الإسلام والتسامح.. موقف الإمام عبد الحميد بن باديس

الزواوي بغوره

 

التسامح قيمة أخلاقية وسياسية وموقف إنساني لا يمكن فهمه إلا في مقابل التعصب، فالتسامح يقبل بالاختلاف والتنوع، ولذا يعد شرطا أساسيا لممارسة الديمقراطية. ويظهر في المجتمعات المتعددة، أي في المجتمعات ذات الأنساق والقيم المتعددة. ولأن التسامح مفهوم ككل المفاهيم الإنسانية، فإن له حدا هو التعصب الذي هو درجة الصفر للتسامح، وإن كان من الصعب تحديد درجات التسامح. لذا فإن مشكلة التسامح تنبع من كونه ينطوي على نقيضه وهو اللاتسامح الذي يستلزم التعصب وما يؤدي إليه من عنف، ومن اضطراب، ومن عدم استقرار، ومن حرب. كما أن من مشكلاته أن التسامح اللامحدود يدمر التسامح.

 

  • التسامح فكرة دينية وسياسية وفلسفية لها مضامين عديدة ومستويات مختلفة تتمثل أساسا في حرية المعتقد والعقل والتعبير، والإقرار بالاختلاف والتنوع مع ضرورة التعايش والتعاون.
  • الإسلام ربى المسلمين على التسامح وكون نظرهم لغيرهم من أهل الملل، فهم لا يرون في اختلاف تلك الملل إلا شيئاً قد قضاه الله واقتضته حكمته, فسلمت قلوبهم من التعصب.
  • إذا كان صحيحاً القول إن للتسامح مضامين مختلفة ومعالم غير محددة، فإنه من الصحيح كذلك أن قيماً أساسية وثقافة معينة هي أساس التسامح، ومنها النظرة العقلية النقدية، والحرية، واحترام الاختلاف، وهي من القيم الجوهرية للتسامح.

أولا: في الأصل

نجد هذه المعاني وغيرها حاضرة في تاريخ الكلمة، إذ يؤرخ لها عموما ابتداء من عصر النهضة بحيث يعتقد أن البروتستانتية كانت مصدرا للتسامح في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولعل أول من استعمل كلمة التسامح هو المصلح البروتستانتي مارتن لوثر (Martin Luther) في حدود العام 1541، وذلك عندما ربط التسامح بحرية المعتقد والإيمان والضمير. وتزامن ذلك مع ظهور النزعة الإنسانية عند إرازم (Erasme)، وميشال دو لوسبتاليي (Michel de L’hospital)، ومنتان (Montaigne)، الذين أسسوا فكرة التسامح في عصر النهضة وهم فلاسفة إنسانيون ولاهوتيون يدعون إلى المصالحة بين الكنائس.

كتب إرازم حول ضرورة الوئام المدني (La concorde civile) في العام 1523، حيث أكد على حرية الاختيار لكل فرد في الانتساب إلى أي كنيسة يشاء، وذلك من أجل تجنب الحرب والاقتتال. وقدعبرت معاهدة وصلح (1598/L’édit de Nantes) أو المصالحة التي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت بشكل من الأشكال على هذه الدعوة، وذلك عندما أقرت أن المصالحة لم تكن على حساب المعتقد، وإنما من أجل العيش المشترك.

كما نجد فكرة التسامح عند الفلاسفة المحدثين، وبخاصة عند اسبينوزا (Spinoza) في كتابه: رسالة في اللاهوت والسياسة، حيث احتلت فكرة التسامح في فلسفته مكانة رئيسية، يظهر ذلك في دعوته إلى حرية التعبير والديمقراطية.

يقول: «في جمهورية حرة كل فرد مسموح له أن يفكر كما يشاء وأن يعبر كما يشاء». أي أن اسبينوزا أكد على ما نسميه اليوم بضرورة حرية التفكير والتعبير، وذلك منذ العام 1670 تاريخ نشر رسالته في اللاهوت والسياسة، وبرهن على أن: «حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها». وأن فكرة الديمقراطية ذاتها تقوم على التسامح في ظل عقد اجتماعي. من هنا أصبحت فكرتا النقد العقلي والتسامح من الأفكار الأساسية عند فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر.

وتزامنت دعوة اسبينوزا إلى التسامح مع صدور رسالة جون لوك ( 1632 -1704) حول الموضوع نفسه، وذلك في العام 1689، حيث أكد فيها على بعض القيم التي أصبحت أساس فكرة التسامح. يقول: «إنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية - ولهذا فإن - فن الحكم ينبغي ألا يحمل في طياته أي معرفة عن الدين الحق». لماذا؟ لأنه يعتقد: «أن خلاص النفوس من شأن الله وحده، ثم إن الله لم يفوض أحدا في أن يفرض على أي إنسان دينا معينا. ثم إن قوة الدين الحق كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في باطن الإنسان». يعني هذا أن جون لوك أكد على ضرورة الفصل بين الاعتقاد الديني وبين تسيير الحكم.

كما عرفت فكرة التسامح تطورا على يد فلاسفة التنوير، وبخاصة عند كانط وفولتير، حيث أكد الأول في نصين هما: السلم الدائم، والدين في حدود العقل البسيط، على أنه من غير الممكن الحديث عن أديان مختلفة وكتب سماوية مختلفة، فليس هنالك في نظره إلا دين واحد صالح لجميع الناس وفي جميع الأوقات، ألا وهو دين العقل.

وكتب فولتير كذلك رسالة: في التسامح، 1763، تحدث فيها عن الصراعات الدينية الناتجة عن النزاعات اللاهوتية، وخلص إلى أن التسامح لم يحرض أبدا على الحرب، في حين أن اللاتسامح كان وراء الحروب والاقتتال. كما كتب جون استورت ميل عن مفهوم التسامح في كتابه: الحرية، 1859، أشار فيه إلى أن التسامح يمنع معه الاعتقاد بالحقيقة المطلقة، أي تمتنع معه الوثوقية أو الاعتقادية (Dogmatisme).

بهذا التاريخ الموجز يكون التسامح فكرة دينية وسياسية وفلسفية لها مضامين عديدة ومستويات مختلفة تتمثل أساسا في حرية المعتقد والعقل والتعبير، والإقرار بالاختلاف والتنوع مع ضرورة التعايش والتعاون. ولكن هل يعقل القول إن البشرية قبل هذا التاريخ، تاريخ العصر الحديث، لم تكن متسامحة ولم تعرف التسامح؟ صحيح أننا لا نجد عند اليونان كلمة مرادفة للتسامح، ولكن من الواضح أن حياتهم الاجتماعية والفكرية لم تخل من التسامح، وكذلك الحال بالنسبة للرومان والعرب والمسلمين.

ويطرح التسامح في التاريخ العربي الإسلامي الحديث أكثر من مشكلة أولها تتعلق بالسياق التاريخي للمفهوم، فكيف يمكن ترجمة كلمة (tolérance) إلى تسامح، ليس بالمعنى القاموسي، وإنما بالمعنى الدلالي فهل هنالك تكافؤ في المعنى بين اللفظين؟ فإذا كان التسامح وليد حركة الإصلاح الديني الأوربي، فكيف اهتم الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث أيضا بقضية التسامح؟ ألا يمكن استخراج أوجه التشابه بين الاصطلاحين الأوربي والإسلامي؟ إننا نجد عندهما مثلا نفس العودة إلى الأصول الأولى، ونبذ الوسائط، أي تخطي التفسير القائم، وتجاوز للفرق والمذاهب واتخاذ: «موقع يكون في مستوى النص - الأصل، بدعوى أنه هو وحده القادر على مواجهة التغير وتدبيره». كما يمكن القول إن العدو المشترك بينهما هو الشعوذة. ولكن لا يجب عدم الانسياق وراء التشابهات والمماثلات، لأن هنالك اختلافات كبيرة بينهما، أقلها الوضع التاريخي، فالحركة الإصلاحية الإسلامية كانت تواجه وضعا مضاعفا أو مزدوجا، يتمثل في إصلاح العقيدة والمجتمع والدفاع عنهما ضد الاستعمار، فبأي معنى يمكن أن نتحدث عن التسامح في الوسط الإسلامي؟

إن الموضوعية تفرض علينا، إذا ما أردنا أن نحلل ومن ثم أن نجيب عن هذه الأسئلة أن نتقدم بخطوة منهجية أساسية، وذلك بغرض: «تحاشي - في الوقت نفسه- المغالطات التاريخية السهلة والمبالغات التبجيلية التي يستخدمها المسلمون للرد على تلك التصورات الاتهامية والاحتقارية الغربية». ومن أجل ذلك، وجب القيام بخطوات منهجية أساسية منها:

1 - معرفة كيفية استخدام مصطلح التسامح.

2 - التركيز على الفرق بين الإسلام والوسط الإسلامي والفكر الإسلامي.

3 - دمج وتحليل كل حالة خاصة في إطار معرفة واسعة ذات أبعاد فلسفية. وبناء على هذا سنحاول مقاربة نصوص الإمام عبدالحميد بن باديس، وفي سياق هذا الفهم العام للمسألة، نحاول الإجابة عن هذا السؤال المركزي: ما مفهوم ابن باديس للتسامح؟ وما الممارسات التي تبين تسامحه؟ وهل كان ابن باديس متعصبا أم متسامحا؟ وما موقفه من المتعصبين، ومن المختلف عنه دينيا وعرقيا؟ وهل ممارساته ونصوصه تسمح بالحديث عن مفهوم للتسامح؟

ثانيا: في التجليات

يتعين علينا أن نبين بداية قاعدة منهجية وهي عدم تطويع ولي نصوص الإمام المصلح عبدالحميد بن باديس إلى كل ظرف ومناسبة وسياق وسياسة ونداء، وإنما يجب النظر إلى نصوصه في سياقها التاريخي وكليتها، وبعيدا عن الإسقاط والاستغلال الأيديولوجي الذي عانى منه أكثر من أربعين سنة، هذا احتياط منهجي ضروري في نظرنا.

وعملا على تقديم إجابة أولية عن هذه الأسئلة، يتعين علينا أن نسائل مفهوم الإسلام عند عبدالحميد بن باديس، فما هو هذا الإسلام الذي دعا إليه؟ يميز ابن باديس بين شكلين من أشكال الإسلام، إسلام وراثي وإسلام ذاتي. أما الإسلام الوراثي فهو إسلام: «تقليد، لا نظر فيه ولا تفكير، إسلام العوام، حفظ للأمم الضعيفة شخصيتها ولغتها، لكنه لا ينهض بالأمم، لأن الأمم تنهض بالتفكير والنظر». إنه إسلام الزوايا، إسلام لا يفكر إلا أن له جانبا إيجابيا يتمثل في حفظ الشخصية، ولكنه لا يستطيع القيام بالنهضة، لأن الذي يقوم بهذا هو الإسلام الذاتي، الإسلام القائم على فهم القواعد والمؤسس على الفكر والنظر، إسلام مشروط بالتعلم والعلم. وإذا كان كذلك فهو دين الإنسانية ويحب الإنسانية وهو في الوقت ذاته إمكانية لرفض التماثل والاندماج وقدرة على التميز والاختلاف، أي أن هذا الإسلام الذاتي عنصر للاختلاف وللحضور الإيجابي في عالم يتسم بالاضطراب والصراع وتحكمه علاقات القوى والتغلب.

يتميز الإسلام الذاتي ليس فقط بالدعوة إلى الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين وإنه يذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر أجمعين. ويساوي في الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية بين جميع الأجناس والألوان. ويمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير. وينشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالحيل والإكراه. ويترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاءون.

ولعل من أهم النتائج المترتبة على هذا الفهم الجديد للإسلام، الإسلام الذاتي القائم على العقل هو العيش وفق مستلزمات العصر. يقول: «حافظ على حياتك، ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك، وإذا أردت الحياة لهذا كله، فكن ابن وقتك تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسبه من أسباب الحياة وطرق المعاشرة والتعامل، كن عصريا في فكرك وفي عملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك، كن صادقا في معاملاتك بقولك وفعلك». ولكي يكون المسلم معاصرا فإن الشرط الأولي لذلك هو ضرورة الإقرار والعيش بحرية التي يصفها بقوله: «حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدي عليه في شيء من حريته - ك - المتعدي عليه في شيء من حياته، وكما جعل الله للحياة أسبابها وآفاتها، جعل للحرية أسبابها وآفاتها، ومن سنة الله الماضية أنه لا ينعم بواحدة منهما إلا من تمسك بما لها من أسباب وتجنب وقاوم ما لها من آفات».

ممارسة الحرية تفترض معرفة أنها تقوم بين الأنا وبين الآخر، وأنها علاقة بين أطراف مختلفة. ولعل أهم قيمة يضيفها ابن باديس لهذا التصور هو إقراره بمبدأ الاختلاف قاعدة وقانونا للتعامل والممارسة، وخصه بمقال كامل جاء تحت عنوان: نظر المسلمين إلى غير المسلمين ونظر غيرهم إليهم. ودليله في ذلك أن القرآن قد أقر للمخالفين أديانا وسماها، كما أقر معابدهم، وأكد على وجوب احترامها. من هنا خلص إلى موقف عام وأساسي وهو أن الإسلام قد أبقى على كل كيان ديني وطالب بضرورة احترامه. وعليه فإن الإسلام «ربى المسلمين على التسامح وكون نظرهم لغيرهم من أهل الملل، فهم لا يرون في اختلاف تلك الملل إلا شيئا قد قضاه الله واقتضته حكمته لعمارة هذه الدار وتلك الدار، وظهور آثار عدله وفضله وإحسانه ورحمته، فسلمت قلوبهم من الحقد الديني الممقوت والتعصب المذموم وجرت معاملتهم لهم في أيام قوة المسلمين وأيام ضعفهم على سنن التسامح والاحترام، اللهم إلا وقائع نادرة جدا كانت أيام ضعف المسلمين وطغيان غيرهم عليهم فانتقموا انتقام المظلوم المهان لا انتقام الحقود المتعصب».

وإذا كان حق الحرية والاختلاف يمارس داخل مجتمعات وبلدان وأوطان، فإنه من الضروري أن نتعرف على مفهوم الوطن الذي هو سكن الإنسان ومكانه وفضاؤه وفيه يحقق علاقاته الاجتماعية السلمية القائمة على التسامح والحرية والاختلاف، ولكن ذلك متوقف في نظر ابن باديس، على نوعية ومفهوم الوطن الذي نحمله، وهكذا نجد ابن باديس وبعيدا عن الشوفينية والتطرف، يقسم الوطن إلى الأوطان الصغيرة والأوطان الكبيرة.

إن مفهوم الإسلام الذاتي والوطن والتقدم والحرية والاختلاف قد تم التعبير عنها بخطاب قائم على الحجة والحكمة والبيان، مستلهما في ذلك الآية القرآنية: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، مستخلصا منها قواعد أخلاقية للتعامل والتخاطب والدعوة. ولا نبالغ إن قلنا أنه استخرج منها ما يمكن تسميته بأخلاق الحوار وهو ما يلخصه هذا النص الذي يبين أن التسامح أو التعصب والاعتدال أو التطرف يبدأ من الكلمة، لذلك نجده يكتب مقالا خاصا بأخلاق الحوار جاء بعنوان: القول الحسن. بين فيه أن الحرب والعنف والتعصب والتطرف واللاَّتسامح يبدأ أولا بالخطاب واللغة والحديث ثم ينتقل إلى الفعل، وأن المدينة المسالمة المتسامحة تعبر بلغة مسالمة ومتسامحة، وتستبعد من قاموسها وحواراتها وأحاديثها اللغة المتشنجة والأساليب الدعائية المتطرفة والخطابات المحرضة، إنها تهتم بلغتها وتعبيراتها وأحاديثها السلمية والعنيفة مدعومة بالأخلاق وقوة القانون.

نعتقد أن هذا التصور النظري للتسامح عند ابن باديس والقائم، كما أسلفنا على مفهوم معين للإسلام مزود بنظرة عقلية نقدية، وقائم على الحرية والتقدم وحسن المخاطبة لا يكتمل من دون الحديث عن الممارسات المتسامحة لابن باديس، أو إن شئنا قلنا تطبيقه لهذا المفهوم سواء في سلوكه أو في مواقفه. وإذا كان المجال لا يسمح بتفصيل القول في مختلف الممارسات والمواقف الباديسية، لذا فإننا سنكتفي بالإشارة إلى كيفية تعامله مع الحضور الفرنسي في أرض الجزائر، وبعض مواقفه من الأطراف والاتجاهات الجزائرية. فمثلا فرق ابن باديس بشكل واضح بين فرنسا كقوة دولية وحضارية، وبين الاستعمار كقوة كولونيالية. ونجده يستمد الكثير من حججه من الثقافة الفرنسية، ومن مبادئ الثورة الفرنسية، وقيم الجمهورية التي تلتقي في نظره مع قيم الإسلام. كما رحب كثيرا بالجانب التقني والعلمي للحضارة الغربية، وإن أبدى تخوفا أو حذرا من القيم الغربية، وتحفظا من الحضور المسيحي الكنسي في الجزائر، لأنه كان يرى أن ممثلي المسيحية في الجزائر لا يمثلون الروح الحقيقية للمسيح بقدر ما يمثلون السياسة الاستعمارية. وكانت له ملاحظات نقدية على الكاثوليكية، ولكنها ملاحظات بعيدة عن التعصب أو التطرف أوالعنف.

إن هذه النظرة العقلية النقدية التي تميز بين الأشياء، وتفصل بين المستويات، ولا تقوم بالخلط والجزم والقطع بغرض إصدار أحكام نهائية، تبينها طريقة تعامله مع مختلف الأطراف والاتجاهات الجزائرية، وبخاصة خصومه من أهل التصوف (الطرقيين) والليبراليين (الاندماجيين)، فعلى الرغم من نقده (للطرقية) فإنه حافظ على علاقات حسنة معها، وكان يزور الزوايا ويقدر دورها في الحفاظ على الإسلام. وكذلك الحال بالنسبة للحركة الاندماجية، إذ ارتبط معها بعلاقات طيبة وما يقوله على سبيل المثال عن فرحات عباس بعد صدور مقال هذا الأخير: «أنا فرنسا»، ورد الشيخ عليه بمقال تحت عنوان: كلمة صريحة، دليل على روح التسامح. يقول: «إن كلمتنا الصريحة قد وضعت الكثير من الرجال على المحك، فمنهم من ظهرت نفسه من در مكنون، ومنهم من انطوت جوانبه على حمأ مسنون. وإنا لنشهد أن من أكمل الرجال الذين رأينا فيهم بهذه المناسبة، الهمة العالية، وشرف النفس، وطهارة الضمير، الأستاذ فرحات عباس الصيدلي والعضو البلدي والعمالي بسطيف (...). فالسيد فرحات عباس لم يتألم ولم يتكدر، وسلك مسلك رجال السياسة الذين يحبذون النقد وينصاعون لكلمة الحق، فزار إدارة الشهاب، وأكد لها تقديره لجهودها، وجرت له مع صاحب الشهاب محادثة دلت على سمو أدبه وعلو كعبه في عالم السياسة والتفكير».

وعلى الرغم من انتماء ابن باديس إلى المذهب المالكي فإنه اعتمد على مختلف المدارس الفقهية، وساند اقتراح مصر بتوحيد التشريع الإسلامي. كما تعاون مع الإباضية وشارك أعلامهم في جمعيته. وكان يرى أن الاختلاف بين مذاهب وفرق الدين الإسلامي، اختلاف في الاجتهاد لا غير. من هنا دعا إلى الاجتهاد والى إدراك قيم التقدم والتطور والرقي، ومن هنا أيضا كان موقفه الإيجابي من تعليم المرأة، ومن تجربة كمال أتاتورك، وتعامله مع مختلف الأحزاب السياسية، وتعاونه معها مثل ما حدث ذلك في مؤتمر 1936، إلا أنه ولظروف سياسية معروفة ومفهومة نجد ابن باديس يتخذ مواقف حادة، كموقفه من المجنس وهل تجوز الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين أم تحرم؟ وقد أقر بتحريم صلاة الجنازة عليه، وألا يدفن في مقابر المسلمين. ومن الواضح هنا أن الجنسية غير الدين وهو نفسه يفرق بين الجنسية السياسية والجنسية القومية، ولكن الوضع السياسي للجزائر هو المقرر في هذه الحالة.

ولعل اقتناعه بضرورة الاختلاف واحترامه وإيمانه بالحرية يتأكد من موقفه مما عرفته قسنطينة في العام 1934، وما كتب عنه ووصفه ابن باديس بعنوان: فاجعة قسنطينة، وصفا امتد على أربعة أيام وانتهى فيه إلى القول: «كتبنا هذا التقرير عن الحالة كما شاهدناها، وكما تحققنا في ما بلغنا من الثقات عندنا، وإننا بعد ذلك نأسف ونألم على ما يصيب الإنسان وعلى أن تجري هذه الحوادث بين عنصرين ساميين إبراهيميين عاشا قرونا في وطن واحد دون أن يشهدا مثلها ونسأل الله تعالى أن يبطل كيد الظالمين، ويرد شر المعتدين عن الخلق أجمعين وأن يرحم المستضعفين وينصر المظلومين من جميع العالمين». إنها أيام الفاجعة أو ما عرف بأحداث اليهود التي وقف فيها ابن باديس وقفة تستدعي النظر والتفكير والتذكير، وذلك لما عبرت عنه من تسامح وتذكير بالقيم الإنسانية المشتركة التي تجمع بين الأجناس على اختلاف أعراقها وعقائدها واتجاهاتها.

ثالثا: نتائج أولية

إن الوظائف المختلفة لخطاب ابن باديس وعلاقاته ورهاناته وحتى استراتيجيته التي لم نشر لسياقها التاريخي إلا إشارة خفيفة، وذلك نظرا للمجال المحدد لهذه الدراسة، إلا أن مسلكه العام وسيرته وعلاقاته تدعم هذا التوجه المنهجي الذي نقرأ به نص ابن باديس، ولذا يمكن القول إجمالا:

1 - من بين الأسباب التي أدت إلى ما هي عليه الثقافة السائدة في الجزائر هو غياب التسامح ثقافة ومسلكا، وقلة المغايرة وانعدام التعدد والاختلاف، وسيطرة الفكر والثقافة الأحادية والاستبعادية وفق تأويل للتاريخ والتراث يحتكم في جوانبه العديدة إلى ما يدعم ويساند التعصب والتطرف.

2 - ليس التسامح خاتما سحريا، ولا هو مفتاح لكل مستغلق، ولكنه يشكل في اعتقادنا، بداية وخطوة أولى نحو مجتمع السلم والتعايش. وأنه إذا كان صحيحا القول إن للتسامح مضامين مختلفة ومعالم غير محددة، فإنه من الصحيح كذلك أن قيما أساسية وثقافة معينة هي أساس التسامح، ومنها النظرة العقلية النقدية، والحرية، واحترام الاختلاف، وهي من القيم الجوهرية للتسامح. وهو بهذا المعنى يعتبر خط السير ووجهة السلوك التي تقتضي في ما تقتضي ترك الآخر يعبر بحرية عن معتقداته وقناعته وأفكاره من دون شرط مسبق أن تكون موافقة أو مساندة لأفكارنا وقناعتنا ومعتقداتنا وبشكل أخص التمكين له من العيش في أمن وسلام ووئام ووفقا لمبادئه التي لا نقاسمها. ومن هنا أيضا تظهر ضرورة الإجماع في مجتمع متعدد، أي ذلك المجتمع الذي يضمن عدم التخلي عن القناعات والتعبير الحر عن الأفكار من دون اللجوء إلى العنف أو وسائله بل يفرض ويحتم إدانة العنف الكلامي والفيزيائي وجميع الأشكال التي يعبر عنها سواء بأيديولوجيات وثوقية دوغماتية أو عنصرية متطرفة.

3 - لقد بينت لنا التجربة الإنسانية الحديثة، أن البشرية قد ناضلت من أجل نشر ثقافة التسامح، وما حقوق الإنسان والديمقراطية إلا نتيجة من النتائج المباشرة لفكرة التسامح. وإذا كنا قد بينا الفارق بين التاريخ الغربي والعربي الإسلامي وخصوصا الجزائري، فلأننا نعتقد أن ما قدمه ابن باديس تصورا وممارسة، يعتبر مساهمة أساسية في إرساء ثقافة التسامح التي من دونها لا يمكن الحديث عن السلام والسلم الاجتماعيين.

4 - إن ترسيخ قيمة التسامح يقتضي في كل مكان توافر شرطين أساسيين: الأول هو إرادة الفرد في التسامح، والثاني ارتباط هذه الإرادة الفردية بالإرادة السياسية على مستوى الدولة.

5 - ضرورة إقامة دولة الحق والقانون التي تضمن الحصانة المتساوية لحرية التعبير لكل المواطنين على اختلاف آرائهم ومواقع الفكرية والعقائدية من دون استثناء، أي لكل الأديان والفلسفات والمذاهب.

6 - قيام مجتمع مدني متماسك ومتقدم وقادر على أن يؤدي دوره السياسي والأخلاقي.

7 - إن التسامح موقف حضاري ومدني فعال، وليس موقفا عفويا، فالإنسان يميل بطبعه وطبيعته إلى رفض مخالفه ومغايره في اللون واللسان والعقيدة. لذا يتطلب التسامح تربية وتكوينا على العيش مع الذي يخالفنا ويكرهنا ويختلف معنا، من هنا ضرورة تعليم التسامح وقيمه في المنظومة التربوية، ولقد كان ابن باديس أولا وقبل كل شيء معلما لقيم التسامح.

8 - إن التسامح ليس قيمة وموقفا بل منظور متكاملا عبر عنه ابن باديس، مثل ما عبر عنه غيره من الفلاسفة والمصلحين، ويجد قاعدته النظرية في مفهوم الإسلام الذاتي وقيمه الداعية إلى الأخذ بالعقل والتقدم والحرية والاختلاف والإنسانية، ومسلك عبر عنه صاحبه في العديد من المواقف سواء مع من يماثله في الدين والجنس واللغة أو من يغايره، لذلك فإن التسامح هو أولا وقبل كل شيء ثقافة واقتناع ومسلك.

9 - إن العيش في مجتمع متسامح هو العيش في مجتمع يقبل النقد ويوفر الاحترام والتقدير، بحيث يحق لكل فرد أن يعبر بحرية عن فكره دون أن يفرضه على الآخرين، كما أن التسامح يفترض الحذر والفكر النقدي، إذ لا يمكن التسامح مع العنصرية والتعصب والعنف، فمنطق التسامح هو المساواة والحق في الحرية والأمن والاستقرار والسلم والاعتراف المتبادل بين أفراد المجتمع.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك