الجدال في الرّأي وعدم الإساءة إلى الواقع

محمد حسين فضل الله

قد نستوحي من كلمة: "أحسن خلقك مع النّاس وقل خيراً"[1]، والاستشهاد بالآية الكريمة: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}[2]، توجيه الشّيعة إلى عدم خوض التحدّيات بطريقة الإساءة إلى مشاعر المسلمين الآخرين، من خلال المسّ بالأشخاص الّذين يختلف المسلمون حولهم في المواقع الكبرى التي انطلقوا فيها، في ما اعتاده بعض النّاس من أساليب اللّعن والسبّ الّتي تثير الشر، وتدفع بالوضع الإسلاميّ إلى مزيد من التّعقيد، وتخلق لوناً من الإثارة والتصرّفات المضادّة، بما يتعارض مع المنهج القرآني الدّاعي إلى قول الّتي هي أحسن، والدّفع بالّتي هي أحسن، والجدال بالّتي هي أحسن في كلّ ما يختلف فيه الناس، في ما يؤمنون به أو يقدّسونه أو يعظّمونه، فإنّ ذلك هو الّذي يحقّق اللّقاء بين المسلمين، ويفتح قلوبهم على الحقّ، ويحرّك خطواتهم نحو الوحدة.

وقد روي عن الإمام جعفر الصّادق(ع) أنّه قال لأصحابه: "ما أيسر ما رضي به النَّاس عنكم، كفّوا ألسنتكم عنهم"[3]، فلم تكن القضيَّة لدى النّاس أن تنسجم مع أفكارهم... بل أن لا تبادر إلى مواجهتهم بالكلمات القاسية في ما قد يصدر عنك من كلمات التّجريح الانفعالي، في نطاق كلمات اللّعن والسبّ ونحو ذلك، وهذا هو المطلوب في سلوكك مع الناس في ما يتّصل بالأشياء التي يحترمونها، والأشخاص الّذين يعظّمونهم. وتبقى الخلافات الفكريّة أو الفقهيّة في دائرة البحث والنقاش والحوار، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن.

إنّ هناك فرقاً بين الجدال في الرّأي والتّجريح في الكلمة. وقد يخلط النّاس فيما بينهم، فيخيّل إليهم أنَّ الإخلاص لأفكارهم وعقائدهم، هو أن يعبّروا عن رفضهم للعقائد الأخرى بأساليب انفعاليّة جارحة، لأنّ ذلك، في رأيهم، يعمّق إحساسهم بالرّفض، ويؤكّد موقفهم بالتبرّؤ من رموز الفكر الآخر الّذي قام في الماضي ويقوم في الحاضر، باضطهاد الفكر الّذي يتبنّونه، ويهيّئ الأجواء النفسيّة للتّعبئة الروحيّة والشعوريّة ضدّ النهج الآخر.

وقد نلاحظ في دراستنا للسلوك العمليّ لأئمّة أهل البيت(ع)، أنهم كانوا ينطلقون مع المسلمين كلّهم بروح منفتحة في علاقاتهم الثقافيّة والاجتماعيّة، فكان تلامذتهم يمثّلون التنوّع في المذاهب الكلاميّة والفقهيّة، وكانت مجالسهم تضمّ النّاس المختلفين في أفكارهم وواقعهم، من دون أن تجد أيّة عقدة أو مشكلة لدى أيّ واحد منهم في ما يسمع من الكلام، أو في ما يواجهه من المواقف، أو في ما ينفعل به من الجوّ والنظرة والأسلوب.

ولذلك، كانوا محلّ تقدير المجتمع الإسلاميّ كلّه، حتى من الّذين لا يعتقدون بإمامتهم بالمعنى المصطلح في علم الكلام للإمامة، لأنهم كانوا يؤمنون بأنّ الرّوح المنغلقة، والصّدر الضيّق، والكلمة المنفعلة، والأسلوب المتشنّج، والنظرة القاسية، والأجواء المضادّة، لا تحقّق أيّة نتيجة لمصلحة الفكر الّذي يؤمنون به، والعقيدة الّتي يلتزمونها. وكانوا يؤكّدون على أصحابهم أن يدرس كلّ واحد منهم نفسه، وأن يُعامل الآخرين بالطّريقة نفسها الّتي يريد أن يعاملوه بها، وفق القاعدة الأخلاقيّة المأثورة: "عامل النّاس بما تحبّ أن يعاملوك به"، لأنّ الصّراع الفكريّ يرتبط بالأخلاق بقدر ما يرتبط بالفكر، ولا بدّ للفكر من أن يعيش شيئاً من العاطفة في حركته، كما تحتاج العاطفة إلى شيء من الفكر في توازنها.

وأخيراً، فإنّنا نعتقد أنَّ مسألة الوحدة الإسلاميّة هي مسألة الإسلام في قوّته، وثباته، وصلابته، وفاعليّة حركته، وشموليّة نظرته إلى الحياة. لذا، لا بدّ لنا من أن نحرّكها في حياتنا، وأن نفرّق في وعينا الإسلاميّ بين صلابة الموقف وقسوة الأسلوب، وأن نميّز بين الحالة النفسيّة التي تؤدّي إلى النزاع، والحالة النفسيّة التي تؤدّي إلى التفاهم والوفاق.

ولا بدّ لنا من أن نعي بأنّ الإخلاص للرّسول ولأهل بيته، سلام الله عليهم أجمعين، يتمثّل بالإخلاص للإسلام في سلامة موقفه أمام المواقف الأخرى، وفي قوّة موقعه أمام المواقع الأخرى، لأنّنا إذا ربحنا الإسلام، فقد ربحنا الانفتاح على رموزه وقواعده ومناهجه وحركته، وإذا خسرنا الإسلام في معركتنا مع الكفر، فإننا نخسر كلّ شيء، لأنّ الرّموز الّتي نحترمها، والحقّ الذي نلتزمه، والموقف الّذي نتعصّب له، لن يكون لأيّ منها أيّ موقع أو أيّ دور في الساحة التي يهيمن فيها الكافرون على المسلمين، فلا قيمة لأيّة كلمة من كافر أو منافق في مدح أيّ رمز من رموزنا من أهل البيت(ع)، إذا كان يقصد في كلمته التعظيم الشخصي، بعيداً عن الرّسالة، في الوقت الذي يقف معادياً للرّسالة كلّها. ولا قيمة للدعم الذي يمكن أن نحصل عليه من قبل القوى الكافرة الطاغية، للمذهب الذي نلتزمه، إذا كانت هذه القوى تتحرّك في هذا الاتجاه لإضعاف الإسلام، بطريقة تعميق الخلاف بين المسلمين.

لذلك، فإنّنا نتصوّر أنّ من الضّروريّ التخطيط الفكري والعملي للوحدة الإسلاميّة في دائرة أيّ مذهب إسلامي، حتى لا يغلب علينا الإخلاص لخصوصيّة المذهب، بعيداً عن الإخلاص لشموليّة الإسلام... ومن الضّروريّ، إضافةً إلى ذلك، أن نعمّق التزامنا بأشخاص العقيدة من الناحية الرسالية، كرموز للإسلام نخلص لهم في خطّ الرّسالة، لنختار الموقف في هذه الدائرة، حتى تمتزج العاطفة بالعقل والفكر والحياة، فيما هي علاقة الإنسان بالله وبالإنسان والحياة من خلال الله.

[كتاب: أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة].


[1] (وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 5، ص 383).

[2] (البقرة: 83).

[3] (الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 341).

المصدر: http://arabic.bayynat.org/ArticlePage.aspx?id=11036

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك