أثناء محاولته الإجابة عن مدى استطاعة فهم الإنسان انطلاقا من غنى الظواهر المحيطة به، وتحاشيا الارتكان إلى الكليات المجردة أو السقوط في نسبية ثقافية[1]، يقترح غيرتز النظر إلى مفهوم الثقافة باعتباره "نمطا من المعاني المتجسدة في رموز تنوقلت تاريخيا، وهو نظام من المفهومات المتوارثة يعبر عنها بأشكال رمزية، وبواسطة هذه الأشكال يتواصل الناس، وبها يستديمون ويطورون معرفتهم حول الحياة ومواقفهم منها"[2]. يُستشف من هذا التعريف أهمية ودور الرموز الخارجية كحامل للمعاني المتناقلة والمتوارثة، على غرار الرموز الأخرى التي يوفرها علم الوراثة، حيث تندمج الشفرات في النظام العضوي الحي. ولما كانت هذه الأخيرة غير قادرة على إرشادنا في التعامل مع حالات ثقافية، يأتي دور الأنظمة الرمزية الخارجية، "فلكي نستطيع تأمين المعلومات الإضافية اللازمة لنا لتمكيننا من الفعل كنا مجبرين على الاعتماد أكثر فأكثر على المصادر الثقافية- ذخيرتنا التراكمية من الرموز ذات المعنى"[3]. هكذا يرى غيرتز أننا نفكر ونفهم من خلال انسجام بين حالات النماذج الرمزية وعملياتها في مواجهة حالات العالم الواسع وعملياته؛ فإذا ما دخلنا في مراسيم معينة مثلا ولم نكن نعرف القواعد الشعائرية المتبعة فستفقد كل تلك النشاطات معناها بالنسبة لنا.

          أملا في بعث روح تجديدية في الدراسات الأنثروبولوجية للدين يقترح غيرتز تقديم تعريف مبني على هذه الأسس الثقافية باعتباره ظاهرة ثقافية ذات طبيعة عالمية. فما هو هذا التعريف؟

          يجيبنا غيرتز أنه "نسق من الرموز يعمل على إقامة خواطر وحوافز قوية شاملة ودائمة لدى الناس عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، وبإضفاء هالة من الواقعية على هذه التصورات، إذ تبدو هذه الخواطر والحوافز واقعية بشكل فريد"[4]. هناك من النقاد، وعلى رأسهم طلال أسد، من يرى أن هذا التعريف، الطامح إلى الكونية باستناده إلى الأسس الثقافية العامة للنوع البشري، يشكل نقطة ضعف الخطاب الغيرتزي، إذ أسقطه في حبال خطاب المركزية الغربية بتعميمه تعريفا مرتبطا بالخصوصية الثقافية الدينية الغربية. إنه تعريف مدين بالكثير للثقافة المسيحية في لباسها الحديث، وهو تعريف اتخذ مقياسا لتحليل ديانات أخرى تخضع لعلاقات مختلفة بالمقدس والشفاعة والمجتمع المحلي. خصوصا إذا علمنا التحول الجذري الذي عرفه تاريخ المسيحية من كونها حقيقة تاريخية لطالما ساهمت في تدبير الشأن العام بقواعدها وضوابطها ومؤسساتها إلى أن غدت حديثا منزوية في دائرة المجال الخاص، وارتدت مجرد معاني رمزية مرتبطة برؤية عامة للوجود يعبر عنها بطقس أو معتقد لا غير.

          لذلك فتعريف غيرتز ذاته "نتاج لرؤية ما بعد أنوارية تنظر إلى الدين كظاهرة خفية قادرة على الوجود، مفصولة عن المجال العام، إننا أمام إستراتيجية نقدية لإبراز الخصوصية التاريخية للمفاهيم الكونية بدليل أن التعريف الذي ينهل من المسيحية الحديثة لا يمكن أن يطبق على مسيحية العصور الوسطى أو ما قبل الحديثة"[5]. مما يستدعي البحث في الخطابات والممارسات الدينية انطلاقا من "إمكاناتها ووضعيتها المشروعة والتي ينبغي أن تفسر بوصفها نتاج قوى تاريخية"[6].

          يترتب عن هذا المنطلق النقدي أسئلة حول مدى استقلالية الرموز الدينية كأدوات للمعنى؟ وهل بالإمكان الوقوف على حقيقة دلالاتها واستجلاء مقاصدها دون إدخال عامل الضوابط الاجتماعية التي تضمن قراءة صحيحة شاملة؟ كيف يمكن الوقوف على حقيقة التجارب الدينية دون التفكير في الكيفية التي تشكلت بها، وإن تم الادعاء بإنتمائها إلى عالم روحي خاص بها؟

          تلك هي المنطلقات الكبرى لهذا النقد؟ فما هي عناصره وهل أسعفته الآليات المنهجية في القراءة الصحيحة والنقد التشخيصي لأطروحة غيرتز حول الدين؟ لندقق مع غيرتز تعريفه للدين قصد استجلاء عناصر النقد الموجه له. فقد ركز أثناء تعريفه للدين على خمسة عناصر عمادها الرموز المقدسة التي تتكفل بإدماج إيتوس (ethos) أي مجموعة من الأمزجة والحوافز القوية الشاملة والدائمة مع رؤية للعالم (Weltanschauung) ممثلة في مجموع التصورات حول النظام العام للوجود، محددة بذلك مجموع الأفكار المتناسقة للطريقة التي ينبغي أن يسلك وفقها الناس، وذلك عبر انسجام بين السلوكات ورؤى العالم. ما نلمسه من هذا التعريف الأهمية البالغة للرمز من خلال قدرته على تخزين المعاني ومضاهاة الواقع بإعطاء معنى معياري لواقع مجرد، وفي قدرته الإشارية سواء إلى شيء أو حدث أو علاقة مع احتفاظه باستقلاليته عن الشيء المشير إليه، مما يحفظ له قوته المتواصلة في نقل التصورات التي هي معاني الرموز.

          في المقابل، ومن منطلق الإمكانية التاريخية في تحديد الخطاب والممارسة الدينية، واعتمادا على أطروحة فيجوتسكي عالم النفس، يرى أسد أن الرمز ليس شيئا أو حادثة تحمل معنى، بل الرموز هي مجموعة من العلاقات بين الأشياء والحوادث يحصل تداخل فريد فيما بينها في إطار مفاهيم، معللا ذلك بمثال تعليم اللغة والرموز لدى الأطفال كنتاج لعملية التنشئة الاجتماعية التي من مقتضياتها علاقات اجتماعية، وعليه ليست الرموز ذواتا مستقلة[7] عما تحيل إليه. وقد يرجع بنا هذا إلى أساس التصور الأنثروبولوجي الغيرتزي للثقافة والأنماط الثقافية كمركبات من الرموز وكمصادر للمعلومات خارج حدود الجسم، بخلاف برنامج العالم الوراثي؛ فالأنماط الثقافية تصورات ونماذج تكون تارة من الواقع أو عنه، هدفها موازاته كنظام لا رمزي سابق عنها، وتارة تكون نموذجا لأجل الواقع. يبدو كما لو أن هذه الأنماط الثقافية المتمثلة في الرموز شيء والحياة شيء آخر، مما حدا بأسد إلى اعتبار أن هذا التصور لا يسعفنا في قراءة تصرفات المسيحي المؤمن وتفهم سلوكاته داخل المجتمع الحديث، مستندا في ذلك إلى نقد الفيلسوف الأخلاقي ماكنتا

المصدر: http://ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2...