الحوار الإنساني الراقي

فاطمة محمود

 

 

النصيحة هي نوع من الحوار الإنساني الراقي, بل نوع من المشاعر الصادقة الصافية التي تمثل ماء النهر الجاري الذي يطهّر ما يمرّ عليه، ويزيل رواسب علقت في النفوس, هذا عندما تُغلّف بالحب، وتُؤدّى بالرفق، وتُهدى بنية صادقة من حيث الحرص على إصلاح الآخر أو تقديم أقصى منفعة له . هكذا تكون النصيحة عندما تخرج من قلب سليم, فإنها تخترق كل حواجز النفس البشرية لتصل بدرجة مرضية، فلا تترك نفس المنصوح إلاّ وهو كالماء البارد في نهار يوم صيف شديد الحرارة والجفاف, فينتفع منها المنصوح، ويحفظها جميلاً لمن أهداها إليه. فحقاً ما كان الرفق في شيء إلاّ زانه، وما نُزِع الرفق من شيء إلاّ شانه. وقد أولى الشارع اهتماماً كبيراً بالنصيحة, تلك الكلمات التي تُعدّ نمطاً وقائياً و علاجياً للسلوك الإنساني, عندما تكون في محلها وبآدابها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت", فأولاً يجب أن تخرج من مؤمن؛ لأنه هو المعني بإصلاح الآخرين والأخذ بيدهم لما هو أفضل . و يجب أن تكون خيراً سواء في النية الكامنة وراء النصيحة, أو من خلال الأسلوب الذي تُؤدّى به من حيث انتقاء الكلمات البعيدة عن التجريح, كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين في هذه الحالات:"وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ". [الحج:24]. وكذلك أن تكون مغلفة بالستر, وهذا يستقيم مع النفس السوية؛ فالناصح المؤمن حريص على كف الأذى عن أخيه المسلم, أما الذي يتحين الأوقات غير المناسبة، ويلقي نصيحته على الملأ فإنه يُعدّ شامتاً، وليس ناصحاً؛ لأن في مسلكه هذا إلحاق آذى بالغير أو كمن ملكته الأيام يوماً عثرة لأخيه فكانت في يده كالخيط لم يتوان في لفه حول رقبتـه..! ومثل هذا يُقابل نصحه بالرفض، كما قال المروذي عن هذا الصنف من الناصحين: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: قال رجل لمسعر: أتحب أن تُنصح؟ قال: نعم، أما من ناصح فنعم, وأما من شامت فلا". وهذا ما يفسر المضارّ التي تنجم عن النصيحة عندما تُلقى كالحجر، وعلى هذا فإن ممارسة النُصح تُعدّ حقاً من الأمور البالغة الحساسية على الناصح والمنصوح لما فيها من حظوظ النفس, ولذلك ينبغي التقيّد بآدابها وتوافر شروطها كي لا يتلاشى هذا المسلك الهام والضروري لإصلاح الحياة . وقد أجمل الفضيل بن عياض آداب النصيحة فيـما نصح به هارون الرشيد عندما قال له:يا أمير المؤمنين، يا حسن الوجه، أنت الذي يسأله الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل". ويا لها من آداب لمن فقهها؛ إذ إنه أنزل المنصوح قدره الذي يستحقه عندما خاطبه بـ (يا أمير المؤمنين)، ثم بدأ بذكر محاسنه، وليس عيوبه كي يستميل قلب المنصوح، ويشعره بأنه محب عندما قال له: (يا حسن الوجه), ثم حرك بداخله الخوف من الله -عز وجل- وإحياء الشعور بمراقبته؛ أي أنه لم يلحق به ضرراً، بل بيّن له أنه يخاف عليه من أن يلحق به ضرر يوم القيامة, ثم رد أمر الالتزام بالنصيحة للمنصوح، فلم يجبره على الأخذ بقوله، وفي هذا تحفيز لإرادة المنصوح بالحق في أخذ القـرار بنفسه عندمـا قال له: (فإن استطعت) . وفيما سبق يؤكد لنا السر في قبول النصيحة، بل وأخذها مأخذ التطبيق، وكذلك تنمية مشاعر الحب والإخاء بين المتناصحين مهما تفاوتت مستوياتهم الاجتماعية؛ لأن الأصل هو حسن الأداء وصدق النوايا. وقد أجمل لنا الإمام الشافعي -رحمه الله- آداب النصيحة في هذه الأبيات قائلاً:

تعــهـــّدْني بنــصحكِ في انــفــرادي   وجنّــبْنـي النصـيحةَ في الجــماعـــةْ
فــإنّ الــنصــحَ بيــن النـــاسِ نـــوعٌ   من الـــتقريعِ لا أرضـــى استمــاعهْ
فــإنْ خالـــفتَنــي وعصــيْتَ أمــري   فــلا تجــزعْ إذا لـــم تلــقَ طــاعـــةْ

ولذلك لا يستطيع أن يقدم النصيحة بآدابها إلاّ محبّ تسبق مشاعره كلماته؛ لأنه كما يُقال:"إنّ صادق الحب يُملي صادق الكلم".

المصدر: http://islamtoday.net/nawafeth/mobile/zview-45-13203.htm

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك