ما هكذا نصوم

عبد الله عبد الكريم السعدون

    

هذا الشهر الفضيل الذي تمت فيه أهم الفتوحات الإسلامية لا يجب أن نحيله إلى عكس الأشهر بسوء ممارساتنا من إسراف وتبذير وأضرار صحية واقتصادية، وتدني إنتاجية، بل يجب أن يكون شهر التغيير نحو الأفضل وشهر التخلص من العادات المضرة وشهر اجتماع الأسرة وعدم اقتصار العبادة فيه على الصيام والصلاة وتلاوة القرآن..

 

 

لا زلت أتذكر يوم دخلت مستودع الكتيبة ورأيت الرفوف مملوءة بالمأكولات المعلبة، سألت قائدها عن سبب هذه الزيادة أجاب: إن ما يتم توفيره في شهري رجب وشعبان نقايضه بمزيد من الأكل في رمضان وخصوصاً من اللحوم والنشويات والسكريات، ثم أضاف: ما يستهلك من الأكل في رمضان هو أضعاف ما يستهلك في أي شهر آخر.

أيام ويحل علينا الشهر كريم، وسوف تمتلئ هواتفنا برسائل التهاني وستتناقل مواقع التواصل كثيراً من الرسائل التي تحث على عبادات معروفة في هذا الشهر الفضيل، لكن القليل من الرسائل هي التي ستبين المعاني العميقة لهذا الشهر، ومن أهمها التكافل بين أفراد المجتمع، والتصدق بما نستطيع توفيره بسبب الصيام، كما لن تتحدث عن الجانب الصحي للصيام ومنها محاربة داء السمنة، ووضع أهداف في هذا الشهر كترك عادة سيئة كالتدخين، بل ستكون رسائل مكررة يتم تناقلها بين قنوات التواصل الحديثة وأكثرها لا يقرأ، تذكرني كثرتها ومضمونها بتلك الأشرطة والمطويات التي كانت تمتلئ بها الساحة في ذروة الصحوة ومعظمها يركز على العبادات والمحرمات ويهمل نشر الأمل والتسامح وزرع القيم والمعاملات.

لقد أحلنا هذا الشهر الفضيل إلى شهر تبذير واستهلاك مبالغ فيه من أكل وشرب حتى أصبح ما تستهلكه الأسرة الواحدة في هذا الشهر يكفي أكثر من أسرة، والأسوأ أن ما يشترى وما يطبخ لا يؤكل أكثره، بل يجد طريقه إلى براميل القمامة لتعبث به القطط. أما السهر في الليل والنوم في النهار فهو الغالب بين أفراد الأسرة، ويصبح التفكك الأسري في أسوأ حالاته، فأغلب الرجال والشباب يقضون أوقاتهم ليلاً خارج المنزل، والنساء في الأسواق، أما الصغار فمع الخادمات أو مع الأجهزة الذكية يتصفحونها ليل نهار، ولا إنتاجية للموظف في هذا الشهر لكثرة الغياب والنوم والكسل، وفي الليل تزدحم الشوارع بالسيارات وتكثر الحوادث والمشاجرات.

لا أعتقد أن الهدف من رمضان هو أن نجوع ونعطش في النهار لنأكل أضعاف ما نحتاجه في الليل، ولا أظن أن الحكمة من وجود هذا الشهر الفضيل هو أن نتسابق إلى الأسواق لنشتري ما يفيض عن حاجتنا، لذا أرى أنه لا بد من تصحيح هذه الممارسات لتعود إلى رمضان روحانيته وتعزيز الفائدة من هذا الشهر الفضيل ومن أهم الخطوات:

أولاً: أئمة المساجد وخطباء الجمعة مطالبون بتذكير الصائمين بالحكم الكثيرة من الصيام ومنها الصبر والإيثار والتوفير، والآثار السيئة للبذخ والتبذير على الأسرة والمجتمع، وإلى مضار كثرة الأكل والشرب على الصحة، وامتثالاً لقوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ مع التذكير بأن رمضان فرصة لا تتكرر للامتناع عن عادات مضرة كثيرة كالتدخين والمخدرات والمسكرات، مع الحث على البذل في رمضان ولكن ليس لمن يتسولون عند إشارات المرور وأكثرهم من الأطفال والنساء الذين خلفهم عصابات منظمة لا يهمها أن يتعرض الطفل أو المرأة لمخاطر السيارات وعوادمها، وأكثر المتسولين من الوافدين الذين تجلبهم عصابات منظمة لهذا الغرض ويتم توزيعهم على مناطق المملكة.

ثانياً: الأسرة هي نواة المجتمع الصالح، وصمام الأمان لتربية أفضل، وقد أصبحت التربية من أصعب المهام لوجود الكثير من المغريات، وما يتهدد الأطفال من مخاطر صحية كداء السمنة بسبب الأكل غير الصحي، والإدمان على الأجهزة الذكية التي حرمتهم من متعة اللعب والحركة والتفاعل مع من حولهم، لذا يجب أن نستثمر هذا الشهر الفضيل لزرع المزيد من العادات المفيدة والتخلص من العادات المضرة، وهذا لن يتحقق إلا بتواجد الوالدين في المنزل أكثر وقت ممكن، وأن يكونوا قدوة لهم أما النصائح دون تطبيق فتذهب أدراج الرياح، يقول المثل: (القدوة خير موعظة). ولو كان الوعظ والنصح ينفع وحده لصار أبناؤنا هم الأفضل على مستوى العالم لكثرة ما يسمعون من النصائح في البيت والمدرسة.

ثالثاً: ضعف الإنتاجية في رمضان لها أسباب كثيرة منها قلة النوم بسبب السهر في ليالي رمضان ومنها الجوع والعطش في أيام الصيف الطويلة خصوصاً مع تأخير الدوام إلى الساعة العاشرة، ولو بدأ الدوام مبكراً لينتهي قبل صلاة الظهر كما هو معمول به في شركة أرامكو التي تهتم بإنتاج الموظف لكانت النتائج أفضل إضافة لفوائد كثيرة يصعب حصرها، وحسبنا أن سيدنا صلى الله عليه وسلم قال: ((بورك لأمتي في بكورها)) الطبراني.

هذا الشهر الفضيل الذي تمت فيه أهم الفتوحات الإسلامية لا يجب أن نحيله إلى عكس الأشهر بسوء ممارساتنا من إسراف وتبذير وأضرار صحية واقتصادية، وتدني إنتاجية، بل يجب أن يكون شهر التغيير نحو الأفضل وشهر التخلص من العادات المضرة وشهر اجتماع الأسرة وعدم اقتصار العبادة فيه على الصيام والصلاة وتلاوة القرآن، فالمسلم يؤجر على كل عمل يزيده قوة في فكره وفي بدنه وفي عمارة الأرض امتثالاً لقوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين ففي كل عمل مباح حسنة والحسنة بعشر أمثالها فكيف إذا كانت في رمضان.

علينا أن نغير من سلوكنا وممارساتنا في هذا الشهر الفضيل حتى ولو عارضنا معظم أفراد المجتمع، فالمثل يقول: "السمك الحي هو الذي يسبح ضد التيار"، وتيار المجتمع جارف يأخذ معه كل سمك ميّت يطفو فوق سطحه، ومِثلُه من يؤجر عقله لغيره. ثقافة المجتمع لا يقاومها إلا من منحه الله ملكة التفكير وشجاعة اتخاذ القرار.

http://www.alriyadh.com/945113

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك