الخلط بين الموروث والتراث

أنس زاهد

(( الخلط بين الموروث والتراث .. جناية علمية أم مجرد خطأ منهجي؟ ))

قد يكون المفكر المصري الراحل زكي نجيب محمود هو أول من أزال اللبس بين مصطلحي التراث والموروث، على المستوى العربي.

رؤية زكي نجيب محمود ترتكز إلى عمومية مصطلح الموروث مقابل خصوصية مصطلح التراث.. فالموروث بالنسبة إليه هو كل ما ورثته الأمة عن أسلافها، والتراث هو الجزء الذي اصطفته الأمم من بين جميع ما وصلها من موروث.

قد يقول قائل باستحالة فصل التراث عن الموروث، بسبب كل ما يحظى به العاملان المذكوران، من أهمية بالغة على صعيد تشكيل الهوية الحضارية وتكوين الشخصية القومية. وهو كلام غير دقيق من وجهة نظري.. فالموروث لا يمكن أن يختلط بالتراث لو قامت الأمة بمراجعة موروثها وتنقيته من كل ما هو غير قابل للحياة. وهذا العمل يستلزم إرادة قوية، وشجاعة، وقدرة على النقد الذاتي، وجرأة في مواجهة النفس قبل مواجهة الآخر.

الموروث يحتوي على الجميل والقبيح، الحسن والسيء، النافع والضار.. وفوق هذا وذاك فإنه يحفل بالمتناقضات الكفيلة بقيادته إلى أن يهدم نفسه بنفسه. وهو ما يجعل من إعادة قراءته-الموروث- شرطا لازما للخروج من حالة الجمود الذهني التي قد تتطور لتصل إلى مرحلة الوفاة الدماغية .

الأمة العربية والإسلامية لم تمتلك حتى الآن الجرأة والإرادة لتحرير شهادة وفاة لكثير من العناصر والمكونات التي يحتوي عليها الموروث. ولهذا فإننا ما زلنا متأثرين ومتعلقين بأفكار أوصلتنا إلى مرحلة الجمود، وأخرجتنا من دائرة الإبداع لتلحقنا بدائرة التقليد، وحالت ولا زالت تحول بيننا وبين اقتحام العصر الذي أصبح دورنا فيه يقتصر على الفرجة والاستهلاك.

إن العقل الجمعي العربي لم يع حتى الآن، أن كثيرا من الأفكار والقيم التي يشتمل عليها موروثنا أصبحت في حكم الميتة، وأن الاستماتة في الدفاع عن هذه القيم والأفكار لن تحييها، ولكنها ستحولنا نحن إلى موتى. أنظر حولك إلى كم الأفكار التي تخطتها البشرية منذ زمن طويل، والتي أثبتت حقائق العلم فسادها واضطرابها وعدم قدرتها على الصمود أمام ما توصل إليه البشر عبر مسيرتهم الطويلة والعظيمة في التطور المعرفي، وستعرف بنفسك حجم التهديد الذي يمثله الإصرار على الدفاع عن الموروث الباطل.

ما لا يعرفه الكثيرون من الرافضين للحضارة الحديثة بحجة التمسك بالتراث، أن موت الأفكار القائمة على الضلالات وخلود الأفكار والإبداعات التي تمتلك مقومات الحياة لأنها قادرة على إلهام الناس مهما مر عليها الزمن، هو قانون إلهي ذكره الله في كتابه الكريم: (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الامثال )) الرعد.

إذن ليست كل الأفكار الموروثة صالحة لأن تكون تراثا نستلهمه في تفاعلنا مع الحضارة الإنسانية. كيف يمكننا مثلا أن نعتمد تفسير الطبري لظاهرة الرعد التي يقول عنها في تفسيره للقرآن ، وبالتحديد في تفسيره للآية رقم 19 من سورة البقرة ، بأنه ملائكة تزجر السحاب ، في حين أنه فسر البرق في نفس الآية ، بأنه مخاريق ( عصي ) يضرب بها الملائكة السحاب كي ينزل المطر ؟! هذا كلام أثبتت حقائق العلم منذ زمن طويل بطلانه ، فما هي الجدوى في الدفاع عنه والتمسك به في ظل هذا الواقع ؟!

إن ما يصلح أن نطلق عليه كلمة تراث هو مجموعة الأفكار والقيم والإبداعات ذات الوجه الإنساني من جهة ، وتلك التي لا تتناقض مع حقائق العلم من جهة أخرى . هذا فقط ما يصلح كي ننطلق منه لبناء واقع جديد قائم على التفاعل مع الأمم المبدعة المتقدمة، دون أن نفقد هويتنا الحضارية التي يمكن أن ترفد الإنسانية بأبعاد جديدة هي في أمس الحاجة إليها.

إن متابعة الموروث دون مراجعته وإعادة قراءته بهدف العمل على تنقيته من الشوائب والضلالات، هو أحد أهم أسباب الوقوع في الضلالة والتمسك بالخرافة والإصرار على الباطل: (( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون )) الشعراء.

الولاء الحقيقي للتراث يقتضي امتلاك الجرأة اللازمة لإرسال كل ما أثبت العلم خطأه مما وصلنا من الموروث ، إلي القبر غير مأسوف عليه. وهو ما لن يتأت لنا إذا ما أصررنا على عدم فهم السنة الإلهية التي تقضي بفناء كل ما لا ينفع الناس.

إن الموروث الذي لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، لا يستحق أن يبقى، وبالتالي لا يستحق بأن يُدرج ضمن دائرة التراث. ما يستحق أن يبقى فقط هو كل ما كان يمتلك القدرة الذاتية على الدفاع عن نفسه، أما القدرة المستعارة من سلطة المجتمع أو المؤسسات التي تصنع الرأي، فإنها لا تهب الحياة للأفكار البالية إلا إذا تمكنت من تحويل البشر إلى أموات على قيد الحياة.

لقد آن الأوان أن يتوقف المشتغلون بالكتابة عن الوقوع في الخلط بالكتابة بين مفهومي التراث والموروث .

إن المتابع لكتابات وأدبيات بعض التيارات التي تشتغل بالفكر ، سيلاحظ إصرار هذه التيارات على النظر إلى التراث بصفته وحدة واحدة يجمع ما بين عناصرها الانسجام والتناغم . وهذا غير صحيح بالمرة ، فما وصلنا من الموروث يحتوي على اتجاهات فكرية وصل الاختلاف بينها حد الخصومة التي خرجت في بعض الوقائع من إطار المساجلة على الورق ، إلى حد ممارسة الاعتداءات المادية المباشرة كالزج في السجون ، كما حدث مع أحمد بن حنبل نتيجة لصراعه الفكري مع المعتزلة ، أو الاعتداءات المعنوية كإحراق الكتب ، كما حدث مع ابن رشد على خلفية صراعه مع تيار النقل والتقليد ، أو إلى حد التكفير والقتل كما حدث مع الأديب والمفكر المتصوف أبي منصور الحلاج .

من ناحية أخرى فإن المتمسكين بما يدعون بأنه تراث من منطلق محاربتهم لما يطلقون عليه تغريبا، هم في المجمل مذهبيون ينظرون إلى المذاهب والطوائف الأخرى باعتبارها خارجة عن الإسلام، فما هو رأيهم يا ترى فيما ساهم به الشيعة في تراثنا العلمي والفلسفي والأدبي، حيث برز كل من ابن سينا والفارابي والمسعودي وجابر بن حيان والمتنبي والشريف الرضي والإدريسي، وغيرهم من الشيعة ؟!

ما وصلنا من الموروث إذن ، يحتوي – في جزء غير قليل منه -على متناقضات لا يمكن أن تلتقي . والتعامل مع الموروث بصفته تراثا ، ثم طرح التراث بصفته وحدة متجانسة ، هو جناية علمية تهدف إلى الوصول إلى غايتين اثنتين : الأولى هي منح الحياة لجزء ما من الموروث ، على الرغم من أن هذا الجزء لم يعد قادرا على التعايش مع حقائق العلم وروح العصر . أما الثانية فهي التعتيم على الجزء الذي ما زال يمتلك مقومات الحياة، والذي يمكنه أن ينسجم مع روح العصر ويتفاعل مع معطيات المعرفة الحديثة فيما يخص الفكر، ويلبي أرقى شروط المعايير الجمالية فيما يخص الفن والأدب.

هناك جزء يتم التعتيم عليه من الموروث كما هو واضح ، والمفارقة هي أن هذا الجزء هو الذي يمتلك إمكانية رفد الهوية الحضارية ببذور التجديد المستمر ، بدلا من الجمود الذي لم ينجح في تحصين جيل الشباب من الوقوع في براثن محاولات الاستلاب الحضاري التي أدت إلى تحويل شخصيتنا القومية إلى (( بزراميط )) يحتوي على أسوأ شيء من كل شيء . وهي نتيجة طبيعية لافتقارنا إلى أدوات التفاعل الإيجابي مع الماضي والحاضر، الذات والآخر، بدلا من حالة الانفعال المستسلم التي تتميز بها علاقتنا بكل الأطراف المذكورة.

تعاملنا مع مصطلح التراث يحتاج إلى إعادة نظر دقيقة .

المصدر: http://amalzahid.wordpress.com/page/2/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك