‫تيمور كوران.. قراءة في “مأزق الاقتصاد الإسلامي”!

بقلم : 

الثراء الفاحش

يتساءل الباحث تيمور كوران: إذا كان الاقتصاد الإسلامي لم يستطع الالتزام بوعوده عبر تطهير الاقتصاد من أثر الفائدة، وتحقيق المساواة عبر الزكاة، فما هو النجاح الذي حققه فعلاً؟ هذا النجاح مرتبط بما يؤكده كوران مرارًا بأن الاقتصاد الإسلامي كان أداة لتأكيد الهوية بأكثر منه وسيلة للتنمية الاقتصادية، فقد دعم انتشار المصارف الإسلامية دعوى الإسلاميين بأن الإسلام هو مصدر توجيه وإلهام في الحياة العصرية، ودعم تحدي الفصل الشائع بين الاقتصاد والدين.

خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم أصبح تأثير أسلمة الاقتصاد واضحًا في الشرق الأوسط، فمنعت حكومتا باكستان وإيران أخذ الفائدة على الادخار والقروض، وأصبحت الزكاة إلزامية في مجموعة من الدول الإسلامية، وانتشرت المصارف التي تدعي لنفسها هوية إسلامية في معظم الدول الإسلامية، بل وحتى في بعض الدول الغربية. كان في خلفية هذا كله مجموعة واسعة من أدبيات “الاقتصاد الإسلامي”، وتأسست في هذا السياق مراكز أبحاث عديدة للترويج له، وجادل الاقتصاديون الإسلاميون منذ مطلع السبعينات بأن الإسلام يمتلك جوابًا لكل مشكلة اقتصادية، وبدا للإسلاميين وكأنهم يدشنون تحولاً هامًا في الاقتصاد العالمي، إلا أن هذا الصعود الحالم سرعان ما اصطدم بالتفاوت بين المبادئ التي تحمس للدفاع عنها رواد هذا الاقتصاد والواقع الذي تعمل فيه المصارف الإسلامية والمؤسسات التي تأسست لجباية الزكاة.

في عمله الهام “الإسلام والثراء الفاحش‪..‬ مأزق الاقتصاد الإسلامي” يتتبع “تيمور كوران” -أستاذ السياسة والاقتصاد في جامعة “ديوك” وفي كرسي الملك فيصل للفكر الإسلامي والثقافة في جامعة جنوب كاليفورنيا سابقًا- جذور نشأة أدبيات هذا الاقتصاد في منتصف القرن العشرين في الهند عند مشارف استقلالها، وانفصال باكستان عنها، ومستطلعًا كيف وسمت هذه النشأة هذا الاقتصاد بتحويله أداة للحفاظ على الهوية لم تحقق أي نجاح فعلي في إحداث تغيير في نمط الاقتصادات التي ادعت منافستها. ويحاول كوران من خلال رسمه لخارطة تفرعات الاقتصاد الإسلامي توضيح كيف يرتبط حضور هذا الاقتصاد كاقتصاد فرعي بإشكالية الفساد المستشري في الشرق الأوسط من ناحية، وحاجة الإسلاميين له كأداة تمويل وصراع سياسي في نفس الوقت.‬‬

مستعينًا بخبرته في الأدبيات الإسلامية، يكشف كوران عن مدى حداثة أدبيات الاقتصاد الإسلامي والمصارف التي بنيت عليها، فمن ناحية يلاحظ أنه بالرغم من وضع التشريع الإسلامي لقواعد مفصلة لتنظيم التعاملات المالية بين الأفراد فإن هذه القواعد لم تؤد لنشوء نظام مصرفي فيما قبل العصر الحديث. ومن ناحية أخرى، يستخلص أنه فيما قبل المودودي -المنظر للإحيائية الإسلامية (١٩٠٣-١٩٧٩)- لم يبد أي من الشخصيات الفكرية المهتمة بإحياء الدعوة إلى الإسلام في العصر الحديث -كمحمد إقبال والأفغاني ومحمد عبده- اهتماماً بتطوير شكل من أشكال الاقتصاد الإسلامي، وليس لهم أي كتابات تذكر في هذا الشأن. فأدبيات الاقتصاد الإسلامي برزت أواخر الحكم الاستعماري في الهند على يد المودودي وأتباعه كجزء من حملة واسعة للحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للمسلمين في الهند، فجراء مخاوف من التمييز العنصري من الهندوس تبنى مجموعة من القادة السياسيين المسلمين فكرة الدولة المنفصلة – باكستان – إلا أن بعض الشخصيات المسلمة رفضت الفكرة وكان جوابهم على هذه المخاوف هو التأكيد على الهوية الثقافية للمسلمين داخل الهند دون انفصال، وكان من أبرزهم المودودي، والذي سارع للتنظير للإسلام باعتباره طريقة حياة متكاملة للمسلين الهنود. لاحظ المودودي كيف يكتسب الاقتصاد أهمية متزايدة في شؤون الحياة اليومية في كل مكان، وأنه إذا كان الخيار الاقتصادي اليومي للفرد يعتبر نشاطًا علمانيًّا، فإن التقدم الاقتصادي سيجعل حياة المسلمين تبدو علمانية بصورة متزايدة، فإذا تم تحويل التنمية الاقتصادية لنشاط ديني فإن الدور المفهوم للإسلام في حياة المسلمين سيتزايد.

يستطرد كوران في فصل كامل من فصول الكتاب الستة، في شرح كيف “أصبح إدخال الدين في مجال الاقتصاد أمرًا مركزيًّا في هدف المودودي الأوسع لتعريف نظام إسلامي قائم بذاته” متعرضًا لعلاقة المسلمين الهنود المضطربة مع الحداثة ومشاغل الإسلاميين تجاه التغريب وضياع الهوية، وأدوات المودودي لإثبات التفوق الاقتصادي للإسلام عبر التأكيد على العصر الذهبي في صدر الإسلام، ومقارنة المنظور الإسلامي بالاشتراكية والرأسمالية، ومنتقلاً لملاحظة التطورات لهذه الأطروحة على يد باقر الصدر وسيد قطب، وكيف كانت الثورة الإيرانية تدشينًا لمرحلة مهمة في اعتبار المنظور الاقتصادي الإسلامي عنصرًا هامًا في الهجوم المعاكس ضد التغريب.

يتسم عرض كوران لمبادئ الاقتصاد الإسلامي ومسيرته ومآلاته بالانتباه للفرق بين دعاوى الإسلاميين حول ميزات هذا الاقتصاد، وبين ما يحققه فعلاً في العالم الإسلامي ضمن أجندة الإسلام السياسي. فدعاوى الإسلام السياسي حول قدرة الاقتصاد الإسلامي بمنتجاته (أدوات التمويل كالمشاركة والمضاربة، ونظام الزكاة) على منافسة الأنظمة الاقتصادية الأخرى، لم تلبث أن اصطدمت بالواقع، فلم تستطع أنظمة الزكاة تجنب الفساد عند تحصيلها، وبسبب نشوء فقه الزكاة ملائمًا لاقتصاد الجزيرة العربية في القرن السابع، أصبحت تطبيق هذا الفقه تعسفيًا في الدولة الحديثة يؤدي لنتائج معاكسة، فالسلع التي يغطيها النموذج التقليدي تلعب اليوم دورًا اقتصاديًّا أقل أهمية -بالرغم من وجود مجموعة من الإسلاميين الحداثيين الذي يرون التجديد في مصادر الزكاة-، فمن المثير على سبيل المثال أن العبء الأكبر عند تطبيق نظام الزكاة في ماليزيا وقع على عاتق مزارعي الأرز الأكثر فقرًا (في ولاية بيرلس مثلاً شكلت عائدات زراعة الأرز ٩٣٪ من تحصيلات الزكاة لعام ١٩٨٥)، وكان متوقعًا أن تقل نسبة الالتزام بدفع الزكاة ( ٨٪ عام ١٩٨٨)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فشلت أدوات التمويل التي تعبر عن المبادئ المعلنة من رواد الاقتصاد في الإسلام وهي المضاربة والمشاركة في تحقيق أي نجاح يذكر، فعلى سبيل المثال تراجعت حصة المشاركة في أحد أكبر البنوك الإسلامية من ٥٥٪ إلى ١٪ بينما ارتفعت حصة المرابحة من صفر إلى ٨٠٪ خلال إحدى عشرة سنة، هذا مثال لكل اتجاه التمويل في البنوك الإسلامية، والذي انتقل من الأحلام الواعدة بالمشاركة في التنمية المستدامة عبر مشاركة المستثمرين في مشاريعهم إلى الإقراض بالمرابحة والتي هي في حقيقتها فائدة مقنعة، لينتهي الحال -بحسب وصف أحد أهم مؤسسي المصارف الإسلامية- أحمد النجار “بأن هذه المصارف فشل ذريع، ولا تختلف عن عمليات المصارف العادية إلا سطحيًّا” فجزء ضئيل من أصول المصارف الإسلامية -أقل من ٥٪ بشكل عام- تتكون من قروض تعمل بنظام المشاركة في الربح والخسارة.

يصف مراقب ماليزي العمل المصرفي الإسلامي “الفرق الوحيد هو ما إذا كان الرجل الجالس خلف الشباك البنكي يرتدي عمامة دينية أم ربطة عنق”.
فإذا كان الاقتصاد الإسلامي لم يستطع الالتزام بوعوده عبر تطهير الاقتصاد من أثر الفائدة، وتحقيق المساواة عبر الزكاة، فما هو النجاح الذي حققه فعلاً بحسب كوران؟ هذا النجاح مرتبط بما يؤكده كوران مرارًا بأن الاقتصاد الإسلامي كان أداة لتأكيد الهوية بأكثر منه وسيلة للتنمية الاقتصادية، فقد دعم انتشار المصارف الإسلامية دعوى الإسلاميين بأن الإسلام هو مصدر توجيه وإلهام في الحياة العصرية، ودعم تحدي الفصل الشائع بين الاقتصاد والدين، فهذا الحضور كان يعطي معنى لخطاب الحركة الإسلامية والتي تقدم نفسها باعتبارها طليعة لتطهير النظام الاجتماعي من التأثيرات العلمانية الضارة، وفي تعليق موحي قال الخميني بعد قيام الثورة الإيرانية :”لم تقم الثورة لإنتاج كميات أوفر من البطيخ” وكان يشير إلى أن التنمية الاقتصادية لم تكن هي الهدف الأساس للثورة في إيران، بل تأكيد الهوية الإسلامية في النظام السياسي والاجتماعي. وأيضًا يستخدم الإسلاميون انتشار أدبيات الاقتصاد الإسلامي للهجوم على معارضيهم الذين يحملون أجندة اجتماعية مختلفة، فهم عبر تأكيدهم على قطعية تحريم الفائدة المعاصرة ينتقلون لتقديم خطاب حاد دينيًّا ضد التيارات العلمانية، ففي باكستان على سبيل المثال تحجم الأحزاب العلمانية كحزب الشعب عن تأييد الفائدة علنًا نتيجة الهجوم الحاد من الإسلاميين، وكوران هنا يؤكد عدم معارضته لوجود اقتصاد إسلامي بشرط عدم سعيه لقمع الخيارات الأخرى.

يلاحظ في كتاب كوران -الذي نشر من جامعة برينستون، وترجم للعربية من الدار الأهلية بعمان- تكرار في بعض المواضع؛ نتيجة أن كوران كتب فصوله الستة كأبحاث جامعية متفرقة، وبالرغم من ذلك يقدم الكتاب رؤية متماسكة لا يمكن للباحثين في تطور الإسلام السياسي وعلائقه في الاقتصاد والاجتماع والسياسة.

المصدر: http://www.majalla.com/arb/2014/05/article55251137

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك