فلسفة الشورى

سيف السيف

لم يكن هناك تصور واضح ومحدد للإطار التنظيمي للحكومة الإسلامية. فمعظم التاريخ السياسي للأمة الإسلامية تاريخ سلطوي غير إسلامي ويتناقض مع المباديء الأساسية لقواعد الحكم التي حددها الإسلام. فحكم الشورى على سبيل المثال ظل معطلا في ظل الأنظمة الإسلامية ما عدا لمحات قليلة كانت الشورى تطبق جزئيا ليس لها أطر تنظيمية واضحة أو تقاليد في إدارة الحكم, كما أنه لم يكن هناك صياغة أو منهج محدد لاختيار الحاكم أو أسس دستورية تحدد حقوق وواجبات الناس وعلاقات السلطات فيما بينها, فمنذ عهد معاوية تحول النظام السياسي إلى ما يسميه علماء الشريعة (بالحكم العضوض).

          كما أن هناك عاملا آخر يجعل البحث في هذا الموضوع ذا حساسية خاصة, وهو تخوف الباحثين من طرقه فزهدوا فيه أو تناولوه بطريقة حذرة لا تثير المشكلات, فمعظم ما كتب بهذا الخصوص يدور حول تفسير القواعد الأساسية للنظام السياسي الإسلامي مثل الشورى والعدل والحرية والمساواة والمعارضة, وهي قواعد عامة تتميز بقدر كبير من المرونة والعمومية والتجريد, وقد قصدتها جميع الأيديولوجيات والمذاهب السياسية والفلسفات المعاصرة وغير المعاصرة. ولكن جوهر القضية مازال معلقا, وهو هل جاء الإسلام بنظام معين للدولة?

          وكيف يسير هذا النظام? وما هي ملامحه? وهل يمكن وضع النصوص القرآنية الخاصة بنظام الحكم بقوالب ونصوص دستورية تكون فيصلا بين الحاكم والمحكوم? وقد يقول قائل إنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي واحد, وإنما الإسلام يعتبر أي نظام سياسي يهدف إلى مصلحة الجماعة وخدمة الفرد, ويوفق بين مصالح الناس فهو شرعي بغض النظر عن شكله وأسلوبه.

          ولكن المفكرين الإسلاميين يصرون على نموذجية وتميز الحكم الإسلامي وينتقدون بشدة الأنظمة السياسية الوضعية الأخرى, كالمذهب الفردي الرأسمالي والمذهب الجماعي الاشتراكي الموجه. ويرون أن الإسلام يعترف للفرد بذاتيته وللجماعة بأهميتها وأن فطرة كل منهما لا تستقيم بأحدهما دون الأخرى. أي أن دولة الإسلام لا تناقض تشريعاتها وفلسفتها الفطرة الإنسانية. كما أنها دولة قانونية, أي يسود فيها القانون. والقانون هنا يقصد به أحكام الشرع الإسلامي الذي يستمد من القرآن والسنة وحاجة الأمة.

          ولكن حتى يسود القانون لابد من ضمانات مثل وجود دستور مكتوب ينظم العلاقة بين سلطات الدولة, ويحدد حقوق الناس وواجباتهم وينص صراحة على حقوقهم, ويتناول طريقة اختيار رئيس الدولة ـ الخليفة ـ ويخضع الإدارة لحكم القانون, كما ينص على تدرج القواعد القانونية وينظم الرقابة القضائية, ويكفل حرية واستقلال الصحافة. أي باختصار دستوري يتناول جميع مظاهر السلطة, لأنه لا توجد حكومة عادلة على الأرض تسعى إلى تطور المجتمع ورفاهيته وتكفل حريات الفرد بدون دستور يحدد مهامها ويقيد سلطاتها ويوضح طبيعة العلاقة بين هيئاتها. وعند وضع المصطلحات السياسية الحديثة في قوالب فقهية إسلامية, فإن المرء يلاحظ أن الإمامة أو الخلافة في الإسلام تمثل رئيس الدولة, أو البرلمان ـ المجلس النيابي ـ يمثل مجلس الشورى وأن الدستور إلى حد ما يقابله القرآن, والدستور في جانبه السياسي في دولة الإسلام مستمد من المباديء الأساسية العامة الخاصة بنظام الحكم وهي مباديء ذكرها القرآن بنصوص صريحة غير قابلة للتأويل. فعندما يقوم علماء القانون الإسلامي الدستوري أو أي جمعية تأسيسية بصياغة دستور إسلامي لابد من حضور هذه المباديء وذكرها صراحة.

          والبرلمانات بصفة عامة تلعب دورا مهما في تسيير دفة الأمور السياسية في الدولة, والبرلمانات المعاصرة بجميع أشكالها نظيرة لمبدأ الشورى الذي ورد ذكره في الإسلام وعلى ذلك فإن بعض مظاهر هذا المبدأ ستكون موضوع هذه الدراسة.

          قد يكون من المفيد التذكير بأن عدم التطرق للدعائم الديمقراطية الإسلامية الأخرى كالعدل والحرية والمساواة.. لا يعني عدم أهميتها بل يفترض بديهيا وعقليا أن تلك المقومات بما فيها الشورى لا يمكن أن تستقيم بمفردها فلا يمكن, مثلا, أن تكون هناك شورى بدون مساواة بين الناخبين والمرشحين, ولا يسود العدل دون أن تكون هناك مساواة بين أفراد الأمة في الحقوق والواجبات وأمام القانون, أو أن يكون هناك عدل دون شورى ولذلك يتطلب قيام شورى فعالة بشكلها الإسلامي توافر الشروط التالية:

          1ـ حرية تعبير الناس عن آرائهم في الأمور التي تتعلق بمصالحهم وبحقوقهم, وإتاحة المناخ الملائم لمعرفة الكيفية التي تدار بها هذه الأمور.

          2ـ أن يتم اختيار مجلس الشورى برضا الناس ويكون هذا الرضا حرا. أي أن الشعب هو الذي يحدد طريقة اختيار ممثليه.

          3ـ أن ينال هولاء الممثلون حرية كاملة في أداء أعمالهم دون أي ضغوط.

          4ـ أن يقبل الحاكم ما يتوصل إليه رأي الأغلبية, وأن ينص الدستور على هذه الأمور.

          وقاعدة الشورى في الإسلام مرنة لم تحدد بشكل يعوق ويقيد حركة وتطلعات الأمة. فقد ترك الشارع تطبيقات صورها لتتكيف مع متطلبات الزمن وضروراته. فليس في الشورى مثلا بيان بعدد المستشارين أو أسلوب اختيارهم أو الطريقة التي يتم بها استشارتهم أو مهامهم. ولكن الأمر الثابت أن الشورى جزء من النظام السياسي الإسلامي.

          وهدف الشورى مشاركة الناس في صنع القرارات التي تخص شئونهم. فهي ممارسة وتربية لأفراد الأمة على إدارة أمورهم وضمان يقدمه النظام ـ الدستور ـ للفرد لإطلاعه وإشراكه في وضع سياسة الدولة, لذلك تبرزأهمية الشورى في كونها أداة حاول بها الإسلام تفتيت السلطة وتوزيعها على عدة هيئات كما فعل مع المال العام.

          والشورى هي المبدأ الأساسي والوحيد لوصول الحاكم إلى الحكم, وليست هناك طريقة غير ذلك, وأي تجاوز لهذا الطريق ـ كفرض السلطان بالقوة ـ يعتبر مرفوضا شرعا. وينبغي ألا نجعل من الواقع التاريخي السياسي الإسلامي دليلا شرعيا ووحيا نستلهم منه كل متطلبات تنظيم حياتنا المعاصرة. فالشورى أوقفت في المراحل الأخيرة من صدر الإسلام والخلافة ضاعت مع مجيء بني أمية. فهذا الشذوذ والانحراف عن قواعد الحكم يعتبر مسارا مغلوطا خلقته الظروف.

          لا يوجد إجماع في الفقه الإسلامي على حصر الموضوعات التي يجب على الحاكم عرضها على مجلس الشورى أو تلك التي يباشرها المجلس. فنصوص القرآن في الآيتين المعروفتين المتعلقتين بالشورى, إنما تشير إلى الشورى (في الأمر). ولكن أي أمر? فقد ترك الشارع الأمر عائما عاما يتحدد حسب ما تقتضيه مصلحة الأمة, فيمكن أن يدخل أعضاء مجلس الشورى في اختصاصاتهم كل شئون الحياة التي تخص القطاع العريض من الناس.

          من المسئوليات الأساسية لمجلس الشورى وظيفتا التشريع والرقابة. ورقابة مجلس الشورى على السلطة التنفيذية تعتبر جزءا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ورد ذكره في الإسلام. وهذا العمل ليس حقا لأمة فحسب بل واجبا دينيا على كل مسلم بمن فيهم أعضاء مجلس الشورى, لأنهم مفوضو الأمة.

          وهذا جزء من مهمتهم الرئيسية. فرقابة السلطة التنفيذية وتقويمها ونصحها تتضمن حلها واختيار بديل لها. لأن الحاكم في الإسلام ـ السلطة التنفيذية ـ ليس حاكما مطلقا ولكنه حاكم مقيد بالدستور, وهو ليس نائبا عن الله أو خليفته في الأرض, وإنما هو نائب للأمة ورمز لها, وهو بطبيعته يخطيء ويصيب.

          أما فيما يتعلق بالتشريع, فإن المجلس منوط به عبء قيادة الدولة, فهو الذي يفترض أن ينظم ويخطط سياسة الأمة في السلم والحرب. وهذا الاختصاص يشمل المسائل المالية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية وخلافها ولكن في إطار تشريعي, ويلاحظ ثقل المسئولية الملقاة على مجلس الشورى.

          والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو من هم أهل الشورى? أي من هو الذي يحق له أن يكون عضوا في هذا المجلس? هل هم الرجال دون النساء?

          وتبرز أهمية هذا السؤال في كون الذين يتولون هذا الأمر سيتوقف عليهم مصلحة الأمة ومستقبلها.

          لذلك فلابد أن يكونوا على مستوى كبير من الأمانة والدراية والخبرة والتنوع. كما يجب أن ينالوا ثقة الناس وحبهم واحترامهم. لذلك فهم يتحددون من قبل الناس. فعضويته تكون حقا لكل مواطن عاقل بالغ متعلم مقتدر ثقافيا وعلميا على إقناع الجماهير بجدارته. وتسهم الصحافة في تحديد وتقييم مصداقيته. والسؤال الختامي لهذه الدراسة هو هل عضوية هذا المجلس تقتصر على الرجال دون النساء, أم أن المرأة لها الحق في ترشيح نفسها?

          ومن وقت لآخر تثار قضايا متنوعة وتتعدد حولها وجهات النظر وتتضارب وتتشعب إلى تفريعات تصل أحيانا إلى تفريغ الفكر الاسلامي من محتواه, فهناك نفر من الناس يرشحون النصوص حتى يصبحوا أسرى لكلماتها, وبالتالي يأسرون فكر الأمة بكلمات وعبارات مصفوفة خاوية الدلالة, وهم بهذا الشقاق يظلمون الفقه الإسلامي ويسطحونه. ومن هذه القضايا النزاع الفقهي حول إلزامية الشورى للحاكم, وحق المرأة في العمل السياسي, والحجاب الإسلامي وغيرها. ففي إلزامية الشورى للحاكم نجد أن كل فريق يقدم أدلته الشرعية من القرآن والسنة القولية والفعلية. ويستدل بشواهد تاريخية ويحاول جاهداً ومجتهدا استنباط استدلالات لتثبيت صحة رأيه والنتيجة هي حفز الرأي الآخر للرد والرد الآخر. ولو أن الباحث في هذا الأمر منطق منهجه لتبين له عقلا وجوب إلزامية الشورى.

          فرأي أغلبية الأمة ـ العدل في حدود الممكن ـ يجب أن يسود وإلا أصبحت الشورى إطارا شكليا خالي المضمون, وأسلوبا لمضيعة الوقت وترهيلا للجهاز البيروقراطي. وقياسا ـ على ما تقدم هناك أمور كثيرة منها حق النساء في عضوية مجلس الشوري.

          فعند تتبع أصل هذا الحق وغايته ومبرراته نجد أنه جزء لا يتجزأ من أحد المباديء الأساسية لنظام الحكم في الإسلام وهو مبدأ المساواة. فدخول المرأة البرلمان أصلا في التمثيل النيابي متفرع من أصل عام وهو الحقوق السياسية للأمة, كمثل: حق الانتخاب, حق التعبير عن الرأي, وغيرها, فمناقشة شورى المرأة يعتبر تعطيلا أو تشويها لمبدأ المساواة بين الرجال والنساء. فالقاعدة العامة في الإسلام هي المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات إلا ما استثني بنص صريح. فهناك شواهد تاريخية تؤكد قيام ومشاركة المرأة في رسم جيش كبير من مكة إلى البصرة رافضة بيعة علي بن أبي طالب ومطالبة بدم عثمان بن عفان رضي الله عنه وإعادة وضع الشورى. هذا العمل يعتبر عملا سياسيا بحتا ورئاسة حقيقية لحزب المعارضة بالمفهوم المعاصر.

          ومن الأدلة الدامغة في عدم تحريم مشاورة النساء دخول المرأة المسجد الذي كان بمثابة برلمان فتسمع وتناقش وتعترض مثلما اعترضت المرأة على عمر في مسألة الصداق. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي قد يكون من أبرزها عندما يقف الخليفة على المنبر ويقول أشيروا علي أيها الناس, وما دامت النساء كن يدخلن المسجد في عهد الرسول والخلفاء من بعده فإنه لابد أن يكون من ضمن هؤلاء الناس بعض النسوة. كما أن آية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدل على أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فهذه الآية التي بموجبها جعلنا خير أمة أخرجت للناس تعني أن الرجال والنساء مشتركون في سياسة المجتمع. وعمل مجلس الشورى من صميم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سبق أن أوضحت. وهناك آيات قرآنية أخرى توكد المساواة بين الجنسين منها:  يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقـاكم. وتعــــلق د. عائشة عبدالرحمن على الآيات الخاصة بالمساواة وتقول: (وبمقتضى هذه النصوص تثبت كمال إنسانية المرأة ويتقرر لها كل ما يتعلق بهذه الإنسانية من حقوق وما تشمله من تكاليف وتبعات, وأن مناط هذه التكاليف فيها واحد هو العقل).

          ومن الحقائق التاريخية التي تؤيد رأي الدكتورة عائشة ـ بيعة النساء ـ حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم وفد الأنصار في العقبة الثانية, وكان من بينهم امرأتان, كما أنه ليس في القرآن ولا في السنة, وهما المصدران الأساسيان للتشريع ما يمنع المرأة من المشاركة في الحياة السياسية.

          ولكن المشكلة مشكلة إجماع فقهاء. فلا تكاد تخلو مسألة من المسائل الفقهية من خلاف كما سبق أن أشرت. فكثير من الأمور لم تحسم فقهيا. فتراثنا مليء بالخلاف والشقاق المذهبي. ومما يساهم في تعقيد هذه المشكلة أن الكثير من ورثة هذا الفقه قلدوه وأبقوه على حاله دون استثماره وتحريكه. فقد أخذوه نقلا لا عقلا. فيبدو على أية حال أن قضية المرأة في العمل السياسي ليست قضية دينية, بل مسألة أخلاقية واجتماعية لا تحسم بقرار أو ترجيح كفة رأي على آخر. فالأمر متروك تبعا للظروف الاجتماعية والسياسية وغيرها.

          ومن الأمور الجديرة بالتنويه والتأكيد أن المشاركة السياسية للمرأة لا تتوقف على تشريعات ونصوص المجتمع فقط. بل تعتمد أساسا على استعداد المرأة نفسها للمشاركة ومقدرتها وسنها ووضعها الأسري والتعليمي ووقت فراغها. فالمزاولة الفعلية للنشاط السياسي تتطلب تفرغا وعلما ونضجا, فمن الصعب مثلا أن تشارك في صنع القرار السياسي فتاة في طور المراهقة وفي مرحلة التكوين الجسدي والعقلي نظرا لحداثتها وقلة تجربتها ووعيها, فهي لا تزال مشحونة بأنوثتها ولكن المتفوقات نسبيا بالسن قد تكون روح الأنوثة لديهن قد ضعفت وتخلصن من عناء الأمومة, وقد يكن أرامل أو عاقرات مؤهلات. فهل يحرم الاستفادة منهن?? والفوارق الطبيعية بين الرجل والمرأة لا تعتبر مبررا مقبولا لحرمانها من هذا العمل. فليس هناك دليل علمي يثبت أن المرأة أقل عقلا من الرجل, فالمجتمع والتربية والتعليم والمشاركة في الحياة العامة هي التي تصنع الإنسان وتبني شخصه. وبالطبع هذا لا ينفي بعض الفروقات في الوظائف البيولوجية.

          فالعلاج إذن ليس بالتضييق والمنع من مزاولة الحقوق بقدر ما هو تهيئة الناس وتدريبهم وتنويرهم وتعويدهم على ممارسة تلك الحقوق. وممارسة الحقوق مسئولية وأمانة. والرأي العام الناضج هو القادر على تحمل مثل هذه المسئولية, ولكن هذا الرأي يعتبر معتوها إذا لم ينضج بالممارسة الفعلية للديمقراطية.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1526&ID=51

الأكثر مشاركة في الفيس بوك