العرب.. والعسكرة! محمود المراغي

 

محمود المراغي

يبدو أن الدول العربية سوف تخضع طويلا لما يمكن تسميته بظاهرة "العسكرة".. فبالرغم من تراجع الإنفاق العسكري وبناء الجيوش وسباق "التسلح" في معظم أنحاء العالم، فإن الأمر في الوطن العربي يسير في اتجاه عكسي: سواء بالنسبة للإنفاق الحربي، أو بالنسبة لعدد أفراد القوات المسلحة، أو عقد صفقات التسليح.

في آخر تقرير أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عن التنمية البشرية "1996" تبدو ظاهرة العسكرة واضحة، فالدول العربية هي الأعلى إنفاقا في العالم كله على الجانب العسكري.. وبينما يبلغ متوسط ما ينفقه العالم كنسبة مئوية من الناتج المحلي على الجوانب العسكرية "3.2%" فإن الإنفاق على الدفاع في الدول العربية قد بلغ "6.7%" من الناتج المحلي.. وبالمقارنة مع المجموعات الدولية المختلفة نجد ذلك الفرق الشاسع بين ما ننفق.. وما ينفقون. في عام "1994"، وهو عام المقارنة التي وقف عندها التقرير، لم يتجاوز ما خصصته الدول الصناعية من ناتجها المحلي "1.3%" من أجل الإنفاق على الدفاع.. وتهبط النسبة في جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي إلى "2.6%".. ثم تهبط أكثر في دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي لتصل إلى "1.6%".. ولكننا - وفي الوطن العربي - نسجل السبق: "7.6%" من ناتجنا المحلي يتجه للدفاع.. وهو أيضا رقم متوسط وغير معبر.. فالفرق شاسع بين دول.. ودول، على خريطة الوطن العربي ذاته.

النسبة ترتفع لتصل إلى أقصاها بالنسبة لسلطنة عمان.. فنحو سدس الناتج وبالتحديد "15.9%" منه يتجه للدفاع، وهو ما يجعل عمان هي الأولى في الوطن العربي كله من حيث ما تخصصه من نسبة الدخل.. للقوات المسلحة! تليها العراق "14.6%" ثم الكويت "12.2%".. فالسعودية "11.2%".. و.. لأن الإنفاق يتم ترجمته إلى أسلحة وأفراد فإن نفس التقرير يسجل أن قفزة قد حدثت في عدد أفراد القوات المسلحة بين عامي "85 و 94" وبالتالي فإذا افترضنا أن عدد القوات المسلحة في كل دولة "مائة" عام "85".. فإنه في العام الأخير تكون القوات المسلحة لسلطنة عمان عام "94": سبعة عشر ضعف ما كانت عليه.. وتكون قوات السعودية "253%" مما كانت عام "85".. وتكون قوات الكويت "138%".. أما قوات العراق فتكون قد هبطت إلى "74%".

في أعلى سلم الإنفاق العسكري تقف هذه الدول، ولكن في أسفله تقف مجموعة أخرى.. فتأتي تونس في نهاية السلم لتسجل إنفاقا عسكريا متواضعا لا يتجاوز "1.4%" من الناتج المحلي.. ولتسجل قواتها خلال عشر سنوات "85- 94" نوعا من الثبات من حيث الحجم. أيضا تأتي الجزائر- برغم ظروفها- لتقدم نسبة متواضعة من الإنفاق العسكري لا تتجاوز "2.7%" من الناتج.. و لا يتجاوز إنفاق كل من السودان وليبيا نسبة الى 4%. بينما ترتفع النسبة قليلا بالنسبة لمصر التى عقدت معاهدة سلام مع الخصم الرئيسي إسرائيل فتنفق "5.9%" من الناتج المحلي على الدفاع، ولتحتفظ بحجم القوات عام "94" كما كان عليه الحال عام "85" أو أقل قليلا "99%".

العرب إذن هم الأكثر إنفاقا على الدفاع في العالم كله، وداخل المجموعة العربية تتفاوت ميزانيات الحرب ونسبتها للناتج المحلي.. ولكن، وبالقياس لعدد سكان كل دولة، يبدو التفاوت أكثر وضوحا.

كانت الكويت - وبرغم ظروف العدوان عليها - هي الثالثة من حيث نسبة ما تخصصه للدفاع، وسبقتها كل من سلطنة عمان والعراق. وبمقياس عدد السكان فإن الأمر يختلف، فتقفز الكويت إلى المكان الأول، ليس بالنسبة للوطن العربي، ولكن بالنسبة للعالم الثالث أيضا.

في عام "1994" كان نصيب الفرد من الإنفاق العسكري في الكويت "2019" دولارا .. و .. بفارق كبير تأتي بعدها سلطنة عمان "1149" دولارا .. والسعودية "1109" دولارات .. وبينما تخصص العراق - طبقا لنفس التقرير - نسبة أعلى من ناتجها للدفاع قياسا على الكويت والسعودية، فإنه - وبسبب حجم السكان - يبدو نصيب الفرد فيها متواضعا حيث لا يزيد على "132" دولارا.. بينما يستمر المتوسط في الهبوط ليصل إلى "11" دولارا للفرد في السودان و"25" دولارا للفرد في تونس و "29" دولارا للفرد في اليمن!

والأرقام على هذا النحو تمثل قفزة غير مسبوقة في الدول العربية وتتضح خطورتها إذا تمت المقارنة بين مجالين: الدفاع من جهة والتعليم والصحة من جهة أخرى.

انه التنافس الشديد بين ميزانيات الحرب، وميزانيات التنمية البشرية.. فالموارد تتنازعها مسارات إنفاق عدة، لكن الأمن القومي يجذب طرف الخيط على حساب حياة ونمو البشر .. التعليم والصحة، وغيرهما من مجالات أبرزها التنمية الاقتصادية.

الصراع شديد، والتنافس حاد على موارد العرب، لكن الأسباب أيضا واضحة.

ولقد خاض العرب، وما زالوا يخوضون، العديد من أنواع الصراعات والحروب التي تحرك الآلة العسكرية.

خاض العرب أربعة أنواع من الحروب: حروبا "عربية - اسرائيلية" .. وحروبا مع "دول الجوار".. وحروبا "عربية - عربية".. ثم "حروبا أهلية عدة". تسعة بلدان خاضت حروبا واسعة للدفاع عن أرضها، أو في حرب أهلية شاملة.. وتسعة بلدان أخرى شاركت فى حروب مثل حرب "73"، وحرب الخليج الثانية "91". الكل قد أدلى بدلوه عدا ثلاثة بلدان: تونس، جيبوتي، موريتانيا. بطبيعة الحال تختلف الأدوار بين محارب ر رئيسي مثل مصر والكويت، وسوريا، والعراق.. وبين دول تساند مثلما هو الحال بالنسبة للمغرب أو دول الخليج، في حربي "73 و 91".. وفي كل الأحوال فإننا أمام حقب تاريخية متواصلة فرض الصراع العسكري نفسه عليها.. وما زال مستمرا!

الأزمات مستمرة، وقضية الأمن القومي تتفاقم مع بروز متغيرين رئيسين:

الأول. زيادة القدرة على الإنفاق، وهو ما حدث بعد حرب "73".. على ضوء زيادة أسعار النفط وتوافر فوائض اتجه جزء منها لبناء الجيوش.

الثاني: تقدم فنون الحرب، وتطور تكنولوجيا السلاح، بما صاحبها من ارتفاع في أسعار الأسلحة.

فإذا أضفنا لذلك انتهاء الحرب الباردة واستمرار دور الدول الكبرى وشركات السلاح في إذكاء سباق التسلح بمناطق التوتر الباقية في العالم، فإننا نستطيع أن ندرك حقيقة ما يجري في بلادنا، بل ربما أدركنا حقيقة التوتر أيضا.

الأرقام تقفز والجيوش تنمو والسلاح يجري تكديسه.. والضحية في معظم الأحيان: حياة البشر، وصحتهم، وفرصهم في التعليم والغذاء والثقافة والترفيه.

والسؤال- برغم كل ذلك - هل تحقق لنا أمن قومي أكثر أم أقل بالقياس لسنوات سابقة؟.. هل أصبحت حدودنا أكثر أمنا وتماسكا؟.. أم أن سباق التسلح قد لعب لعبته فكما أنفقنا أنفق آخرون.. واللعبة مستمرة: تسليح أكثر، لكن الخطر مستمر. ويبدو أن ذلك هو واقع الحال. الكل ينفق، لكن أحدا لا يحصل على الأمن. إنها رحلة بلا نهاية، ولن تتوقف إلا إذا كانت العين على جذور الأزمات؟، وحلول الصراعات.. وليس التعامل مع نتائجها.. بالمدفع، و الصاروخ، والطائرة. ولنتذكر: نحن ننفق أعلى معدل في العالم .. على العسكرة .. والعسكرة وحدها!

 المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=865&ID=65

 

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك