مأساة الفيلسوف الذي خنق زوجته

حين قرع الفيلسوف الماركسي الفرنسي لوي التوسير فجر يوم الأحد 16 نوفمبر من عام (1980) باب جاره في المسكن, طبيب مدرسة المعلمين العليا بباريس وهو يصيح: (لقد قتلت زوجتي), لم يصدق الطبيب ولا زملاء الفيلسوف الذين يسكنون نفس المبنى ما يقول, كما اعتقد بعض تلاميذه في اول الأمر أن الاستاذ كان واقعا تحت تأثير بعض التخيلات والاوهام التي كانت تراود عقله من حين لآخر نتيجة للاضطراب الذهني الذي كان يعاني منه منذ ايام الحرب العالمية الثانية, ووقوعه في الاسر, بينما اعتقد البعض الآخر ان الامر كان مجرد دعابة من تلك (الدعابات العملية) التي اشتهرت بها مدرسة المعلمين العليا.

          ولكن حين تبين للجميع ان الجريمة وقعت بالفعل, وان التوسير خنق زوجته بيديه حتى ماتت ـ اسرعوا بادخاله (مستشفى سانت ان للامراض النفسية والعصبية) قبل أن تأتي الشرطة, وتقبض عليه, وتوجه اليه تهمة القتل.

          وبذلك انقذ طبيب المدرسة واساتذتها احد كبار فلاسفة فرنسا المعاصرين من مذلة الموقف ومهانة التعرض للمعاملة الجافة القاسية.

          ولم تمر هذه الحادثة ببساطة بطبيعة الحال, وانما احدثت دويا في الرأي العام الفرنسي, وهزت اوساط المثقفين في باريس بالذات هزا عنيفا, كما استغلتها بعض الصحف المعارضة لآراء التوسير وللفكر الماركسي بعامة, للهجوم عليه, وعلى الماركسية, ولاثارة الشكوك حول مدى تمسك المفكرين اليساريين بالقيم التي يدعونها لانفسهم.

          وبينما نجد جريدة مثل (لومانيتيه) الشيوعية تكتب عن الحادثة مقالا هو اقرب الى رثاء التوسير نفسه, منه إلى تأبين زوجته, رغم انها كانت استاذة لعلم الاجتماع, لها مكانتها واعمالها العلمية التي كانت تصدر تحت اسم هيلين ريتمان وهو اسمها قبل الزواج. وفي ذلك المقال تبدي الجريدة الأسى لمصير ذلك (الرفيق) الذي ولد بالجزائر عام 1918 وتربى تربية كاثوليكية محافظة, والذي وقع في الاسر ايام الحرب العالمية الثانية, وقاسى الاهوال من معاملة الالمان, والذي تلقى تعليمه العالي في (الايكول نورمال سوبيريور) التي لا تقبل سوى المتنافسين الذين بلغوا اعلى درجات الذكاء واصالة التفكير, والتي لا تزال تتمسك بكثير من القيم والتقاليد (البورجوازية), ولكن كل ذلك لم يمنعه من ان يتحول الى الماركسية ومن ان ينضم الى الحزب الشيوعي وبينما نجد جريدة لوموند التي كانت نشرت له في ابريل عام 1978 سلسلة من المقالات يهاجم فيها زعامة الحزب الشيوعي الفرنسي ـ تتكلم (اعني الجريدة) عما اسمته بالانتحار (الغيري), او الانتحار (الايثاري), وهو مصطلح مستمد من كتابات عالم الاجتماع الفرنسي الشهير اميل دور كايم, وتحاول ان تفسر باسلوب علمي دقيق سلوك (التوسير) بانه في احدى نوبات الكآبة الجنونية التي كانت تنتابه نتيجة لمعاناته من الاسر قتل المرأة التي يحبها لكي يحميها وينقذها من الآلام والمتاعب التي كان هو نفسه يقاسي منها, اذا بجريدة Le Quotidien تصيح بان المسارعة بارسال التوسير الى مستشفى الامراض النفسية والعصبية قبل وصول رجال الشرطة والقضاء هو نوع من (المؤامرة الشيوعية), للتحايل على القانون, والحيلولة ضد تقديم الجاني للمحاكمة, و(تغطية) المجرم, وان الشيوعيين والماركسيين الذين يرفضون فكرة اهمية النظام الطبقي في المجتمع, وينادون بضرورة القضاء عليه ـ يناقضون انفسهم, ويعاملون احد (رفاقهم) معاملة خاصة تضعه فوق القانون, وفوق بقية المواطنين, وان المعنى الوحيد لذلك هو ان الوعي الطبقي سائد حتى بين الشيوعيين انفسهم, رغم كل ادعاءاتهم ومزاعمهم, وعلى أي حال فان الجريمة كانت تعني للاوساط الثقافية في (باريس) مأساة مزدوجة تتمثل في فقدان استاذة لعلم الاجتماع, لها اسمها ومكانتها الاجتماعية والثقافية.

          وضياع احد المفكرين الذي وصفه العالم المؤرخ الفرنسي الشهير جان الينشتاين بأنه (احد كبار فلاسفة العصر) والقضاء على فلسفته.

          التحق ليوي التوسير عام 1939 بمدرسة المعلمين العليا, التي تعتبر من ارقى المعاهد في فرنسا والتي تخرج فيها الكثيرون من الفلاسفة والمفكرين الذين تركوا طابعهم الخاص على الفكر الفرنسي. الا ان الحرب منعته من مواصلة الدراسة. فقد اشترك في الحرب, ووقع اسيرا في ايدي الالمان, ثم عاد الى المدرسة بعد انتهاء الحرب, ولكن بعد ان كانت قد اثرت هي والاسر على شخصيته ونفسيته تأثيرا جذريا عميقا. ويقول الاستاذ دوجلاس جونسون وهو من كبار الاساتذة الانجليز الذين امكنهم الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا بباريس لدراسة الادب الفرنسي والحصول على الاجريجاسيون التي تعتبر من اعلى الدرجات العلمية الفرنسية (انه عرف التوسير في تلك المدرسة عام 1947 وارتبط به بروابط صداقة قوية منذ ذلك الحين, وكان التوسير يعاني من اعراض مرض الاكتئاب, وكان يقول عن نفسه دائما انه (مرهق للغاية Tres fatigue ويرد ذلك الى الفترة الطويلة التي امضاها في الاسر, كما انه كان منطويا على نفسه الى حد كبير, ومتباعدا عن الطلاب الاخرين الذين كانوا على اي حال يصغرونه في السن, ولذا كان من الصعب معرفة اهتماماته او التنبؤ مقدما بتصرفاته وسلوكه في اي موقف. فكثيرا ما كانت هذه التصرفات تأتي مخالفة تماما لكل التوقعات. ولكنه كان في كل الاحوال شخصا لطيفا هادئا على درجة عالية جدا من الذكاء والكفاءة والقدرة على العمل, بحيث انه اجتاز امتحان الاجريجاسيون في الفلسفة في صيف عام 1948 بغير عناء, رغم صعوبة ذلك الامتحان وقسوته, لدرجة ان فيلسوفا مثل سارتر لم يحصل على تلك الدرجة الا بعد ان تقدم للامتحان اكثر من مرة. وقد عين التوسير بعد نجاحه مباشرة معلما للفلسفة في (المدرسة), ومرشدا للطلاب الذين كانوا يعدون انفسهم للتقدم لهذا الامتحان العسير. وفي ذلك الوقت تعرف التوسير على السيدة التي اصبحت زوجته فيما بعد وهي (هيلين ريتمان) التي كانت تطلق على نفسها حينذاك اسم (هيلين لوجتبان) وهو الاسم المستعار الذي كانت تستخدمه اثناء (المقاومة).

          ولكن على الرغم من الحب العميق الذي كان يربط بين الزوجين كانت عيشتهما عاصفة نتيجة لاختلاف الامزجة والطباع, والدخول في كثير من المناقشات التي كانت تبدأ بداية علمية هادئة, ثم لا تلبث ان تتحول في اغلب الاحيان الى شجار عنيف, كما ان هيلين ريتمان لم تكن تتورع عن الاشتباك في الجدل والمناقشات الصاخبة والجارحة, ليس فقط مع زوجها بل مع اصدقائه ايضا.

          ولكنها من الناحية الاخرى كانت تحاول ان تبسط حمايتها على زوجها وتبالغ في رعايتها له وابعاده عن تأثير الآخرين. اذ كانت تنظر اليه طوال الوقت على انه لا يزال ذلك الشخص المريض الذي يرزح تحت اعباء تجربة الاسر بكل نتائجها الضارة, واثارها على نفسيته وعقليته. اي انها في الوقت الذي كانت تساعده على التخلص من آثار الحرب والاسر كانت تعامله معاملة الشخص الشاذ الغريب الاطوار الذي يحتاج الى الحماية والرعاية.

          ويشهد زملاء (التوسير) انه كانت تمر عليه فترات يفقد فيها ذاكرته او على الاقل ينسى فيها كل شيء عن نفسه وعن الاخرين, وتنتابه اثناء ذلك حالة من الاكتئاب والارهاق, وتصدر عنه كثير من التصرفات الشاذة الغريبة. فقد كان يستوقف زملاءه وتلاميذه في ردهات المدرسة ويسألهم عن اسمائهم وشخصياتهم, بل انه في بعض الاحيان كان ينسي كل شيء عن نفسه هو, ويطلب ممن يصادفه من تلاميذه تذكيره باسمه وعمله, او باي شيء يتعلق به وبشخصيته وهويته, ولكنه في الوقت الذي كان يقول فيه ذلك كان يتفرس بحدة وامعان في وجه من يخاطبه, كما لو كان يريد معرفة رد فعل ذلك الشخص على اقواله, وبذلك لم يكن زملاؤه وتلاميذه يعرفون تماما ما اذا كان (التوسير) صادقا فيما يقول, ام انها كانت مجرد ادعاءات يهدف منها الى معرفة رأي الآخرين فيه وفي سلوكه.

          في عام 1948 انضم (التوسير) الى الحزب الشيوعي الفرنسي, ولكن ليس هناك ما يدل بالضبط على تنوع النشاط الذي كان يقوم به, وان كان من المؤكد انه لم يكن راضيا كل الرضا عن الحزب ونشاطاته وزعامته, كما كان كثير الانتقاد لدور (المثقفين) من الماركسيين عموما لانهم كانوا ـ في رأيه ـ يضيعون وقتهم وجهدهم في الصراع السياسي والايديولوجي, وفي المقالات التي نشرها عام 1978 في جريدة (لوموند) عارض صراحة جورج مارشيه زعيم الحزب, وانتقد محاولته تجديد او تحديث الحزب, وتطوير ايديولوجيته, على اساس ان ذلك من شأنه ان يؤدي الى انفصال الحزب, وابتعاده عن قاعدته العريضة التي تتألف من الطبقة العاملة. فلقد كان (التوسير) ينعي على الحزب انتهازيته التي كانت تتمثل في عدم ممانعته الالتجاء الى اصوات الطبقة الوسطى والبورجوازية, ومشاركة هذه البرجوازية في الحكم, وكان في ذلك كله منطقيا مع نفسه, ومع الخط الذي ارتضاه لنفسه منذ عام 1959 ولذا كان يطالب بضرورة وضع نظرية ماركسية للدولة كما يقول (دوجلاس جونسون). وكان من الطبيعي ان توجه اليه زعامة الحزب الكثير من اللوم والتأنيب والتحذير. وكان (جورج مارشيه) يصفه بانه (ذلك المفكر الذي يقبع خلف مكتبه) مشيرا بذلك الى جهل التوسير وامثاله من النقاد والمتذمرين بالنواحي العملية في سياسة الحزب, وبأنهم يعيشون في ابراجهم العاجية مكتفين بالنقد الذي ينبع اساسا من الجهل وعدم الالتصاق بالجماهير ومن المؤكد ان (التوسير) كان يقف ضد الغوغائية في كل شيء. ولذا فانه كان كثيرا ما يوجه اللوم الى طلابه من الماركسيين لاغراقهم في الاشتغال بالسياسة واهتمامهم بايديولوجية الحزب على حساب عملهم الاكاديمي. وفي مثل هذه الحالات كان (التوسير) يتصرف من موقعه كأستاذ جامعي اكاديمي يحاول المحافظة على التقاليد الجامعية الراسخة التي كان صغار الشيوعيين يعملون على هدمها, والقضاء عليها باعتبارها قيما بورجوازية بالية, على ما حدث في ثورة الطلاب الشهيرة عام 1968 حين اختفى تماما في وقت كان الطلاب يتوقعون منه المشاركة في حركتهم كما فعل سارتر مثلا. ومع انه كان يصدر في ذلك عن حبه لتلاميذه وللمعهد الذي ينتمي اليه بكل نظمه وتعاليمه, فان الطلاب, وبخاصة الماركسيون منهم, اعتبروا موقفه نوعا من السلبية والهروب, ولذا فانهم غطوا جدران الحي اللاتيني بملصقات تندد به, وتحمل عبارة ساخرة, ولها وقع موسيقي في الوقت ذاته: (ما فائدة التوسير) وأيا ما تكون دوافعه لهذا السلوك فان ذلك يعتبر من الامثلة الكثيرة على غرابة تصرفاته غير المتوقعة.

          ولم تكن المسألة ابدا مجرد انتقاد او تمرد من جانب (التوسير) على زعامة الحزب وسلوكياته واخلاقياته, كما لم تكن مجرد رفض للسلوك الغوغائي الذي كان يصدر عن بعض الماركسيين وصغار الشيوعيين, انما كانت المسألة تتصل في اساسها برفضه للتحريفات التي تعرضت لها اراء ماركس وكتاباته, على ايدي عدد من الكتاب الماركسيين الذين حاولوا التوفيق في تفسيراتهم بين الماركسين وبعض المذاهب الفلسفية (البورجوازية) التي كانت الماركسية ترفضها في الاصل وتحاربها. وكان هؤلاء الكتاب يؤملون ان يؤدي ذلك (التوفيق) إلى تخليص الفكر الماركسي من جموده ومن الطابع (اللانساني) الذي غلب عليه في المرحلة الستالينية بوجه خاص. ولكن (التوسير) كان يرى ان مثل هذه التفسيرات هي خيانة للفكر الماركسي الاصيل, وانها ادت في اخر الامر إلى فقدان الماركسية لطابعها العلمي الموضوعي المميز.

          كان (التوسير) يرى أن كل النظريات (البورجوازية) التي كانت تنافس (المادية الجدلية) في تفسير المجتمع والاقتصاد نظريات بسيطة وسطحية فاسدة, فالنظريات (البرجوازية) عن المجتمع نظريات ذات نزعة تاريخية, تفترض انه يمكن رد المجتمع الى (مستوى) واحد اساسي, بينما كانت النظريات (البرجوازية) عن الاقتصاد نظريات ذات نزعة انسانية, لانها انبثقت اساسا من فكرة (الانسان) الاقتصادي. وقد رفضها (التوسير) وهاجمها لانها نظريات (ايديولوجية) وليست علمية.

          فقد كان يرى ان الايديولوجيات والعلوم هما الوجهان (الطيب) و(الفاسد) للمعرفة, وان الذي يفصلهما ويميز بينهما هو اختلاف الصورة المنهجية للاشكال التي يهتمان بها.

          من هنا اخذ (التوسير) على عاتقه مسئولية تنقية الفكر الماركسي من كل التحريفات التي لحقت بها. وكانت وسيلته الى ذلك اعادة (قراءة) الاعمال والكتابات الماركسية الكبرى, وتفسيرها من جديد وتحليلها على المستويين الفلسفي واللغوي, مستفيدا في ذلك من التقدم الرائع الذي احرزته بعض العلوم الانسانية الاخرى, مثل: التحليل النفسي واللغويات, والمناهج (البنائية) التي اتبعتها, والنتائج التي توصلت اليها, وهي امور لم تتح لمعظم الشراح والمفسرين الذين سبقوه. وقد اعطى ذلك لتحليلاته ابعادا جديدة, كما اكسبها درجة عالية من العمق والاصالة, خرجت بها عن ان تكون مجرد شروح وتفسيرات. وكانت خطة (التوسير) في الاصل هي ان يشارك عدد من كبار اساتذة الفلسفة في فرنسا في هذه التفسيرات والشروح بحيث يتخذ الامر شكل مشروع ضخم متكامل. ولكن فكرته لم تلق الترحيب الكافي فاضطر الى ان يضطلع بذلك وحده وان يقدم هذه التحليلات في حلقات البحث التي كان يعقدها في (مدرسة المعلمين العليا) اعتبارا من عام 1950 وتمخضت المناقشات التي دارت في تلك الحلقات حول الكتابات الماركسية الرئيسية عن ظهور كتابين من اهم كتبه هي (من اجل ماركس) (1965) و(قراءة كتاب رأس المال) (1968). وقد ادى ظهور هذين الكتابين الى انتشار اسم (التوسير) وذيوع صيته بحيث اعتبر من اهم الفلاسفة الماركسيين في فرنسا, كما اعتبرت اعماله وتفسيراته الركيزة التي استند اليها الحزب في اقامة نظرية ماركسية متكاملة, يسترشد بها في كل نشاطاته, بدلا من تلك التصرفات التلقائية التي كانت تصدر عنه من وحي الساعة وتبعا للموقف. ولكن هذا لا يعني ابدا ان (التوسير) كان الفيلسوف الرسمي للحزب, او انه كان يتولى عملية التنظير له.

          وتبدو اصالة (التوسير) في قراءته لاعمال ماركس ـ في انه قام بتفسيرها من منطلق بنائي جديد, وكما يقول الاستاذ (الاسدير ماكنتاير): ان التوسير (فرض) البنائية على الماركسية فرضا, اعتقادا منه ان كلا منها يتضمن الآخر, وانهما يؤلفان معا قوة هائلة اذا ارتبطا برباط وثيق, فالطبقة التي تسيطر على المجتمع هي التي تتحكم في مفاتيح ورموز وقوانين ذلك المجتمع. وهذه المفاتيح والرموز والقوانين تتحكم في الفكر وتسيطر عليه بطريقة محكمة, لا تترك مجالا كبيرا للفردية, وقد اضطر (التوسير) ازاء ذلك الى ان يتبنى نظرية (ابستمو لوجيه) معادية للنزعة التجريبية وللنزعة التاريخية, شأنه في ذلك شأن كل البنائيين الفرنسيين, وبخاصة شيخهم ليفي ستروس, كما تبنى بالضرورة ايضا نظرة البنائيين الى العلاقة بين الكل والجزء, وبين البناء والنسق, حسب التعبير السائد في الكتابات الانثربولوجية البنائية. وظهر اثر ذلك بوضوح في تفسيره لبعض القضايا الماركسية الاساسية التي اسيء فهمها مثل مشكلة الحتمية الاقتصادية. فالبنائيون الفرنسيون يؤكدون من ناحية دور العقل ويرونه اسبق ـ منطقيا وزمنيا ـ على التجربة, ولذا كانوا يعمدون الى تفسير التجربة بالرجوع الى المباديء العقلية, كما يعتبرون الحقيقة (معيارا لذاتها) بمعنى انها لا تحتاج الى أي شواهد امبيريقية للتدليل عليها وهذا موقف يعارض تماما النزعة التجريبية التي تركز على اهمية التجربة, وتعطيها الاسبقية, على اعتبار ان المعرفة هي تجريد من الواقع. اما النزعة التاريخية فقد عارضها البنائيون الفرنسيون, انطلاقا من رفضهم لمبدأ التفسير التاريخي الذي يفترض تحكم السابق في اللاحق, وتحديده له, وكذلك رفضهم فكرة المراحل التاريخية التي كان ينادي بها في القرن التاسع عشر انصار المدرسة التاريخية ومدرسة التقدم المستمر في خط واحد او مسار واحد. بل انه يمكن القول ان المدرسة البنائية, في الانثربولوجيا البريطانية على الاقل, قامت كرد فعل على المدرستين التاريخية والتطويرية. فالتقدم ليس مجرد عملية (تراكم) تدرييجي مطرد او (اضافة) خارجية لعناصر جديدة كل الجدة الى القديم الموجود, وانما هو بالاحرى عملية (تنمية) لنواة كانت موجودة وقائمة دائما وبالفعل, وعلى ذلك فان التغيرات التي تطرأ على المجتمع والثقافة ـ مثلا ـ هي تغيرات جزئية تتم داخل البناء الثابت.

          واخيرا فان النظرة الكلية الشاملة التي يعتنقها البنائيون ترفض ما تذهب اليه النزعة التجريبية من ان (الكل هو مجموعة اجزائه) وان (العلاقة هي مجموع العناصر المتمايزة التي تدخل في تكوينها). وهي بالتالي تنكر فكرة التجريبيين عن ان اطراف العلاقة اسبق على العلاقة ذاتها. و(التوسير) يقول صراحة في كتابه (قراءة رأس المال) حول هذه النقطة: (ان الظواهر لا توجد خارج البناء, اي انها ليست شيئا له وجود مسبق ثم يجيء البناء لكي يضفي عليها طابعه الخاص المميز, بل الامر على العكس من ذلك تماما اذ ان البناء يكون كامنا في ظواهره وملازما لها.. كما ان الوجود الكلي للبناء يتألف من ظواهره.

          وباختصار فان البناء هو مجرد اتحاد او تركيب معين من عناصره الخاصة لا يتمتع بوجود مستقل خارج ظواهره.

          ولكن اذا كان الكل الاجتماعي هو بناء وكان البناء (يحدد) نفسه بالتالي, اوحسب تعبيره (يحتم) عناصره, فان ذلك يستتبع ان تكون العناصر مجرد اجزاء تشغل مواضع معينة في البناء, وبالتالي فانها لن تكون شيئا اكثر من مجرد دعائم تحمل ذلك البناء. وهذه النظرة الكلية الشاملة, لا تسمح بان يعطي اولوية مطلقة لاي عنصر واحد من عناصر (التكوين الاجتماعي), فالتكوين الاجتماعي اكثر تعقيدا من ان يرد الى عامل واحد فقط, على ما يحدث حين تحاول الحتمية الاقتصادية رد كل شيء الى العامل الاقتصادي وحده. والبناء الاقتصادي ليس الا مستوى واحدا من (المستويات الموضوعية) التي تؤلف التكوين الاجتماعي, وبذلك فان من الخطأ الزعم بان البناء الاقتصادي يتحكم في بقية المستويات الاخرى على ما يذهب اليه الكتاب الذين حاولوا تبسيط الماركسية فأساءوا اليها. ومن هنا كانت ضرورة افتراض وجود حتمية عليا او حتمية فوقية او متعددة الابعاد والاتجاهات وهي حتمية معقدة تختلف اختلافا تاما عن تلك الحتمية الاقتصادية ذات البعد الواحد او الاتجاه الواحد. وتتناسب مع تعقد التكوين الاجتماعي الذي تكون فيه الحتمية متبادلة بالضرورة دون ان يكون لاحد عناصرها اولوية او افضلية على بقية العناصر الاخرى, ومن الصعب تفسير فكرة الحتمية المعقدة او ذات الابعاد المتعددة عند (التوسير) في ضوء النظريات التقليدية عن العملية, ولكنها تتفق تماما وتتلاءم مع فكرة (العملية البنائية)او ما يسميه احيانا بالعملية المجازية وعلى اية حال فان بذور (العملية البنائية) موجودة في كتابات ماركس وفرويد, خاصة وان ماركس كان مهتما بحل مشكلة الطريقة التي يمكن للبناء وظواهره تحديد كل منها الآخر.

          والسؤال الذي لا يزال يراود الكثيرين حتى الان هو الى اي حد كان (التوسير) بنائيا رغم ماركسيته او مع ماركسيته?

          الواقع ان عددا كبيرا من الكتاب يعتبرون (التوسير) مفكرا بنائيا في المحل الاول على الرغم من انه هو نفسه يرفض هذا الوصف وينكره. وليس من شك في ان التوسير كان يرفض بعض القضايا الاساسية, عند (ليفي ستروس) وان كان شارك البنائيين كثيرا في وجهات نظرهم, مثل ذلك الولع الشديد بفكرة البناء التي تستلزم اتخاذ موقف نقدي صريح من (النزعة الانسانية) على ما يقول (جيدنز) وكذلك الولع بفكرة (الكل الاجتماعي) التي ترى ان الكل يوجد فقط في اجزائه ومكوناته او (ظواهره) حسب المصطلح الذي يستخدمه التوسير, ومثل اعتناقه الموقف المعارض للنزعة التجريبية والنزعة التاريخية, وغير ذلك من (المواقف) المميزة للبنائية والبنائيين. ولقد اثارت آراؤه البنائية كثيرا من النقد او الانتفاضات الماركسية الغاضبة حسب تعبير احد الكتاب ضده وضد ما يطلق عليه عادة اسم (الثورة الالتوسيرية).

          وربما كان من اهم الذين وجهوا انتقادهم وهجومهم ضده العالم المؤرخ طومسون في كتابه (عقم النظرية) وعالم الاجتماع الماركسي سايمون كلارك في كتابه عن (الماركسية ذات البعد الواحد) ولكن هناك من الكتاب والفلاسفة من يتفقون مع الاستاذ (الاسيلر ماكنتاير) في قوله: (يجب ان نعترف جميعا بالجميل لالتوسير, لانه ادخل الماركسية الفرنسية مرة اخرى في حوار مع بقية الفلسفة الفرنسية, باستخدامه افكارا مستمدة من البنائية, وفلسفة العلم, ولانه افلح في تخليص الماركسية من الطابع الستاليني اكثر مما فعل غيره من الماركسيين). ومع ذلك فان هناك من يرى ان محاولة التوسير تفسير (ماركس) تفسيرا بنائيا جعلته يرى في ماركس ما لم يكتبه ماركس نفسه, وما لم يقصد اليه من كتاباته, وان الثورة الالتوسيرية لم تكتف بعدم السير في الاتجاه الرئيسي للماركسية وانما خرجت عليها تماما وسلكت طريقا آخر بعيدا عنها كل البعد.

          ومهما يكن من شيء فالظاهر ان كل الجهود التي قام بها التوسير بصرف النظر عن قيمتها واهميتها واختلاف الآراء فيها, سوف تتجمد ولو الى حين, ان لم يكن قد قضى على فلسفته تماما نتيجة للظروف والاوضاع التي نشأت بعد تلك الحادثة المفجعة في نوفمبر من عام (1980) وبعد ان ابتعد الآخرون عنه ـ كما هو الشأن دائما ـ حتى تلاميذه واصدقاؤه, حسب ما يقول (دوجلاس جونسون).. وربما كانت هذه في الحقيقة قمة المأساة.

 

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1491&ID=50

الأكثر مشاركة في الفيس بوك