الحركات الإسلامية والحكومات

 

أحمد كمال أبو المجد   

          ليست هذه السطور محاولة جديدة - تضاف إلى محاولات سابقة عدة - لتحليل الظاهرة التي يسمّيها البعض (الإسلام السياسي) ويسمّيها البعض في الغرب ظاهرة (الأصولية الإسلامية) أو نسمّيها نحن في عالمنا العربي والإسلامي ظاهرة (الغلو في الدين) أو ظاهرة التطرّف, ذلك أن الأمر - فيما نرى - قد تجاوز مرحلة الوصف والتحليل, وأوشك أن يدخل - في مستواه العملي - مرحلة الأزمة التي تستهلك الطاقة: بدلاً من وصف الظاهرة على النحو الذي شاركنا فيه من قبل مع أقلام كثيرة, فإننا ندخل إلى الموضوع مباشرة لنحدد للقارئ المشكلة التي نتحدث عنها والاشتباك الذي ندعو إلى فضّه.

          في العالم الإسلامي من أدنى مشرقه إلى أقصى مغربه, وبدوله العربية وغير العربية موجة تديّن متعاظمة, أكثر المشاركين فيها من الشباب, وإن كانت تضم جموعاً كثيفة ممن تجاوزوا تلك المرحلة, لا يتوقف تديّنهم عند حد الممارسة الشخصية لتعاليم الإسلام ومبادئه وشعائره, وإنما يتجاوزون ذلك إلى أمور ثلاثة يمارسون بعضها أو يمارسونها جميعاً:

          الأمر الأول: الخروج من إطار الممارسة الذاتية الفردية إلى ميدان الدعوة والعمل على الإصلاح العام عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو خروج ينقلهم من حالة الممارسة الشخصية إلى حالة العمل الاجتماعي العام, فإذا تجاوز خروجهم هذا مجرد النصح والتصويب والدعوة إلى محاولة التدخل المباشر في سلوك الآخرين, وإذا اتخذ أسلوب هذا التدخل مظهراً حادّاً لا رفق فيه, ووصل إلى حد محاولة الإكراه على السلوك الذي يؤمن به الدعاة, والتدخل المباشر لمنع السلوك الذي لا يرضون عنه, فقد وقع بالضرورة الاصطدام مع حرية الآخرين, وصارت الدولة مدعوّة بأجهزتها المختلفة لفض هذا الاشتباك (الأهلي) بين أصحاب الدعوة الدينية وسائر أفراد المجتمع.

          الأمر الثاني: التصدي لنقد النظم السياسية والاجتماعية القائمة انطلاقاً من تصوّر إسلامي لما ينبغي أن تكون عليه تلك النظم, وبهذا النقد تدخل روافد عدة من روافد التيار الإسلامي دائرة (المعارضة السياسية), وإن كانت معارضة غير منظمة. والحق أن هذا المسلك لا خطر فيه ولا ضرر منه, مادام النقد يتم في إطار النظام القانوني القائم, ولا يتجاوز (الاعتراض) عن طريق البيان, إلى الدعوة الصريحة لهدم النظام, أو إلى إصدار أحكام إدانة دينية له تصل إلى حد تكفيره أو الحكم بجاهليته ودعوة الناس إلى الخروج عليه, إذ إن الأمر هنا يتجاوز ما تأذن به الدساتير والنظم القانونية من ممارسة حرية التعبير وحق النقد السياسي ليصل إلى تهديد الأمن العام بخطر حقيقي وحـال قد ترى الدولة ألا تسكت عليه حتى يتحوّل إلى خروج كامل على القانون.

          ومسلك الدولة هنا مسلك مفهوم ومألوف, إذ قد استقر الرأي في كثير من النظم القانونية على أن حرية التعبير تجد حدّاً من حدودها فيما يتهدد الأمن العام بسببها من خطر واضح وقائم Clear and present danger.. وهذا المعيار معيار عام يتحدد به نطاق حرية التعبير في مواجهة التيارات الفكرية والسياسية المختلفة سواء كانت منابعها الفكرية والاعتقادية دينية أو غير دينية.

          الأمر الثالث: تنظيم جماعات سياسية ذات برامج إصلاحية مستمدة من رؤية إسلامية, وتوجيه نشاط هذه الجماعات إلى محاولة الوصول إلى السلطة لممارسة التغيير الاجتماعي من مواقع تلك السلطة.

          وهذا هو ما يطلق عليه البعض (الإسلام السياسي) ويرون فيه خطراً على الدولة والمجتمع, وانحرافاً بالفهم الديني وتجاوزاً لحدوده المسموح بها.

          وفي تقديرنا أن هذه الرؤية, وهذا الإحساس بالخطر يعبران عن خلط كبير ويدخلان الأمور بعضها في بعض مما يعقد فهم المشكلة ويفوّت فرص التعامل الصحيح معها.

          ذلك أن الحملة على (الإسلام السياسي) في عمومه لا يمكن أن تكون مقبولة من منظور إسلامي, كما لا تجد لها مبرراً منطقياً من الناحيتين القانونية والسياسية.

          فالإسلام - بطبيعته - يوجه اهتمامه إلى قضية الحكم, وله في (سياسة المجتمع) مجموعة من المبادئ والقيم الأساسية, ومن ثم لا يتصوّر تقسيم الرؤية الإسلامية في الإصلاح إلى إسلام سياسي وغير سياسي, فالحكم العادل فريضة إسلامية نقرؤها جميعاً في قوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) والشورى - هي الأخرى - فريضة إسلامية يقرؤها المسلمون في قوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم وقوله سبحانه لنبيّه (صلى الله عليه وسلم):  وشاورهم في الأمر.

          ومسئولية الحكام مبدأ سياسي مقرر في قول النبي (صلى الله عليه وسلم): والإمام الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته, والنبي (صلى الله عليه وسلم) أقام مجتمعاً سياسياً منظماً له كل خصائص الدولة وأركانها فور هجرته إلى المجتمع الجديد في المدينة المنورة.

          أما من الناحيتين القانونية والسياسية, فإننا لا نجد أساساً مقبولاً لحرمان تيار إصلاحي يخوض الحياة السياسية من أن يتخذ له برنامجاً للإصلاح ينبع من رؤية إسلامية ويسعى لتنظيم أمور المجتمع على أسس ومبادئ مستمدة من نصوص الإسلام الثابتة.

          ويخوض ببرنامجه هذا غمار الحياة السياسية كما تخوضها سائر الأحزاب السياسية, ومن مصلحة الأمة كلها في تناول هذه القضية أن تسمي الأشياء بأسمائها حتى يعرف الناس حقيقة الخلاف الدائر وسبب (الاشتباك) الذي نتحدث هنا عن ضرورة فضّه.

          إن الذين يهاجمون تيار (الإسلام السياسي) ويحذّرون من أخطاره إنما يحذّرون - في الحقيقة - من ظواهر محددة يخشون أن يتورّط فيها الداعون للإصلاح السياسي على أسس إسلامية, وهي خشية يشاركهم فيها - فيما نرى - أكثر المتدينين في مصر والعالم العربي, وفي مقدمة هذه المحاذير أمور ثلاثة:

          أولاً: أن يتبنى الداعون إلى نظام حكم إسلامي صورة واحدة من الصور التاريخية للممارسة السياسية, ويضفون عليها وحدها وصف (النظام الإسلامي) وبذلك يلزمون أنفسهم ومجتمعاتهم مالا يُلزم, ويقيّدون حركة المجتمع ويقفون في وجه سنة التطور, معتقدين أنهم بذلك (يحكمون بما أنزل الله) ويقيمون حكمه في الناس, ويظهر هذا الخطر ظهوراً مؤكداً حين ينادي أصحاب هذه الرؤية بإحياء (الخلافة الإسلامية) متصوّرين أنها نظام ثابت محدد المعالم واضح التفاصيل, وأن المشكلة السياسية تتلخص في إقناع الجماهير, أو إرغامها, على إقامة تلك الخلافة.

          والحقيقة العلمية الثابتة والموثقة تاريخياً أن الخلافة ليست نظاماً واحداً محدداً, وإنما هي لقب أو وصف أطلق على رئاسة الدولة كما أطلق على النظام السياسي للدولة التي تجمع المسلمين جميعاً أو غالبيتهم الكبرى تحت سلطانها, حين كان ذلك التجمع - بسبب الاتصال الجغرافي, أو صغر إقليم الدولة, أو قلة مجموع عدد المسلمين - أمراً مختلفاً. والثابت كذلك علمياً وتاريخياً أن أسلوب الحكم قد اختلف اختلافات واسعة من عهد إلى عهد, ومن رئاسة إلى رئاسة, مع أنها جميعاً تحمل لقب الخلافة الإسلامية.

          والحق الذي لا يماري فيه عالم ثقة أو مؤرخ محقق أن (إسلامية) أي نظام للحكم لا يمكن أن تستمد من اسمه, خلافة كان أو غيرها, وإنما للإسلام في شأن الحكم وسياسة الرعية مجموعة من الأسس الكبرى أو القيم والمبادئ, على رأسها كما قدمنا مبادئ الشورى, والعدل, ومسئولية الحكام, واحترام حقوق الإنسان وحرياته, واستمداد التشريع الذي يحكم المجتمع من أصول الإسلام ومصادره الكبرى. وبقدر اقتراب النظام الذي يحكم به المسلمون أنفسهم من هذه المبادئ بقدر ما يتحقق له من وصف (الإسلامية).

          ثانياً: أن تنتقل فكرة (التوحيد) والوحدانية في فكر بعض دعاة الإسلام السياسي من نطاق العقيدة إلى ميدان الحياة السياسية, وكما أن الحق واحد في منطق المؤمنين, فكذلك (الحقيقة السياسية), ومعنى هذا أن يصير هذا (الحزب السياسي الإسلامي) في تصوّر أصحابه هو (حزب الله), وتصير (الجماعة الإسلامية) التي يؤسسها نفر منهم هي وحدها (جماعة المسلمين) ويصير كل من عداها خارجاً على الجماعة تجري عليه أحكام (الخارجين). وبذلك يفتح الباب على مصراعيه للتنكيل بالخصوم وإزالتهم من طريق (الفرقة الواحدة الناجية). ويقفل الباب نهائياً في وجه (التعدد السياسي) وتلك كلها كوارث يبرأ الإسلام منها براءة التوحيد من الشرك, وبراءة الإيمان من الكفر والضلال. (وهذا اللون من الفكر البدائي المشوّه زراية بالعقل واستخفاف بالنقل, وعبث بمصالح الأمة, لا موضع لمجاملته, أو السكوت عليه, فضلاً عن أن يحسب على الإسلام أو ينسب إليه).

          ثالثاً: أن يتصور بعض الدعاة إلى (الحكم الإسلامي) أو إلى الإسلام السياسي, أن جميع الوسائل مباحة وجائزة في الصراع السياسي مادام الهدف النهائي هو إقامة حكم الله بين الناس, وإخراج الناس بذلك من ظلمات العوج والانحراف إلى نور الإيمان والحكم بما أنزل الله.

          إن هذا التصوّر هو الذي يغري بعض الداعين إلى الإصلاح على أسس إسلامية, بأن يستعجلوا الأمر, وأن يختصروا - كما يتوهمون - طريق الوصول إلى الهدف فيعمدوا إلى (الاستيلاء على السلطة) والوصول إلى مواقعها أو مقاعدها بالوسائل الانقلابية التي تمارسها قلة لا تكترث برأي الأغلبية أو رغبتها, ولقد آن لهؤلاء أن ينتبهوا إلى عدد من الحقائق الكبرى, أولاها: أن مسلكهم هذا مخالف لمنهج الإسلام, إذ يخاطب الحق سبحانه نبيه (صلى الله عليه وسلم) بقوله:  أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين, والذي لا يجد الحكم السياسي في ظله شرعيته الإسلامية إلا إذا تحقق عن بيعة وإلا إذا كانت تلك البيعة عن رضا واختيار. وثانيتها: أن تكرار هذا المسلك الانقلابي قد وصم (التيار الإسلامي) في نظر كثير من الناس وأقام بينه وبينهم سوراً غير ذي باب من الشك والحذر وسوء الظن, تصور معه كثيرون أن كل إقحام للإسلام في ميدان السياسة هو تمهيد - مستتر وماكر - للاستيلاء في النهاية على السلطة وفرض تصور هؤلاء الانقلابيين للإسلام على الناس.

          إن هذا التفكير الانقلابي الذي يصاحبه العنف والقسر والإكراه لم يثمر - على تعدد تجاربه - إلا صراعاً موصول الحلقات بين الحكومات المختلفة في عالمنا العربي والإسلامي, وبين أكثر الحركات الإسلامية التي تمارس السياسة, وأن هذا الصراع قد امتد امتداداً غير مشروع - في تقديرنا - إلى سائر الجماعات الداعية للإسلام, وهذا هو الاشتباك الذي نتحدث عنه وندعو - في هذه السطور - إلى ضرورة التعجيل بفضّه.

          إن صراعات مدمّرة, بعضها معلن وبعضها مستتر, تجري أو جرت في فترات ماضية قريبة أو بعيدة بين الحكومات وبين عدد من روافد التيار الإسلامي, وفي المغرب وتونس والجزائر وليبيا ومصر والأردن والعراق والسودان, وفي إندونيسيا وماليزيا, كما أن مؤشرات تلك الصراعات تظهر بين الحين والحين في العديد من دول الخليج.

          ولعل ما يجري حالياً في السودان والجزائر وتونس أن يكون أظهر وأخطر مظاهر (الاشتباك العدائي القائم بين الحكومات وبين التيار الإسلامي).

          إن تحوّل الإسلام في أكثر هذه الدول إلى مشكلة أمنية يمثل - في تقديرنا - كارثة ذات بعدين:

          أولهما: أنه يستهلك طاقة الأمة كلها - شعوباً وحكومات - في هذه الصراعات المدمرة, ويصرفها نتيجة لذلك عن التوجه لمعالجة مشاكلها وهمومها الحقيقية ومشاكل السعي لتحقيق نهضة اجتماعية وحضارية شاملة, وإيجاد مكان ومكانة للأمتين العربية والإسلامية على خريطة النظام العالمي الجديد, وما يقتضيه ذلك كله من عمل متصل منظم, يسبقه فكر علمي رشيد, ولن يتسع وقت العرب والمسلمين للأمرين معاً.

          الصراع على السلطة وتبادل المخاوف ثم تناول تبادل العنف بين الحكومات والعديد من روافد التيار الإصلاحي الإسلامي, أو التوجه الإجماعي للأمة كلها لنفض غبار الجمود والسكون والعزلة, والاندفاع في شوق وحماس لتحقيق نهضة حضارية حقيقية يستفيد منها الناس, كل الناس.

          ثانيهما: أنه يحرم الدنيا كلها من فرصة الاستفادة بالإسلام ومنظومته القيمية ذات الأبعاد الإنسانية العميقة, وما يحققه من سيادة حضارة (العلاقات الإنسانية) على الحضارة الشيئية التي تصوّرت أن الوجود الإنساني يتحقق في أكمل صوره من خلال الحيازة القصوى للسلع والأشياء, وتوجيه ذلك كله لخدمة (الأنا) وإمتاعها, وهو تصوّر لم ينتج إلا قلقاً, ولم يثمر إلا ضياعاً وضجراً, وفي آباره الآسنة ولد التمزّق الاجتماعي, كما ولدت ظواهر العنف والجريمة وزيادة بغي الناس بعضهم على بعض.

          إن الإحساس بخطر هذه الكارثة ذات البعدين هو الذي يدعونا اليوم إلى أن نرفع الصوت عالياً - في غير وجل ولا تردد - مقترحين الصيغة التالية لفض الاشتباك بين الحكومات العربية والإسلامية وبين التيار الإسلامي, وهي صيغة تشتمل على قائمتين, نتوجه بالأولى منهما إلى الحركات الإسلامية, ونتوجه بالأخرى إلى الحكومات العربية والإسلامية, نتوجه إلى الحركات الإسلامية بالنداءات التالية:

          1- كفوا عن التشديد على أنفسكم وعلى الناس, فالناس في زماننا هذا يحملون على أكتافهم هموماً كثيرة, فلا تضيفوا إليها - باسم الإسلام - هموماً جديدة وأحمالاً ينوء بها الناس, واذكروا أن الإسلام لم يكن أبداً وما أراد له ربه أن يكون مشقة وعسراً وعنتاً وحرجاً, وأنه لم يكن صرامة ولا جهامة ولا محاربة للاستمتاع بالحياة, وحذار أن تكابروا في هذا أو أن يحوّل بعض الدعاة بداوتهم أو جفوة طباعهم أو ضيق صدورهم إلى دين يلزمون به الناس وإلا فإن بيننا وبينكم محاجة علمية سلاحنا فيها العقل والنقل وهما جميعاً من أمر الله, وأنتم - والدنيا كلها تعلم - تعلمون أنكم لن تثبتوا في هذه المحاجة ساعة من زمان, فارجعوا إلى الحق وتوبوا إلى بارئكم, وكونوا كما كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) رحمة مهداة للناس, واذكروا أنه (صلى الله عليه وسلم) كان هيّناً ليّناً بسّاماً وكان أرق الناس, وأنه غضب أشد الغضب حين أطال معاذ بن جبل صلاة الجماعة بالناس وأنه عاتبه وعنّفه قائلاً:

          أفتان أنت يا معاذ. ونحن نقول لحملة لواء التشدد والغلو والتعسير على الناس بمقالة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفتانون أنتم يا هؤلاء.

          2- ضعوا احترام الشورى واحترام حريات الناس حيث وضعهما الله وحيث وضعهما رسوله (صلى الله عليه وسلم) وراجعوا أنفسكم أشد المراجعة في فهمكم لأولويات الأمور والأحكام, ولا تنسوا أن التوحيد في جوهره وثيقة لتحرير الإنسان من العبودية للإنسان وأنه سبحانه هو القائل: (ولقد كرّمنا بني آدم), وأن عمر - رضي الله عنه - وهو واحد من أقرب أصحاب النبي إليه وأفقههم في الدين وأصوبهم نظراً في إدراك مرامي الشريعة هو القائل لعمرو بن العاص: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً), اذكروا هذا كله, ثم اسألوا أنفسكم: أين نحن من الحركات التي تموج بها الدنيا دفاعاً عن حقوق الإنسان وحرياته, فكّوا القيود عن الناس, وتنسّموا معهم نسيم الحرية التي لا تكتمل بغيرها إنسانية الإنسان ولا تبدع إلا في ظلالها عقولها الناس, ولا تجود - في غيابها - قرائحهم بالخير والبذل والعطاء, وإذا كان بعضهم يبرر هجومه الذي لا ينقطع على الديمقراطية بأن الكثرة ليست دليلاً على الحق, فاسألوا أنفسكم: وهل تكون القلة دليلاً عليه, أين وأين تذهبون - عفا الله عنكم - بما روي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من أنه (ما كان أحد أكثر مشورة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

          3- كفوا - إلى غير رجعة - عن السعي للانقضاض على الحكومات, والعمل لتغيير النظم الاجتماعية والسياسية بالقوة والانقلاب.

          إن كاتب هذه السطور يعلم - كما تعلمون - أن أكثر روافد التيار الإسلامي لا تدين بالعنف, ولا تسعى لمثل هذا الانقلاب, وأنها تحذر منه وتنهي عن اتباع سبله وأنها - شأنها شأن غيرها - صاحبة حق في ممارسة العمل السياسي بالوسائل السلمية التي تحترم القانون طلباً للتغيير إلى ما تؤمن به وتراه الأصلح والأصوب, ولكن هذا وحده لا يكفي, فالمخاوف قائمة والهواجس متسلطة, وسجل بعض روافد التيار الإسلامي يمنح لهذه المخاوف مشروعية لا يجوز إنكارها.

          فلتعلنوا - ولنعلن معكم - بصوت عال تقف وراءه نية معقودة وعزم صادق أكيد أنكم تتحرّكون وتعملون في إطار القانون والدستور, وأنكم تسعون إلى التغيير بالوسائل السلمية الديمقراطية التي تعتمد على إقناع الناس وكسب ثقتهم وزيادة الأنصار منهم يوماً بعد يوم, وعاماً بعد عام, حتى يأتي يوم يختارون فيه منهجكم, ويرون رأيكم إن بدا لهم ذلك, وقد لا يأتي هذا اليوم في حياتكم وقد لا ترون - أنتم - ثمرة جهدكم, ولا عليكم في ذلك, فإن الحق غلاب, ولكل أجل كتاب, ولكنكم تستعجلون.

          ويبقى أن نتوجه إلى الحكومات بالنداءات التالية, نقولها - هي الأخرى - بصوت عال لا تردد فيه ولا مجاملة ولا وجل, نقول:

          1- كفوا عن استخدام (عصا الأمن) في مواجهة الأفكار مادام أصحابها لا يتجاوزون دائرة التعبير الهادئ والدعوة بالكلمة المقروءة والمسموعة, واذكروا أن (الغلو) الذي ندينه جميعاً ظاهرة مركّبة لها أبعادها الاجتماعية والاقتصادية, وأنه لا يصلح في علاجها أسلوب (العنف) والملاحقة بالأذى, وراجعوا سجلاتكم وسجلات الحكومات في كل مكان, وسوف تجدون أن العنف لم يولد إلا عنفاً, وأن تجاوز الحدود في ملاحقة أصحاب الفكر أيّاً كان صواب هذا الفكر أو خطؤه لا يزيدهم إلا إصراراً, ولا يزيد دعواتهم إلا انتشاراً.

          2- اذكروا أن (القانون) هو الضمان, وهو مصدر الأمان للحكام والمحكومين على السواء, وأن تجاوز حدوده استناداً إلى الرغبة الملحة في تصفية خطر (الغلاة والمتطرفين) ليس إلا انحرافاً مشابهاً لانحراف الذين يستبيحون الوسائل غير المشروعة في دعوتهم الناس إلى الإسلام وإلزامهم بأحكامه. إن خروج الحكومات على القانون وتجاوزه في مطاردة الغلاة والمتطرفين يمنح هؤلاء الغلاة (شهادة) بشرعية التجائهم - بدورهم - مضطرين إلى تجاوز القانون والخروج عليه, وهو مسلك لا ينبغي أبداً أن يكون.

          3- اذكروا أن تصويب الانحراف في صفوف بعض روافد التيار الإسلامي لا يجوز أن يكون إلا من موقف إسلامي, ومن أرض تؤمن بالله, مرحّبة بنمو الظاهرة الإيمانية ومشجعة لها, أما حين يجري الصدام مع روافد الحركة الإسلامية من موقع الرفض للتديّن في عمومه, والخصومة المعلنة مع كل روافد التيار الإسلامي, فإن الحكومات - حينئذ - تقع في صدام مع جماهيرها الواسعة, وتدخل تلك الجماهير طرفاً في خصومة ما كان ينبغي لها أبداً أن تقوم.

          إن هذا المسلك يقضي على أكثر فرص الإصلاح والتقويم, ولابد أن يفضي إلى كوارث لا يعلم مداها إلا الله.

          4- اذكروا أن أكبر خطأ تقعون فيه هو خطأ التعميم المتعمّد أو الصادر عن تبسيط للأمور.

          وإذا كنتم تحاربون ظواهر العنف والإرهاب والعدوان على حريات الآخرين والتآمر على الأنظمة القائمة وعلى الحكومات, فحذار أن توجّهوا الاتهام إلى جميع روافد التيار الإسلامي.

          إنكم بذلك تقفون في خندق خاطئ, وتفرضون الخصومة على الغالبية العظمى من روافد تيار الإصلاح الأسمى, وتخسرون تعاطف البحر الواسع من جموع المؤمنين, بينما هم - علم الله - لا يقلون عنكم إنكاراً لتشدد المتشددين وغلو المغالين.

          إن هذا التعميم تروّج له وتحرص عليه دوائر لا تخلص لكم ولا تخلص للأمة العربية والإسلامية, وهي دوائر تقر أعينها باستمرار التمزّق وتواصل حلقات الصراع.

          إن المسلك الوحيد الرشيد في هذه القضية أن تدرك الحكومات أهمية تشجيعها للعقلاء الراشدين الذين يعبرون بالقول والسلوك عن سماحة الإسلام ورفقه واعتداله وعقلانيته واتساع صدره للموافقين والمخالفين, وعن انفتاحه على الدنيا وإدراكه لمعنى (العالمية) التي دعا الناس إليها رب الناس ملك الناس إله الناس. إن ممثلي إسلام النهضة والحركة والانفتاح على الدنيا هم صمام الأمان, وهم الداعون على بصيرة إلى الله, وبين أعينهم قوله سبحانه:  قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.

          إن هموم العالمين العربي والإسلامي كثيرة وكبيرة, وطريق النهضة مملوء بالألغام والأشواك, ولن يتسع الجهد أبداً لمعركتين في آن واحد, معركة مع التحديات ومعركة بين الأهل والأشقاء, يضيع فيها الجهد والوقت ويسقط الضحايا في غير قضية ولغير هدف ينفع الناس.

          فتعالوا ننحّ المخاوف والهواجس جانباً.

          وتعالوا نصم آذاننا عن تخويف الخائفين من الإسلام وذعر الخائفين على الإسلام, فإن أهوال الطريق لا تفرق بين راع ورعية, ولا بين حاكم ومحكوم.

          ومازال في الوقت متسع لفض الاشتباك, فهل تلقى هذه الدعوة أذنا صاغية وقلباً مفتوحاً على هذا الجانب أو ذاك?

          إنها دعوة يباركها - فيما أظن - ملايين العقلاء والأتقياء وحاملو هموم أمة أخرجها ربها رحمة للناس, وبقي أن يلتف حولها جمع كبير يتنادى بها, ويلح عليها, ويسعى بها بين أطراف الاشتباك إذ (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس..

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1507&ID=51

الأكثر مشاركة في الفيس بوك