في أصول الحوار الإنساني

في أصول الحوار الإنساني
بقلم: الأب الدكتور مشير باسيل عون

منذ تفتّح الوعي الانساني تتناصر الحضارات والثقافات على استنباط ضمّة من الاصول الرفيعة التي تُعين الانسان على إنجاح أوضاع التجاور والتصاحب والتعايش والتشارك والتقابس والتنافذ. وهذه كلها مقولات ترعى واقع المعيّة الانسانية وتتدرّج به من مستوى التلاقي الى مستوى التفاعل. فأغلب المجتمعات الانسانية فقدت في الزمن الحاضر خصائص الوحدة المبنيّة على الانسجام الكامل في العرق واللسان والعقل والدين. وأضحت في عوز شديد الى تبصّر نافذ في رعاية الاختلاف في نطاق الاستيطان الجغرافي الواحد. والمعلوم أن الاديان التوحيدية والاديان غير التوحيدية ضربت هي ايضاً بسهمها في إغناء مثل هذا الاجتهاد الاستنباطي. واذا ما نظر المرء في طبيعة الإسهامات التي أتى بها الفكر الديني، على تنوّع تجلياته في الاديان التوحيدية والاديان غير التوحيدية، والتي أتى بها الفكر العلماني، على اختلاف انبعاثاته في الازمنة القديمة وفي الازمنة الحديثة، تهيّأ له أن يدرك مبلغ التقارب والتباين في تأصيل الحوار الانساني.
فالفكر الديني، على تنوّع عماراته، يربط المعيّة الانسانية والحوار الانساني بالمشيئة الالهية، فيُحرّره من تقلبات التاريخ والتباساته. ولكنه يعود فيقيّده بواجب المبايعة للحق المتجلّي في اختبار الوحي الالهي النصي المنزل او الوحي الالهي الشخصي الذاتي. وهذا التقييد، ولئن أنعش المؤمنين الراسخين في إيمانهم، يُعثّر الآخرين الذين لا يشاطرون أهل هذا الدين إيمانهم. وأما الفكر العلماني فإنه، على اختلاف بناءاته، يربط المعيّة الانسانية والحوار الانساني بحتمية المصير التاريخي الواحد، أي بحركة التاريخ الانساني المتقلبة بتقلّب نبض الوعي الانساني. غير أنه يعود فيُعتقه من أية سلطة نصيّة فوقية تدّعي الاستقلال عن التاريخ والاستعلاء عليه. وفي هذا التحرير دعوة للتعبير عن تحسّس الذات لمعاني الوجود في غير محاكمة او إدانة.
ومن ثم، فإن الحوار الانساني يبدو في الكتلتين الدينية والعلمانية منعتقاً في وجه ومقيّداً في وجه آخر. فالفكر الديني يضمن للحوار لزوميته التي لا تخضع لمنافع الافراد والأمم، وهي المنافع التي يستتبعها لانخراط حتى التماهي في مجرى التاريخ البشري. غير أنه يُفقده حرية الابتكار والابداع في تحسّس آخر لمقتضيات في الانتعاش الانساني تخالف في قوامها وفي تأويلها ظاهر النص الديني وباطنه. والفكر العلماني يعجز عن ضمان الثبات في تبرير الحوار الديني بسبب إعراضه عن أية سلطة دينية ضابطة لمجرى الحياة الانسانية. بيد أنه يُطلق الحوار في جميع الحقول وفي جميع الاختبارات وفي جميع المعاني ولا يسترهب أن يبتكر بواسطة الحوار أنماطاً غير مألوفة في تطلّب الانتعاش الانساني.
ولا ريب ان القائلين بضرورة التأصيل الديني للحوار الانساني يجتهدون في تبرير الانعتاق والتقييد تبريراً يوائم جوهر الطبيعة الانسانية. وكذلك يصنع المنادون بضرورة التأصيل العلماني. وإني أحسب أن هذه المباحثة في الاصول يستحيل فصل المقال فيها من حيث الاصابة الفلسفية المحضة. ذلك أن اصحاب المبايعة الدينية واصحاب الانتماء العلماني يدّعون كلهم أن خطابهم في وصف الطبيعة البشرية هو خطاب المواءمة والمناسبة والمماهاة. ومن وراء هذا كله تصور للحق مؤداه أن الحقيقة هي مطابقة القول البشري للواقع التاريخي. بيد أن مسلّمات الزمن الحاضر القاهرة تقتضي الاعتراف الصريح بأن القول البشري أقوال وتأويلات، وبأن الواقع التاريخي حراك مستمر وحيوية متنامية. ولذلك ينبغي الاتضاع في الكتلتين المتواجهتين من اجل مراعاة افضل لمأزق التعبير عن أشد الاختبارات البشرية تأصيلاً للمعنى الانساني الأرحب. واذا ذهب أهل الايمان الى أن القول الالهي هو الحق بعينه، ذكّرهم اصحاب الفكر العلماني أن القول الالهي الذي يدخل في التاريخ يخضع لناموس التاريخ، فلا يتفقّهه الانسان الا في سياق تدرّج الوعي التاريخي النسبي.
وإغناء لهذه المباحثة الناشطة بين الفكرين الديني والعلماني أقترح الاعتراف المشترك بأن الانسانية بلغت اليوم الى مرتبة من الاختمار تؤهّلها لاستنباط ثلاثة من الاصول العظمى في بناء الحوار الانساني. ومن طبيعة هذا الاختمار الاعتراف الصريح بأن الجميع شاركوا في مثل هذا الاجتهاد، وبأن ثمرة هذا الاجتهاد تحمل فيها ألذّ ما استنبته الفكر الديني والفكر العلماني. ومن طبيعة هذا الاختمار ايضاً القبول الصابر بالتناقض المروّع بين نضج الفكر في بناء الحوار الانساني وبشاعة المشهد التاريخي السياسي في بدايات القرن الحادي والعشرين. وما من وسيلة اصوب وانفع من المراجعة الذاتية الناقدة في كلا الفكرين لتجاوز هذا الانفصام المرَضي بين الفكر النظري والفعل التاريخي.
ورأس الكلام في هذا الاجتهاد أن ثمة ثلاثة مبادئ عظمى ينبغي للانسان أن يعتصم بها اليوم في لقاء نظرائه ابناء البشر. المبدأ الاول يُملي على الانسان واجب القبول بالتنوع والاختلاف اصلاً شرعياً وثابتاً في سنة الكون والطبيعة والوجود الانساني. ومراعاة لهذا الاصل الاول ينبغي للانسان ان يقبل الاختلاف قبول التفاؤل والابتهاج والاجلال، لا قبول التطيّر والقنوط والازدراء. وفضلاً عن هذا، ينبغي الاقبال على الاختلاف في روح المسؤولية الواعية والصراحة الخالصة، لا في خلفية الاستقالة الفكرية والتقية المراوغة. وحين يعتصم المرء بهذا الاصل الاول يمكنه التبصّر في مستلزمات الاصل الثاني الذي يقضي بالاعراض القاطع عن مقارنة المفاضلة بين المذاهب والرؤى والمسالك والمناهج والسبل والانجازات. فلكل تصوّر منطلقاته ومبرراته وتحسساته واختباراته ومنازعه ومآثره. وليس ما يبرّر في التصوّر الذاتي للهوية الفكرية الاستعلاء على الآخرين وإلحاقهم بالذات القاهرة وإقصاءهم عن دائرة النجاة. ومن ثم، فإن اعتماد هذا الاصل الثاني يستتلي ضربين من الاجماع.
الاجماع الاول تبلغ اليه البشرية حين تسعى في استخراج طائفة من التصورات الفكرية العظمى التي يجب على جميع الناس أن يُقرّوا بها صوناً للحياة والعقل والحرية والعدل والسلام والتآخي الكوني. وكل تصوّر يخرج على هذه المسلمات يفقد من تلقاء ذاته شرعية انتمائه الى منطق الزمن الارضي. وينبغي في هذا السياق التمييز بين المخالفة الصريحة لهذه التصورات الفكرية العظمى والتفرّد المبتكر في تفقّه مستلزمات هذه التصورات في معترك الحياة الانسانية، اذ إن التنوع في استنباط الاحكام التفصيلية في رعاية الاجتماع الانساني في بقعة من بقع الارض لا ينتقص على الاطلاق من سموّ هذه التصورات.
وأما الاجماع الثاني فتفوز به الانسانية حين تعتمد جدلية التأثر والتأثير ناموساً أوحد في بناء الهوية الذاتية. فالعالم كان وما يزال اشبه بحقل رحب من التوتر الناشط والتفاعل الحي بين الاعراق والاقوام والأمم التي تقطن الارض، أي بين الافكار والتصورات والمقاربات التي يختزنها الوعي الانساني. فلا سبيل، من ثم، الى صون الهويات الجماعية من غير الولوج الجريء في هذا الحقل. ولا يجوز، من بعد، تبرير العنف بالاستناد الى واجب الحفاظ على الهوية الذاتية الجماعية، اذ إن الحفاظ السليم على هذه الهوية يقتضي بالاحرى الاقبال الحر على الآخرين، لا التواطؤ على محاصرتهم وإقصائهم وإلغائهم.
وفي امتداد الاقرار بالاصل الثاني تتبيّن متطلّبات الاصل الثالث والاخير، وهو الاصل الذي يُقر للانسان بجوهر انساني منغرس في التاريخ ومُطل على آفاق التجاوز والرفعة والتسامي. وحده هذا الجوهر الانساني يجسّد مطمح السعي والكدح والاجتهاد في مصطرع الوجود. والحوار الانساني السليم هو الحوار الذي يعترف بكرامة هذا الجوهر ويُتيح لجميع الناس أن يتحسّسوا في هذا الجوهر وجوهاً شتّى من الارتباط تُفضي به إما الى الاغتناء بذاته كطاقة حية متنامية مشرعة الآفاق، وإما الى تطلّب الاستهداء بتدبير إلهي يتقدّم عليه ويمنحه القدرة على الوجود والانتعاش والاكتمال.
ومن مستلزمات القول بالاصل الثالث أن يعترف المرء بأن قيام الجوهر الانساني في ذاته او اقترانه بمشيئة التدبير الالهي، وكلا الوجهين يعصيان على التبرير العقلي المحض، لا يجوز فيهما أن يُفضيا الى الاعراض عن خدمة الانسان في انسانيته. ولا شك أن هذه الخدمة ينبغي أن يزفّها الحوار الى الآخر على حسب ما يتصور الآخر الانسانية خيراً له، لا على حسب ما تتصوّره الذات في الانسانية خيراً للآخر. وذلك كله في حدود صون الحياة في مواجهة الموت، والعقل في مواجهة العبث، والحرية في مواجهة العبودية، والعدل في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الحرب، والتآخي في مواجهة التباغض، وانتعاش طاقات الكيان الانساني كلها في مواجهة اختناق الجوهر الانساني. ومن النافل التذكير بأن مثل هذه المواجهة تقتضي الاستناد الى ضمّة من التصورات الفكرية السامية الخليقة برعاية المعيّة الانسانية يستخرجها أهل الحوار من معين الحكمة الانسانية وينبوع الاختبار الايماني ومكتسبات العلوم الانسانية والعلوم الوضعية.
القول بهذه الاصول الثلاثة غداًَ اليوم قول التحدي يوجّهه أهل الفكر العلماني الى الاديان كلها، وذلك من بعد أن ارتضى هذا الفكر الغربي الحديث أن يدنو من الجوهر الانساني في مثل هذه المداناة اللينة السلسة المنفتحة. ولن تسقط قيمة هذه المداناة اذا نعتها أهل السلفية في الاديان بالكفر والانحطاط. فالاديان تستنهضها اليوم العلمانية الغربية المعتدلة التي لا تستقبح في التديّن الا اصراره على إبطال الحوار وإلغاء الاختلاف بحجة الدفاع عن الحق الالهي المتجلي. والمسألة كلها كامنة في فهم معاني التجلي الالهي في مسرى التاريخ.
وحده الحوار الانساني المبني على هذه الاصول قادر على إخراج الانسانية من ازمة الهويات المشتدّة في أرجاء الارض. وحده مثل هذا الحوار قادر على إنجاح المعيّة الانسانية في المجتمعات المختلفة. وحده مثل هذا الحوار قادر على نصرة المظلومين في الشرق وفي الغرب. ويقيني الثابت أن هذه الاصول الثلاثة، على ما يكتنفها من استنارة جريئة للفكر الديني، تستطيع أن تُدخل الانسانية في حالة التلاقي المثمر. ويقيني الثابت أن التوتر السياسي الكوني يفرض على مجتمعات حوض البحر الابيض المتوسط، وفيها خلاصة الحكمة الاثيلة التي اختبرتها حضارة الاوروبيين وحضارة العرب، يفرض عليها ان تتنادى لترسيخ الحوار الانساني على قاعدة هذه الاصول الثلاثة.
وبما أن لبنان يتوسط كالدرّة الفريدة هذا الحوض الحضاري، فينبغي أن ينقلب هو بعينه موضع الاختبار الحقيقي لثمار هذا الحوار. غير أن هذا كله لن يتأتى له الا اذا أعتقه العرب والاوروبيون من تفاهة التجاذب السياسي المقيت وانتدبوه بطيبة خاطر للاضطلاع بهذه المسؤولية الشريفة. فاذا أثبت الاوروبيون أنهم اصحاب التسامح العلماني الحقيقي، وهم ما فتئوا يكدحون في هذا السبيل منذ أن ثارت ثورتهم في القرن الثامن عشر ومنذ أن طهّرتهم حروب الاقتتال الديني والقومي ومنذ أن قام لهم مُتّحدر حضاري حديث في بروكسيل، واذا اثبت العرب أنهم اصحاب التسامح الديني الحقيقي، وهم ما انفكّوا يحنّون الى استثمار عصر الحرية الفكرية الذي اختبروه في العصور الوسطى، فإن لبنان الذي عُقد كيانه على استساغة هذين الضربين من التسامح العربي والاوروبي ينبغي له أن يضطلع بهذه المسؤولية التاريخية التي تهب لكيانه قوة الصمود ولهويته معنى الفرادة ولوجوده فعل الاثر الطيب في التاريخ.
المصدر: http://www.terezia.org/section.php?id=1370

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك