القرن القادم: هل هو قرن صيني أم أمريكي؟

                                                                                               د. عدنان عباس علي

 

يتبارى المحللون السياسيون والاقتصاديون والعسكريون وما سواهم من خبراء في الشئون الإستراتيجية في وضع تصوراتهم لمستقبل العالم في عقود الزمن القادمة، وفي الإعلان عن تنبؤاتهم لما سيكون عليه عالمنا في القرن الحادي والعشرين، وما إذا ستظل الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة المتحكمة بمصير دول العالم وشعوبها.
 
وغني عن البيان أن التنبؤ بالمستقبل يظل رجماً بالغيب، حتى وإن كان مبنياً على الاستقراء الموضوعي للأحداث والاستخلاص المنطقي للنتائج. فكثير من التنبؤات كذبتها وقائع، وفندتها تطورات لم تؤخذ بالحسبان أبداً.
 
إلا أن هذه الحقيقة لا تمنع الباحثين السياسيين والاقتصاديين والعسكريين من السعي بنحو دءوب لاستشراف الملامح التي ستحدد صورة العالم في عقود الزمن القادمة، وما إذا ستظل زعامة العالم وقفاً على قوة عظمى واحدة، على الولايات المتحدة الأمريكية فقط، أم ما إذا ستظهر قوة أخرى تنافس الولايات المتحدة وتحل مكانها في زعامة العالم في القرن القادم القادم، القرن الحادي والعشرين.
 
وفي سياق سعيهم الدءوب لرسم صورة عالم القرن الحادي والعشرين، لا مندوحة لهؤلاء جميعاً من التفكير بالصين، فهي، شاء هؤلاء أم أبوا، تفرضهم وجودها عليهم جميعا، وتحتل موقع الصدارة، كأحد أهم القوى المرشحة لتشكيل صورة العالم القادم، والمتطلعة لأن يكون القرن الحادي والعشرين، قرن الصين، وليس قرن الولايات المتحدة الأمريكية.
 
وينطلق هؤلاء الباحثون من التطور الكاسح، الذي أحزته الصين منذ شروعها بتنفيذ إصلاحات هيكلية، مكنتها، منذ العام 1979، من تحقيق تطور عظيم في الكثير من الأصعدة ومن بلوغ تقدم باهر استشف منه البعض أن الصين مرشحة لأن تصبح في العقود القادمة من الزمن القوة العظمى في العالم، مرشحة لأن تحتل مكانة الولايات المتحدة وتغدو القوة الأولى في عالم القرن القادم، إذا ما واصلت ارتقائها بنفس معدلات النمو التي أذهل تسارعها خبراء الشئون السياسية والاقتصادية.
 
فالصين تمتلك الكثير مم المقومات الضرورية للتحول إلى قوة عظمى في عالم الغد: نمو اقتصادي نادر المثيل، وتقدم صناعي مذهل، وقوة عسكرية ونووية تزداد نمواً من يوم لآخر، وسكان يبلغ تعدادهم حوالي 20 بالمائة من إجمالي سكان العالم، وسوق اقتصادية رحبة في بلد هو أكبر بلد في العالم من حيث تعداد سكانه.
 
فالاقتصاد الصيني واصل نموه السريع في السنوات الأخيرة برغم تعرض الاقتصاد العالمي عام 2007/2008 إلى أزمة كانت أعتا أزمة اقتصادية منذ أزمة الكساد الكبير في عام 1929. فهي سجلت خلال الفترة الواقعة بين العام 2008 والعام 2011 معدلات نمو اقتصادي حقيقي بلغت حوالي 9 إلى 10 بالمائة. وإذا كان الاقتصاد الصيني قد سجل في عام 2012 نمواً بلغ معدله 7،9 بالمائة فقط، فليس ثمة شك في أننا هاهنا إزاء تراجع مؤقت لا غير.
 
من ناحية أخرى، وخلافاً لما هو دارج في الدول الصناعية، يلعب القطاع الزراعي دوراً غاية في الأهمية في الاقتصاد الصيني. ففي عام 2008، على سبيل المثال، استقطب هذا القطاع 39،5 بالمائة من إجمالي العمالة، إلا أنه شارك بحوالي 10 بالمائة فقط من إجمالي الناتج المحلي.
 
إن القطاع الصناعي هو الذي شارك بأكبر حصة في تحقيق ما حققته الصين عام 2010 من ناتج محلي إجمالي، فمساهمته بلغت في ذلك العام حوالي 47 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي. وساهم هذا القطاع الصناعي في أن تتحول الصين إلى أقوى أمم العالم في مجال التصدير. ففي عام 2010 بلغت قيمة صادرات الصين السلعية حوالي 1،6 تريليون دولار أمريكي. وبما أن قيمة الواردات كانت قد انخفضت إلى حوالي 1،4 تريليون دولار أمريكي، لذا سجل الميزان التجاري الصيني، في المحصلة النهائية، فائضاً بلغت قيمته حوالي 180 دولار أمريكي.
 
ولكن، وإذا افترضنا أن الصين ستواصل ارتقاءها فيما ذكرنا من مجالات، يظل السؤال مطروحاً للمناقشة عما إذا ستكون الصين، وليس الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى المهيمنة على بلدان العالم وعلى مصير الشعوب. فكما سبق أن قلنا في مقالة تناولنا فيها مستقبل الإمبراطورية الأمريكية، فلا طاقات الإنتاج الصناعي ولا القوة العسكرية، يستطيعان - بمفردهما - تمكين الصين من احتلال المكانة التي تحتلها الولايات المتحدة في العام الراهن.
 
إن الأمر الحاسم هاهنا، يكمن في مدى نجاح الصين في إدارة وتوجيه تدفقات رأس المال في الاقتصاد العالمي وفي قدرة اليوان -  العملة الصينية - على القيام بدور القاسم المشترك في تحديد قيمة عملات العالم، وفي مدى نجاحها في التحكم بحركة الاقتصاد العالمي من خلال توصلها إلى ابتكارات متجددة باستمرار.
 
وتكمن الوسائل الضرورية هاهنا في
·        السيطرة على البنك العالمي وصندوق النقد الدولي
·        وفي النشاطات التي تبذلها المعاهد البحثية ومراكز التكنولوجيا الحديثة.
فهذه الأمور بمجملها تضمن أن تتحمل دول العالم الأخرى الأعباء، وأن تحصل الصين على المنافع.
 
وعلى ضوء ما قدمناه، نرى أن أمام الصين مشواراً طويلاً، مشواراً يتعدى عقود معدودة من  الزمن، حتى تتمكن من لعب الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في السياسية الدولية. فتطور الصين صناعياً لا يزال عالة على ما تتوصل إليه البلدان الصناعية من ابتكارات تكنولوجية، فسلعها التصديرية تقليد لما تبتكره هذه البلدان، وليست من ابتكارات مراكز بحثية صينية أو من بنات أفكار الصناعيين الصينيين في أغلب الحالات. أضف إلى هذا أنها تقليد يفتقد مقومات الجودة في كثير من الحالات.
 
أما بالنسبة لدور اليوان في الاقتصاد العالمي، فإن علينا أن نأخذ بالاعتبار الملاحظتين التاليتين:
 
·        أن اليوان يكتسب، حقاً، أهمية متزايدة في تمويل التجارة السلعية الدولية، فهو استطاع، في تشرين أول/أكتوبر من عام 2013، أن يحتل المرتبة الثانية في هذا المجال، أي أن يأتي تصنيفه بعد الدولار الأمريكي، الذي سجل نسبة بلغت 80 بالمائة في تمويل التجارة السلعية الدولية.
 
·        وأن بلوغ اليوان المرتبة الثانية في المجال المشار إليه، لا يجوز أن يحجب عن ناظرينا أن اليوان عملة غير قابلة للتحويل إلى العملات الأجنبية، أو أنه قابل للتحويل في مجالات ضيقة جداً، في مجالات لا يجوز الاعتداد بها كثيراً، حالياً على أدنى قدير.
 
ومعنى هذه الحقيقة هو أن الصين ستعجز عن لعب دور حاسم في إدارة وتوجيه تدفقات رأس المال في الاقتصاد العالمي وفي قيام عملتها الوطنية بدور القاسم المشترك في تحديد قيمة عملات العالم. أضف إلى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتخلى عن السيطرة على البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، وذلك لوعيها بأن خسارة النفوذ في هاتين المؤسستين يعني أفول نجم الإمبراطورية الأمريكية، فمن خلال ما لديها من نفوذ في هاتين المؤسستين تستطيع الولايات المتحدة إملاء إرادتها على شعوب العالم.
 
من ناحية أخرى، تواجه الصين موقفاً محرجاً فعلاً.
 
من ناحية، فإن هي حررت عملتها من القيود الحكومية، فإن عملية التحرير هذه قد تُنهي تطور قطاعها الصناعي الفتي، وذلك لأن سعر صرف اليوان سيرتفع في الحال، بحسب أكثر الاحتمالات، مؤدياً بذلك إلى تقويض قوتها التنافسية وازدهار صناعتها على حساب صناعات الشعوب الأخرى.
 
على صعيد آخر، ليس من مصلحة الصين منافسة الدولار والعمل على تراجع أهميته في الاحتياطيات الأجنبية الموجودة لدى دول العالم المختلفة، وذلك لأن تدهور أهمية الدولار يؤدي بحسب أكثر الاحتمالات إلى تدهور قيمة الدولار وانخفاض قيمة الاحتياطيات الهائلة التي تحتفظ بها الصين من الدولار ومن سندات الدين الأمريكية. فالدولار شكل ولا يزال، يشكل حصة الأسد في الاحتياطي الأجنبي الصيني، هذا الاحتياطي الذي بلغ في اليوم الراهن حوالي 3،66 تريليون دولار أمريكي. علماً أن الصين لا تزال أكبر الدول الحاملة لسندات الخزانة الأمريكية، بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام في نهاية عام 2013. إذ بلغت قيمة هذه السندات 1،277 تريليون دولار أمريكي.
 
وخلاصة الموضوع هو أن اليوان قد يتحول إلى عملة يستخدمها شركاء الصين التجاريون، في تسوية المعاملات التجارية البينية رغبة منهم في خفض الاعتماد على الدولار الأمريكي في هذه المعاملات.
 
فالصين على وعي تام أن ليس من مصلحتها تحدي الدولار وإرهاقه. فاقتصادها سيظل ردحاً طويلاً من الزمن تابعاً للإرادة الأمريكية، وأن عملتها الوطنية لن تكون أكثر من عملة ثانوية مثل اليورو والين وإنه قد يشكل جزءاً معيناً من الاحتياطيات الأجنبية التي تحتفظ بها دول مجاورة لديها علاقات اقتصادية متينة مع الصين.
 
أما موضوع تحول اليوان إلى عملة دولية، فإن هذه الأمنية تفترض تحقق تحولات هيكلية لا تستطيع الصين الوفاء بها في الزمن المنظور، ولن تستسلم لها الولايات المتحدة طواعية وبيسر. إنها ستقاوم، بكل ما أوتيت من قوة وجبروت، أن يكون القرن القادم قرن الصين أو قرن أمة أخرى غير الأمة الأمريكية.
 
ولن تسمح الولايات المتحدة للصين، أبداً، أن تتولى إدارة وتوجيه تدفقات رأس المال في الاقتصاد العالمي وأن يقوم اليوان -  العملة الصينية - بدور القاسم المشترك في تحديد قيمة عملات العالم.
 
فتحقق هذه التوجهات يعني أن الإمبراطورية الأمريكية رضيت الإذعان إلى نفس المصير الذي أذعنت له صاغرة الإمبراطورية البريطانية.
 
وعلى الصعيد نفسه، هل تنجح الصين فعلاً في الموائمة بين نظريتها الشيوعية واقتصاد السوق، الذي يفضي حتماً، شاءت القيادة الصينية ذلك أم أبت، إلى رأسمالية، يحلو للقادة الصينيين تسميتها اقتصاد السوق الاشتراكية، رغبة منهم في تجاهل التناقضات الجذرية القائمة بين الاقتصاد الرأسمالي ونظام الحكم الشمولي.
 
من ناحية أخرى، لا مندوحة للصين من أن تنتهج أسلوباً تدريجياً، متئداً في إجراء التحولات الاجتماعية المناسبة لمتطلبات المستقبل القريب وللدخول في القرن الحادي والعشرين.
 
فمن خلال دراستهم لما مر به الاتحاد السوفيتي من أحداث وصراعات رافقت تطور الاقتصاد السوفيتي من  اقتصاد اشتراكي إلى اقتصاد رأسمالي إبان حكم غورباتشوف، صار زعماء الصين على علم أكيد بضرورة الابتعاد عن أسلوب التحولات العنيفة والتغيرات المتسرعة، وذلك لأن تطوراً من هذا القبيل ستواكبه توترات اجتماعية وسياسية، ينتظرها الغرب بفارغ الصبر، وبالتالي،  وإذا ما شاعت الفوضى وانفلتت المشاعر، فإنه لن يتوان أبداً عن تأجيج التوترات العرقية وإضرام لهيب الصراعات الدينية وإذكاء نار الفوضى والعداوات وتشجيع الحروب الأهلية والإقليمية، لاسيما أن القيادات الصينية المتعاقبة لم تشرع قوانين ضرورية تنظم النشاطات الاقتصادية بصورة محددة وثابتة، ولم تعد العدة للتخلي، ولو بعض الشيء، عن القرارات السياسية الفوقية، وتطوير مناخ يساعد على تفتح طاقات المجتمع، ويناسب تعدد الأطياف الثقافية ويضمن احترام وجهات النظر المختلفة ويقابل بصدر رحب الانتقادات البناءة.
 
إن الغرب يحلم، بلا أدنى شك، باستغلال الاختلافات العرقية والدينية لتقسيم الصين إلى دويلات تدخل تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، أي أنه يمني نفسه في تحقيق ما حققه في الاتحاد السوفيتي من خلال غورباتشوف.
 
من ناحية أخرى، لا تزال البلاد تعاني من تفشي الفساد الإداري وتضخم باتت معدلاته تأخذ أبعداً خطيرة، من قبل أن يتم تحرير العملة. فبحسب أكثر الاحتمالات، فإن معدلات التضخم ستتفاقم بعد تحرير العملة الوطنية من التوجيه الحكومي.
 
في الوقت نفسه، بات تلوث البيئة خطراً يهدد سلامة المواطنين حقاً وحقيقة. وفي هذا السياق، بات المراقبون الدوليون يستغربون عن الأسباب التي تدفع القيادة الصينية لأن تتجاهل هذا التلوث، وتتصرف كما لو كانت غير معنية بالأمر لا من قريب ولا من بعيد. فلو كان هذا التلوث في أوربا أو في الولايات المتحدة الأمريكية لسقطت حكومات واندحرت قيادات وأحزاب سياسية، لا لشيء إلا لأنها عجزت عن معالجة أسباب التلوث بنحو فعال.
 
وهكذا، ولأن مسيرة الصين محفوفة بالمخاطر وتتسم بمناحي قصور لا يستهان بها، لذا من الصعب التكهن بالدور الذي ستتبوؤه هذه الدولة في القرن الحادي والعشرين.

 المصدر: http://www.alnoor.se/article.asp?id=230702

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك