الإعلام.. وتزييف الشخصيات التاريخية

يحيي البوليني

 

لم يلتفت المسلمون عامة بدرجة كافية لخطر الآلة الإعلامية التي يستخدمها غيرهم وخطورتها على تبديل الأفكار والآراء عن طريق العمل الدؤوب والمستمر على تغيير الثقافة ودرجة الوعي لتوجيه الناس توجيها حثيثا وخفيا إلى الغايات التي ينشدون توجيههم إليها.

وعلى الجانب الآخر وفي نفس الوقت اهتم غير المسلمين بالفكرة الإعلامية، وعلموا بحقيقة تأثيرها في الناس، فتخصصوا فيها وتفننوا وأبدعوا في استخدامها بكل صنوفها، فاهتموا بعلومها وأتقنوا استخدامها كأداة وسلاح يحاربون به المسلمين في الوقت الذي خلت منه أيدي المسلمين أو كادت، فانفردوا بالميدان وحدهم.

ولهذا حقق غير المسلمين انتصارات كبيرة على المسلمين كان من أهمها معركة تغيير نظرة الأجيال من أبناء المسلمين حيال الكثير من الشخصيات والقضايا المختلفة، حتى لو كانت تخالف عقيدة الإسلام أو أخلاقه أو قيمه, ومن ثم تم صرف أبناء المسلمين عن شخصيات إسلامية كبيرة وتم تضخيم شخصيات وضيعة لا تستحق التضخيم وتم صرف المسلمين عن قضايا جادة وإلهاء الكثير في قضايا تافهة، كل ذلك تم بسياسة إعلامية شديدة الإحكام والاستمرارية وتتابع التنفيذ الزمني.

ولم تظهر الأهمية الإعلامية في هذه الأيام فقط رغم أنها اليوم في أشد لحظات قوتها وسطوتها إلا أن تأثيرها ظهر منذ فترة زمنية طويلة, فكم أقامت الكلمة الإعلامية دولا وكم هدمت, وكم أحيت شعوبا وقتلتهم, وكم أقامت حضارات وأزالتها من الوجود.

وكنموذج لسطوة الإعلام كان بيت واحد من الشعر العربي كالذي قاله جرير في هجاء بني نمير - فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا– كفيلا بهدم هذا الحي، وما أفلح نميري بعده وطأطئوا رؤوسهم فما جرؤ واحد منهم أن يرفع رأسه بعدئذ.

ولقد تعرضت العديد من الشخصيات الإسلامية البارزة لعديد من الحملات الإعلامية التشويهية التي نالت منهم ونسبت إليهم صفات لم تكن فيهم حتى وصفت بأوصاف التصقت بها ولم تبرحها حتى يومنا هذا مع كثرة الجهود للتصحيح والتوضيح, إلا أن التشويه الإعلامي كان كبيرا جدا لدرجة عدم أو ضعف مقدرة التصويب على تغيير أفكار الناس حول هذه الشخصيات.

ولاقى المسلمون من هذه الحروب الإعلامية اشد أنواع المعاناة والضيق إذ تزعم اليهود والنصارى المنابر الإعلامية في العالم كله وظلت حكرا عليهم لفترات طويلة مستخدمين أسلوب الكذب المستمر والمنظم وهو أول وأخس الأسلحة الإعلامية.

فقاد اليهود والنصارى الحملات الإعلامية ضد المسلمين في الخارج، ثم انتقلوا إلى بلادنا العربية والإسلامية, وصاروا هم أساتذة ورواد الحركة الإعلامية عندنا, وتمكنوا بعد ذلك من التأثير القوي على المجتمع بحيث أفرخوا أجيالا جديدة من أبناء المسلمين تحمل أفكارهم وتوجهاتهم وآرائهم, بل كانوا – وهم مسلمون وأبناء مسلمين- أشد حنقا ونكاية على القضايا الإسلامية.

ومن النماذج التي نالت أكبر نصيب من التشويه شخصية الوزير "بهاء الدين قراقوش" الذي تعرض لهجوم إعلامي كبير جدا تزعمه الكاتب النصراني المصري "الأسعد بن مماتي" حينما كتب كتابه الشهير "الفاشوش في حكم قراقوش" الذي حطم فيه شخصية قراقوش تحطيما معنويا وحولها إلى شخصية هزلية تافهة لا قيمة لها وجعلها أضحوكة الناس على مر الزمان. 
"وهو ما سنعرضه في المقال القادم.

 

 

تعرضت العديد من الشخصيات الإسلامية البارزة للعديد من الحملات الإعلامية التشويهية التي نالت منهم ونسبت إليهم صفات لم تكن فيهم حتى وصفت بأوصاف التصقت بها ولم تبرحها حتى يومنا هذا مع كثرة الجهود للتصحيح والتوضيح, إلا أن التشويه الإعلامي كان كبيرا جدا لدرجة عدم أو ضعف مقدرة التصويب على تغيير أفكار الناس حول هذه الشخصيات.

ومن النماذج التي نالت أكبر النصيب من التشويه شخصية الوزير "بهاء الدين قراقوش" الذي تعرض لهجوم إعلامي كبير جدا تزعمه الكاتب النصراني المصري "الأسعد بن مماتي" حينما كتب كتابه الشهير "الفاشوش في حكم قراقوش" الذي حطم فيه شخصية قراقوش تحطيما معنويا وحولها إلى شخصية هزلية تافهة لا قيمة لها وجعلها أضحوكة الناس على مر الزمان.

وكان التشويه الإعلامي لبهاء الدين قراقوش قد وصل إلى غايته ومنتهاه حيث بلغ العامة والخاصة، ووصل كذلك إلى كل الفئات حتى الفئات الأقل ثقافة في المجتمع.

وابتكار الشخصية الهزلية الأراجوزـ  وهي الدمية الشعبية الشهيرة ـ كان تحريفا للفظ القراقوش للاستهزاء به, كما ذكر كثير من الباحثين التاريخيين أنه بعد وفاته رغب الفاسدون تدمير هذا الشخصية عند المصريين, فبدأ الإعلام ممثلا في الكتاب والشعراء بالاستهزاء به في كتاباتهم وتحويله من قراقوش إلى قراقوز ثم إلى أراجوز وتحولت الشخصية من شخصية حازمة ذات هيبة إلى مجرد وسيلة لإضحاك الناس.

ولم يقتصر الأمر على الفئات الأقل ثقافة بل امتد للفئات التي تقود العملية الثقافية في وطننا العربي والإسلامي, فهناك الكثير من الكتاب أصحاب المقالات في العديد من الصحف العربية البارزة يستخدمون المصطلح "حكم قراقوش" أو يستخدمون اسم قراقوش كمصطلح ذي دلالة على الطغيان والبطش الملازمين للطيش والحمق, ولم يكلف أحدهم نفسه عناء البحث عن صحة هذا المصطلح وهذه النسبة, ومنهم من لم يشأ أن يظهر الحقيقة فآثر مد هذا التزييف والخداع متعمدا ليكمل هذا التشويه المتعمد لشخصية إسلامية بارزة.

ورغم ذلك هناك قلة قليلة من الكتاب أرادت أن تبين الحق في الشخصية العظيمة للوزير بهاء الدين قراقوش ولكنهم لم يستطيعوا حتى الآن تحريك هذا الجبل الشديد الغلظة الذي ألقى بكل ثقله على شخصية قراقوش ليحطمها.

وبهذا تعرض قراقوش لهذا التشويه المتعمد الذي قاده الإعلام النصراني الذي انساق له عدد كبير من الإعلاميين في وقتها من المسلمين وغيرهم ومما خدع به شعب بسيط لم يقدر لهذا الأمر قدره, فنسي أو تناسى التاريخ المشرف لقراقوش, وتعامى عن الحقائق الثابتة التي رآها بعينه ولمسها في سلوك هذا الوزير, وصدق مجروحا في عدالته وهو الكاتب النصراني صاحب "الفاشوش في حكم قراقوش" الذي كان يعرف القائد العسكري والوزير قراقوش جيدا فقد كان ابن مماتي يتولى ديوان الجيش والمالية حينما كان قراقوش وزيرا لدولة صلاح الدين الأيوبي, فبالإعلام الكاذب الممنهج غدت الأسطورة أصدق من الواقع عند شعب يراد تغييبه بسطوة هذه الآلة الإعلامية.

فهل يمكن أن يصدق أن صلاح الدين الأيوبي وهو من كان يحكم الدولة المصرية في وقت تتكاثر عليه الأعداء من الداخل والخارج, فبين شيعة فاطميين حكموا البلاد وأرادوا تشييعها وبين صليبيين على الحدود المتاخمة يحتلون فلسطين ويأسرون المسجد الأقصى, هل يمكن تصور أن يعهد صلاح الدين لإدارة البلاد وتولي مهامه أثناء غيابه أو أن يعاونه ويكون الرجل الثاني في الدولة في حضوره إلا لرجل قوى عاقل حكيم يدري ماذا يفعل وماذا يتخذ من قرارات ويجنب البلاد شدائد المكر والمؤامرات؟

وبالفعل استطاع بهاء الدين قراقوش في هذا الوقت الذي امتلأ وغص بالفوضى في كل شيء أن يحسن تدبير الأمور ويعيد كل طامع إلى مكانه لينزوي بطمعه بعيدا على السلطنة, فكثر أعداؤه من الشيعة والنصارى والمفسدين في الداخل ومن غيرهم في الخارج, ولم يستطيعوا أن ينالوا منه في حياته فعمدوا على تشوبه صورته بعد مماته.

ثلاثون عاما من التاريخ المشرف للوزير بهاء الدين قراقوش قضاها في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي ومن بعده ابنه، تاريخ مليء بالأعمال الإدارية التنظيمية العظيمة وبالأعمال العسكرية والمعمارية, فهو الذي ساهم بقوة في السيطرة على حالة الفوضى التي أثارها الفاطميون بعد موت الخليفة "العاضد" آخر خلفاء الدولة الفاطمية من قبل رجاله الموالين لدولتهم الشيعية لمحاولة العودة مرة أخرى لحكم مصر وانتزاعها من القائد السني صلاح الدين فكان لقراقوش الدور الأهم في تثبيت أركان حكم صلاح الدين وانتزاع مصر من تحت راية الشيعة العبيديين الذين لقبوا أنفسهم بالفاطميين.

وكان قراقوش مهندسا حربيا منقطع النظير, فعهد إليه صلاح الدين ببناء قلعته - قلعة "الجبل" - التي لا تزال شامخة لليوم وبنى قلعة "المقياس" في جزيرة الروضة، و"سور مجرى العيون" الذي ينقل المياه من فم الخليج حتى القلعة، والقناطر الخيرية، وأعاد بناء ما تهدم من سور عكا وحصنها, وحوصر وأسر فيها من قبل الصليبيين فافتداه صلاح الدين لما يعلم من مكانته.

وكان قراقوش عظيم الأمانة حيث أوكل إليه صلاح الدين حفظ القصر الذي كان الفاطميون يكدسون فيه ويخفون فيه من التحف والكنوز والنفائس مالا يحصيه العد من عقود الجواهر والحلي النادرة والكؤوس والبسط المنسوجة بخيوط الذهب ما لامثيل له في الدنيا, فوقف امام هذا كله وحفظه وأداه ولم يلتفت قلبه لهذا العرض من الدنيا ولم يخن أمانته.

وكما حفظ قراقوش دولة الإسلام وساهم في عودة مصر إلى السنة, وكما حفظ ملك سيده وسلطانه صلاح الدين في حياته حفظه بعد مماته, فلما وقع خلاف بين أبناء صلاح الدين وأطلت الحرب بينهم برأسها ما أطفأها إلا قراقوش، وتولى العزيز عثمان بن صلاح الدين امارة مصر, فلما مات أوصى بالملك لابنه المنصور الذي لم يكن يبلغ العاشرة، فكان الوصي عليه هو بهاء الدين قراقوش، فحكم البلاد كأمثل ما يكون الحاكم العادل والأمير الحازم القوي الذي أطفأ كل فتنة.

وأجمع المؤرخون على حسن تصرف وتدبير قراقوش لأمور الدولة وعلى شجاعته وقوته وهمته, فيقول ابن خلكان: "ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية، جعله زمام القصر، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوّض أمورها إليه، واعتمد في تدبير أحوالها عليه، وكان رجلاً مسعوداً وصاحب همة عالية"(وفيات الأعيان), ويقول المحدث الإمام ابن كثير: "الأمير بهاء الدين قراقوش، الفحل الخصي أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية، كان شهماً شجاعاً فاتكاً، تسلم القصر لما مات العاضد، وعمّر سور القاهرة" (البداية والنهاية).

ونفى كثير من المؤرخين ما كتبه النصراني ابن مواتي عن قراقوش, فقال عنه ابن العماد الحنبلي: "الأمير الكبير الخادم بهاء الدين الأبيض فتى الملك أسد الدين شيركوه، وقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لمّا سلّم إليه عكا وغيرها، وكانت له رغبة في الخير وآثار حسنة", ويقول ابن خلكان عن كتاب الفاشوش: "وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمداً في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته، ما فوضها إليه".

فهل يمكن أن يصدق في قراقوش كتاب كل ما فيه بمثل هذه الأكاذيب الواضحة مثلما يقول "ابن مماتي" في إحداها: "إن رجلا شكا إلى "قراقوش" تاجرا أكل عليه أمواله، فاستدعى "قراقوش" التاجر وسأله عن السبب، فقال التاجر: "ماذا أفعل أيها الأمير، كلما وفرت له الأموال لأسدد له دينه بحثت عنه فلم أجده؟"، فتفكر "قراقوش" كعادته ثم حكم بأن يُسجَن الرجل صاحب الدين حتى يعرف المدين مكانه حين يريد تسديد الدين له، فهرب الرجل قائلا: "أجري على الله".؟

لكل هذا الفضل لقراقوش أراد هذا الكاتب النصراني بما يمتلكه من إعلام فاسد مضل أن يشوه صورته بعد وفاته بهذا الكتاب وهو يعلم أنه ليس له عدالة تصديق في ميزان أهل الإسلام, فبرغم معاصرة الناس لحياة قراقوش ولقت كتابة ابن مماتي للفاشوش إلا أن سطوة الإعلام الذي سلط عليهم جعلهم يكذبون ما رأته أعينهم وسمعته آذانهم وشهدوه بواقعهم من سيرة الوزير قراقوش وصدقوا الإعلام الكاذب وساروا على سيره ونهجه إلى هذا اليوم.

المصدر: http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=197506

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك