المتوسط والحوار الديني

المتوسط والحوار الديني

الحسن الغيلاني

يعتبر حوض البحر المتوسط، عبر مختلف حقب التاريخ، نقطة تواصل ولقاء وحوار بين الشعوب والديانات والحضارات. ورغم ما كان يشوب هذه المنطقة من العالم من توتر وسلم ومد وجزر، فإنه غالبا ما كانت ترجح المصالح المشتركة، وخلق مناخ التسامح والتساكن والعيش جنبا إلى جنب.

وقد تداول على هذه المنطقة من العالم، كليا أو جزئيا، الفنيقيون القرطاجنيون، اليونان، الفرس، الروم، القوط، العرب، البربر، المغول والتتر الصليبيون، الأوروبيون... كما تواجدت ديانات توحيدية وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، استمرارا لديانة إبراهيم الخليل، بالإضافة إلى الوثنية. وقبل مجيء الإسلام كانت هناك مواجهات بين اليهودية والمسيحية والوثنية، وفي القرن السابع الميلادي بزغ فجر الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وفي القرن الثامن الميلادي وما تلاه من قرون فتح المسلمون معظم ضفاف البحر المتوسط، التي تضم أجناسا، وديانات وثقافات، وحضارات، وقد أدى التواجد الإسلامي في هذه المنطقة من العالم إلى فتح المجال للمجابهات التاريخية والحوارات والتأثيرات الكبرى بين الإسلام والحضارات المتواجدة في حوض المتوسط، فالحضارات "إنما تقوم على مزيج من عدم الثقة والكراهية مع التضحية والإشعاع، وتكديس للثروات الثقافية، وميراث للذكاء، فإذا كان البحر المتوسط مدينا بحروبه لهذه الحضارات، فإنه مدين لها أيضا بمبادلاته العديدة وتقنياته وأفكاره وحتى معتقــداته"(1).

وجد المسلمون في هذه الأراضي المفتوحة ديانات ومعتقدات، وبخاصة اليهودية والمسيحية والوثنية، فالمسيحيون كانت لهم إمبراطوريتهم المعروفة بالدولة البيزنطية، بالإضافة إلى الدويلات العربية التي اعتنقت المسيحية في الجزيرة العربية، بينما اليهود لم يكن لهم كيان سياسي محدد، في حين كان الوثنيون العرب تسودهم أعراف للعيش والاستمرار.

فالإسلام اعتبر نفسه دعوة عالمية، وديانة توحيدية، استمرارا لليهودية والمسيحية، واستمرارا لديانة إبراهيم الخليل لخلافة الله في الأرض. وإخراجا للناس من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.، وأراد من اليهودية والمسيحية الاعتراف به، إلا أنه قوبل بالرفض من قبل اليهودية بينما رد فعل المسيحية كان مختلفا ومتباينا لكون الكنائس المسيحية كانت منشغلة بالخلافات الداخلية في ما بينها، وهي: الكنيسة الأرثوذكسية وهي كنيسة الدولة البيزنطية السائدة، والكنائس السريانية الشرقية والغربية، وهي كنائس النساطرة واليعاقبة ثم الموارنة.

اعتبر السريان والبيزنطيون، في القرن السابع ومطلع الثامن الميلادين، الإسلام هرطقة أي بدعة في الدين، يسهل علاجها، أو عقابا من الله يمكن أن يتوقف، ويزول، معتقدين أن الدولة الإسلامية الفتية، وما تقوم به من هجومات مجرد غارات الأعراب التي اعتادوا عليها، إلا أن الإسلام استقر لـه الأمر في البلاد التي دخلها، وأصبح يضم أجناسا مختلفة تتعايش في ظل الإسلام، وانفتاحه، ونزعته العالمية،  بعد مواثيق صلح عقدوها مع المسلمين، بدفع الجزية، وهي ضريبة الرؤوس، والخراج، وهي ضريبة الأرض، إلا أن الاختلافات اللاهوتية حول مفهوم التوحيد، وعلاقة الإنسان بالله، وبالعالم كانت كبيرة بين المسلمين والمسيحيين، فالمسلمون كان هدفهم هو الاعتراف بالإسلام وبنبوة محمد (ص) من قبل المسيحيين وفي المقابل كانوا على استعداد لتجاوز تلك الاختلافات، ولكن المسيحيين كانوا يرون من الممكن التنازل في كل المجالات إلا الاعتراف الذي يؤدي بهم إلى إلغاء هويتهم المسيحية والدخول في الإسلام. وفي هذا الإطار صار رجالات المذاهب المسيحية يتجهون إلى محاولة إعادة تماسكهم، وتنظيم صفوفهم، وصون الجماعات المسيحية، وتجديد وعيها وحياتها لمواجهة الظروف الجديدة. وفي هذا الصدد يمكن فهم الجداليات المسيحية المبكرة مع الإسلام، وبخاصة المسيحيين الأرثوذكس، أمثال يوحنا الدمشقي الذي وضع كتاب ينبوع المعرفة الذي يعتبر أول خلاصة وافية للعقيدة الأرثودكسية، مهد لـه بمقطعين استهلاليين أولهما، "الفصول الفلسفية"، ويتعلق بشرح التصنيفات الفلسفية واللاهوتية الأساسية في العقيدة الأرثوذكسية، وثانيهما "حول الهرطقة"، ويتناول أسماء البدع المتعددة، ويحدد تعاليمها إضافة إلى ذلك، هناك رسالة في الجدل بين مسلم ومسيحي، في مطلع القرن الثامن الميلادي، وأعمال تيودور أبو قرة في مطلع القرن التاسع الميلادي.

وفي عهد الإمبراطور البيزنطي ليو الثالـــــث (717-741 م) دعت كنيسة القسطنطينية إلى تحطيم الصور والتماثيل والإيقونات، بعدما انعقدت مجامع كنسية في هذا الصدد، وصدرت الأوامر لتحطيمها، وأرسلت البعثات إلى كل الجهات المسيحية بما فيها الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسلامية، وقد أدت هذه الدعوة إلى نشوب خلاف طويل الأمد بين المؤيدين والمعارضين، وجعلت الأرثوذكس الذين اهتموا بالكتابة في هذا العهد ينشغلون في جداليات لاهوتية داخلية، أثرت على توحيد الوعي الأرثوذكسي وتجديده. ومن اللاهوتيين الذين كانوا يعيشون في ديار الإسلام، ووقفوا ضد تحطيم الصور والتماثيل والإيقونات يوحنا الدمشقي، وتيودور أبو قرة، وهما من الأرثوذكس، وقد صدرت ضدهما، وكل من أيدهما، قرارات من قبل المجامع التي كان يترأسها الأباطرة، بينما السريان كانوا منقسمين إلى نساطرة ويعاقبة، وانشغلوا بنزاعات داخلية على المناصب، الشيء الذي أدى إلى تدخل الإدارة الأموية، ثم العباسية في شؤونهم الداخلية.

ورغم موقف الإسلام من تحريم الصور فإنه لم يساير الموقف البيزنطي في هذا الصدد، ولم يقع جدل بين المسلمين والمسيحيين الأرثوذكس في هذه المسألة، وإنما اتجه الجدل إلى مسألة القضاء والقدر أو حرية الإرادة، ودنيوية المسلمين، وعقائد القرآن، ونبوة محمد (ص).

ومن أمثلة الجدل المهمة في أواخر القرن الأول الهجري وبداية الثاني الهجري، تلك التي دارت بين الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز والإمبراطـــور البيزنطي ليو الثالث (99-124هـ /718-741م) وهي عبارة عن مراسلات بين الخليفة والإمبراطور، وتمثل صورة من صور الجدل العقائدي واللاهوتي بين الإسلام والمسيحية. وفي هذه الفترة ركزت المجادلات على عقيدة المسيح عند النصارى، والتي تمثل المحور الرئيس للجدل.

يحتل فن الجدل والمناظرة مكانة مهمة في الآداب الدينية وبخاصة ما كتبه علماء الكلام المسلمون من ردود على طروحات خصومهم من علماء الملل والديانات الأخرى، فيما يتعلق بالعقيدة، حيث كانت تعقد مجالس للنقاش بين علماء الديانات التوحيدية في أماكن خاصة، أو في المساجد، أو في بلاط الخلفاء أو الوزراء أو الأمراء، حتى يكون المسلمون على بينة من الديانات الأخرى، والشعوب التي تعيش معهم والخاضعة للسلطة السياسية الإسلامية من جهة، ومن جهة أخرى محاولة إقناعهم الدخول في الإسلام باعتباره دعوة توحيدية جاءت لتتميم الديانتين السابقتين اليهودية والمسيحية.

مظاهر الجدل الإسلامي المسيحي

في هذه الفترة

               1 - الجدل الإسلامي المسيحي اكتملت معالمه في نهاية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وأن الردود اللاحقة صارت تردد ما كتب في القرون الأربعة الأولى.

           2- الردود المسيحية على المسلمين كانت مبكرة، ومرد ذلك إلى كون المسيحيين دافعوا عن كيانهم، وهويتهم، وتماسكهم، لإعادة تأكيد الوعي بالذات، في ظل الدولة الإسلامية، لمواجهة الموقف الجديد.

           3- بداية الردود الإسلامية على المسيحيين كانت في القرنين  السابع والثامن الميلاديين.

           4- الردود المسيحية على المسلمين تم جمعها، ودراستها، ونشر أغلبها على خلاف الردود الإسلامية على النصارى، فإنها لم تحظ بنفس العناية، وأن العديد منها مازال مخطوطا أو مفقودا.

           5- اطلاع كل من الطرفين الإسلامي والمسيحي، في كثير من الأحيان على نظرية الطرف الآخر.

           6-المجادلات والمناظرات كانت تدور بين الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وأحيانا كانت تقام تحالفات بين ديانتين ضد ديانة ثالثة، كما كانت تدور داخل الديانة الواحدة كما هو الحال في الديانة الإسلامية، حيث كانت تجرى مناظرات بين السنة والشيعة، ومناظرات داخل السنة بين الحنبلية والشافعية والأشعرية، الظاهرية والمالكية (ابن حزم، الباجي)، ومناقشات كلامية حول مسائل الإيمان والأعمال بين الخوارج والمرجئة، قدرة الإنسان والجبر، وحرية الإرادة، المناظرة بين الجبرية والقدرية والمعتزلة، ومرجعية القرآن وجوهره من حيث كونه كلمة الله (المناظرة بين أهل السنة والجهمية).

المسائل التي جادل فيها المسيحيون المسلمين:

الإسلام هرطقة، أي بدعة في الدين.

محمد نبي كاذب.

القرآن كتاب مزيف.

الإسلام دين مزيف.

المسائل التي جادل فيها المسلمون المسيحيين، وبخاصة المجادلات التي تبدأ من القرن التاسع الميلادي، وتستمر حتى الآن، فإنها تنصب على العقيدة المسيحية لدى سائر الفرق المسيحية، وهي:

الوحدانية والتثليث.

ألوهية المسيح.

الصلب والفداء.

تحريف الكتب المقدسة.

 

النصوص التي اعتمدها المجادلون المسلمون في ردودهم:

القرآن الكريم.

الحديث والتفسير.

نصوص كتبها بعض العلماء المسلمون، والتي تمثل الردود على النصارى خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة، وهي:

1.3 – رسالة الهاشمي إلى الكندي يدعوه فيها إلى الإسلام.

2.3 – الرد على النصارى والدين والدولة وهما كتابان لـعلي بن الطبري ( 157-240 هـ).

3.3 – الرد على النصارى للإمام الزيدي القاسم بن إبراهيم الرسي(170-246هـ)

4.3 – مقالة في الرد على النصارى لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي  (185-252 هـ).

5.3 – الرد على النصارى لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (160-255 هـ).

6.3 – الرد على النصــارى لأبي عيسى الوراق (تـ 297 هـ) وهو من مدرسة بغداد الاعتزالية تعرض في كتابه المقالات إلى النصرانية.

7.3– كتاب التوحيد لأبي منصور الـمــاتريدي (تـ 233 هـ) تعرض فيه إلى آراء النصارى في المسيح والرد عليها.

8.3 – رسالة الحسن بن أيوب (تـ 378 هـ) إلى أخيه علي ابن أيوب، وهو من المتكلمين المعتزلة، وكان نصرانيا وأسلم، وفي هذه الرسالة يدعو أخاه إلى الإسلام، ويبين بطلان دين النصارى.

9.3 – الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري (تـ 381 هـ), وقد تناول في كتابه مقارنة بين الديانات، وضمنها المقارنة بين الإسلام والمسيحية.

10.3 – كلام في مبادئ الموجودات لأبي سليمان المنطقي (تـ بعد 391 هـ), وتعتبر هذه الرسالة أول محاولة إسلامية تتعلق بالثالوث المسيحي، دون القصد من ذلك الجدل والمماحكة.

11.3 – كتاب التمهيد لأبي بكر الباقلاني: وهو من زعماء المدرسة الأشعرية في الكلام.

12.3 – كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل، وكتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني (تـ 415 هـ)، وهو أحد مفكري الاعتزال في بالقرنين الرابع والخامس الهجريين.

13.3 – رد على النصارى مجهول المؤلف والعنوان المنسوب إلى الجاحظ في الرد على النصارى الرسالة العسلية.

بالإضافة إلى ذلك هناك نصوص أخرى مثل مناظرات الإمام علي بن موسى الرضا عند الشيعة الإثنى عشرية مع علماء الأديان الأخرى، ومنهم النصارى، الواردة في كتاب عيون أخبار الرضى، وهناك نصوص أخرى لم تصلنا، وهي حوالي 33 مؤلفا (2). 

            وفي ما يخص النصوص المعتمدة من قبل المسلمين في مناظراتهم الداخلية القرآن والسنة والإجماع والقياس، بينما النصوص التي استخدموها في ردودهم على الديانات الأخرى، والبراهين المستخدمة في جدلهم، فقد كانت ذات طبيعة عقلية، وفي الوقت نفسه كانوا يستعينون بنصوص من التوراة والأناجيل رغم اعترافهم بكونها ملفقة.

            وفي ما يخص الحوار الديني بين البيزنطيين والأتراك خلال التوسع العثماني، فإنه يمكن إجماله في ما يلي:

            كان السلاطين العثمانيون يعقدون ندوات يشارك فيها المسلمون والمسيحيون واليهود أصحاب الديانات في الإمبراطورية العثمانية، حتى يكونوا على اطلاع على أحوال الرعية، وبخاصة أن أغلب السكان في المناطق المفتوحة كانوا مسيحيين.

            ومن المناقشات المبكرة ما كتبه أوغر بوسبك BusbecqAugerالموفد إلى البلاط العثماني سفيرا للملك فردناند الأول، شقيق الإمبراطور شارل الخامس، الذي شغل هذا المنصب من سنة 1554 حتى 1562 م، حيث ناقش عددا من الشخصيات العثمانية المرموقة ومن جملتهم الوزير رستم باشا صهر السلطان، وأحد رجالات الدولة المرموقين، وقد كتب ذلك إثر عودته إلى فيينا.

               وبانحطاط الدولة البيزنطية وسقوطها دخلت شعوب متعددة تحت النفوذ العثماني، منهم من بقي على دينه شرط أن يدفع الجزية، ومنهم من فضل الدخول إلى الإسلام حتى لا يدفع الجزية. وقد عرف هذا الوضع الذي استمر حوالي أربعة قرون حوارات ومجادلات دينية مستديمة، منها تردد جلال الدين الرومي مؤسس طريقة الدراويش المولوية، والشاعر الصوفي علي دير أفلاطون، الذي يوجد على مقربة من قونية، لمناقشة مسائل دينية مع رجال الدين المسيحيين، الذين كانوا يقطنون هذا الدير، بالإضافة إلى مناقشات لاهوتية كانت تلقى تشجيعا من قبل العثمانيين داخل المناطق الخاضعة لهم. وقد مثل الجانب المسيحي في إحدى المناقشات متروبوليت سالونيك جيورجيوش بالاماس وفي أخرى الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني.

            وقد كانت هذه الحوارات الدينية التي تعزى إلى كل من بالاماس ومنويل الثاني تدون من قبل العلماء البيزنطيين في شكل محاورات، تتوخى عرض الآراء اللاهوتية والعقدية، في قالب من الأسئلة المحددة مع إشباعها شرحا على شكل أسئلة. كما أن المجادلات بين الطبقات العليا الإسلامية والمسيحية بقي بعضها، بينما التي دارت بين الطبقات الأقل مرتبة اجتماعية كان مصيرها الإهمال.

            كما أن بالاماس اعتقل في إحدى الحروب بين الأتراك والبيزنطيين، حيث تسنى لـه مناقشة بعض المسائل الدينية مع المسلمين، وقد عقد السلطان أورخان ندوة عامة في نيقية Nicaea، حيث دعا عددا من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام لتمثيل الجانب الإسلامي في هذه الندوة، لتمكنهم من لغة الجانب المسيحي، وقد تناولت المناقشات مسائل حيوية عدة منها: موسى والأنبياء، البعث وصعود المسيح، إحجام المسيحيين عن الاعتراف برسالة محمد (ص)، والختان..

            بعد ذلك خاض المطران بالاماس مناقشة دينية عامة مع عالم مسلم، وقد تمحور النقاش حول اجتثاث اسم الرسول من الكتاب المقدس.

            وفي سنة 1391 عقدت مناقشة دينية طويلة في أنقرة أيام السلطان العثماني بايزيد، وقد شارك فيها الإمبراطور مانويل الثاني باليو لوغوس، الذي كان تابعا للسلطان العثماني، وقد دارت هذه المناقشات حول اللاهوت، والتصور الإسلامي للجنة، وطبيعة النبات والحيوانات، والكائنات البشرية، والرسول وعقائده، والأنبياء وموسى، والروح القدس، وطبيعة الإيمان، وتصورات الإسلام حيال الثالوث المقدس أو الشرك...

            لم يكن غرض الأتراك من الندوات الدينية استخدامها وسيلة لاستمالة الشعوب الخاضعة، ولم يكونوا يخشون من تبادل الآراء الدينية بين العامة، لأنهم كانوا قادرين على حسم الأمور لمصلحتهم، كما أنهم لم يدفعوا المناقشات الدينية إلى حدودها القصوى لتجنب وقوع اضطرابات اجتماعية.

  أما فيما يخص الجدل في الغرب الإسلامي المثار من قبل المسلمين ضد اليهود والمسيحيين فقد كان متعددا، وما زال الكثير منه مخطوطا أو مفقودا، وفيما يلي بعض الأمثلة:

  فالجدل المثار ضد اليهود، وبخاصة في القرن الخامس الهجري، مجادلة ابن حزم القرطبي الظاهري لابن النغريلة اليهودي، وقد كانا وزيرين للزيريين في غرناطة، على عهد حبوس وبعده باديس، وقد انصب هذا الجدل على العقيدة، رغم أنه كانت لـه دوافع سياسية داخلية، بالإضافة إلى ذلك ناظر ابن حزم أبا الوليد الباجي الفقيه المالكي الأشعري، حول أصول الفقه، في ميورقة، وبحضور عاملها ابن رشيق، وبتشجيع منه (3).

  أما الجدل المثار بين المسلمين والمسيحيين، فقد كان في الفترة التي بدأ فيها المسيحيون وبعدها يسترجعون صقلية والأندلس، ومن أمثلة ذلك:

رسالة راهب فرنسا إلى ملك سرقسطة لإقناعه باعتناق المسيحية، وقد رد عليه الفقيه الباجي.

            رسالة حاكم صقلية إلى علماء سبتة، تتضمن مجموعة من الأسئلة، يتوخى فيها الإجابة عنها، وقد رد على هذه الرسالة الصوفي الشهير ابن سبعين، الذي كان قد حل بسبتة، قادما إليها من مرسية بالأندلس.

            رسالة بابوية لخلفاء الموحدين، تتعلق بالتعايش والتسامح مع الجاليات المسيحية المتواجدة في ديار المسلمين والخاضعة لهم.

            ومن العلماء المسيحيين الذين جادلوا المسلمين، وتعلمـوا العربية، في القرن الثـــالث عشر، رايموندو مرتي (1230-1286م) القطلوني: حيث وضع كتاب المسمى خنجر الإيمان ضد المسلمين واليهود، وهو عبارة عن مديح للنصرانية، ويعتبر هذا الكتاب خير ما ألف الإسبان في العلم الإلهي في القرن الثالث عشر(4). ورامون لول (632-714 هـ/1235-1315م) الميورقي، الراهب المتصوف، والصورة الإسبانية للاسم رايموندو لوليو Lulio Raimondo  كان   يتقن  اللغة العربية، ويكتب بها كما يكتب القطلونية، وأنه كان يستعملها في مجادلاته مع المسلمين، وفي التـبشير في المغرب(5).

ومن العلماء المسلمين الذين جادلوا النصارى في الأندلس ابن حزم، الذي أنكر عقائد الصابئة والنصارى، ويعتبر هؤلاء الآخرين مشركين، وبخاصة الذين يقولون بالثالوث. ومحمد الأنصاري الأندلسي: نزيل مدينة فاس، الذي ألف كتاب رسالة السائل والمجـيب وروض نزهة الأريب(6)، حيث خص الباب الخامس والثلاثين من الكتاب بفصول من مجادلة النصارى خصهم الله تعالى بمنه وفضله. وقد أهدى هذا الكتاب إلى الوزير المغربي أبي زكرياء يحيى بن زيان. وتوجد نسخة مخطوطة بمكتبة الأكاديمية الملكية بمدريد وعنوانها حسب الفهرس مجادلة بين راهب وثلاثة فقهاء مسلمين(7).

            لقد عاشت شعوب البحر المتوسط، طيلة الحكم الإسلامي، في العصر الوسيط في جو من التعايش والحوار بين الديانات، ولكن هل أدى هذا الحوار أهدافه المنشودة؟ هل أقنع المسلمون المسيحيين باعتناق الإسلام؟ أو أقنع المسيحيون المسلمين باعتناق المسيحية؟

لقد دافع كل فريق عن دينه ومعتقداته، فالمسلمون في ردودهم مجدوا الإسلام، وبينوا فساد عقيدة المسيحيين في التثليث والصلب والفداء وقداسة كتبهم، وسلوكهم وأخلاقهم وعباداتهم، وذلك من أجل ترغيب المسيحيين وإقناعهم باعتناق الإسلام. والمسيحيون مجدوا المسيحية، واتهموا الإسلام بالهرطقة، وقالوا إن محمدا (ص) كاذب والقرآن كتاب مزيف، والإسلام دين مزيف، وذلك من أجل الدفاع عن كيانهم، والدعوة إلى اعتناق المسيحية. فهل تخلى كل من المسلمين والمسيحيين عن ديانتهم؟ الواقع لقد تشبث كل فريق بديانته ومعتقداته إلا من رغب في اعتناق ديانة الطرف الآخر لسبب من الأسباب، وذلك في ظل الحكم الإسلامي وتسامحه، ولكن المسيحيين لم يقفوا نفس الموقف عندما تأرجح ميزان القوى لصالحهم، وأصبح المسلمون خاضعين لهم في الأراضي التي استولوا عليها في صقلية والأندلس، فلم يسمحوا بالحوار، بل تعرض المسلمون واليهود للطرد والتشريد من الأندلس بأوامر بابوية، وأجبروا على التنصير أو القتل، ومنعوا من القيام بشعائرهم الدينية، وحولت المساجد والبيع إلى كنائس، بينما المسيحيون واليهود مارسوا شعائرهم الدينية، واحتفظوا بكنائسهم وبيعهم في الدول الإسلامية الواقعة على حوض البحر المتوسط حتى العصر الحديث.         

1-  فرنان بروديل: البحر المتوسط، المجال والتاريخ، ترجمة يوسف شلب، وزارة الثقافة، دمشق 1990، ص 131.

2-  عبد المجيد الشرقي: الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع، العاشر الميلادي. الدار التونسية للنشر، تونس 1986

3- A. M Turqui ; Polémique entre Ibn Hazme et Baji sur les principes de la loi musulmane ; Essai sur le litteralisme Zahirite et la finalité Malikte, Alger 1976 p.16-20 et 50-56.

4-  أنخيل جنثالث بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، الطبعة الأولى القاهرة 1955، ص541.

5-   نفس المصدر، ص:549.

6-   توجد نسخة من هذا المخطوط في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم 1138 Dوهي مبتورة الأخير، ونسخة خاصة مرقونة، بالإضافة إلى نسخ أخرى بالخزانة العامة والخزانات الخاصة.

7- فهرس المكتبة الملكية للتاريخ. مجموعة Gayangos. مدريد1975، تحت رقم
المصدر: http://www.geocities.ws/cuadernosdelnorte/dossmedalhassan.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك