هل كانت مريم أُختَ هارون؟

 

   

مصطفى علي الجوزو

 

          ذكر لي صديق أديب أنّ أخاه - وأخوه شاعر مشهور يكتب بالفرنسيّة - حدّثه بزعم شاعر مشهور آخر يكتب بالعربيّة أنّ القرآن الكريم لم يُصِب حين أوحى أنّ السيدة مريم هي أخت هارون (أخي موسى)، فهي ليست كذلك؛ يومئ بقوله إلى الآية الكريمة: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا  (مريم 28). وكانت لي إجابة سوف أفصّلها عمّا قليل.

          الحقّ أنّ المفسّرين توقّفوا عند هذه القضيّة مليّاً، ولاحظوا ما لاحظه ذلك الشاعر، فهو لم يأت بجديد، لكنّه ابتعث مسألة قديمة. فقد طُرح الموضوع على النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ابتداء، وذلك أنّ أهل نَجْران أنكروا القول بأخوّة مريم لهارون، مؤكّدين وجود فرق زمنيّ كبير بينهما، فعلّل النبيّ سياق الآية بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ والصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ  (رواه مسلم)؛ أي أنّ هارون هذا أخو مريم وسَمِيّ هارون أخي موسى. كما أنّ الطبريّ وغيره روى أنّ كَعْب الأَحْبار، وهو يهوديّ أسلم، وكان من كبار علماء ملّته، قد قال في حضور السيّدة عائشة (رضي الله عنها) شبه مقالة أهل نَجْران، فأنكرتْ مقالته، وأنّ المفسّرين اختلفوا في تأويل الآية ما بين قائل بأنّ مريم نُسبت إلى هارون بالعبادة؛ وقائل بأنّها نسبت إليه بالأُخوّة، قياساً على قولهم للعربيّ: يا أخا العرب، وللتميميّ: يا أخا تميم؛ وقائل بأنّ هارون المذكور في الآية كناية عن الصلاح لتسمية رجل منقطع إلى الله بهذا الاسم؛ وقائل بأنّ لمريم أخاً من أبيها اسمه هارون، وهذا يوافق الحديث النبويّ. وقد يتساءل أحدنا كيف أكثروا التأويلات والحديثُ بين أيديهم؟ لكنّ الترمذيّ وصف ذلك الحديث بالغرابة لتفرّد أحد الرواة به، مؤكّداً صحّته مع ذلك، فلنا إذن أن نحتاط منه لأنّه لا ينبغي أن يغرب حديث مثله عن السيّدة عائشة وعن كبار المحدّثين والعلماء المسلمين الذين ذكروا تلك التأويلات، فضلاً عن أنّ راويَهُ عبدَالله بن إدريس مجهول، كما يؤكّد ابن حَجَر العَسْقلانيّ، وقد أخذه عن أبيه وهو مجهول أيضاً لم نجد من روايته إلاّ أربعة أحاديث، ولم نعرفه إلاّ من خلال إضافته إلى الضمير العائد إلى ابنه. ففي سلسلة الإسناد مجهولان متواليان، وهذا وحده كاف للتحفّظ من الحديث.

          ولذا حقَّ لنا أن ندلي دلونا في الموضوع، فنذكر المعاني التي نراها لأخٍ وأختٍ، ونرجّح منها ما نراه أقرب إلى منطق الآية؛ مع الاحتياط من كون مريم غير عربيّة، ومن أنّنا لا نعرف العادات اللغويّة لقدماء اليهود، وهي مختلفة حتماً عن العادات اللغويّة العربيّة، ومن عدم ثقتنا بتواريخ اليهود وسلاسل أنسابهم، ولاسيّما تلك التي وضعها النسّابون العرب، مع احتمال أن يكون القرآن الكريم عبّر عن معاني الكلام العبريّ أو الآراميّ بأسلوب عربيّ مراعاة لعادات العرب اللغويّة. والذي نستنتجه:

          أنّ من معاني أخ وأخت في العربيّة معنى «ذي» على وجه التقريب، فيقال: أخو كُرْبة، وأخو شَرّ، وأخو حرْب، أي ذو كُربة (مكروب) وذو شَرّ (شِرّير) وصاحب حرب (محارب).

          وأنّ منها معنى المؤهَّل للشيء، مثل: أخي ثقة، أي أهْل للثقة؛ أو معنى المؤهَّل لمواجهة الشيء، مثل «أخي الشَتْوةِ الغَبْراءِ والزَّمَنِ المُحْلِ»، في شعر الحُرَيْث بن زَيْد الخَيْل، لا في شعر النابغة، كما توهّم لسان العرب؛ ومعنى قول الحُريث أنّ المَرْثِيّ كان يواجه الشتوة والمُحْل بإغاثة الناس.

          وأنّ منها معنى الصَّديق والخِلّ؛ وشاهده البيت المشهور المنسوب إلى الإمام عليّ (رضي الله عنه) وإلى الشافعيّ، وربّما إلى غيرهما أيضاً:

وما أَكْثَرَ الإخْوانَ حِينَ تَعُدُّهُمْ
                              ولكنَّهُمْ في النائباتِ قَليلُ

          وأنّ منها معنى الإنسان المنتمي إلى قوم أو قبيلة، وشاهده وصفُ القرآن الكريم للأنبياء بأنّهم إخوة أقوامهم، إذ ذكر، مثلاً، أنّ الله أرسل: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً  (الأعراف 65)، وجعل صالِحاً وشُعَيْباً أخوين لثَمود ومِدْيَن، ولم يسمّ قوم نوح حين جعله أخاهم، وإنْ ذهب أصحاب القصص إلى أنّ قومه هم ذرّيّة هابِيل، وذلك كلّه واضح في سورتي الأعراف والشعراء وغيرهما.

          وشاهده مخاطبة أبي بكر الصدّيق (رضي الله عنه) لزوجته أمّ رُومانَ (رضي الله عنها) بقوله: «يا أُختَ بَنِي فِراسٍ» (رواه البخاريّ في المناقب والعتق وغيرهما)، وبنو فِراس من كِنانة، فكأنه قال لها: يا بنت قبيلة فِراس.

          وشاهده أيضاً اعتبار ابن المرأة المتزوّجة في غير قبيلتها ابناً لأخت القبيلة كلّها، فقد قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم): ابنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنهُمْ  (رواه البخاريّ في المناقب)؛ والمثل عليه العبّاس بن عبْدالمُطَّلِب، الذي كانت أمه من المدينة، فجاء النبيَّ (صلى الله عليه وسلم) وفدٌ من الأنصار المدنيّين يحدّثونه بفداء الأسرى، فقالوا له: ائذَنْ فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُختِنا عَبّاسٍ فِداءَه  (رواه البخاريّ في العتق).

          وشاهده أخيراً قول الشاعر الجاهليّ قُرَيْط بن أُنَيْف يمدح بني مازِن:

لا يَسْأَلونَ أَخاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ
                              في النائباتِ على ما قالَ بُرْهانا

          هذه هي المعاني التي لأخ وأخت، لكنّ الثلاثة الأولى منها لا علاقة لها بالنَّسب وصلة القربى،  على أهميّة استنباطنا لها. وأمّا المعنى الرابع فقد يُعترض عليه بأنّ الآية موضوع بحثنا تجعل مريم أختاً لهارون، وهو فرد لا قبيلة ولا قوم؛ والردّ على ذلك أنّ العرب ربّما اكتفت باسم جدّ من الجدود الأَعْلَيْن للدلالة على القبيلة كلّها، فيقال: هو من سَعْدٍ أو من قَيْسٍ، أي من بنيهما. فيصحّ أن يكون المراد بهارون في الآية بني هارون. وبحسب كتب الأنساب فإنّ جدّ مريم من يَعْقوب هو يهوذا أخو لاوي جدّ هارون، وكلاهما من أسباط بني إسرائيل؛ فقبيلة مريم أختٌ لقبيلة هارون. ولذلك يجوز أن يقال لمريم أخت بني هارون، كما نقول: فلان ابن عمّ فلان، والمراد أنّه من قبيلته أو أسرته، وليس ابن أخي أبيه. وهذا يبدو أقرب المعاني إلى المنطق.

          لكنّ الأقرب منه إليه ما نستنتجه من إشارة تاريخيّة وردت في موسوعة أُنِيفَرْسالِس Universalis، وهي أنّ هارون كان أوّل من تقلّد منصب كبير الكهنة عند اليهود، وبعد موته صار كلّ من يخلفه في منصبه يسمّى هارون أيضاً، ولا يجوز ذلك إلاّ لمن كان من ذرّيّته. أي أنّ اسم هارون صار لقباً دينيّاً في كل العصور اليهوديّة القديمة، ومنها عصر السيّدة مريم، وليس عَلَماً لشخص فقط؛ فإذا قال قوم مريم لها: يا أخت هارون، فهم يريدون: يا أخت كبير الكهنة، لأنّ هذا ينتسب إلى قبيلة تُعَدّ أختاً للقبيلة التي تنتمي إليها مريم نفسها.

 

المصدر: http://www.alarabimag.com/Article.asp?Art=12070&ID=291

الأكثر مشاركة في الفيس بوك