حياة الناس، وندرك مدى عظم هذه الأمنية، أمنية أن تصبح المحاورة سبيل الناس في وصولهم إلى الحق، ووصول حقهم إليهم.

المراجع...

([1]) الرسالة للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي ص20 الفقرة 48، تحقيق أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية بيروت- لبنان.

([2]) انظر الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي 3/257، شرحه وخرج أحاديثه عبدالله دراز، الكتب العلمية بيروت، لبنان.

([3]) سورة القمر آية 17.

([4]) سورة مريم آية 97.

([5]) انظر هذه الأبيات في كتاب المقاصد العامة للشريعة الإسلامية د. يوسف حامد العالم ص55 دار الحدييث، القاهرة، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، الطبعة الثالثة 1417هـ، 1997م.

([6]) سورة آل عمران آية 187.

([7]) سورة آل عمران آية 77.

([8]) تفسير القرآن العظيم للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير 1/ص 354- 355 دار الجيل - ط1- 1408هـ 1988م، بيروت.

([9]) المرجع السابق ، 1/ص354- 355.

([10]) رواه أبوداود في سننه كتاب العلم باب الكلام في كتاب الله بغير علم 4/63، حديث رقم 3652.

([11]) أعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم الجوزي 1/86، دار الفكر بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1397هـ ، 1977م.

([12]) انظر في ذلك تفسير ابن كثير 1/ص356- 357.

([13]) سورة آل عمران آية 187.

([14]) سورة البقرة آية 30.

([15]) سورة البقرة آية 30.

([16]) سورة البقرة آية 260.

([17]) سورة هود آية 45- 47.

([18]) سورة الأعراف آية 143.

([19]) سورة البقرة آية 30.

([20]) سورة الإسراء آية 70.

([21]) سورة الأحزاب آية 72.

([22]) سورة الجاثية آية 13.

([23]) دور الإسلام في تطور الفكر الفلسفي، د. محمود حمدي زقزوق ص9 ط مكتبة وهبة بالقاهرة.

([24]) الحوار القرآني، مجلة المعارج المجلد الأول ع8 ص37، حسين حمادة، بيروت 1412هـ بتصرف.

([25]) المصدر السابق ص37.

([26]) سورة البقرة آية 258.

 

المصدر: https://uqu.edu.sa/sabakyt/ar/143810

الأكثر مشاركة في الفيس بوك